بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الأحد، 10 مايو 2009

الجزء الثاني من "نظرية اقتصادية اسلامية

كيف يمكن صياغة نظام اقتصادي انطلاقاً من القيم الاسلامية؟ - حسن ملاط


2009-05-09

خاص لمركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية





المقدمة

الدين هو معطىً الهي لتحقيق سعادة الانسان في الدنيا والآخرة. وحيث أن هناك جانبين أحدهما دنيوي والثاني أخروي، فهذا يعني أن علاقةًً ما تربط الجانبين فيما بينهما. وهي أن الدنيا هي الطريق التي توصلنا الى الآخرة، اما الى الجنة واما الى العذاب الأبدي والعياذ بالله. وهي تحمل معنىً آخر، أن المجتمع الاسلامي يعمل على تأمين السعادة لجميع من يعيش في كنفه بصرف النظر عن ايمان المرء أوكفره، "كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا"(الاسراء20 ).

ان وعينا لما جاء به النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من تحطيم للعلاقات الشركية التي كانت قائمةً في الجزيرة العربية هو الأساس في بناء النظام الاسلامي. وهذا النظام يتضمن في تفاصيله الاقتصادي والتربوي والاجتماعي والسياسي والقيمي. وانطلاقنا من هذه النقطة هو الذي يحدد انتماءنا وتموضعنا (على ما جاء في دراستنا حول "الانتماء والتموضع"). وهذا ما جعل الأستاذ مالك بن نبي يتحدث عن مجتمع "ما بعد الموحدين" أي ما بعد المجتمع الراشدي، المجتمع على نهج النبوة. وهذا ما جعل أستاذنا يمأسس من جديد، وهو محق. وهذا يستدعي من كل من يريد أن يبني مجتمعاً اسلامياً على نهج النبوة أن يعيد الدرس والبحث والدراسة، على نهج الذين درسوا مبتغين وجه الله تبارك وتعالى، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، محمد اقبال ومالك بن نبي وغيرهم. وهذا لايعني تبني جميع المقولات التي جاءوا بها، انما يعني أن ندرس كما درسوا ونستفيد من اسهاماتهم وهي مهمة جدا.

اقامة المجتمع الاسلامي هو أصل من أصول هذا الدين الحنيف. والسياسة هي أصل من أصول علم التوحيد. يقول تبارك وتعالى: "ان الحكم الا لله، أمر ألا تعبدوا الا اياه..." (يوسف 40 ). وهذا يستتبع أن يكون للمؤمن نظرة شاملة للكون والحياة؛ ومنها القضايا الاقتصادية والاجتماعية: التقنية، تزايد عدد السكان، نقص المواد الغذائية... يقول عز وجل: "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ... (آل عمران 191 ). وهذا ما جعل سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يرفض تقسيم سواد العراق على المقاتلين ولكن تركه لانتاج الغذاء للمجتمع.

والايمان باقامة المجتمع الاسلامي، طاعةً لله وفي سبيله، ليس نوعاً من الترف الفكري، انما حاجة تقتضيها الظروف الواقعية للمجتمعات القائمة. وهو أيضاً حاجة حضارية يتطلبها نظام الحياة الذي يحكم تطور هذه المجتمعات، عنيت السنن الالهية لتطور هذه المجتمعات وتغييرها بالاتجاه الذي يحقق سعادة الانسان في الدنيا (لمن أراد الدنيا) والآخرة (لمن أراد الاثنتين).

والتغيير لا يكون حسب رؤيتنا بالطرق الانقلابية التي تختصر الناس وتزعم انها تغير المجتمع كرمى لعيونهم لتقيم أحد الأنواع من الديكتاتوريات العسكرية. ولكن التغيير يتم بالناس أنفسهم الذين لا يغيرهم الله عز وجل حتى يغيروا ما بأنفسهم. ان التغيير يتطلب أناساً من نوعيات معينة، من مواصفات محددة. ولذلك قال تبارك وتعالى: "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(الرعد 11 )، أي ليس بطريقة الانقلاب العسكري أو غيره من الانقلابات. ان من يغير هو الذي يؤمن بضرورة التغيير(يغير ما بنفسه) ويعمل على هذا التغيير.

