بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

السبت، 20 سبتمبر 2014

هل حقاً من أجل داعش؟



                                هل حقاً من أجل داعش؟
حسن ملاط
ما استُجد في الإقليم بعد الإضطرابات التي عمت العديد من أقطاره، كان الإتفاق الأمريكي الإيراني، بعد خلاف بينهما دام أكثر من ثلاثة عقود. فهل انتهى مفعول هذا الإتفاق، أم هناك ما يمنع تنفيذه، أو أن كل شيء لازال على ما هو عليه؟
الداعي لهذه الأسئلة المشروعة هو استبعاد إيران من التحالف ضد الدولة الإسلامية، الذي أقامته أمريكا بحجة القضاء على الإرهاب السني في المنطقة. من أجل ذلك، فهي، حسب زعمها، بحاجة إلى تحالف من دول سنية. هذه الحجة سرعان ما سقطت عندما أعلن جون كيري أنه بحاجة إلى تعاون إيران من أجل القضاء على داعش. ولكنه يريد لهذا التعاون أن يكون من تحت الطاولة (كما كان في أفغانستان ضد طالبان)، حتى لا يخوف القادة الخليجيين من تعاون معلن مع إيران يذكرهم بدور الشاه الإيراني قبل الثورة الإسلامية.
إيران لم تقبل بأن ترسم أمريكا لها دورها في الإقليم. لذلك رأينا أكبر سلطة في إيران، المرشد الأعلى، تعلن رفضها للتعاون مع أمريكا. ما هو مدلول ذلك؟
إيران لا تريد أن تتعامل مع أمريكا تعامل "العشيق"، إنما تريد تعامل الشريك، وإن كان شريكاً مضارباً كما تقول لغة التجارة. فالتعامل الأول والذي جربته إيران في أفغانستان، خرجت منه من دون مكاسب. أما اليوم فلا يمكنها الخروج كذلك لأن هذا سيورثها خسارة دورها في الإقليم.
إيران اليوم هي اللاعب الأساسي في العراق وسوريا واليمن، كما وأن دورها في باقي الإقليم لا يمكن إغفاله، فكيف لها أن تتخلى عن جميع هذه المكاسب؟ هذا لا يمكن القبول به إلا مرغمة.
أمريكا، التي غازلت إيران منذ أكثر من سنة، كانت تعلم حاجة إيران للتخلص من العقوبات، كما وأنها كانت تعلم حاجة إيران للإستثمارات الغربية والخبرات التكنولوجية من أجل إعادة بناء الإقتصاد الإيراني وتطوير أنتاج النفط والغاز، المورد الأساسي للمداخيل الإيرانية. الرئيس الإيراني السابق أنفق 700مليار دولار كمساعدات للفقراء الإيرانيين بدلاً من بناء قاعدة للإنتاج وتأمين فرص للعمل. الرئيس الحالي أخبر الإيرانيين بخططه من أجل استجلاب الإستثمارات وبناء قاعدة إقتصادية صلبة تؤمن مستقبل الشعب الإيراني، وأخبرهم بأن هذا يتطلب بعض التضحيات، ومنها على سبيل المثال وقف المساعدات العينية. الإستفتاء الذي جرى في إيران أظهر أن هناك 97% يريدون استمرار المساعدات. وهذا يعني، آلياً، الحاجة إلى استثمارات خارجية.
هذا الواقع جعل الولايات المتحدة تضغط على إيران من أجل التراجع في ملفات معينة، ومنها على سبيل المثال، الملف العراقي. وكان لها ما أرادت. تخلت إيران عن المالكي ورضيت بعبادي بديلاً عنه. أمريكا لم تكتف بذلك، بل أرادت إعادة بناء الجيش العراقي تحت أنظارها، وتشكيل حكومة ترضى هي وحلفاؤها عنها. وكان لها ما أرادت. ولكن ما قصم ظهر البعير، كما يُقال، هو أنها تريد، فضلاً عن ذلك، تخلي إيران عن بشار الأسد في سوريا وأن يكون التحالف مع أمريكا والقوى الدولية غير معلن. وهذا ما رفضته إيران بإصرار. وكذلك فعل النظام السوري. فبعد أن أعلن فيصل المقداد عدم تحفظه على ضرب الدولة الإسلامية في سوريا، مع ضرورة للتنسيق العملاني، عاد وأعلن رفضه المطلق واعتبره اعتداء على السيادة السورية. كل ذلك بعد أن أعلن الأميركي أن الأسد ليس شريكاً في محاربة الإرهاب، إنما هو ممن صنعوه.
