بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الأحد، 30 نوفمبر 2014

الحوار ومآلاته



                            الحوار ومآلاته
يعيش المواطن اللبناني حالة من عدم اليقين. فانعدام الإستقرار السياسي ينعكس سلباً على الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية لجميع اللبنانيين.. كما وأن وجود أكثر من مليوني نازح، بسبب عدم الإستقرار على الصعيد الإقليمي، يزيد الإنعكاسات السلبية، خاصة عند صغار الكسبة من عمال وفلاحين وغيرهم من الأجراء والمياومين.
أما ما صرح به حاكم مصرف لبنان عن جودة الأوضاع الإقتصادية، فهو يتحدث عما تنعم به المصارف من متابعتها استغلال قوت اللبنانيين من الطبقة المسحوقة والمتوسطة. فهنا لبنانان، لبنان الطبقة الكادحة والمتوسطة، ولبنان المصرفيين وكبار الرأسماليين.
رغم هذه الحالة المتردية، استبشر أكثر اللبنانيين خيراً بالمبادرة التي أطلقها الرئيس الحريري منذ حوالي الشهرين باستعداده للحوار مع حزب الله. تلك المبادرة التي قبلها أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله، والذي عاد وأكد عليها الرئيس الحريري مجدداً.
كان من المفترض أن يكون الحوار من دون شروط مسبقة، ولكن رغم وضع شرطين من قبل الحزب وهما عدم الخوض بسلاح الحزب وبوجود الحزب في سوريا، فإن النقاش الحواري سينطلق بين ممثل للحريري وممثل للسيد نصرالله. وسيكون هذا الحوار برعاية من الرئيس بري والسيد جنبلاط، على ما قيل.
لماذا هذا الحوار؟
هناك من يعزو هذا الحوار إلى تفاقم الأوضاع الداخلية، خاصة وأن مستوى التحريض المذهبي والطائفي قد تجاوز كل حد، حتى أن المنوط بهم ضبط الأوضاع أصبحوا عاجزين عن القيام بهذه المهمة. من هنا لامناص من ضبط الأوضاع وإلا خرجت من أيدي الذي يستخدمها عند الحاجة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، وهي الأهم، فإن الحوار القائم بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، وهما رعاة الأوضاع الإقليمية بما فيها الوضع اللبناني، من الضروري أن ينعكس إيجاباً على وضعنا الداخلي، وإلا يصبح من دون فائدة. فبرودة الأوضاع الداخلية بين الأطراف التابعة للأطراف الرئيسية تعكس تحسن الأداء بين هذه الأطراف. ومن المعروف أن أكثر المراقبين قد بشروا بقرب الإتفاق بين أمريكا وإيران على أمور عديدة. أما الترجمة الفورية لهذه الإتفاقات فهي المعركة المشتركة التي يخوضها الطرفان مع امتداداتهما مع الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا.
مستقبل الحوار
إلى المستبشرين بهذا الحوار، نقول بأنه سيؤدي إلى اتفاق على الحفاظ على الحكومة القائمة حتى لا تزيد الأوضاع تفاقماً وسوءاً أكثر مما هي عليه الآن. لن يتم الإتفاق على انتخاب رئيس، ولن يتم الإتفاق على قانون جديد للإنتخاب. الإتفاق بين المستقبل والحزب مرهون بالإتفاق الإقليمي بين إيران وأمريكا على ترتيب أمور المنطقة.
حفاظ على الستاتيكو القائم ومنع الأوضاع الأمنية من التفاقم، هذه هي النتائج المتوقعة.

الخميس، 6 نوفمبر 2014

كيفية التعامل مع الصراعات



                                    كيفية التعامل مع الصراعات
حسن ملاط
يوجد في المجتمعات الكثير من التناقضات، ولا وجود لمجتمع من دون تناقضات. ولكن طبيعة هذه التناقضات تختلف عن بعضها البعض، سواء في نفس المجتمع أو في المجتمعات المختلفة. فالإختلاف بالرأي هو نوع من أنواع التناقض، كذلك الإختلاف بين الغني والفقير، أو ذلك الذي بين العامل ورب العمل.