أولا: التغيير يتطلب وجود نظرية تغييرية يستنير بها من يريد أن يعمل على التغيير. بصيغة أخرى، هناك ضرورة لوجود مشروع سياسي يحول النظرية الى اجراءات عملية. وهذا المشروع لا يكون سرياً لأنه مشروع مجتمع وليس مشروع انقلاب. وحيث أنه اسلامي الانتماء فهذا يعني أن منطلقه سيكون المكان الذي يجمع المؤمنين. يقول عز وجل: "انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" (التوبة 18 ). والذين يريدون التغيير يتمتعون بمواصفات خاصة، يقول ذو العزة: "ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون" (آل عمران 104 ). ويقول سبحانه وتعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..." (آل عمران 110 ).

ثانيا: الانسان الخليفة (الذي استخلفه الله: "اني جاعل في الأرض خليفة" البقرة 30) هو الأصل واليه يعود كل شيء. فالنظام السياسي أو الاقتصادي ... يجب أن يكون لخدمة هذا الانسان الخليفة. من هنا فان تقييم ربحية المشروع الاقتصادي تكون بمدى تحقيقها لمصلحة الانسان. فاذا كانت زراعة التبغ، على سبيل المثال، تحقق أرباحاً خياليةً، لا نزرع التبغ انما نزرع القمح، لأن القمح ضرورة للانسان، والتبغ ليس كذلك. ( على سبيل التذكير فقط، مصر استبدلت زراعة القمح بزراعة القطن وكانت النتيجة أن وقع العديد من القتلى بفضل التزاحم أمام الأفران لندرة الخبز في مصر "أم الدنيا". أين الأرباح التي حققتها مصر أو الانسان المصري من زراعة القطن والاستغناء عن زراعة القمح).

اذا ذهبنا الى أن الانسان مستخلف على هذه الأرض لعمارتها، يصبح لزاماً علينا التفكير بكيفية تأمين ديمومة هذا الانسان على هذه الأرض للقيام بالمهام المفروضة عليه من قبل خالق هذا الكون. يقول سبحانه وتعالى: "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون..."(الذاريات56 ) ومعيار المفاضلة بين الناس هو التقوى "ان أكرمكم عند الله أتقاكم"(الحجرات 13 ) و"لا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى". الله تبارك وتعالى جعل من وجود الانسان على هذه الأرض وجوداً رسالياً، من هنا أولوية هذا الانسان كانسان وليس كفرد. لذلك نقول بأن أي نظام يجب أن يخدم وجود هذا الانسان.

والانسان الرسالي تكون تربيته ذات مواصفات خاصة، فهي تقوم على تعلم القرآن والسنة، من دون نسيان القراءة والكتابة والحساب، مترافقاً مع تعلم مهنة حتى يكون مرتبطاً برزقه بالخالق عز وجل. كان نبي الله داوود يأكل من عمل يده. ما تقدم لا يعني أن ليس من مكان للعلوم النظرية بل يعني أن هذه العلوم تكون من اختصاص الطلاب الأكثر ذكاءً وامتيازاً. نقول هذا الكلام بسبب من سفر العديد من الطلاب الغير مؤهلين لمتابعة مثل هذه الدروس في الخارج وتتكلف عليهم الأمة الكثير من المصاريف الغير ضرورية لأنها تذهب هدراً.

وهكذا تكون التربية والتعليم من جهة والعنصر البشري من جهة أخرى محورين متلازمين: القرآن والسنة يضاف اليها العلوم الضرورية مع تعلم مهنة. ان نظرةً متأنيةً الى واقع المدرسة في بلادنا، ودراسة نسبة التسرب منها يجعلنا نؤكد على ما ذهبنا اليه. فالتسرب يعني نزول عدد من المؤهلين الى سوق العمل بشكل لا يضطر الأمة الى خسارة عدة سنوات لتأهيل المتسربين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يكمل الطلاب المتميزين علومهم النظرية للوصول الى الاختصاصات التي تحتاجها الأمة. وبذلك يكون الاستثمار في الانسان، من وجهة نظر اقتصادية مربحاً، وكذلك من وجهة النظر السياسية.