الرد الإيراني على الإستكبار الأمريكي وتعنته كان سريعاً. فهي بعثت خبراءها إلى العراق لقيادة التحركات العراقية من قبل الميليشيات الشيعية وجيش المالكي، وهذا ما أعلنت عنه الإدارة الأمريكية. ليس هذا فحسب، بل تحرك حلفاء إيران في اليمن وحاصروا صنعاء، ويخوضون معارك مع الجيش وانصار الإخوان المسلمين. وهذا الرد يعني خربطة الخطة الخليجية المعلنة بالتعاون مع الأمم المتحدة لحل المشكلة اليمنية. أما انعكاسات هذا الأمر، فهي هامة أيضاً. الساحة اليمنية أكثر أهمية من الساحة السورية بالنسبة للسعودية. فبدلاً من أن تكون المقايضة في سوريا (الساحة الأهم بالنسبة لإيران)، تصبح في اليمن، وهذا ما يناسب الإيرانيين أكثر.
أمريكا تقوم بعمليات مدروسة ضد الدولة الإسلامية. فهي تضرب حيث يفيد حلفاءها، ولا تقدم حيث يسبب أذىً للإيرانيين. فهي تريد أن تورط إيران بمعركة على حدودها تلهيها عن كل ما عداها. ولكن هذا لا يعني مطلقاً التخلي عن التفاهم مع إيران، وإنما يعني اللعب من أجل تحسين شروط الإتفاق فقط. أمريكا تريد التوافق مع إيران بشروطها، كما وأن إيران تريد التفاهم مع أمريكا بشروطها هي.
ما هي نتائج هذه التجاذبات على الساحة اللبنانية والسورية؟
كان دور حزب الله في سوريا حاسماً بالنسبة لدعم النظام السوري الذي كان مهدداً بالإنهيار. ولكن الحزب دفع ثمناً غالياً نتيجة هذا التدخل، لن تنتهي مفاعيله في الأمد القريب. وحيث أن أمريكا تعرف حجم فعالية الحزب في الحرب السورية، لذلك كان لابد من إشغاله، لذلك كانت هذه الأحداث التي نراها في ما يسمى جبهة القلمون، والتي تُعتبر عرسال من ضمنها، خاصة وأنه يبدو من المستبعد أن تكون القوى الأمنية في لبنان ذات دور فعال في هذا الصراع. فهل بإمكان الحزب أن يغطي جبهة القلمون ويساهم مساهمة فعالة في حماية النظام في سوريا، خاصة بعد انسحاب الميليشيات الشيعية العراقية لضرورة وجودها في العراق نتيجة الأخطار المحدقة بالتوازنات التي أرساها المالكي بدعم إيراني.
ليس هذا فحسب، بل يمكن أن نضيف أن التحريض الطائفي والمذهبي الذي تقوم به قوى فاعلة في الساحة اللبنانية، والتي تحمل عنوان تسلح الساحة المسيحية في وجه الساحة السنية، وبدعم من الشيعة على حد زعم هؤلاء، يحمل الكثير من المخاطر. إن تصور امتداد هذه الخلافات والتباينات يمكن أن يغطي كل قرية ومدينة وحي في لبنان. هل هذا يمكن أن يخدم أي مشروع له توجه وطني؟ ولماذا هذا التحريض إذن؟
هناك خلط عند هذه القوى بين الأولويات، هل يجب التوجه نحو تدعيم حلف الأقليات في المنطقة، أم مجابهة الهجمة الأمريكية على الدور الإيراني، وذلك بشغل حلفاء إيران بمعارك جزئية تشتت قواهم وتجعلها من دون فعالية. هذا ما يجعل حركتهم عشوائية، وفي هذا خدمة لعدوهم.