وهناك تناقضات بين المجتمعات المختلفة، وهي بدورها تختلف من حيث طبيعتها. فالخلاف بين لبنان وسوريا ليس كالخلاف بين لبنان وإسرائيل. والخلاف بين سوريا وتركيا ليس كالخلاف بين أمريكا ودول إقليمنا.
الإختلافات بين طبيعة التناقضات القائمة ترتدي أهمية كبيرة. لذلك هناك ضرورة ماسة لتحديدها. فتحديد طبيعة هذه التناقضات هو الذي يؤشر إلى كيفية حلها. والفشل في تحديد طبيعة هذه التناقضات يؤدي بالتالي إلى فشل السياسة التي تنفذها الدولة أو التنظيم أو الحزب الذي عليه القيام بحل هذه التناقضات.
تصنيف التناقضات
لمعرفة كيفية التعامل مع التناقضات المختلفة، لابد من تصنيفها. فهناك التناقضات الأساسية والتناقضات الثانوية. وهناك التناقض الرئيسي. كما وأن هناك أيضاً التناقض العدائي والتناقض الغير عدائي. وكل من هذه التناقضات يتم التعامل معها بشكل مختلف عن الآخر.
فالتناقضات الأساسية هي تلك التي لابد من حلها، لأن عدم حلها يخلق عدم توازن في المجتمع. ولكن حلها يتم على مراحل يحددها التناقض الذي يلعب الدور الرئيسي، أي التوازن الذي لا بد من حله لإعادة التوازن إلى المجتمع. مثال ذلك، المشكلة الأمنية في طرابلس. هذه المشكلة خلقت عدم توازن في طرابلس والجوار، مما أثر على حياة الناس, فطرابلس هي إهراء الشمال. فتأمين الغذاء مرهون بتأمين الأمن في طرابلس. التواصل مع عكار يتم عن طريق طرابلس. تأمين الخضار لمعظم أهل الشمال هو من طرابلس. استمرار الحياة كما كانت عليه لا يتم إلا بأمن طرابلس أو بخلق مركز للشمال غير طرابلس وهذا مستحيل على المدى المنظور. من أجل ذلك أسمينا هذا التناقض الرئيسي لأن إعادة التوازن في المنطقة لا يتم إلا بحل هذا التناقض.
فتحديد التناقض وتصنيفه هو مسألة علمية وموضوعية وليس مسألة اختيارية تتم من قبل هذا أو ذاك.
هل يمكن للتناقض الثانوي أن يصبح رئيسياً؟ هذا يحصل، ولكن يجب التعامل معه على أنه ثانوي وليس رئيسياً.
أما التناقض العدائي فهو ذاك التناقض الذي لا يحل إلا بإزالة أحد طرفي التناقض. فالتناقض مع إسرائيل هو تناقض أساسي وعدائي. أي أن حل هذا التناقض يتم بالقضاء على إسرائيل ككيان غاصب. أما التناقض بين السنة والشيعة فهو تناقض غير عدائي كما أنه ليس أساسياً. وحل هذا التناقض لا يتم إلا بإيجاد صيغة للتفاهم بينهما، لأنه لا يستدعي إزالة أو القضاء على أحد طرفي التناقض، إنما يستدعي إزالة الصفة العدائية المستجدة نتيجة أخطاء بشرية مقترفة. ليس هناك تناقضاً تكوينياً بين السنة والشيعة. من أجل ذلك، هذا تناقض غير أساسي وغير عدائي.
كيف تعامل النبي محمد مع التناقضات؟
لقد حدد النبي محمد أن التناقض الأساسي هو التناقض مع قريش. ذلك أن قريشاً تهيمن على الفكر والدين والإيديولوجيا والإقتصاد، وهي الوحيدة التي تملك جيشاً محترفاً. كما وأنه اعتبر قريشاً العدو الرئيسي الذي يجب محاربته لأنها لعبت دور الحائل دون إتمام المسلمين الدعوة إلى الله، إنطلاقاً من مبدأ حرية الإختيار، وليس فرض الدين الذي ترتضيه القبيلة المهيمنة لنفسها وللناس. وجهز النبي نفسه لمحاربة قريش منذ انتقاله إلى المدينة وتأمينه قاعدة للإنطلاق. لذلك بدأت السرايا ضد قريش من قبل المهاجرين، حتى لا يحمل الأنصار تبعة القتال، تبعاً للأعراف التي كانت سائدة في الجزيرة العربية.