أما معيار الصحة الاقتصادية في المجتمع الذي يتبنى الاسلام كمنار للتخطيط والعمل فيكون رصد المنتَج، وان كان هذا المنتج يلبي حاجة المنتجين وحاجة المجتمع. فالندرة والعرض والطلب ليست جميعها هي من يلعب الدور الرئيسي بادارة الدورة الاقتصادية في المجتمع الاسلامي، انما تأمين ما يتقوى به الانسان لعبادة الله عز وجل ... الى أن نصل الى توفير جميع ما يؤمن سعادة الفرد والمجتمع بالشكل الذي يرضيه.

البداية تكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزرعون ما لا تأكلون ولا تبنون ما لا تسكنون" الى أن نصل الى المجتمع الذي يؤمن جميع متطلبات أفراده، كما حصل مع أحد الخلفاء عندما لم يجد من يوزع عليه الزكاة. أو كما قال تبارك وتعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةًً يوم القيامة؛ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون" (الأعراف 32 ).

ثالثا: العصر: سلامة التخطيط تستدعي معرفة صفات العصر الذي نعيش فيه.

أ – صفات هذا العصر: ان أهم الصفات المميزة لهذا العصر هي على التوالي:

1 – الآحادية القطبية: لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية حتى اللحظة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم. نحن لا ننكر الضربات التي تلقتها خلال السنوات المنصرمة والوقت الراهن وهي عدم تمكنها من تحقيق نصر في العراق وكذلك في أفغانستان يضاف اليها الأزمة المالية والاقتصادية التي تتخبط فيها بالرغم من مد يد المساعدة لها من مختلف توابعها. هناك محاولات تقوم بها ما يسمى دول الاتحاد الأوروبي ولكن حتى الآن لم يتمكن من تمييز نفسه عن أمريكا. ان ربط الاقتصاد العالمي بالاقتصاد الأمريكي أجبر جميع دول العالم على الدفاع عن هذا الاقتصاد المترنح. ولايضاح هذه النقطة نسوق المثال التالي الذي يمكن القياس عليه: صرح وزير المالية (أو الاقتصاد) الصيني أنه يجب ايجاد معيار للنقد غير الدولار. ثم أردف قائلاً أنه في حال تم استبدال الدولار بنقد آخر فهذا سوف يؤثر سلباً على الدولار مما يؤدي الى خسارة الصين للأصول المالية الموظفة في الخزينة الأمريكية وهي 1,4 تريليون دولار. لذلك لم يجد الصينيون بداً من دعم الاقتصاد الأمريكي مع العلم ان دعمهم للاقتصاد الأمريكي لا يحقق لهم أي نوع من الربح على حد قول الوزير الصيني، وهذا صحيح، انما يحافظ على قيمة الأصول. أما عن قمة العشرين فمن المفترض أن يتم التحدث عنها بدراسة خاصة ولكن دعونا نقول على سبيل الاشارة أن 40 % من المال الذي خصصته هذه الدول سوف يذهب الى الخزانة الأمريكية والتي تحوله بدورها الى المصارف المتعثرة ولا توظفه في الاقتصاد الحقيقي. نضيف أن جميع الأموال التي تم اقرارها للدول الفقيرة لم يصل منها شيء لهذه الدول على حد قول رئيس البنك الدولي. فأين التغير، أو أين التصور الاقتصادي الجديد؟ ثورة ميركل وساركوزي هي أشبه ما تكون "عاصفة في فنجان". ان التفكير الاقتصادي، حتى من وجهة رأسمالية، تتطلب تموضعاً خارج السياق الاستهلاكي الأمريكي حتى يمكن تطويره أي تطوير الاقتصاد الرأسمالي، وهذا ما فعله "كينز" فقد استبدل الأولويات بأولويات أخرى. هل فعلت قمة العشرين الشيء نفسه الذي فعله "كينز" في أزمة 1929. الجواب كلا.