إنسحاب حزب الله من سوريا بسبب المعارك الجانبية، وانسحاب الميليشيات العراقية، يجعل الجو مؤاتياً لأمريكا حتى تتمكن من بناء ميليشيات موالية لمحاربة الجيش السوري الموالي للنظام. هذا السيناريو، في حال نجاحه، يعني أن إيران قد خسرت ساحاتها في ظل توافقها مع الأمريكي. هل تقبل إيران بالإنكفاء إلى داخل بلدها لإعادة بنائه وخسارة دورها الإقليمي. نحن نستبعد ذلك، ولكن التطورات الإقليمية هي التي تجيب على هذا التساؤل.
ننهي فنقول بأن الوضع مفتوح على خيارات عديدة، أما الخيار المستبعد فهو القتال مع العدو الإسرائيلي، الطريق الوحيد الذي يوحد الساحة العربية والإسلامية.                                                        
                                                                                                           20 أيلول 2014

السبت، 13 سبتمبر 2014

الدين والتدين



                                               الدين والتدين
حسن ملاط
الظروف التي تمر بها بلادنا منذ عدة سنوات، أسماها البعض "الربيع العربي" أما البعض الآخر فآثر تسميتها "بالخريف العربي"، وذلك تبعاً لانتماءاتهم الحزبية أو لتبعيتهم لأحد المحاور الإقليمية.
ولكن التطور الأبرز فهو تبوء ما يسمى "الدولة الإسلامية" مركز الصدارة في الأحداث الجارية. وهذا ما استدعى الدعوة إلى إقامة تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، مؤلف من أربعين دولة. إيران خارج هذا التحالف وكذلك النظام السوري، لأسباب أمريكية تتعلق بالضغط على هذين النظامين اللذين يؤيدان ما تزمع امريكا القيام به من الإغارة على مواقع الدولة الإسلامية.
الأمر الأهم في ما يحصل، هو إعلان الخلافة الإسلامية وتجاوب عدد من المسلمين مع هذا الشعار، مع الحرص على عدم الإعلان عن ذلك. ربما أن السبب الأبرز هو ما تقوم به "الدولة الإسلامية" من ممارسات لا تتناسب مع القيم الإسلامية المترسخة عند السواد الأعظم من المسلمين.
التعامل مع هذه الظاهرة من دون تأصيلها، سيؤدي حتماً إلى إعلانات متعددة من بوش وأوباما وغيره من المهتمين، عن القضاء على هذه الظاهرة، من دون القضاء عليها حتماً. والدليل على ذلك أن القاعدة لا تزال موجودة، إلى جانب تفريخ العديد من أخوات القاعدة، ومنها "الدولة الإسلامية" التي هم بصدد محاربتها بتحالف من أكثر من أربعين دولة.
من أين تأتي هذه الظواهر؟ هل هي طارئة أم أنها أصيلة؟ ما الذي يساعد على ظهورها، أو ما هي أسباب ظهورها... أسئلة لا بد من الإجابة عليها حتى نعرف كيفية التعامل مع هذه الظواهر أو مع ظواهر مشابهة.
ملاحظة لابد منها: القول بأن العالم أصبح قرية كونية ليس مبرراً للسماح للولايات المتحدة وحلفائها الإعتداء على بلادنا، حتى وإن كان بحجة القضاء على الإرهاب. إذا كان الإرهاب صناعة "وطنية"، فمهمة أهل البلاد التعامل مع الظاهرة.
نحن نعتقد أن السبب الرئيس لنشوء هذه الظواهر يعود إلى الخلط ما بين الدين من جهة والتدين من جهة أخرى.
فالدين في اللغة يطلق على عدة معان:
الأول: الملك والسلطان، كما في قوله تعالى: (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك)[يوسف:76] أي في ملكه وسلطانه.
الثاني: الطريقة، كما في قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين)[الكافرون:6]
الثالث: الحكم، كما في قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)[الأنفال:39]
الرابع: القانون الذي ارتضاه الله لعباده، كما في قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً)[الشورى:13]
الخامس: الذل والخضوع، يقال: دان لفلان أي خضع له وذل.
السادس: الجزاء، كما في قوله تعالى: (مالك يوم الدين). أي يوم الجزاء.