أما من حيث تعامله مع التناقضات الثانوية، فقد كان كالتالي: كان هناك عهد بين المسلمين والمشركين واليهود بكيفية التعامل فيما بينهم. وقد أمضوا هذه العهود فيما بينهم. عندما خان يهود بني قينقاع العهد حاربهم النبي من دون شن حملة على اليهود توحي وكأن التناقض الرئيسي أصبح مع اليهود ولم يعد مع قريش. والدليل على ذلك، أنه ما أن انتهى الإجراء المحدد بحق بني قينقاع حتى عادت الحرب على قريش إلى سيرتها الأولى. كما وأن انتصار النبي على بني قينقاع لم يخلق تبديلاً للحقائق على أرض الصراع، إنما ما ساهم به هذا الإنتصار هو منع تغير الحقائق بالنسبة للصراع مع قريش. أي أن الإنتصار على بني قينقاع لم يعط مشركي قريش أي ميزة على المسلمين في الصراع القائم. وهذا ما حصل عند حرب المسلمين على بني النضير.
أما في حربه مع العدو الرئيسي فالنتائج كانت دائماً مختلفة: عندما ترك مشركو قريش أرض المعركة في غزوة الخندق قال النبي قولته الشهيرة "نغزوهم ولا يغزوننا". هذه نتيجة كبيرة في الصراع مع الشيطان الأكبر، فقد أصبحت المبادرة بيد المسلمين. وهذا ما حصل فعلاً. لقد غزا المسلمون مكة وانتصروا على المشركين وكان بعد فتح مكة عام الوفود الذي كرس الإنتصار النهائي على الشرك في جزيرة العرب. وبذلك انتقل الصراع إلى أماكن أخرى، لأن التناقض الأساسي والرئيسي قد تم حله بالقضاء على شرك قريش.
لقد كان النبي واضحاً في تعامله مع التناقضات الثانوية بشكل يساعد على خدمة الصراع ضد العدو الرئيسي والأساسي. حارب بني النضير لأنهم تآمروا مع قريش. وحارب بني قريظة لأنهم تآمروا مع قريش، وكذلك فعل مع المجموعات التي حالفت قريش... أي بكلمة كان يوظف كل حركته لخدمة الإنتصار على عدوه الأساسي والرئيسي قريش.
كومونة باريس، كانت أول ثورة اشتراكية قادها العمال وصغار الكسبة وكان للنساء دور مهم فيها. انتصر العمال على الحكومة التي هادنت الألمان الذين كانوا يحاربون الفرنسيين وانتصروا عليهم. بعد قيام الكومونة، تحالفت الحكومة الألمانية والحكومة الفرنسية ضد الكومونة وحاربوها حتى سقطت. التناقض بين الألمان والفرنسيين كان تناقضاً ثانويا، مع أنه أدى للحرب. ولكن الكومونة كانت تريد أن تقضي على حكم البورجوازية. لذلك تحالف الألمان والفرنسيون للقضاء على حكم الطبقة العاملة وحلفائها، بسبب من عدائية التناقض بين الكومونة والحكم البورجوازي سواء كان في فرنسا أو ألمانيا.
في الصين، كانت الحرب قائمة بين الحزب الشيوعي الصيني والكومنتانغ على حكم الصين. في تلك الأثناء، غزت اليابان الأراضي الصينية. فما كان من ماو تسي تونغ إلا أن راسل شان كاي شاك من أجل إيقاف الحرب بينهما والتحالف من أجل قتال الغازي الأجنبي. لم يقبل شان العرض، عندها أبلغه ماو بأنه لن يحاربه ما دام اليابانيون في الأراضي الصينية. بعد انسحاب اليابانيين، عادت الحرب إلى سيرتها الأولى.