2 - العولمة: اذا اردنا أن نلخص مفهومنا للعولمة الليبرالية الأمريكية بجملة واحدة نقول: أن يرى الانسان الكون والحياة من خلال منظار أمريكي. ولحسن الحظ أن ال"فاست فود" لمّا يغز جميع مجتمعاتنا. أي أن تحررنا من الهيمنة الأمريكية لا زال ممكناً بأقل قدر من الخسائر.

لقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من السيطرة على العالم اقتصادياً وعسكرياً، ولكن لمّا تتمكن أمريكا من تعميم فكرها وثقافتها؛ وهذا الوحيد الايجابي في عصرنا الحاضر. أسميه ايجابياً لأن التحرر من العولمة الليبرالية لن يكلفنا الكثير، هذا استناداً الى الحقيقة المطلقة "أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد 11 ). فلله الحمد أن فكرنا لم يفسد بشكل مطلق حتى الآن. ولكن ما تقدم لا يعني أننا لا نتبنى بعض المفاهيم المفسدة للحياة والتي استوردناها من الولايات المتحدة، وأهمها التركيز على ال"أنا" وليس على ال"نحن" وهذه أهم ميزة للمجتمع الاستهلاكي. والجدير ذكره أن "اسلامنا" لعب دوراً مركزياً في حمايتنا وهذا ما دفع الرئيس الأمريكي السابق (بوش الابن) التركيز الجدي على ضرورة تغيير مناهج التعليم والتي تركز على التعليم الديني.

3 – تزايد عدد السكان: هذه الصفة ملازمة للمجتمعات المتخلفة والفقيرة. وحيث أن الفقر يتركز بشكل كبير في الريف لأسباب عديدة وأهمها على الاطلاق هو عدم دعم الزراعة. فالزراعة في جميع البلاد لا تعطي مردوداً يكفي لاعالة من يعمل فيها. لذلك نرى الحكومات في الاتحاد الأوروبي و اليابان وفي الولايات المتحدة تدعم المزارعين بشكل لافت وتمنع الدول الفقيرة من دعم زراعتها. ونتيجةً لفقر الريف نرى الهجرة الداخلية من الريف الى المدينة حيث تتشكل مدن الصفيح أو ضواحي الذل. وهناك نتيجة ثانية وهي النقص في المواد الغذائية وخاصةً في الدول الفقيرة التي تهجر أبناءها من الريف الى المدينة. وعليه تهمل الأرض وتبور.

4 – التقنية: قام المفهوم التأسيسي للتقنية على تأمين الراحة للانسان وتسهيل الحياة. ولكن الايديولوجية الرأسمالية جعلت من هذا المفهوم خادماً لمراكمة الأرباح ومضاعفتها لمن يسيطرون على هذه التقنية. فبدلاً من أن تكون هذه التقنية خادمة ل"لانسان" أصبحت في الجهة المعادية لهذا "الانسان". هذا اذا لم نعرج على موضوع سوء استخدام ما حصلته الدول المتخلفة من التقنية عن طريق الاستيراد. ففي حديث اذاعي للعالم "فاروق الباز" الذي يعمل في وكالة الفضاء الأمريكية قال{ أن الدول المتقدمة تستخدم الأقمار الصناعية لتلبية حاجات معينة تفيدها في تطوير نفسها، بينما القمر الصناعي العربي "أرابسات" كان من أجل الأقنية الفضائية ونقل الأفلام (والعياذ بالله) والمباريات الرياضية والتلفون المحمولٍٍ} الخ من التفاهات التي تتناسب مع فكر حكامنا النير!