واصطلاحاً هو: ما شرعه الله لعباده من أحكام. (إسلام ويب)
أما الدين عند البعض الآخر، فهو وضع إلهي لذوي العقول السليمة، باختيارهم، إلى الصلاح في الحال، وإلى الفلاح في المآل.
أما التدين ، فهو التمسك بعقيدة معينة ، يلتزمها الإنسان في سلوكه ، فلا يؤمن إلا بها ، ولا يخضع إلا لها ، ولا يأخذ إلا بتعاليمها ، ولا يحيد عن سننها وهديها . ويتفاوت الناس في ذلك قوة وضعفا ، حتى إذا ما بلغ الضعف غايته ، عد ذلك خروجا عن الدين وتمردا عليه .(مجلس البحوث الإسلامية)
تديَّن الشَّخصُ : اتخَّذ دِينًا
تشدَّد في أمر دينِه وعقيدته عالمٌ متديِّن
  مَعْرُوفٌ بِتَدَيُّنِهِ : بِتَعَبُّدِهِ وَذَلِكَ بِاتِّخَاذِهِ ديِناً سَمَاوِيّاً). قاموس المعاني)
التدين: مأخوذ من الدين، والدين: هو التسليم والطاعة والتذلل والخضوع والعبودية، وعلى هذا فإن التدين -تدين المسلم- بمعناه الاصطلاحي يتمثل أولاً بالتسليم لله عز وجل، والتذلل له سبحانه، والخضوع والطاعة والامتثال، وجماع ذلك كله: العبودية لله سبحانه. (ناصر بن عبدالكريم العقل)
الدين، إذن، هو معطى من رب العالمين، نجده في القرآن الكريم والذي جاءنا به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. القرآن، الثابت مطلقاً، والذي يفترض على الإنسان المؤمن التعامل معه على أن الإنسان مطلق نسبي وعلى أنه نسبي فقط. هذا يعني أن القرآن هو الكتاب الذي يُهتدى به حتى "يُنفخ في الصور". بهذا المعنى يكون الإنسان مطلقاً نسبياً. أما التعامل مع القرآن على أن الإنسان نسبي، فهذا يعني الأخذ من القرآن ما يتناسب مع كل حقبة أو مرحلة تاريخية من أجل تأمين سعادة الإنسان. وهذا مضبوط بما جاء عن السيدة عائشة أم المؤمنين واصفة النبي: كان خلقه القرآن. أي أن القرآن كان يتمثل سلوكاً إنسانياً وعلى كافة المستويات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما التدين، فهو السلوك الإنساني إنطلاقاً من الثابت الإيماني. هذا السلوك الذي يتوافق مع الثابت مطلقاً (القرآن والسنة والسيرة المتوافقة مع ما جاء في القرآن)، هذا أولاً، وثانياً الإنسان وثالثاً مواصفات العصر الذي نعيش فيه. هذا يعني أن التدين لا يكون ثابتاً ولا ملزماً لأنه سلوك إنساني ابتدعه الإنسان إنطلاقاً من فهمه (المحدود) للقرآن والسنة. وهذا الفهم للتدين لا يتناسب مع ما هو معمول به اليوم. فالثابت اليوم هو جميع ما جاء به العلماء، عند جميع الفئات والمذاهب من دون استثناء. فبدلاً من أن يكون القرآن ثابتاً والسنة، أصبحت جميع الأنشطة الإنسانية ثابتة وملزمة لكل من أحب أن يكون مسلماً. وهذا ما أدى إلى جميع الإنحرافات التي حفل بها تاريخ المسلمين حتى اليوم.
كيف ترجم النبي عليه الصلاة والسلام التدين؟
1 – في بداية الدعوة، كان الشعار الإسلامي، أي ما يميز إسلام المسلم، هو التمسك ب"لا إله إلا الله" فقط. والتمسك بها لا يتضمن حمل السلاح والدفاع عن المستضعفين من المسلمين. أما دليلنا على ذلك فهو ردة فعل النبي على إيذاء قريش لياسر وعائلته، فقد قال لهم النبي "صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة". أي إصبروا على التوحيد رغم الأذى، فهذا هو الذي يميزكم عن المشركين. وقد كان نصيبهم الجنة، حيث استشهدت سمية، أم عمار، وكذلك ياسر زوجها.
أما قصة الهجرة إلى الحبشة فقد كانت بسبب اشتداد أذى المشركين. ظروف المسلمين لم تتغير. لذلك كان لابد من الثبات على الشعار المرفوع وهو التمسك بالتوحيد وعدم مجابهة المشركين. من أجل ذلك أمر النبي المسلمين بالهجرة إلى الحبشة حيث بإمكانهم الإحتفاظ بدينهم، أي التمسك ب"لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، والحفاظ على حياتهم بانتظار تغير الظروف (أي العصر والإنسان).
ماذا جرى في هذا الأمر؟ سمع مهاجرو الحبشة أن قريشاً قد آمنت، فما كان إلا أن عاد عدد كبير منهم إلى مكة ووجدوا أن ما سمعوه لم يكن صحيحاً. هذا يعني وعيهم لشعار المرحلة التي كانوا يعيشونها. أي أن أمر وجودهم في مكة مرهون بإمكانيتهم على الإحتفاظ بإيمانهم بالتوحيد وليس بأي شيء آخر.
 اشتد أذى قريش، ولم يقبل المسلمون بالعودة إلى الشرك. فما كان من قريش إلا أن حبست المسلمين في شعب أبي طالب، خارج مكة. قبل المسلمون هذا النفي الذي يمكنهم من الإحتفاظ بتوحيدهم لله عز وجل. ولم يستعمل المسلمون العنف ضد قريش لأنه لا يتناسب مع شعار المرحلة.
2 – آمن العديد من الأوس والخزرج برسالة الإسلام وعاهدوا النبي الدفاع عن المسلمين في حال هجرتهم إلى المدينة (يثرب). عندها، أمر النبي المسلمين، جميع المسلمين بالهجرة إلى المدينة. فكان شعار المرحلة هو أن إيمان المؤمن، معياره الهجرة إلى المدينة.
ما الذي تغير في الحال حتى تغير الشعار؟
لقد انتشر الإسلام خارج مكة، وكثر عدد المسلمين وقويت شوكتهم. وأصبح بإمكانهم الدفاع عن أنفسهم وعن توحيدهم. تغير الإنسان والعصر (الظروف)، ولكن التوحيد بقي توحيداً. أما التعبير عن هذا التوحيد ممارسة فهو الهجرة إلى المدينة، إلى مكان محدد.
3 – في صلح الحديبية، سمح النبي للمسلمين الاحتفاظ بدينهم من دون أن يهاجروا إلا بإذن من سيدهم المشرك. على هذا نص الإتفاق. رأى النبي أن مصلحة الدعوة في تلك الظروف تتطلب صلحاً كالذي حصل. وكان فتحاً كما أسماه رب العزة. ولكن مع الإشارة أن شعار المرحلة، وهو أن معيار إيمان المؤمن هو الهجرة إلى المدينة لم يتغير. ولكن دخل عليه استثناء يتعلق بفئة محددة من الناس.
4 – فتح المسلمون مكة. تغيرت الظروف. كثر عدد المسلمين. لم يعد من داع للهجرة إلى المدينة. لذلك أعلن النبي أن لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. تغير العصر، فتغير الشعار، شعار المرحلة. من أجل ذلك، كانت غزوة تبوك.
هذه النقاط تبين كيفية ممارسة المسلمين لتدينهم بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الممارسة تُلزمنا لأنها ممارسة النبي، التي من خلالها يُعلمنا كيفية أخذ القرار خلال ممارستنا لتديننا في ظروف مشابهة أو مختلفة. حيث أن فهمنا للتأسي يقوم على ضرورة "فهم الآليات التي استخدمها النبي للوصول إلى قرارات معينة". ففي كتاب المدينة اشترط عدم التعامل مع قريش. علينا التساؤل: لماذا. ما الذي يميز قريش عن غيرها حتى يكون التعامل معها ممنوعاً. وحتى بعد صلح الحديبية لم يتغير هذا البند. أي أن الصلح كان بين أعداء، وليس كالكتاب مع اليهود وأهل المدينة من غير المسلمين. كل هذه الأسئلة، وكثير غيرها علينا الإجابة عليها حتى نعرف كيف نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم.