عندما يغزو الأجنبي البلاد، تكون الأولوية لمحاربة الأجنبي وليس للقتال الداخلي. التناقض الأساسي والرئيسي يكون دائماً ضد الغازي الأجنبي وهو عدائي أيضاً.
في بلادنا، التناقض الأساسي والرئيسي هو مع إسرائيل. ولا شيء يبرر نقل الحرب مع الصهاينة إلى حرب داخلية، يستفيد منها عدو الأمة. داعش هي سليلة القاعدة، ومع عدم موافقتنا على قراءتها وممارساتها، ولكن لا يمكن اعتبارها عدواً أساسياً للأمة. حاربت الإستكبار منذ نشأتها وحتى الساعة. ومن حدد داعش والقاعدة عدواً للناس هي الولايات المتحدة الأميركية. ومن جمع التحالف الدولي ضد داعش هي الولايات المتحدة. فإذا هاجم البعض الولايات المتحدة، فهذا لا يعني أنه لا ينفذ أجندتها في الصراع في بلادنا.
ليست القاعدة وحدها من يملك قراءة خاطئة للدين. هناك الكثير ممن يروجون لتدين يقسم الأمة لصالح أعدائها هل علينا العمل في الحرب الداخلية وكأن التناقض الرئيسي هو بين مختلف فئات الأمة. على مدى مئات السنين، تحارب أصحاب التدين "الرافضي" وأصحاب التدين "الناصبي"، من انتصر على الآخر. لا يمكن لأحد أن ينفي الآخر. من أجل ذلك، إيجاد الحلول لهكذا خلافات طريقها مختلف. تكرار التجارب بشكل غرائزي يوصل إلى الخراب أو خدمة العدو. والنتيجة واحدة. أما إذا كان لابد من التعامل العنيف مع بعض الفئات الداخلية، فلا يُجند لها الإعلام وكأن التناقض لم يعد مع إسرائيل. وهناك العديد من الأساليب التي لا تحول وجهة الصراع الأساسي.
التناقض بين أصحاب التدين هو تناقض ثانوي داخل الأمة، لا يُحل إلا بالحوار. وتنفيذ أجندات لصالح هذا الطرف أو ذاك على حساب مجموع الأمة تجارة خاسرة. أما تجارة الوحدة على الله فهي تجارة لن تبور. الطريق الوحيد الذي ينصرنا على إسرائيل ويطرد الأمريكان من بلادنا.
                                                                                                     6 تشرين الثاني 2014


الاثنين، 3 نوفمبر 2014

أولوية الصراع



                                          أولوية الصراع
حسن ملاط
يعتقد بعض قادة الأحزاب أو التنظيمات أو الجماعات السياسية، أن الصراعات في المجتمع تُخاض بناءً لأهواء أو إملاءات خارجية، من دون أن يعرفوا بأن التصرفات المشابهة تسيء إلى الممارسة النضالية، وهي بمثابة خداع للعاملين في هذه التنظيمات أو الأحزاب، وخداع للجماهير المساندة.
إن تحديد العدو يستند إلى قوانين علمية، ويمكن استنتاجه من التجارب العالمية للشعوب، سواء في بلادنا أو في البلاد الأخرى. كما أن تجربة النبي محمد تبين بوضوح كيف مارس هذا النوع من العمل. والمسلم عليه التأسي بتجربة النبي. أما الآخرون، فيمكنهم الإستفادة من هذه التجربة الناجحة.
إن مناسبة هذا الكلام، هو ما نراه من تخبط غير مبرر بتحديد الأولويات في العملية السياسية. وهذا ما أدى إلى قسمة الناس واستحضار جميع الآفات التاريخية التي تم تجاوزها عندما كان التحديد لأولوية الصراع صحيحاً.
منذ هجرته إلى المدينة، حدد النبي أن الصراع هو مع عدو الدعوة الإسلامية المتمثل بقريش. وعندما أعلن النبي ميثاق التعايش في المدينة بين المسلمين واليهود والمشركين، كان هناك اشتراط بعدم جواز التعامل مع قريش. وكانت جميع السرايا والغزوات موجهة ضد قريش، إلا تلك التي فيها رد على عدوان اقترفته إحدى المجموعات بحق المسلمين. وحيث كان بإمكان المسلمين موادعة أحد الأطراف، كانت المسارعة إلى الموادعة دائماً، عدا قريش طبعاً. وكان الإستثناء صلح الحديبية الذي لم يوافق النبي على تجديده مع قريش.