5 – استيراد التقنية الجاهزة: ان استيرادنا للتقنية الجاهزة يجعل منها ابناً غير شرعي لنا لذلك لا نجد دافعاً قوياً لحمايتها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية فتعاملنا مع التقنية لا يؤهلنا الى اكتساب نفسية وتقاليد المنتج لهذه التقنية. أضيف الى ما تقدم أن أي خلاف مع المورد لهذه التقنية يجعل من جميع أجهزتها كماً مهملاً مكانه القمامة. و لنتذكر ترسانة أسلحة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وكذلك ترسانة الشاه الايراني التي لم تفد الثورة الاسلامية بشيء لأن الولايات المتحدة قد منعت عن ايران قطع الغيار. واذا أردتم تحدثوا عن الأسلحة التي تستوردها الدول الخليجية والتي لم تتعلم من تجربة صدام والشاه. والعامل الأهم بالنسبة للتقنية أن هناك رابطاً سرياً يصل التقنية بصانعها فتجعلها لا تخدم بأمانة سواه. ولا أجد تفسيراً لهذا العامل الا الملاحظة التي تجعل هذه التقنية خادمة لمنتجها، حتى في استعمار الآخرين!

ان الدول المنتجة للتقنيات الحديثة تجعل منها عاملاً للسيطرة على البلاد التي لا تنتجها. وهذا هو العامل الأساسي الذي يجعل الدول الست تتكالب من أجل منع ايران من الانفتاح على انتاج التقنية النووية وهي مستعدة لتأمين التقنية الجاهزة لها. والأمر نفسه ينطبق على كوريا الشمالية. فدول العالم الثالث ممنوع عليها أن تتشبه بالدول المتقدمة ذات الارث الاستعماري.

نستنتج فنقول أن استيراد التقنية الجاهزة سوف يسبب لنا نتائج كارثية. ان انتاج التقنية يجب أن يكون تلبيةً لحاجة، والحاجة أم الاختراع كما يقول المثل ومن يحتاج النار يمسكها بيديه.

ب – الرد الاسلامي: كيف نتعامل مع ما سبق من وجهة مفهومية اسلامية؟

1 – الايمان أن العمل هو الأساس في ممارسة الانسان وأن الرزق من عند الله. أي بصيغة أخرى على الانسان أن يعمل وهو موقن بأن الله سوف يرزقه. طلب منا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله و"نحن موقنون بالاجابة". كما وأضيف أنني أصدق الرواية التي رويت أن الطائرات الأميركية اصطدمت ببعضها البعض عندما جاءت لتغزوا ايران لأن الامام الخميني كان يتضرع الى الله من أجل نصر ايران الثورة الاسلامية، كما وأنني مؤمن أن النصر الذي حققته المقاومة الاسلامية على العدو الاسرائيلي في تموز هو نصر الهي بقدر ما هو نصر انساني "وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى"(الأنفال 17 ). وأصدق أيضاً قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما نبه سارية الى الجبل عن بعد مئات الكيلومترات وأصدق أن سارية قد سمعه. وأضيف الى كل ما تقدم أنني مؤمن أن المعجزات لا تكون الا على أيدي الأنبياء، وأن الخميني ونصر الله وسيدنا عمر ليسوا أنبياء، انما دعوا الله وهم موقنون بالاجابة.

وعليه نقول ان تأمين الرزق يستدعي العمل، ولا يستدعي الا العمل. دعونا نتذكر قصة سيدنا عمر بن الخطاب مع "المتوكلين" عندما طلب منهم ان يعملوا ويطلبوا من الله تبارك وتعالى أن يرزقهم، لا أن يجلسوا في المسجد ويطلبوا الرزق.