المسلمون بعد رسول الله مارسوا تدينهم، ولكن ممارستهم لا تُلزم المسلمين بالتأسي بها. لقد علمنا رب العزة أن التأسي يكون برسول الله وحده: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.." أما الآخرون من المسلمين وغيرهم فينطبق عليهم قول الله تبارك وتعالى في أماكن عديدة: "أولم يسيروا في الأرض فينظروا...".
أ – اختيار خليفة لرسول الله كان أول ممارسة للتدين من قبل المسلمين قام بها أبو بكر وعمر، وألزموا بها المسلمين. حيث أن هناك من عارض هذا الإختيار.
ب – كان الشعار الذي رفعه أبو بكر هو مقاتلة من رفضوا إعطاءه اموال الزكاة. وهذه الحرب التي سُميت بحرب الردة, علماً أن هناك من يُشكك بهذه التسمية. رغم ذلك كانت الحرب، والتي قُتل فيها خيرة الصحابة. وكانت هي المميزة لخلافة أبي بكر. لا داعي للقول أن ممارسة أبي بكر للتدين في تلك المرحلة لا تُلزم المسلمين إلا "أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف...".
ج – ما ميز ممارسة التدين عند عمر هو تغيير قواعد توزيع الغنائم مع وجود نص. ولكنه رأى أن العصر يتطلب خلاف ذلك. وأثيرت نقاشات عديدة حول هذا الأمر. ولكنها حُسمت عندما وافق علي على اجتهاد عمر. ولكن تدين عمر ألزم المسلمين في خلافته فقط.
بعُد الزمن عن رسول الله كثيراً، أكثر من عدد السنوات التي كانت تفصل الناس عنه. وأصبح التدين تبعاً لهوى المنتصر. أما الناس فكانوا يمارسون تدينهم تبعاً لاجتهاداتهم الشخصية ومدى تقواهم، أو بتأسيهم بمن يفترضون عندهم التقى. أما الكيان الإسلامي فكان إسلامياً بممارسة الصلاة وغيرها من الشعائر.
أما التاريخ فيكتبه المنتصر بما يتناسب مع مصالحه. وممارسة التدين من قبل الحكام لا تخرج عن هذه القاعدة. فالتدين يكون صحيحاً تبعاً لهوى الحاكم. من أجل ذلك، كان المميز لممارسة الأكثرية الساحقة من الحكام المسلمين الظلم والبعد عن الدين وفرض ممارسة معينة للتدين مشروطة بعدم تعارضها مع هوى الحاكم.
ونتج عن ذلك كتابة الكثير من الكتب التي تعتبر أن الدين هو ما يكتبه الكتاب أو الفقهاء أو المفكرون وأنه هو ما يُلزم المسلمين. وهذا بهتان عظيم نتج عنه استمرار التقاتل بين المسلمين على مر العصور لأنهم اعتبروا دينهم هو ما سطره فقهاء السلاطين بما يؤدي إلى الفرقة التي نراها اليوم والتي كانت والتي ستستمر إذا لم يبادر العلماء المتنورون على انتاج تدين يحرر الأمة مما هي فيه ويوحد المسلمين على شعارات تؤمن لهم سعادتهم في هذه الدنيا وتكون طريقاً لسعادتهم في الآخرة كما أراد الله تبارك وتعالى لنا.
البديل هو ما نراه اليوم من مختلف التنظيمات التي "تتقرب" إلى الله بقتل المسلمين وغيرهم، والتي يمكنها أن تجد كل المبررات التي تجعل منها وحوشاً بشرية تركض إلى الجنة بفضل الكتب الصفراء التي تسمح لها بقتل الإنسان لأنه إنسان لا يُمارس حياته كما يريد هذا النمط من شُذاذ الآفاق الذين يحملون شهادات بفقه إفناء الإنسانية.
التنظيمات "الإرهابية" هي نتاج تديننا عبر التاريخ بعد أن اتخذنا القرآن مهجوراً وتنكرنا لرسول الله، وجعلنا منهما مطية لمصالح الحكام والسلاطين، أو زعماء المجموعات ...                                      13 أيلول 2014