لماذا كانت قريش هي العدو؟
كانت مكة الحاضرة الأهم في الجزيرة العربية. فقد كانت تتميز عن غيرها بالأمور التالية:
1 – وجود الكعبة الجامعة للقبائل العربية. كان العرب يحجون إلى أماكن عديدة ولكن الحج المركزي كان في مكة.
2 – وجود عدة أسواق مركزية كان يشارك فيها العرب من كل القبائل: سوق عكاظ...
3 – كانت مكة هي الوحيدة التي تملك جيشاً محترفاً: الأحابيش، مهمته الدفاع عن مكة، الحرم الآمن.
4 – إلى جانب الدور الإقتصادي الذي كانت تلعبه الأسواق في مكة، كانت مجالاً لتبادل الأفكار والمبارزات الأدبية. كانت مركزاً للتلاقح الفكري والثقافي.
هذه العوامل جعلت من مكة قبلة أنظار جميع القبائل، إنها النقطة المركزية في الجزيرة العربية: المركز الإقتصادي الأول، المركز الفكري والديني للعرب كافة، والقوة العسكرية الوحيدة المتفرغة. من هنا فالإنتصار على هذا العدو يحدد مستقبل المسلمين في الجزيرة العربية.
هكذا حدد النبي هوية عدو المسلمين، وذلك من خلال دراسته للواقع الفعلي والحقيقي، العوامل الأساسية، الرئيسي منها والثانوي، ثم أعلن أن العدو الذي على المسلمين قتاله هو قريش. ودقة التحديد هذه أدت إلى أنه بعد الإنتصار على قريش، كان عام الوفود. أي بدل من ذهاب النبي أو موفديه إلى القبائل لدعوتها للإسلام، كانت القبائل هي التي تأتي للنبي شاهرة إسلامها.
في اللغة العصرية، على الأحزاب أو التنظيمات أو المجموعات السياسية التي تعمل في مجتمع معين، أن تحدد التناقضات الموجودة في هذا المجتمع: الأساسي، الرئيسي ومن ثم التناقضات الثانوية. وطريقة تحديد هذه التناقضات لا تختلف كثيراً عما قام به النبي عند تحديده لعدو المسلمين.
في عصر العولمة النيوليبيرالية، أصبحت الساحة كبيرة، كبر تحرك الرأسمال المعولم. الساحة القومية يكاد ينتفي وجودها لولا بعض الأصوات التي تنادي بضرورة الحفاظ على الميزات الخاصة من دون نفي الهوية الجامعة. أي بصيغة أخرى، يريد الألماني المحافظة على تميزه كألماني عن باقي الشعوب الأوروبية مع الإحتفاظ بالروابط التي يفرضها وجود الإتحاد الأوروبي ككيان جامع يمكن الأوروبيين من إيجاد مكان لهم في هذا العالم. مكان يتمتعون فيه باستقلال نسبي من دون تبعية للمركز الأمريكي.
تمكن الأميركي من فرض إيقاعه على العالم حالياً. فالدولار هو معيار التقييم الإقتصادي، وهو النقد الذي يجب الإحتفاظ به. التعاملات الإقتصادية تتم بالدولار إلا نادراً. وهذا بسبب من وجود مصالح مشتركة لدى كبار المستثمرين من جنسيات مختلفة. وإلا كيف نفسر تعثر مسيرة التحالفات الدولية التي تدعي عملها للتحرر من الهيمنة الأميركية مثل مؤتمر شنغهاي والبريكس وتكتل أميركا اللاتينية...