2 – التقنية لا تكون الا لصالح الانسان أو لا تكون. فمحور الوجود على هذه الأرض هو الانسان ويكون العمل لتحقيق مصالح هذا الانسان. أو بصيغة أخرى، علينا بناء القاعدة المادية التي تؤمن لهذا الانسان امكانية عبادة الله. من هنا لا تكون هذه التقنية الا تلبيةً لحاجة فعلية وتتطور مع تطور حاجات الانسان. وهذا هو التطور الطبيعي لانتاج التقنية. لا يظنن أحد أننا سوف نعدم جميع أجهزة الكومبيوتر التي نملكها، ولكن يعني أنه علينا العمل لانتاج الكومبيوتر حتى لا تتحول أجهزتنا الى خردة اذا اختلفنا مع الدول التي تبيعنا هذه الأجهزة. وعامل آخر لا يقل أهمية عن العامل الذي سبق هو أن عبادة الله تستدعي من العبد أن يتمتع بحريته وأن لا يكون مرهوناً لأي كان "فتمام حرية الانسان هو بكمال عبوديته لله" عز وجل.

3 – هل ما تقدم يعني أن استيراد التقنية لا يجوز مطلقاً. كلا، انما يعني أنه لا نستورد من التقنية الا ما نحتاجه ولا امكانية لانتاجه. أو بصيغة أخرى لا نستورد الا عند الضرورة القصوى.

4 – في ظل العولمة، هل يمكن للكيانات الصغيرة أن تعيش مستقلةً؟ منذ أواسط القرن الماضي نظر الجنرال شارل ديغول الى واقع فرنسا والدول الأوروبية الأخرى فوجد أن هذه الدول لا يمكنها أن تخرج من ظل الهيمنة الأمريكية الا اذا اتحدت فيما بينها. وعمل مع العدو السابق (ألمانيا) من أجل بناء ما سمي يومها "السوق الأوروربية المشتركة" الذي تطور الى أن أصبح "الاتحاد الأوروبي". وبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي يعتبر رابع اقتصاد في العالم لم يتمكن حتى الآن من التحرر من التبعية للسيد الأمريكي اقتصادياً وعسكرياً. فما بالكم في دولنا العربية؟

فلسطين المغتصب حوالي ثلاثة أرباعها ينقسم ربعها الباقي تحت الاحتلال الى كيانين متخاصمين، وأحد هذين الكيانين يفرض على الكيان الآخر التبعية للعدو حتى يقبل بمصالحته. والعراق الذي يتمتع بالاحتلال الأمريكي ينقسم هو الآخر الى ثلاثة كيانات متخاصمة. سوريا ولبنان احتفلوا مؤخراً بقدسية سايكس وبيكو. واتفقت الدول العربية على اقامة سوق مشتركة لا يمكن ان تقوم لأن جميع هذه الدول متخاصمة. فكيف لنا أن نتحرر في ظل عصر لا يمكن الا للكتل أن تعيش بشكل مستقل نسبياً. كما وأن الانتماء الى الله عز وجل يستدعي قيام كتلة عربية أو اسلامية. ومن مواصفات هذه الكتلة ان تكون مكتفيةً ذاتياً، أي كتلة مقفلة على الخارج ومنفتحة داخلياً.

رابعا: صفات الاقتصاد الاسلامي: لقد سبق لنا القول أن كل نظام اقتصادي هو نظام معياري، أي نظام قيم. والنظام الاسلامي لا يخرج عن هذه الحقيقة، لذلك فهو يحمل الصفات التي تميز المسلم. فقد مر معنا أن المسلم عندما يدعو الله عز وجل يكون مطمئناً لاستجابة الله لدعائه لأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أمرنا أن ندعوا الله ونحن موقنون بالاجابة.

أ – فالصفة الأولى هو أن الانسان الخليفة (الذي استخلفه الله على هذه الأرض) يكون مطمئناً أن الله سيساعده. يقول رب العزة: "الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"(الأنعام 82 ). ( الطمأنينة تعني الأمن).

ب – الانسان الخليفة يعلم أن الله تبارك وتعالى قد سخر له ما في الكون لخدمته.

يقول تبارك وتعالى: "قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال. الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه، وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها. ان الانسان لظلوم كفار. (ابراهيم 31 -32 -33 -34 ).

ويقول سبحانه وتعالى: "الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. (الجاثية 12 – 13 ).

ج – الخليفة يهتم بالدوائر التالية: التجارة الفردية والجماعية، التجارة الخارجية والداخلية وأخيراً دائرة الرزق المال والربح. المراقب لهذه الدوائر يلاحظ أنها دوائر تناقضية؛ فالتجارة الفردية والجماعية، أي القطاع الخاص والقطاع العام، ويكون تنافسهما في الميدان الذي يحدده الخليفة الحاكم. أي بصيغة أخرى، لا بأس من منافسة القطاع الخاص للقطاع العام بتأمين حاجات المجتمع. والدائرة الثانية تحكمها نفس القوانين، يضاف اليها المسلمة التالية التي تمنع منافسة المنتجات الخارجية للمنتجات الداخلية؛ فميدان التجارة الخارجية محدد بتأمين الحاجات الضرورية للسوق الداخلية، وليس لتأمين الربح للتجار. أما الدائرة الأخيرة وهي الأهم. فمن خلال هذه الدائرة يمكن معرفة حالة المجتمع، فكلما كبرت دائرة الرزق على دائرة المال فهذا يعني ان المجتمع لم يتمكن بعد من تأمين جميع حاجياته وبشكل مريح. وتوسع دائرة المال يدل على أن المجتمع يتجه نحو الكماليات لأن الضرورات قد تأمنت لجميع أفراد المجتمع. وفي هذه الحالة نصل الى الرفاهية. أما دائرة الربح فالخليفة الحاكم هو الذي يحدد هامش الربح (لا تظلمون ولا تظلمون). والرزق من وجهة نظرنا هو ما يُتقوى به الانسان على عبادة الله. وبعبارة أخرى دائرة الرزق هي تأمين جميع الضرورات: مأكل، ملبس، مسكن، العلم والعمل....

النظرية التي تحكم التصور لنظام اقتصادي اسلامي:

أولا: التوحيد – العدل

نحن نعتقد أن الايمان بالتوحيد والالتزام به يتجلى عدلاً على الصعيد الاجتماعي.

أ – التوحيد هو الايمان بوحدانية الخالق عز وجل. وهذا الايمان يستتبع:

* - أن يكون الانسان موحَّدا. والموحَّد هو نقيض "فيه شركاء متشاكسون". يقول جل جلاله: "ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل، هل يستويان مثلاً. الحمد لله. بل أكثرهم لا يعلمون" (الزمر 29).

* - أن يكون موحداً سياسياً (لا ينتمي الى الطواغيت). طاعة الخالق تستدعي أن يكون الموحِّد على طرفي نقيض مع الذين يدعون الى غير الله. مؤمن وحليف أمريكا أو اسرائيل، هذه معادلة مستحيلة.

* - أن يكون موحَّداً اقتصادياً. "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". وهذا يستتبع منع الاستغلال والتبعية.

* - أن يكون موحَّداً اجتماعياً. اتباع ما جاء به الدين الحنيف في العلاقات الاجتماعية، وخاصة في علاقته مع الوالدين والزوجة.

ما تقدم هو الممارسة التوحيدية.

ب – العدل وهو تطبيق التوحيد على الأرض. الاقرار ب"لا اله الا الله" كخليفة – حاكم يفرض اقامة مجتمع العدل. يقول عز وعلا: "وأمرت لأعدل بينكم" (الشورى 15).

ج – العلاقة بين التوحيد – العدل:

1 – لا يقوم التوحيد الا بظل العدل،سياسياً، اجتماعياً واقتصادياً.

2 – الايمان بأنه لايقوم عدل الا في ظل التوحيد.

د – ما تقدم يفرض على الدول العربية أن تكون كتلة، حتى لا تكون مرهونةً برزقها لأي طاغوت.

ثانيا: مفهوم الخلافة- العمارة

نحن كمؤمنين علينا الايمان بأننا لم نخلق عبثا. وهذا الايمان يستدعي أن الانسان يحمل رسالة معينة عليه القيام بها. أما المؤمن فالرسالة التي يحملها هي تلك التي كُلف بها منذ وجوده: "اني جاعل في الأرض خليفة"، "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون".