أضف إلى ذلك، أن الأمريكي تمكن من تعميم أو تدويل قيمه في الإستهلاك. فتقييم تقدم المجتمع يتم من خلال قياس استهلاكه. كما أن طريقة الحياة الأمريكية أصبحت معممة، حتى في الدول التي تدعي أنها ستجابه أمريكا. الوجبات السريعة، السلع الغير ضرورية، الأزياء وموديلات السيارات والمركبات الأخرى...إلخ
الإقتصاد، قبل أن يكون نظام إنتاج وإستهلاك وتجميع أرباح هو نظام قيم. إذا كنت تريد بناء نظام إقتصادي يتمتع باستقلالية عن المركز الأمريكي، عليك أن تنتج نظام قيم مختلف، يميزك عن الآخرين، نظام يقوم على إنتاج الحاجات الحقيقية وليس إنتاج السلع الإستهلاكية. نظام يقوم على التبادل للضروريات وليس بيعها وشراءها بالنقد الذي يستعبد الناس، إنما بإعادة نظام المقايضة، وبنظام تقييم لا يقوم على الدولار، إنما يقوم على حاجات كل مجتمع للسلعة.
في عصرنا الحاضر، النظام الذي يقوم باستعباد البشر واضطهادهم، هو نظام العولمة النيوليبيرالية. فالشيطان الأكبر هو أمريكا، كان ولا يزال. والشعوب لن تتخلص من عبوديتها إلا عندما تتحرر من الهيمنة النيوليبيرالية.
أما في بلادنا، فإسرائيل التي اغتصبت أرضنا في فلسطين، والقاعدة المتقدمة لأمريكا، والتي تقمع أي حركة تحررية عربية هي العدو الذي يجب محاربته في كل آن. حيث أن الدور الذي يلعبه الكيان الصهيوني  هو ما يجعلنا نحدد بأنه العدو الأساسي والرئيسي لأمتنا.
لم تتوحد أمتنا يوماً إلا على هذا العدو، ولم تغب خلافاتها المذهبية إلا عندما كانت تقاتل هذا العدو. إن تغيير اتجاه القتال هو الذي أدى إلى إعادة الدور الأميركي الذي هزم في أفغانستان والعراق إلى نشاطه السابق.
المصالح المستجدة لبعض القوى التي كانت تريد أن تحارب أمريكا مع التزامها بنمطه الإستهلاكي، أدى بها إلى التراجع عن شعاراتها والتفتيش عن كيفية التوافق مع الأمريكي من أجل جلبه إلى كرمها من أجل استغلال شعبها بحجة التطوير الإقتصادي، وكأن الإنسانية ليس بإمكانها ابتكار نمط للإنتاج سوى النمط السائد اليوم.
إن عدم إنتاج نظام للقيم يتناسب مع معتقدات مجتمعاتنا، نظام يُعمم على جميع مناحي حياتنا الثقافية والإجتماعية والإقتصادية سيبقي تبعيتنا للأمريكي البشع وسيؤدي بالتالي إلى خوض معارك لا تفيد إلا أعداء أمتنا. إن تحويل العداء الفعلي من إسرائيل إلى ما يسمى الإرهاب السني، الذي اكتسب تسميته هذه من خلال قتاله لأمريكا في جميع الساحات، تحول بقدرة قادر إلى العدو الرئيسي إلى من كانوا يعتبرون أمريكا الشيطان الأكبر وإسرائيل الغدة السرطانية التي يجب إزالتها. وأصبحت الحرب داخل أمتنا بدل أن تكون على أعداء أمتنا.
إن الخطأ في تحديد العدو يؤدي إلى خراب الأمة. هل لداعش دور إقتصادي يؤدي إلى إفقار الأمة ونهب خيراتها وإعطائها للأجنبي؟ هل لداعش دور حربي يمنع محاربة إسرائيل والشيطان الذي كان أكبر. هل لداعش دور ثقافي يمنع الأمة من التوحد على الله؟ هل لداعش الإمكانية على تشويه فكر كل الأمة. أين كان دورها عندما كانت البندقية موجهة للعدو الصهيوني؟
مصلحة الأمة والإقليم (البلاد العربية وتركيا وإيران) تستوجب إعادة النظر في هذه الممارسة الخاطئة التي تقوم على خدمة مصالح سياسية فئوية وقسمة الأمة إلى معسكرات مذهبية وطائفية.
                                                                                           طرابلس في 3 تشرين الثاني 2014