الانسان مخلوق لعمارة الأرض. يقول تبارك وتعالى:... "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا اليه..." (هود 61). فالمهمة الأولى المطروحة على عاتقنا كخلفاء هو عمارة الأرض. فالانسان الخليفة هو الخليفة الحاكم من جهة وجميع الناس من جهة ثانية. والاستخلاف ليس له علاقة بالايمان؛ فالانسان مُستخلف مؤمنا كان أم كافرا. والانسان عُرضت عليه الرسالة فاما أن يؤمن بها فيكون مآله الى الجنة أو يكفر فيكون مصيره العذاب المقيم. وعمارة الأرض يقوم بها كل من يعيش على هذه الأرض. وميزة المؤمن هو قيامه بهذه المهمة طاعة لله وفي سبيله. وأما الآخر، يبين ربنا تبارك وتعالى هذا الأمر: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا" (الاسراء 16).

نحدد فنقول: العمارة هي العبادة التي يمارسها الخليفة طاعة لله في استعمار الأرض والكون. والعمارة لا تأخذ شكلا معينا، انما يمكن أن يتغير شكلها تبعا للظروف العيانية أو اللحظة التاريخية.

وعلينا الايمان أن العلاقة بين الخلافة والعمارة شرطية. أي علينا أن نؤمن أنه لا خلافة من دون عمارة، والا فما هو عمل الخليفة في هذه الأرض. كما وأنه لا عمارة من دون خلافة، أي وجود الأولى شرط لوجود الأخرى.

فالعمارة هي تكليف شرعي ومهمة دينية يقوم بها الخليفة. وقراءة هذه الآيات الكريمات توضح ما ذهبنا اليه:

" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا؛ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" (النور 55).

"وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم..." (الأنعام 165).

"ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا؛ كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" (يونس 13 – 14).

"وربك الغني ذو الرحمة، ان يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين"(الأنعام 133 ).

ثالثا: مفهوم الرزق – المال

الرزق هو ما يعتاش به الانسان من ملبس ومأكل ومسكن وعلم وعمل؛ وقد توافقنا على تسمية هذه الضرورات الحياتية بالضرورات الخمس. والرزق هو أسبق الى الوجود من المال. فاذا عدنا الى الوراء لن نجد من يبني البيوت حتى يبيعها، أو من يجمع القمح للمتاجرة فيه. ونحن نعلم أن المال ما هو الا الرزق المحترز. والمال لم يصبح له وجود مستقل الا في وقت متأخر من تاريخ الانسانية. ذلك أنه من المستحيل أن يعمل الانسان في التجارة قبل تأمين الحاجيات الضرورية لاستمراره في الحياة. من هنا ما ذهبنا اليه أن الرزق والمال هما مرتبطان كل منهما بالآخر. وهذه الوحدة تناقضية بمعنى أن دائرة كل منهما تكبر على حساب الأخرى.

ان ما يحدد عظم دائرة على أخرى هو الحال الواقعية للمجتمع. فالمجتمع الذي تأمنت جميع حاجياته، لا يمنعه شيء من الانتاج بقصد جمع الأموال، وبذلك نقول بأن دائرة المال هي الدائرة الكبرى. ولكن في جميع المجتمعات يبدأ العمل بدائرة الرزق الى ان يصل الى دائرة المال.

ومصادر المال في المجتمع الاسلامي هي الزكاة والصدقات والعفو وحالات المصادرة الثلاث: الكوارث الطبيعية، الحروب والمجاعة. ففي هذه الحالات يحق للخليفة الحاكم ان يصادر أموال العامة.

والمال هو عصب الاقتصاد، لذلك نرى الاقتصاديون يتحدثون عن التراكم الأولي لرأس المال وكيف يتم. فوجود هذا الرأس مال المتراكم هو شرط لبناء اقتصاد اجتماعي.

ليست هناك تعليقات: