بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الخميس، 25 مايو 2023

ماذا عن "همروجة" السلاح؟

 

الثلاثاء، 28 نوفمبر 2017


 تحديث       

حسن ملاط

ما يثير الإستغراب أن البعض في لبنان يطرح موضوع سلاح حزب الله من دون أخذ الظروف العامة في البلد بعين الإعتبار.

أولاً

1-        إذا كان حزب الله يريد أن يلعب دوراً إقليمياً بواسطة سلاحه، فلا يمكنه فعل ذلك إلا إذا كانت الأوضاع داخل البلاد مستقرة. من هنا فلا يمكن لسلاحه أن يكون عامل عدم استقرار.

2-        إذا كان حزب الله يريد أن يحافظ على المكتسبات التي حظي بها أبناء مذهبه، فعليه أيضاً المحافظة على الإستقرار.

3-        التعاون مع المذاهب أو الطوائف الأخرى يتطلب من حزب الله تحييد سلاحه وعدم استخدامه في الداخل اللبناني.

4-        ما سبق يبين بوضوح أن سلاح الحزب ليس عامل عدم استقرار إلا عند الذين يريدونه كذلك لأسباب ذاتية لا موضوعية.

ثانياً

أ‌-              إذا أخذنا بعين الإعتبار التهديد الذي يشكله الكيان الصهيوني على حدود لبنان الجنوبية، عندها يصبح سلاح حزب الله عامل استقرار بمنعه الصهاينة من الإعتداء على لبنان.

ب‌-       أما إذا علمنا أن جميع المستعمرين الصهاينة مسلحون، فهذا يعني أن ما يتحجج به البعض بأن السلاح هو عامل عدم استقرار هو خاطىء أيضاً. اللبناني يقتني السلاح منذ ما قبل تشكيل الكيان اللبناني أو أي كيان آخر. من هنا وجب أن يكون المطلوب هو ضبط السلاح وعدم استخدامه إلا ضد العدو الصهيوني، سواء كان هذا السلاح في أيدي أحزاب أو مجموعات أو أفراد!

هل خطر في بال أحد من المطالبين بجمع سلاح الحزب أن يتساءل عن سبب عدم طرح هذا الموضوع سواء داخل الكيان الصهيوني أو داخل كيانات أخرى حيث السلاح منتشر بين الأفراد؟

ثالثاً

أما عن الحسابات البراغماتية عن الخسائر التي يمكن أن يسببها أي اعتداء صهيوني على لبنان، فنقول: في المسألة الوطنية لا يجوز طرح هذا السؤال وخاصة بهذا الشكل.

الأولوية هي لمجابهة العدو، لذا فالسؤال يكون: ما هي العوامل التي علينا توفيرها حتى يكون قتالنا للعدو أكثر جدوىً وأقل خسائر. ولا تكون الموازنة بين قوة العدو العسكرية وقوة حكوماتنا العسكرية أيضاً. فهذه الموازنة ستكون نتيجتها المحافظة على وجود العدو لأنه لا يمكننا منافسته.

لو أن المقاومة الفرنسية فكرت بهذا الشكل، لكان النازي لا يزال حتى الآن يسيطر على باريس. نفس الكلام ينطبق على المقاومة الفيتنامية ضد الإدارة الأمريكية أو الصينية ضد اليابان...إلخ

صراعنا مع العدو الصهيوني هو صراع وجود، طبيعته تختلف عن الصراع القائم في سورية أو العراق أو اليمن. فاليمنيون سيتفقون مع بعضهم البعض وكذلك سيفعل السوريون أو الليبيون أو العراقيون. مجرد اتفاق هذه الأطراف على تسوية ما تنتهي الحرب البينية. أما الحرب مع الصهاينة فلا تنتهي إلا بإزالة الطبيعة الصهيونية للحكم في فلسطين وبعودة كل من لا يرضى أن يكون فلسطينياً إلى بلده الأصلي.

القضية الوطنية لا يُمكن التعامل معها، ابتداء بميزان الربح والخسارة، إنما بميزان تأجيج الصراع لتوريط أكبر عدد من الناس فيه. فعلى التقنية الحديثة لا ينتصر إلا الإنسان المؤمن بقضية شعبه والمستعد للتضحية. وهذا ما أعطتنا إياه تجارب جميع الشعوب الحرة.

لذلك، فالمطلب الوطني لا يكون إلا بتنظيم السلاح وضبطه حتى يكون ذو فعالية لمجابهة العدو الصهيوني.

 

                          28 تشرين الثاني 2017

مرسلة بواسطة فكر وتربية في 7:30 ص  

التسمياتسياسة

 

الثلاثاء، 23 مايو 2023

نحو نظرية اقتصادية اسلامية

 

الاثنين، 30 مارس 2009

تحديث

نحو نظرية اقتصادية اسلامية
مارس 28th, 2009

حسن ملاط

لقد كان للأزمة التي يمر بها النظام الرأسمالي العالمي، بعض الحسنات، منها اهتمام الناس بمفردة “الاقتصاد” و”الاستثمار” و”البورصة” و”السرقة الموصوفة” …. وقد تحدث الكثير الكثير عن الأزمة، ولكن يمكنني أن أزعم أن أهم عامل على الاطلاق في هذه الأزمة لم يؤت على ذكره، ليس لقصور ذهني انما أعتقد أن المصلحة تستدعي عدم الحديث عنه، عنيت “نظام القيم” المسؤول عن انتاج هذه الأزمة وسوف ينتج غيرها. وهذا التأكيد هو يقين وليس ظنا.
كتب “مالك بن نبي” منذ أربعة عقود على الأقل: “الديناميكية الاقتصادية ليست هي هذه النظرية أو تلك الخاصة بعلم الاقتصاد، بل هي مرتبطة بجوهر اجتماعي”. لو أن الممسكين بالقرار الاقتصادي- السياسي في بلادنا ( التي تمتلك الأموال) كانوا يشعرون أنهم مؤتمنون على أرزاق الناس ومسؤولون عن هذه الأمانة أمام من ائتمنهم، ما كان لهم أن يخوضوا معركة الدفاع عن النظام الرأسمالي. ان مئات المليارات التي أنفقتها دول النفط للدفاع عن السارق الأمريكي لخيرات بلادنا هي حق لأهلنا الذين يكدون ويشقون، ولكن وللأسف فان شقاءهم ذاهب من أجل أن يتمتع الأمريكي أو الأوروبي. ان جميع من راقب الأزمة التي ما زالت مستمرة يعرف كم هي هائلة الخسائر التي تكبدتها بورصات دولنا، وما زالت، لا لذنب اقترفته شعوبنا التي تكد وتشقى لتأمين قوت يومها، انما ارضاءً للسيد الأمريكي والأوروبي. وما الثمن الذي يقدمه هؤلاء لشعبنا مقابل هذه السرقة الموصوفة؟ استعباد واستغلال واذلال. وقد اعتبر نبي أمتنا صلى الله عليه وسلم، أن الشقي الشقي هو من باع آخرته بدنيا غيره. فحكامنا يبيعون آخرتهم بدنيا الأمريكان والأوروبيين.
اخترع الأمريكي النمط الاستهلاكي لتأمين مصالح الطبقة السائدة في بلاده، الممسكة بالقرار الاقتصادي والسياسي. هذا النمط الذي لا يهتم الا بتكديس الأرباح. ومن مخترعاته التي أودت بممتلكات الكادح الأمريكي وفي باقي الدول هو ما يسمى بالاقتصاد الوهمي الذي أدى الى الأزمة الحاضرة.
لماذا علينا الخضوع لهذا النمط؟
هناك عاملان مهمان يمكن أن نجد فيهما تفسيراً لخضوع مجتمعاتنا للنمط الاستهلاكي.
العامل الأول هو الذي تحدث عنه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة. يقول ابن خلدون: “ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه و مركبه و سلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله”. اخترع الغرب البورصة لتجميع الأموال في أيدي الطبقة المسيطرة. فما كان من مقلدي الغرب من حكامنا الا أن أنشأوا البورصات حتى يتمكن الغرب من تجميع الأموال عنده وليس عندهم. ونظرة بسيطة من أي مراقب الى الخسائر التي تكبدتها بورصات دول الخليج ومصر خلال الأزمة الحالية تجعله يتأكد مما ذهبنا اليه في تحليلنا لما جاء على لسان ابن خلدون. ان جميع ما نتشبه به بالغرب انما يخدم الغرب، سواء في الملبس (نشغل المصانع الأوروبية أو الأمريكية للنسيج) أو المركب (السوق العربية هي من الأسواق الناشطة في استيراد السيارات) أو في السلاح (فالسلاح الذي نستورده لايقتل أعداءنا، انما نتقاتل فيه فيما بيننا. كم تحدث الاعلام عن ترسانة الأسلحة عند جيش صدام العراقي، هذا الجيش الذي قتل العراقي والكويتي ولكنه لم يقتل الأمريكي عندما دخل العراق. وبدأت مقاومة الأمريكان بعد انهيار الجيش العراقي التابع لصدام، ولم تستعمل المقاومة الباسلة لا الطائرات ولا الدبابات وغيرها من أنواع السلاح الثقيل الغالي الثمن، انما استعملت السلاح الفردي، الذي يمكن الحصول عليه بسهولة). فنحن المغلوبين نقلد من غلبنا فيما يؤمن فائدة الغالب، ولا نقلده بالشكل الذي يؤهلنا أن نصبح غالبين. لماذا؟ لأن الاتجاه نحو تقليد الغالب انما هو ناتج عن الاعجاب بهذا الغالب. وهذا الاعجاب يولد شعورً بالدونية عندنا مما يجعلنا نعتقد بأن هذا الغالب غير مؤهل أن يصبح مغلوباً، أو بأننا قاصرون أن نكون مثل الغالب. وهذا يوصلنا الى العامل الثاني.
العامل الثاني هو الذي تحدث عنه مالك بن نبي. انه العامل الذي أسماه فيلسوفنا الفذ “القابلية للاستعمار”. ان التحدث عن هذه الاشكالية ودراستها هي المدخل الى امكانية تحرير أنفسنا وبلادنا من التبعية للغرب الاستكباري. لقد نقل بن نبي المشكلة من الآخر الى الأنا. أحد الاستراتيجيين الكبار اعتبر معرفة النفس أساساً لا يمكن الاستغناء عنه لتأمين النصر. فهو يرى أن من يعرف نفسه ويعرف عدوه لا بد له الا أن ينتصر. فمشكلة التخلف، هي مشكلة ذاتية لها أسباب تاريخية. وحلها يستدعي دراستها على أنها مشكلة موضوعية خاصة شعبنا، وهذه الخصوصية هي العامل الحاسم في امكانية حلها. وهذا ما يراه مالك بن نبي وهومحق بذلك. اي بتعبير آخر، الدواء الألماني لايفيد في حل مشاكلنا لأن طبيعة شعبنا مختلفة عن طبيعة الشعب الألماني.
عندما اتخذ الكويتيون القرار بافتتاح “سوق المناخ” تقليداً منهم للغرب الذي استعبد عقلهم أول ما استعبد منهم، حقق خسائر بعدة مليارات من الدولارات، او بصيغة أخرى استولى الغرب على أموال المقامرين الكويتيين. وبذلك يكون الغرب قد استولى على البترول الكويتي من غير مقابل. لماذا؟ لا أريد أن أسأل القرد الذي حاول تقليد النجار لماذا قطع ذيله.
هذه الأزمة الحالية لا زالت تستنزف مليارات الدولارات من الدول الخليجية عن طريق البورصات. من قال أن بناء الاقتصاد يستدعي وجود البورصات. فوجود البورصة الذي لم يأت تبعاً لتطور طبيعي للاقتصاد الخليجي، سوف يجعل منها جسماً غريباً (وهي كذلك) تخدم من اخترعها. ذلك الذي اخترعها كوسيلة لنهب كل ما تجمع من أموال في أيدي من يثق بهؤلاء الرأسماليين. وهكذا نرى البورصات الخليجية تلعب الدور المرسوم لها، وهو نهب أموال البترول لصالح السيد الأمريكي. نعود للسؤال لماذا، حتى نجيب أن قابليتنا للاستعمار هي التي جعلتنا نثق بمن يستعمرنا ولا نثق بقدراتنا الذاتية بسبب من شعورنا بالدونية أمام من يستعبدنا برضىً منا. من المؤكد أن القابلية للاستعمار ليست العامل الوحيد ولكني أزعم أنه العامل القائد.
النظام الاقتصادي هو نظام قيم. وهذا النظام القيمي لا يمكن بناءه بمعزل عن الأنظمة الأخرى، أعني النظام التربوي والسياسي… دعونا نطرح السؤال التالي: لماذا يريد الرئيس الأمريكي بوش تغيير النظام التربوي الاسلامي وكلنا يعلم أنه لا يوجد في دولنا من يلتزم بالاسلام كنظام للحياة؟ الجواب هو أن تشرّب أبناء شعبنا للقيم الاسلامية سوف تؤهل من يلتزم بها الى أن يكون مقاوماًلكل من يريد أن يستعبد الناس، وهم الأمريكان في عصرنا الحاضر. ليس هذا فحسب، بل يمكنني أن أزعم أنه لا يوجد تقاطع بين القيم الاستهلاكية الأمريكية والقيم الاسلامية. فالقيم الأمريكية تقوم على الفردانية، كل يعمل لتحقيق مصالحه الخاصة بمعزل عن مصالح الآخرين. بينما الاسلام لايرى الخلاص الا عبر الأمة، أي أن من يبغي ايجاد الحلول للمشاكل الفردية عليه اللجوء الى الجماعة، الى “الأمة”. قديماً اعتبر أحد الساسة البريطانيين أن مشكلة الاستعمار البريطاني هي مع القرآن الكريم، لذلك اقترح ضرورة القضاء عليه في أنفس الناس. وما يجري اليوم ليس بعيداً عما اقترحه السياسي الاستشرافي، وذلك عبر ما يسمى “تيار الوسطية” الذي يريد أن يدخل المفاهيم الغربية في المفاهيم الاسلامية،معتبراً الاسلام وعاءً يتسع لجميع ما يلقى فيه. وهذا الكلام غير صحيح، لأنه يفرغ الاسلام من القيم التي تميزه، أي التي تعطيه هويته. ان ما يقوم به الداعون الى القيم “الوسطية” والتخلي عن القيم الاسلامية، باعتبار الاسلام هو الوسطية هو أكبر تزوير معاصر للقيم الاسلامية وللدين الاسلامي. ولا داعي للتذكير أن هذا مضمون ما طلبته الادارة الأمريكية عقب تفجير نيويوك. طلبته من وكلائها في الدول الذي يدين أهلها بالاسلام.
وفي هذا المجال لا بد من الاشارة الى ما يسمى بمراكز “التنمية البشرية” والتي زاد تفريخها في بلادنا. فهذه المراكز تستقطب عادةً المؤهلين لأخذ المراكز الهامة في الدولة. أما المواد التي تدرسها هذه المراكز فيمكن تلخيصها ب”كيف تصبح أمريكياً”، أي كيف تتشرب النفسية الأمريكية. تصوروا الكوارث التي سوف تحل على شعوبنا عندما يتحكم فينا من يفكر على الطريقة الأمريكية.
هل ما تقدم له علاقة بالنظرية الاقتصادية الاسلامية؟
أعيد التأكيد أن النظام الاقتصادي هو نظام قيم، سواء كان اسلامياً، رأسمالياً أو شيوعيا.
بيل غيتس يتبرع للجمعيات الخيرية لأن ما يتبرع به يخفف من الضرائب. التاجر المسلم يدفع زكاة أمواله، لأن طاعة الله توجب عليه دفع الزكاة. التاجر المسلم لا يتوازن نفسياً ان لم يدفع الزكاة، ولكن بيل غيتس يمكنه أن يدفع الضرائب من غير أن يتبرع للجمعيات الخيرية. كما وأن دفع الزكاة بالنسبة للتاجر المسلم لا يعفيه من دفع الضرائب المتوجبةعليه. ودفع الزكاة والضريبة لا تعني أن هذا التاجر سوف لن يدفع الصدقة للمحتاجين، لأن التوازن العاطفي والنفسي الذي يفرضه نظام القيم الاسلامي يدفع هذا التاجر لدفع الضريبة والزكاة والصدقة.
التوصل الى اقرار الضمانات الاجتماعية الموجودة في الغرب الأوروبي قد كلف الطبقات الكادحة عشرات الآلاف من القتلى. وعلى العكس من ذلك فنظام القيم الاسلامي يمنع على المؤمن أن يشبع وجاره جائع وهو يعلم. أي أن التضامن الاجتماعي ليس مفروضاً على الانسان المسلم، انما ينبع من داخل. نعود فنقول أن الاستقرار النفسي يستدعي الممارسة العملية للقيم التي يفرضها ايمان المؤمن. فبمجرد قبولك بالالتزام الديني يستتبع القيام بما يفرضه نظام القيم لهذا الدين. ولا داعي للتذكير بأن التوازن النفسي يتطلب الالتزام بالقيم التي يفرضها الالتزام الديني.
دعونا نوضح ما نذهب اليه في القول أن النظام الاقتصادي هو نظام قيم:
1 –
بالنسبة للنظام الرأسمالي يكون العامل الحاسم لنجاح مشروع استثماري ما، هو تأمين الربحية التي يتطلبها التوظيف المالي في هذا المشروع.
2 –
بالنسبة للنظام الشيوعي معيار نجاح المشروع مرهون بقيام كل من يساهم فيه بالمهمات المطلوبة منه في الزمان والمكان المحددين.
3 –
بالنسبة للنظام الاسلامي يكون معيار نجاح المشروع هو مدى الفائدة التي يحققها للناس.
ثلاثة اتجاهات مختلفة لأن القيم التي تنطلق منها مختلفة، حتى وان كان المشروع الذي نتحدث عنه هو نفسه. من هنا لا يمكننا القول أن الاسلام اشتراكي على سبيل المثال، أو أن البنوك اسلامية كما نسمع ويقال في أيامنا هذه. فالمجتمع الرأسمالي له قيمه الخاصة، والتي يفرضها على جميع من يعيش في كنفه سواء كان مسلماً، ملحداً أو خلاف ذلك. أي أن العلاقات التي تكون سائدة في المجتمع الرأسمالي هي علاقات رأسمالية، والعلاقات التي تسود في المجتمع الاسلامي عندما يسود النظام الاسلامي تكون اسلاميةً والشيء نفسه ينطبق على النظام الاشتراكي أو الشيوعي.
اليكم هذه الرزمة من التصريحات لمسؤولين في دول اسلامية، (أعني أنها تدعي بأنها تحكم بما أنزل الله عز وجل) وما أرجوه من ايرادها التفتيش الدقيق على القيم الاقتصادية الاسلامية الكامنة في هذه التصريحات (مصلحة الناس).
قال وزير الاقتصاد الإماراتي امس الخميس إن اقتصاد الإمارات العربية المتحدة قد ينكمش هذا العام بسبب التباطؤ العالمي مع تزايد المؤشرات على أن الأزمة المالية العالمية وجهت ضربات أعنف مما كان متوقعاً بادئ الأمر لمنتجي النفط الخليجيين.
وقال وزير الاقتصاد لخامس أكبر بلد مصدر للنفط في العالم إن الاقتصاد قد ينكمش هذا العام في خضم أزمة أوقعت معظم العالم الصناعي في ركود. وفي وقت سابق هذا الأسبوع توقع محافظ البنك المركزي أيضا أن الاقتصاد قد ينكمش.
أكد عضو مجلس الشورى السعودي وكبير الاقتصاديين في البنك الأهلي الدكتور سعيد بن عبدالله الشيخ أن المملكة قادرة على مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية إذا ما استمرت حتى عام 2011 بسبب الفائض الذي حققته العام الماضي والبالغ حوالي 1.1 تريليون ريال. وأكد الشيخ أن سياسات مؤسسة النقد المتحفظة، والتي استثمرت الاحتياطات في سندات الخزينة الأميركية بعيداً عن سوق الأسهم ولا في الاستثمارات المهيكلة التي انخفضت قيمتها جعلت المملكة تحافظ على قيم أصولها التي تتراوح بين 450-460 مليار دولار صافي الاستثمار الأجنبي، وهو وضع أفضل بكثير من هيئات الاستثمار في أبو ظبي أو الكويت مثلا، لأن 40 % من استثماراتها كانت في سوق الأسهم الذي انخفض بشدة فتراجعت تلك الصناديق 30%.
أين تكمن مصالح المسلمين بما أوردناه من تصريحات على لسان المسؤولين في الدول الاسلامية التي تملك الأموال؟
جميع ما يتحدث عنه هؤلاء هو كيفية الاستثمار على الطريقة الرأسمالية في مؤسسات رأسمالية. وهذا لا علاقة له بالاسلام حتى وان صاموا وصلوا. الاستثمار على الطريقة الاسلامية لا يمكن أن يكون الا في نظام سياسي اسلامي، يتبنى القيم الاسلامية. وأما ما يقال عن بنوك اسلامية تتعامل بالدولار فهي طريقة لتجميع الأموال في مؤسسات ذات طابع رأسمالي، يضاف اليها بعض من “الفذلكات” اللفظية توحي للمتعامل المؤمن أنه لا يقع في المحظور الديني. نقول هذا الكلام باختصار حتى لانضطر للحديث عن النقد الورقي وكيف نشأ هذا النقد وماذا يمثل هذا النقد. ان مجرد التعامل بالدولار هو خدمة للنظام الأمريكي الذي ينهب خيرات بلادنا وينهب خيرات جميع الشعوب، فما بالكم بالذين يوظفون خيرات بلادنا في الخزينة الأمريكية؟ فهذا يعني كما قلنا سابقاً أننا نؤمن للسارق الأمريكي سرقتنا مرتين، في الأولى عندما يستولي على النفط في طرق متعددة، وفي الثانية عندما “نستثمر” أموال النفط في الخزينة الأمريكية أو في أسواق الأسهم أينما وجدت لأن خراجها سيعود الى المايسترو الأول: الأمريكي صاحب الدولار.
ان التعامل مع البنوك الاسلامية انما هو تعبير من المتعامل على صدق تمسكه بدينه بالطريقة التي يراها، فهو يزكي نفسه وأمواله ولا يمكن لأحد أن يلومه. فالنظام الاقتصادي الاسلامي هو نظام مجتمع وليس نظاماً فردياً أي لا يمكن التحدث عن علاقات اقتصادية اسلامية في مجتمع تحكمه العلاقات الرأسمالية. اليكم ما يقوله مالك بن نبي في هذا المجال: “واذا بالمسلم الذي يختار هذا الاتجاه يغوص في محاولة تخليص الرأسمالية من الربا، لأنه محرم في شريعته”. ويضيف: “وكأنه من الناحية الفنية يحاول تخليص جسد من روحه، ويرجو أن الجسد سيبقى حياً ويقوم بمهامه”. ثم يوضح قائلاً: “وان نجح في ايجاد حل نظري في قضية الربا يطابق الفقه الاسلامي، فيكون كأنه وجد روحاً لا يضمه جسد، أو تناقض مع جسده؛ لأن نظام البنوك يرفض هذا الروح وهو يرفضه، فيبقى الحل النظري معلقاً عملياً، لأن صاحبه انطلق على أساس مسلمة استثمار المال بصفته منطلق للديناميكا الاقتصادية، دون أن يراجع هذا المبدأ نفسه”. هذا ما ذهبنا اليه سابقاً، أي ليس علينا الاستسلام الى القول أن النظام الاقتصادي هو دراسة العلاقات بين الأصول المالية، انما هو نظام قيم. من هنا طلب مالك بن نبي ضرورة مراجعة الأساس الذي يقوم عليه النظام الاقتصادي وليس النظر الى متفرعاته.
نظر النبي صلى الله عليه وسلم الى بلال بن رباح وقال له: “أنفق يا بلال”!

من هو بلال حتى ينفق؟ من المعروف أن بلالاً هذا كان عبداً مملوكاً عند أحد عتاة الكفر في مكة، ولا يملك أموالاً حتى ينفقها، والنبي عليه الصلاة والسلام يعرف هذا، فلماذا اختصه بهذا الطلب أو الأمر؟ لا يمكن ايجاد الجواب الا بالنظر الى نظام القيم الاسلامي للتعامل بالمفردات الاقتصادية. ان من يريد أن يحترز المال، من الناحية النفسية، هو ذلك الذي حرم منها، لذلك كان طلب النبي من بلال وليس من ابن عوف المعروف بغناه. فالمال مهما كانت كميته ليس للكنز انما للتوظيف حتى يستفيد المجتمع من حركته، حركة المال. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الدينار كنز والقيراط كنز”.



كيف يمكن صياغة نظام اقتصادي انطلاقاً من القيم الاسلامية؟


هذا هو موضوع بحثنا القادم.

مرسلة بواسطة فكر وتربية في 4:18 ص  

 

الجزء الثاني من "نظرية اقتصادية إسلامية

 

كيف يمكن صياغة نظام اقتصادي انطلاقاً من القيم الاسلامية؟ - حسن ملاط


2009-05-09

خاص لمركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية





المقدمة

الدين هو معطىً الهي لتحقيق سعادة الانسان في الدنيا والآخرة. وحيث أن هناك جانبين أحدهما دنيوي والثاني أخروي، فهذا يعني أن علاقةًً ما تربط الجانبين فيما بينهما. وهي أن الدنيا هي الطريق التي توصلنا الى الآخرة، اما الى الجنة واما الى العذاب الأبدي والعياذ بالله. وهي تحمل معنىً آخر، أن المجتمع الاسلامي يعمل على تأمين السعادة لجميع من يعيش في كنفه بصرف النظر عن ايمان المرء أوكفره، "كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا"(الاسراء20 ).

ان وعينا لما جاء به النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من تحطيم للعلاقات الشركية التي كانت قائمةً في الجزيرة العربية هو الأساس في بناء النظام الاسلامي. وهذا النظام يتضمن في تفاصيله الاقتصادي والتربوي والاجتماعي والسياسي والقيمي. وانطلاقنا من هذه النقطة هو الذي يحدد انتماءنا وتموضعنا (على ما جاء في دراستنا حول "الانتماء والتموضع"). وهذا ما جعل الأستاذ مالك بن نبي يتحدث عن مجتمع "ما بعد الموحدين" أي ما بعد المجتمع الراشدي، المجتمع على نهج النبوة. وهذا ما جعل أستاذنا يمأسس من جديد، وهو محق. وهذا يستدعي من كل من يريد أن يبني مجتمعاً اسلامياً على نهج النبوة أن يعيد الدرس والبحث والدراسة، على نهج الذين درسوا مبتغين وجه الله تبارك وتعالى، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، محمد اقبال ومالك بن نبي وغيرهم. وهذا لايعني تبني جميع المقولات التي جاءوا بها، انما يعني أن ندرس كما درسوا ونستفيد من اسهاماتهم وهي مهمة جدا.

اقامة المجتمع الاسلامي هو أصل من أصول هذا الدين الحنيف. والسياسة هي أصل من أصول علم التوحيد. يقول تبارك وتعالى: "ان الحكم الا لله، أمر ألا تعبدوا الا اياه..." (يوسف 40 ). وهذا يستتبع أن يكون للمؤمن نظرة شاملة للكون والحياة؛ ومنها القضايا الاقتصادية والاجتماعية: التقنية، تزايد عدد السكان، نقص المواد الغذائية... يقول عز وجل: "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ... (آل عمران 191 ). وهذا ما جعل سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يرفض تقسيم سواد العراق على المقاتلين ولكن تركه لانتاج الغذاء للمجتمع.

والايمان باقامة المجتمع الاسلامي، طاعةً لله وفي سبيله، ليس نوعاً من الترف الفكري، انما حاجة تقتضيها الظروف الواقعية للمجتمعات القائمة. وهو أيضاً حاجة حضارية يتطلبها نظام الحياة الذي يحكم تطور هذه المجتمعات، عنيت السنن الالهية لتطور هذه المجتمعات وتغييرها بالاتجاه الذي يحقق سعادة الانسان في الدنيا (لمن أراد الدنيا) والآخرة (لمن أراد الاثنتين).

والتغيير لا يكون حسب رؤيتنا بالطرق الانقلابية التي تختصر الناس وتزعم انها تغير المجتمع كرمى لعيونهم لتقيم أحد الأنواع من الديكتاتوريات العسكرية. ولكن التغيير يتم بالناس أنفسهم الذين لا يغيرهم الله عز وجل حتى يغيروا ما بأنفسهم. ان التغيير يتطلب أناساً من نوعيات معينة، من مواصفات محددة. ولذلك قال تبارك وتعالى: "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(الرعد 11 )، أي ليس بطريقة الانقلاب العسكري أو غيره من الانقلابات. ان من يغير هو الذي يؤمن بضرورة التغيير(يغير ما بنفسه) ويعمل على هذا التغيير.

أولا: التغيير يتطلب وجود نظرية تغييرية يستنير بها من يريد أن يعمل على التغيير. بصيغة أخرى، هناك ضرورة لوجود مشروع سياسي يحول النظرية الى اجراءات عملية. وهذا المشروع لا يكون سرياً لأنه مشروع مجتمع وليس مشروع انقلاب. وحيث أنه اسلامي الانتماء فهذا يعني أن منطلقه سيكون المكان الذي يجمع المؤمنين. يقول عز وجل: "انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" (التوبة 18 ). والذين يريدون التغيير يتمتعون بمواصفات خاصة، يقول ذو العزة: "ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون" (آل عمران 104 ). ويقول سبحانه وتعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..." (آل عمران 110 ).

ثانيا: الانسان الخليفة (الذي استخلفه الله: "اني جاعل في الأرض خليفة" البقرة 30) هو الأصل واليه يعود كل شيء. فالنظام السياسي أو الاقتصادي ... يجب أن يكون لخدمة هذا الانسان الخليفة. من هنا فان تقييم ربحية المشروع الاقتصادي تكون بمدى تحقيقها لمصلحة الانسان. فاذا كانت زراعة التبغ، على سبيل المثال، تحقق أرباحاً خياليةً، لا نزرع التبغ انما نزرع القمح، لأن القمح ضرورة للانسان، والتبغ ليس كذلك. ( على سبيل التذكير فقط، مصر استبدلت زراعة القمح بزراعة القطن وكانت النتيجة أن وقع العديد من القتلى بفضل التزاحم أمام الأفران لندرة الخبز في مصر "أم الدنيا". أين الأرباح التي حققتها مصر أو الانسان المصري من زراعة القطن والاستغناء عن زراعة القمح).

اذا ذهبنا الى أن الانسان مستخلف على هذه الأرض لعمارتها، يصبح لزاماً علينا التفكير بكيفية تأمين ديمومة هذا الانسان على هذه الأرض للقيام بالمهام المفروضة عليه من قبل خالق هذا الكون. يقول سبحانه وتعالى: "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون..."(الذاريات56 ) ومعيار المفاضلة بين الناس هو التقوى "ان أكرمكم عند الله أتقاكم"(الحجرات 13 ) و"لا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى". الله تبارك وتعالى جعل من وجود الانسان على هذه الأرض وجوداً رسالياً، من هنا أولوية هذا الانسان كانسان وليس كفرد. لذلك نقول بأن أي نظام يجب أن يخدم وجود هذا الانسان.

والانسان الرسالي تكون تربيته ذات مواصفات خاصة، فهي تقوم على تعلم القرآن والسنة، من دون نسيان القراءة والكتابة والحساب، مترافقاً مع تعلم مهنة حتى يكون مرتبطاً برزقه بالخالق عز وجل. كان نبي الله داوود يأكل من عمل يده. ما تقدم لا يعني أن ليس من مكان للعلوم النظرية بل يعني أن هذه العلوم تكون من اختصاص الطلاب الأكثر ذكاءً وامتيازاً. نقول هذا الكلام بسبب من سفر العديد من الطلاب الغير مؤهلين لمتابعة مثل هذه الدروس في الخارج وتتكلف عليهم الأمة الكثير من المصاريف الغير ضرورية لأنها تذهب هدراً.

وهكذا تكون التربية والتعليم من جهة والعنصر البشري من جهة أخرى محورين متلازمين: القرآن والسنة يضاف اليها العلوم الضرورية مع تعلم مهنة. ان نظرةً متأنيةً الى واقع المدرسة في بلادنا، ودراسة نسبة التسرب منها يجعلنا نؤكد على ما ذهبنا اليه. فالتسرب يعني نزول عدد من المؤهلين الى سوق العمل بشكل لا يضطر الأمة الى خسارة عدة سنوات لتأهيل المتسربين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يكمل الطلاب المتميزين علومهم النظرية للوصول الى الاختصاصات التي تحتاجها الأمة. وبذلك يكون الاستثمار في الانسان، من وجهة نظر اقتصادية مربحاً، وكذلك من وجهة النظر السياسية.

أما معيار الصحة الاقتصادية في المجتمع الذي يتبنى الاسلام كمنار للتخطيط والعمل فيكون رصد المنتَج، وان كان هذا المنتج يلبي حاجة المنتجين وحاجة المجتمع. فالندرة والعرض والطلب ليست جميعها هي من يلعب الدور الرئيسي بادارة الدورة الاقتصادية في المجتمع الاسلامي، انما تأمين ما يتقوى به الانسان لعبادة الله عز وجل ... الى أن نصل الى توفير جميع ما يؤمن سعادة الفرد والمجتمع بالشكل الذي يرضيه.

البداية تكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزرعون ما لا تأكلون ولا تبنون ما لا تسكنون" الى أن نصل الى المجتمع الذي يؤمن جميع متطلبات أفراده، كما حصل مع أحد الخلفاء عندما لم يجد من يوزع عليه الزكاة. أو كما قال تبارك وتعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةًً يوم القيامة؛ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون" (الأعراف 32 ).

ثالثا: العصر: سلامة التخطيط تستدعي معرفة صفات العصر الذي نعيش فيه.

أ – صفات هذا العصر: ان أهم الصفات المميزة لهذا العصر هي على التوالي:

1 –
الآحادية القطبية: لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية حتى اللحظة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم. نحن لا ننكر الضربات التي تلقتها خلال السنوات المنصرمة والوقت الراهن وهي عدم تمكنها من تحقيق نصر في العراق وكذلك في أفغانستان يضاف اليها الأزمة المالية والاقتصادية التي تتخبط فيها بالرغم من مد يد المساعدة لها من مختلف توابعها. هناك محاولات تقوم بها ما يسمى دول الاتحاد الأوروبي ولكن حتى الآن لم يتمكن من تمييز نفسه عن أمريكا. ان ربط الاقتصاد العالمي بالاقتصاد الأمريكي أجبر جميع دول العالم على الدفاع عن هذا الاقتصاد المترنح. ولايضاح هذه النقطة نسوق المثال التالي الذي يمكن القياس عليه: صرح وزير المالية (أو الاقتصاد) الصيني أنه يجب ايجاد معيار للنقد غير الدولار. ثم أردف قائلاً أنه في حال تم استبدال الدولار بنقد آخر فهذا سوف يؤثر سلباً على الدولار مما يؤدي الى خسارة الصين للأصول المالية الموظفة في الخزينة الأمريكية وهي 1,4 تريليون دولار. لذلك لم يجد الصينيون بداً من دعم الاقتصاد الأمريكي مع العلم ان دعمهم للاقتصاد الأمريكي لا يحقق لهم أي نوع من الربح على حد قول الوزير الصيني، وهذا صحيح، انما يحافظ على قيمة الأصول. أما عن قمة العشرين فمن المفترض أن يتم التحدث عنها بدراسة خاصة ولكن دعونا نقول على سبيل الاشارة أن 40 % من المال الذي خصصته هذه الدول سوف يذهب الى الخزانة الأمريكية والتي تحوله بدورها الى المصارف المتعثرة ولا توظفه في الاقتصاد الحقيقي. نضيف أن جميع الأموال التي تم اقرارها للدول الفقيرة لم يصل منها شيء لهذه الدول على حد قول رئيس البنك الدولي. فأين التغير، أو أين التصور الاقتصادي الجديد؟ ثورة ميركل وساركوزي هي أشبه ما تكون "عاصفة في فنجان". ان التفكير الاقتصادي، حتى من وجهة رأسمالية، تتطلب تموضعاً خارج السياق الاستهلاكي الأمريكي حتى يمكن تطويره أي تطوير الاقتصاد الرأسمالي، وهذا ما فعله "كينز" فقد استبدل الأولويات بأولويات أخرى. هل فعلت قمة العشرين الشيء نفسه الذي فعله "كينز" في أزمة 1929. الجواب كلا.

2 -
العولمة: اذا اردنا أن نلخص مفهومنا للعولمة الليبرالية الأمريكية بجملة واحدة نقول: أن يرى الانسان الكون والحياة من خلال منظار أمريكي. ولحسن الحظ أن ال"فاست فود" لمّا يغز جميع مجتمعاتنا. أي أن تحررنا من الهيمنة الأمريكية لا زال ممكناً بأقل قدر من الخسائر.

لقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من السيطرة على العالم اقتصادياً وعسكرياً، ولكن لمّا تتمكن أمريكا من تعميم فكرها وثقافتها؛ وهذا الوحيد الايجابي في عصرنا الحاضر. أسميه ايجابياً لأن التحرر من العولمة الليبرالية لن يكلفنا الكثير، هذا استناداً الى الحقيقة المطلقة "أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد 11 ). فلله الحمد أن فكرنا لم يفسد بشكل مطلق حتى الآن. ولكن ما تقدم لا يعني أننا لا نتبنى بعض المفاهيم المفسدة للحياة والتي استوردناها من الولايات المتحدة، وأهمها التركيز على ال"أنا" وليس على ال"نحن" وهذه أهم ميزة للمجتمع الاستهلاكي. والجدير ذكره أن "اسلامنا" لعب دوراً مركزياً في حمايتنا وهذا ما دفع الرئيس الأمريكي السابق (بوش الابن) التركيز الجدي على ضرورة تغيير مناهج التعليم والتي تركز على التعليم الديني.

3 –
تزايد عدد السكان: هذه الصفة ملازمة للمجتمعات المتخلفة والفقيرة. وحيث أن الفقر يتركز بشكل كبير في الريف لأسباب عديدة وأهمها على الاطلاق هو عدم دعم الزراعة. فالزراعة في جميع البلاد لا تعطي مردوداً يكفي لاعالة من يعمل فيها. لذلك نرى الحكومات في الاتحاد الأوروبي و اليابان وفي الولايات المتحدة تدعم المزارعين بشكل لافت وتمنع الدول الفقيرة من دعم زراعتها. ونتيجةً لفقر الريف نرى الهجرة الداخلية من الريف الى المدينة حيث تتشكل مدن الصفيح أو ضواحي الذل. وهناك نتيجة ثانية وهي النقص في المواد الغذائية وخاصةً في الدول الفقيرة التي تهجر أبناءها من الريف الى المدينة. وعليه تهمل الأرض وتبور.

4 –
التقنية: قام المفهوم التأسيسي للتقنية على تأمين الراحة للانسان وتسهيل الحياة. ولكن الايديولوجية الرأسمالية جعلت من هذا المفهوم خادماً لمراكمة الأرباح ومضاعفتها لمن يسيطرون على هذه التقنية. فبدلاً من أن تكون هذه التقنية خادمة ل"لانسان" أصبحت في الجهة المعادية لهذا "الانسان". هذا اذا لم نعرج على موضوع سوء استخدام ما حصلته الدول المتخلفة من التقنية عن طريق الاستيراد. ففي حديث اذاعي للعالم "فاروق الباز" الذي يعمل في وكالة الفضاء الأمريكية قال{ أن الدول المتقدمة تستخدم الأقمار الصناعية لتلبية حاجات معينة تفيدها في تطوير نفسها، بينما القمر الصناعي العربي "أرابسات" كان من أجل الأقنية الفضائية ونقل الأفلام (والعياذ بالله) والمباريات الرياضية والتلفون المحمولٍٍ} الخ من التفاهات التي تتناسب مع فكر حكامنا النير!

5 –
استيراد التقنية الجاهزة: ان استيرادنا للتقنية الجاهزة يجعل منها ابناً غير شرعي لنا لذلك لا نجد دافعاً قوياً لحمايتها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية فتعاملنا مع التقنية لا يؤهلنا الى اكتساب نفسية وتقاليد المنتج لهذه التقنية. أضيف الى ما تقدم أن أي خلاف مع المورد لهذه التقنية يجعل من جميع أجهزتها كماً مهملاً مكانه القمامة. و لنتذكر ترسانة أسلحة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وكذلك ترسانة الشاه الايراني التي لم تفد الثورة الاسلامية بشيء لأن الولايات المتحدة قد منعت عن ايران قطع الغيار. واذا أردتم تحدثوا عن الأسلحة التي تستوردها الدول الخليجية والتي لم تتعلم من تجربة صدام والشاه. والعامل الأهم بالنسبة للتقنية أن هناك رابطاً سرياً يصل التقنية بصانعها فتجعلها لا تخدم بأمانة سواه. ولا أجد تفسيراً لهذا العامل الا الملاحظة التي تجعل هذه التقنية خادمة لمنتجها، حتى في استعمار الآخرين!

ان الدول المنتجة للتقنيات الحديثة تجعل منها عاملاً للسيطرة على البلاد التي لا تنتجها. وهذا هو العامل الأساسي الذي يجعل الدول الست تتكالب من أجل منع ايران من الانفتاح على انتاج التقنية النووية وهي مستعدة لتأمين التقنية الجاهزة لها. والأمر نفسه ينطبق على كوريا الشمالية. فدول العالم الثالث ممنوع عليها أن تتشبه بالدول المتقدمة ذات الارث الاستعماري.

نستنتج فنقول أن استيراد التقنية الجاهزة سوف يسبب لنا نتائج كارثية. ان انتاج التقنية يجب أن يكون تلبيةً لحاجة، والحاجة أم الاختراع كما يقول المثل ومن يحتاج النار يمسكها بيديه.

ب – الرد الاسلامي: كيف نتعامل مع ما سبق من وجهة مفهومية اسلامية؟

1 –
الايمان أن العمل هو الأساس في ممارسة الانسان وأن الرزق من عند الله. أي بصيغة أخرى على الانسان أن يعمل وهو موقن بأن الله سوف يرزقه. طلب منا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله و"نحن موقنون بالاجابة". كما وأضيف أنني أصدق الرواية التي رويت أن الطائرات الأميركية اصطدمت ببعضها البعض عندما جاءت لتغزوا ايران لأن الامام الخميني كان يتضرع الى الله من أجل نصر ايران الثورة الاسلامية، كما وأنني مؤمن أن النصر الذي حققته المقاومة الاسلامية على العدو الاسرائيلي في تموز هو نصر الهي بقدر ما هو نصر انساني "وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى"(الأنفال 17 ). وأصدق أيضاً قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما نبه سارية الى الجبل عن بعد مئات الكيلومترات وأصدق أن سارية قد سمعه. وأضيف الى كل ما تقدم أنني مؤمن أن المعجزات لا تكون الا على أيدي الأنبياء، وأن الخميني ونصر الله وسيدنا عمر ليسوا أنبياء، انما دعوا الله وهم موقنون بالاجابة.

وعليه نقول ان تأمين الرزق يستدعي العمل، ولا يستدعي الا العمل. دعونا نتذكر قصة سيدنا عمر بن الخطاب مع "المتوكلين" عندما طلب منهم ان يعملوا ويطلبوا من الله تبارك وتعالى أن يرزقهم، لا أن يجلسوا في المسجد ويطلبوا الرزق.

2 –
التقنية لا تكون الا لصالح الانسان أو لا تكون. فمحور الوجود على هذه الأرض هو الانسان ويكون العمل لتحقيق مصالح هذا الانسان. أو بصيغة أخرى، علينا بناء القاعدة المادية التي تؤمن لهذا الانسان امكانية عبادة الله. من هنا لا تكون هذه التقنية الا تلبيةً لحاجة فعلية وتتطور مع تطور حاجات الانسان. وهذا هو التطور الطبيعي لانتاج التقنية. لا يظنن أحد أننا سوف نعدم جميع أجهزة الكومبيوتر التي نملكها، ولكن يعني أنه علينا العمل لانتاج الكومبيوتر حتى لا تتحول أجهزتنا الى خردة اذا اختلفنا مع الدول التي تبيعنا هذه الأجهزة. وعامل آخر لا يقل أهمية عن العامل الذي سبق هو أن عبادة الله تستدعي من العبد أن يتمتع بحريته وأن لا يكون مرهوناً لأي كان "فتمام حرية الانسان هو بكمال عبوديته لله" عز وجل.

3 –
هل ما تقدم يعني أن استيراد التقنية لا يجوز مطلقاً. كلا، انما يعني أنه لا نستورد من التقنية الا ما نحتاجه ولا امكانية لانتاجه. أو بصيغة أخرى لا نستورد الا عند الضرورة القصوى.

4 –
في ظل العولمة، هل يمكن للكيانات الصغيرة أن تعيش مستقلةً؟ منذ أواسط القرن الماضي نظر الجنرال شارل ديغول الى واقع فرنسا والدول الأوروبية الأخرى فوجد أن هذه الدول لا يمكنها أن تخرج من ظل الهيمنة الأمريكية الا اذا اتحدت فيما بينها. وعمل مع العدو السابق (ألمانيا) من أجل بناء ما سمي يومها "السوق الأوروربية المشتركة" الذي تطور الى أن أصبح "الاتحاد الأوروبي". وبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي يعتبر رابع اقتصاد في العالم لم يتمكن حتى الآن من التحرر من التبعية للسيد الأمريكي اقتصادياً وعسكرياً. فما بالكم في دولنا العربية؟

فلسطين المغتصب حوالي ثلاثة أرباعها ينقسم ربعها الباقي تحت الاحتلال الى كيانين متخاصمين، وأحد هذين الكيانين يفرض على الكيان الآخر التبعية للعدو حتى يقبل بمصالحته. والعراق الذي يتمتع بالاحتلال الأمريكي ينقسم هو الآخر الى ثلاثة كيانات متخاصمة. سوريا ولبنان احتفلوا مؤخراً بقدسية سايكس وبيكو. واتفقت الدول العربية على اقامة سوق مشتركة لا يمكن ان تقوم لأن جميع هذه الدول متخاصمة. فكيف لنا أن نتحرر في ظل عصر لا يمكن الا للكتل أن تعيش بشكل مستقل نسبياً. كما وأن الانتماء الى الله عز وجل يستدعي قيام كتلة عربية أو اسلامية. ومن مواصفات هذه الكتلة ان تكون مكتفيةً ذاتياً، أي كتلة مقفلة على الخارج ومنفتحة داخلياً.

رابعا: صفات الاقتصاد الاسلامي: لقد سبق لنا القول أن كل نظام اقتصادي هو نظام معياري، أي نظام قيم. والنظام الاسلامي لا يخرج عن هذه الحقيقة، لذلك فهو يحمل الصفات التي تميز المسلم. فقد مر معنا أن المسلم عندما يدعو الله عز وجل يكون مطمئناً لاستجابة الله لدعائه لأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أمرنا أن ندعوا الله ونحن موقنون بالاجابة.

أ – فالصفة الأولى هو أن الانسان الخليفة (الذي استخلفه الله على هذه الأرض) يكون مطمئناً أن الله سيساعده. يقول رب العزة: "الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"(الأنعام 82 ). ( الطمأنينة تعني الأمن).

ب – الانسان الخليفة يعلم أن الله تبارك وتعالى قد سخر له ما في الكون لخدمته.

يقول تبارك وتعالى: "قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال. الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه، وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها. ان الانسان لظلوم كفار. (ابراهيم 31 -32 -33 -34 ).

ويقول سبحانه وتعالى: "الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. (الجاثية 12 – 13 ).

ج – الخليفة يهتم بالدوائر التالية: التجارة الفردية والجماعية، التجارة الخارجية والداخلية وأخيراً دائرة الرزق المال والربح. المراقب لهذه الدوائر يلاحظ أنها دوائر تناقضية؛ فالتجارة الفردية والجماعية، أي القطاع الخاص والقطاع العام، ويكون تنافسهما في الميدان الذي يحدده الخليفة الحاكم. أي بصيغة أخرى، لا بأس من منافسة القطاع الخاص للقطاع العام بتأمين حاجات المجتمع. والدائرة الثانية تحكمها نفس القوانين، يضاف اليها المسلمة التالية التي تمنع منافسة المنتجات الخارجية للمنتجات الداخلية؛ فميدان التجارة الخارجية محدد بتأمين الحاجات الضرورية للسوق الداخلية، وليس لتأمين الربح للتجار. أما الدائرة الأخيرة وهي الأهم. فمن خلال هذه الدائرة يمكن معرفة حالة المجتمع، فكلما كبرت دائرة الرزق على دائرة المال فهذا يعني ان المجتمع لم يتمكن بعد من تأمين جميع حاجياته وبشكل مريح. وتوسع دائرة المال يدل على أن المجتمع يتجه نحو الكماليات لأن الضرورات قد تأمنت لجميع أفراد المجتمع. وفي هذه الحالة نصل الى الرفاهية. أما دائرة الربح فالخليفة الحاكم هو الذي يحدد هامش الربح (لا تظلمون ولا تظلمون). والرزق من وجهة نظرنا هو ما يُتقوى به الانسان على عبادة الله. وبعبارة أخرى دائرة الرزق هي تأمين جميع الضرورات: مأكل، ملبس، مسكن، العلم والعمل....

النظرية التي تحكم التصور لنظام اقتصادي اسلامي:

أولا: التوحيد – العدل

نحن نعتقد أن الايمان بالتوحيد والالتزام به يتجلى عدلاً على الصعيد الاجتماعي.

أ – التوحيد هو الايمان بوحدانية الخالق عز وجل. وهذا الايمان يستتبع:

* -
أن يكون الانسان موحَّدا. والموحَّد هو نقيض "فيه شركاء متشاكسون". يقول جل جلاله: "ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل، هل يستويان مثلاً. الحمد لله. بل أكثرهم لا يعلمون" (الزمر 29).

* -
أن يكون موحداً سياسياً (لا ينتمي الى الطواغيت). طاعة الخالق تستدعي أن يكون الموحِّد على طرفي نقيض مع الذين يدعون الى غير الله. مؤمن وحليف أمريكا أو اسرائيل، هذه معادلة مستحيلة.

* -
أن يكون موحَّداً اقتصادياً. "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". وهذا يستتبع منع الاستغلال والتبعية.

* -
أن يكون موحَّداً اجتماعياً. اتباع ما جاء به الدين الحنيف في العلاقات الاجتماعية، وخاصة في علاقته مع الوالدين والزوجة.

ما تقدم هو الممارسة التوحيدية.

ب – العدل وهو تطبيق التوحيد على الأرض. الاقرار ب"لا اله الا الله" كخليفة – حاكم يفرض اقامة مجتمع العدل. يقول عز وعلا: "وأمرت لأعدل بينكم" (الشورى 15).

ج – العلاقة بين التوحيد – العدل:

1 –
لا يقوم التوحيد الا بظل العدل،سياسياً، اجتماعياً واقتصادياً.

2 –
الايمان بأنه لايقوم عدل الا في ظل التوحيد.

د – ما تقدم يفرض على الدول العربية أن تكون كتلة، حتى لا تكون مرهونةً برزقها لأي طاغوت.

ثانيا: مفهوم الخلافة- العمارة

نحن كمؤمنين علينا الايمان بأننا لم نخلق عبثا. وهذا الايمان يستدعي أن الانسان يحمل رسالة معينة عليه القيام بها. أما المؤمن فالرسالة التي يحملها هي تلك التي كُلف بها منذ وجوده: "اني جاعل في الأرض خليفة"، "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون".

الانسان مخلوق لعمارة الأرض. يقول تبارك وتعالى:... "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا اليه..." (هود 61). فالمهمة الأولى المطروحة على عاتقنا كخلفاء هو عمارة الأرض. فالانسان الخليفة هو الخليفة الحاكم من جهة وجميع الناس من جهة ثانية. والاستخلاف ليس له علاقة بالايمان؛ فالانسان مُستخلف مؤمنا كان أم كافرا. والانسان عُرضت عليه الرسالة فاما أن يؤمن بها فيكون مآله الى الجنة أو يكفر فيكون مصيره العذاب المقيم. وعمارة الأرض يقوم بها كل من يعيش على هذه الأرض. وميزة المؤمن هو قيامه بهذه المهمة طاعة لله وفي سبيله. وأما الآخر، يبين ربنا تبارك وتعالى هذا الأمر: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا" (الاسراء 16).

نحدد فنقول: العمارة هي العبادة التي يمارسها الخليفة طاعة لله في استعمار الأرض والكون. والعمارة لا تأخذ شكلا معينا، انما يمكن أن يتغير شكلها تبعا للظروف العيانية أو اللحظة التاريخية.

وعلينا الايمان أن العلاقة بين الخلافة والعمارة شرطية. أي علينا أن نؤمن أنه لا خلافة من دون عمارة، والا فما هو عمل الخليفة في هذه الأرض. كما وأنه لا عمارة من دون خلافة، أي وجود الأولى شرط لوجود الأخرى.

فالعمارة هي تكليف شرعي ومهمة دينية يقوم بها الخليفة. وقراءة هذه الآيات الكريمات توضح ما ذهبنا اليه:

"
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا؛ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" (النور 55).

"
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم..." (الأنعام 165).

"
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا؛ كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" (يونس 13 – 14).

"
وربك الغني ذو الرحمة، ان يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين"(الأنعام 133 ).

ثالثا: مفهوم الرزق – المال

الرزق هو ما يعتاش به الانسان من ملبس ومأكل ومسكن وعلم وعمل؛ وقد توافقنا على تسمية هذه الضرورات الحياتية بالضرورات الخمس. والرزق هو أسبق الى الوجود من المال. فاذا عدنا الى الوراء لن نجد من يبني البيوت حتى يبيعها، أو من يجمع القمح للمتاجرة فيه. ونحن نعلم أن المال ما هو الا الرزق المحترز. والمال لم يصبح له وجود مستقل الا في وقت متأخر من تاريخ الانسانية. ذلك أنه من المستحيل أن يعمل الانسان في التجارة قبل تأمين الحاجيات الضرورية لاستمراره في الحياة. من هنا ما ذهبنا اليه أن الرزق والمال هما مرتبطان كل منهما بالآخر. وهذه الوحدة تناقضية بمعنى أن دائرة كل منهما تكبر على حساب الأخرى.

ان ما يحدد عظم دائرة على أخرى هو الحال الواقعية للمجتمع. فالمجتمع الذي تأمنت جميع حاجياته، لا يمنعه شيء من الانتاج بقصد جمع الأموال، وبذلك نقول بأن دائرة المال هي الدائرة الكبرى. ولكن في جميع المجتمعات يبدأ العمل بدائرة الرزق الى ان يصل الى دائرة المال.

ومصادر المال في المجتمع الاسلامي هي الزكاة والصدقات والعفو وحالات المصادرة الثلاث: الكوارث الطبيعية، الحروب والمجاعة. ففي هذه الحالات يحق للخليفة الحاكم ان يصادر أموال العامة.

والمال هو عصب الاقتصاد، لذلك نرى الاقتصاديون يتحدثون عن التراكم الأولي لرأس المال وكيف يتم. فوجود هذا الرأس مال المتراكم هو شرط لبناء اقتصاد اجتماعي.

مرسلة بواسطة فكر وتربية في 4:56 ص  

النظرية الاقتصادية في الاسلام (الجزء الثالث)

الأبعاد العملية للنظرية الاقتصادية الاسلامية (الجزء الثالث)

مقدمة
ان أهم ميزة للنظام الرأسمالي هو تمكنه من "تسليع" كل شيء (أي تحويله الى سلعة)، ابتداءً من الخيرات المادية انتهاءً بالانسان نفسه. علماً أن الانسان وكل ما يتعلق به يجب أن يكون له وضع خاص، وضع يتناسب مع أهمية الانسان كمستخلف من رب العالمين في هذه الأرض.
وهذه الميزة للنظام الرأسمالي هي التي جعلت تطور المجتمع على جميع الصعد (الاجتماعي، الاقتصادي، التربوي والسياسي) متعلقاً بما يحقق قيم هذا المجتمع: تأمين الربح المادي للطبقة الرأسمالية المسيطرة.
ان أهمية الانسان، كمخلوق متميز عن جميع المخلوقات، تجعل من المنطقي أن يكون هو محور هذا الكون. ولكن منطق الأشياء يفرض نفسه.
بناءً على ما تقدم لا بد من التحدث عن الواقع الفعلي القائم اذا أردنا التخطيط للمستقبل.
ان أهم ما يميز المرحلة القائمة اليوم هو التناقض البارز بين المسار السياسي والمسار التاريخي (اذا صح التوصيف). فالولايات المتحدة الأمريكية قد تلقت ضربات موجعة في السنوات القليلة المنصرمة. قامت بغزو العراق بمعونة مجموعة كبيرة من الدول ولم تتمكن حتى الآن من تحقيق انتصار فعلي على قوى المقاومة العراقية بالرغم من هزال المجتمع العراقي الذي يعاني من الانقسامات العرقية والمذهبية والطائفية والحزبية، ويعاني أيضاً من الفقر وندرة المواد الغذائية.
وفي الصومال، لم تتمكن أمريكا من تحقيق انتصار على قوى قليلة من الاسلاميين الصوماليين بالرغم من انشقاقهم على أنفسهم، وبالرغم من تدخل الجيش الاثيوبي المجهز وبعض قوى الاتحاد الافريقي.
وفي لبنان، تمكنت المقاومة الاسلامية من تحقيق انتصار فعلي على العدو الصهيوني جعل "المجتمع الصهيوني" يعيش حالاً من الانقسام الداخلي والتشتت السياسي لم يعهدها من قبل، مما جعلنا نتجه للقول أن "المجتمع" الاسرائيلي أصبح عاجزاً عن انتاج طبقة سياسية تملك القدرة على قيادة "البلاد".
وفي فلسطين المحتلة، لم يتمكن العدو الصهيوني من تحقيق انتصار على المقاومة الفلسطينية بالرغم من تدميره الغير مسبوق لمدينة بكاملها، على مرأى من العالم بأجمعه، وبالرغم من استخدامه للأسلحة الأمريكية المحرم استعمالها.
أما في أفغانستان، فالوضع يتجه الى تورط كبير على الطريقة الفيتنامية. ومخاوف الحلفاء كبيرة على ما صرح به رئيس الوزراء البريطاني السيد غوردن براون أن صيف أفغانستان سوف يكون حارا. كما أنه لا يمكن فصل الوضع الباكستاني عن جاره الأفغاني. علماً أن الادارة الآمريكية تستخدم استراتيجية مختلفة عن تلك المستخدمة في أفغانستان. فهي قد كلفت وكلاءها المحليين بخوض الحرب ضد الشعب الباكستاني بدلاً من الادارة الأمريكية، بالرغم من أن الولايات المتحدة تضع بصماتها على هذه الحرب، من دون اعلان، من خلال قصفها اليومي للمجاهدين بواسطة الطيارات من غير طيار.
كما أن الوضع في أمريكا الوسطى والجنوبية لا يمكن اغفاله وخاصة لما يمثله بالنسبة للولايات المتحدة كملعب خلفي لها تاريخياً، فهو يتجه الآن للتحرر من هيمنة الولايات المتحدة. فكثير من الدول أصبحت حكوماتها يسارية أو معادية للولايات المتحدة. كما وأن هذه المجتمعات قد كسرت تقليد التبعية للولايات المتحدة والخوف من جبروتها.
ولكن الضربة الأفعل كانت تلك التي أدت الى الركود الاقتصادي على الصعيد العالمي، والذي لم يتمكن الخبراء حتى الآن من اعطاء تاريخ لامكانية تجاوز هذه الأزمة.
السؤال المطروح هو لماذا تمكنت الولايات المتحدة من الاستمرار في قيادة العالم بالرغم من أن هذه الضربات التي تلقتها هي ذات طابع استراتيجي؟
الجواب أن المسار الاستراتيجي (أي ذا الطابع التاريخي، أي الذي يسم الحقبة التاريخية بطابعه) لا يتطابق دائماً مع المسار السياسي، ذلك أن لكل من المسارين متطلباته الخاصة. فالولايات المتحدة اليوم تقود العالم لأنه لايوجد في هذا العالم بديلاً سياسياُ لها. فالكيانات الكبرى (روسيا، الاتحاد الأوروبي، الصين والهند) لا تملك الامكانية السياسية للعب هذا الدور. لذلك لم تتصد أياً من هذه الكيانات للعب هذا الدور. حتى روسيا التي تملك تاريخاً امبراطورياً (الاتحاد السوفياتي) لم تتصد لهذه المهمة (قيادة العالم) بل كانت تفتش عن الخروج بأقل قدر من الخسائر من الأزمة العالمية للرأسمالية.
وبصيغة أخرى، كان على الولايات المتحدة بعد الهزائم المتكررة لسياساتها، كان عليها أن تركن الى الظل وتترك لقطب آخر التصدي لمهمة قيادة العالم. هذا ما فعلته روسيا عندما انهار الاتحاد السوفياتي.
ان ما جعل روسيا تركن الى الظل هو تصدي الولايات المتحدة لوراثتها حتى في الدول الأقرب من روسيا، الدول التي يشكل خروجها من تحت الهيمنة الروسية اهانة لهذه الأخيرة(اوكرانيا، جورجيا، جمهوريات البلطيق...). ما جعل روسيا تركن الى الظل هو توافق المسار السياسي مع المسار التاريخي. تاريخياً، انتهى الدور الروسي السوفياتي وكذلك سياسيا (لوجود الولايات المتحدة). أما في حالتنا الراهنة لا وجود لوريث للدور الأمريكي، لذلك رأينا الولايات المتحدة تخسر على الصعيد الاستراتيجي، ولكن دورها السياسي لا يزال مستمرأ. لذلك قلنا أن هناك تناقضاً بين المسار الاستراتيجي والمسار السياسي.
ما هي تداعيات الخسارة الأمريكية على الصعيد الاستراتيجي؟
"
دعونا نبدأ بكلام أراه مهماً لهوبير فيدرين وزير خارجية فرنسا السابق: " الأرجح أن الشرق الأوسط ليس المحل الذي يتقرر فيه مستقبل العالم. فعالم الغد المتعدد الأقطاب، ومسرح منافسة غير مستقر بين دول كبرى، يتقدم المسائل الأخرى ويغلب عليها. ومن المسائل الأخرى الراجحة مسألة الانتقال من اقتصار تبديد مجنون ومدمر الى ما يسمى «نمواً مستداماً». ولكن الشرق الأوسط يتصدر من غير شك المسائل الاستراتيجية، الجغرافية والسياسية، الراهنة. فالقضايا الشائكة إنما ميدانها المنطقة التي سماها زبيغنيو بريجنسكي، لسنوات خلت، «قوس الأزمة». وهي تمتد بين الشرق الأدنى وبين آسيا الوسطى، مروراً بأفغانستان وباكستان. ومحورها هو الشرق الأدنى. ولا يسعني إلا الاقرار بشجاعة أوباما، وتصديه لصلب الموضوع من غير إبطاء، وتخليه عما جرى عليه اليمينان الاسرائيلي والأميركي منذ 15 الى 20 عاماً، وهو الزعم أن المسألة الفلسطينية ثانوية. وهو يحسب أن استئناف قيادة أميركا العالم، ولو على نحو جزئي ونسبي، مستحيل من غير تخطي الخلاف مع 1.3 بليون مسلم، وصرف عنايته الى الموضوع الذي يشغلهم وأناأرى أن خطبة القاهرة على جانب عالٍ من الأهمية. وبعض مستشاريه أشار عليه بترك مخاطبة العالم الاسلامي كتلة ثقافية واحدة. ولكنه لم يأخذ بالمشورة، وحسناً فعل. فتحذير صموئيل هونتينغتون من «صدام حضارات»، إذا صدق، فمحله الوحيد المحتمل هو بين الغرب والاسلام. وحمل الخوف عدداً كبيراً جداً من الناس على إنكار الاحتمال، وآثروا سياسة النعامة. وينبغي فهم خطبة أوباما جزءاً مؤثراً في سيرورة عامة وعريضة. فهي مواكبة سمفونية للسياسة التي ينوي انتهاجها في الشرق الأدنى والعراق وأفغانستان وباكستان، وفي جملة العالم العربي – الاسلامي". "الحياة" اللندنية عن «لونوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية، 25/6-1/7/2009.
المهم في هذا الكلام أن فيدرين اعتبر العالم متعدد الأقطاب، وهذه هي النتيجة الأولى لما سميناه الخسارة الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة.
أما النقطة الثانية والتي ترتدي طابع الأهمية هو اعتبار فيدرين العالم الاسلامي كتلة واحدة؛ وهذا ما فعله أوباما، الرئيس الأمريكي أيضاً بتوجهه للعالم الاسلامي، سواء في القاهرة أو في تركيا.
نحن نرى أن العالم الراهن، في القرن الواحد والعشرين، لا يقبل أياً كان أن يكون مستقلاً الا بشروط محددة. وأهم هذه الشروط على الاطلاق هو أن يكون كتلةً، ذلك الذي يريد أن يكون حرا.
ما هي الشروط التي يجب توافرها للكتلة؟ وهل بامكان العالم الاسلامي أن يكون كتلة؟
1 –
عدد السكان. عدد سكان العالم الاسلامي مليار ومئتي مليون انسان.
2 –
الثروة الزراعية. جميع أنواع النباتات توجد في تربة العالم الاسلامي.
3 –
المناخ المؤاتي. وهذا الشرط يتوافر للعالم الاسلامي.
4 –
الامكانات المادية. الغنى في عالمنا الاسلامي فاحش.
5 –
الطاقة. ففي العالم الاسلامي توجد الطاقة الغير متجددة (البترول والفحم) والطاقة المتجددة (الطاقة الشمسية والمياه).
يضاف الى ما تقدم التنوع الموجود في العالم الاسلامي والذي يعتبر غنىً آخر.
انطلاقاً مما تقدم يمكننا التأكيد بأن العالم الاسلامي بامكانه أن يكون كتلة. أو بصيغة أخرى يمكن للعالم الاسلامي أن يكون حراً؛ أي ان الشروط المادية للحرية تتوفر في عالمنا الاسلامي.
أما الدول التي يمكن أن تشكل كتلاً في عالمنا الراهن فهي:
1 –
الولايات المتحدة الأمريكية (وهي كذلك).
2 –
الصين واليابان.
3 –
الهند.
4 –
أمريكا اللاتينية.
5 –
الاتحاد الأوروبي مع روسيا.

لماذا طرحنا موضوع الكتل؟
ان التخطيط للمستقبل يفرض وجود رؤية استراتيجية لمن يريد التصدي لهذا الموضوع. نحن لم نتعود على رؤية عالمنا منذ أكثر من خمسة عقود الا ثنائي القطبية (أمريكا والاتحاد السوفييتي) أو آحادي القطبية(أمريكا). ولمّا نعرف عالماً متعدد القطبية كما نزعم أنه سيحصل. من هنا علينا منذ الآن الاجابة على السؤال: ما هو وضع بلادنا في المستقبل الآتي؟ من هنا كان لا بد لنا من التصدي لهذا الموضوع.
لا حياة الا للكتل الكبرى في العالم الآتي. كما وأن القيم الاسلامية تفرض على المسلم أن يكون ارتباطه بالله عز وجل وليس بأي من طواغيت هذه الأرض. ان العبودية لله تستدعي أن يكون الانسان حراً، لذلك لا بد لنمط الاقتصاد الاسلامي الا أن يؤمن الحرية للانسان المسلم حتى تكون علاقته مع الله عز وجل علاقة صافية لا يشوبها أي شبهة من شرك. من هنا علينا التفكير بالشروط المادية التي تجعل من العالم الاسلامي عالماً حراً، أي يعتمد على نفسه بانتاج الخيرات المادية التي يتقوى بها الانسان على عبادة الله عز وجل. وعليه فان الأبعاد العملية للنظرية الاقتصادية الاسلامية يكون ميدانها العالم الاسلامي، أو البلاد العربية على أقل تقدير.

الأبعاد العملية للنظرية
يقول ربنا تبارك وتعالى: "اني جاعل في الأرض خليفة". ويقول أيضاً: "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون". من هنا فان كل انسان معني بعمارة الأرض حتى يتمكن من القيام بالدور الذي أناطه به خالق هذا الكون. والدور الاقتصادي فريضة على المؤمن الذي يعيش على هذه الأرض. فالشرط الأول هو اذن أن الانسان مكلف. والانطلاق من التكليف الشرعي يسهل، نظرياً على الأقل، جميع المهام التي يفرضها انتاج الخيرات المادية لمصلحة الانسان الخليفة.

أولاً: ترشيد العرض.
القرب من منطق الأشياء يستدعي التحدث عن ترشيد الطلب. فما بالنا نتحدث عن ترشيد العرض. علينا مقدماً أن نكون على يقين أن نمط الانتاج الاسلامي لا يمكن أن يكون نمطاً استهلاكياً. لذلك لا بد من التحدث عن ترشيد الطلب.
تدخل الحكومة ضروري في حالات منها على سبيل المثال منع الاحتكار، أو تحديد السلع الضرورية في مرحلة معينة من أجل انتاجها ومنع الاحتكار. كذلك لا بد من تدخل الحكومة في اعطاء اجازات لانتاج السلع الصناعية وكذلك المنتجات الزراعية. وهناك نوع من التدخل ضروري جداً وذلك لاعادة التوازن لحركة السوق بحيث تمنع الندرة عن المواد الضرورية والمساهمة الحكومية بالانتاج عندما ترى الحكومة بأن هناك بعض السلع قد أصبحت نادرة أو تسير في هذا الاتجاه.
ان القيم الاسلامية (الأخوة والتعاون) تفرض بأن يجمع النمط الاقتصادي الاسلامي بين التاجر والصناعي والمستهلك. أي بصيغة أخرى، فجميع فئات المجتمع تتعاون من أجل تأمين حاجاته. وهذا التعاون سوف لن يمنع التاجر من تأمين الربح لنفسه وكذلك الصناعي وغيره من المنتجين لتأمين حياة مريحة ولا يخرج عن هذه القاعدة المستهلك نفسه. من هنا فالغاء الوساطة والسمسرة سوف يؤمن وصول المنتج للمستهلك من دون اضافات غير ضرورية(السمسرة). وبذلك يتأمن الربح للمنتج ويتأمن أقل سعر ممكن للمستهلك.
والاسلام لايشجع على احتراز المال، انما على العكس من ذلك فهو يحض على الانفاق. يقول ذو العزة والجلال: ”مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ“. الحشر (7)
لقد تحدثنا في الجزء الثاني من الدراسة عن الدوائر المتناقضة ومنها دائرة الرزق-المال. وقلنا بأن نمو أحد طرفي الدائرة يكون على حساب الطرف الآخر كما وأنه يكون دلالةً على اتجاه معين. فكبر طرف الرزق يعني بأن هذا المجتمع يؤمن الضرورات لأفراده. أما اتساع دائرة المال فبهذا دلالة على الاتجاه نحو الاستهلاك. والاسلام يحض على توسيع دائرة الرزق. لأن الاسلام يؤمن بالتنمية المتوازنة في المجتمع. أي أنه يعمل على أن يرتقي بجميع أفراد المجتمع مع بعضهم البعض.
ثانياً: ترشيد الطلب
ان أساس هذه النظرية هو المؤمن المتفَقِّه بدينه وعليه بالتحديد يقوم تطبيقها العملي. فالمجتمع الرأسمالي يقوم على خلق الحاجات. ومن أجل ذلك يقوم بعرض أنماط عديدة من السلعة الواحدة بغرض تحويل الانسان الى عبد للسلعة. لذلك نرى المزارع الأفريقي يبيع حليب بقرته ليشتري الكوكا كولا (يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير). أما المجتمع الاسلامي فهو يحدد الحاجات الفعلية للانسان من أجل العمل على انتاجها. فالقيادة الاسلامية تعيش كما يعيش معظم أفراد المجتمع. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اذا دُعي بحلف الفضول لأجاب. وهذا الحلف ينص فيما ينص عليه على "نصرة المظلوم والتأسي في المعاش".
وعليه فان الممارسة السياسية بامتياز للمسلم الملتزم، عنيت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلعب دوراً مهماً في التأثير على الممارسة الاقتصادية، مثال ذلك رفض الأسعار اذا لم تكن عادلة والتحريض على رفضها، أو رفض انتاج سلع غير ضرورية اذا كان المجتمع بحاجة الى سلعة أخرى... وعليه، يصبح ترشيد الطلب كما ترشيد العرض لأن الوعي السياسي هو الذي يجعل منهما كذلك. من هنا ضرورة تأمين غذاء يكون في متناول جميع أفراد المجتمع وكذلك تأمين لباس بمتناول الجميع. ولا بأس من انتاج أنواع متعددة الى جانب الغذاء واللباس لمن يريد أن ينوع. وبالطبع فمن الملاحظ أننا حتى بالاتجاه الى الانتاج نرى مسيرة معاكسة لما يبشر به المجتمع الاستهلاكي من قيم. ذلك أن القيم الاسلامية مناقضة لقيم المجتمع الاستهلاكي الذي يحض على الاسراف والتبذير. ألله تبارك يقول بأن المبذرين كانوا اخوان الشياطين. وهذا لا يفرض فرضاً على المجتمع، بل على الانسان اتخاذ هذا الموقف عن قناعة تامة انطلاقاً من الحلال والحرام وانطلاقًاً من انتماء الفرد وتموضعه، كما جاء في دراستنا التي تحمل هذا العنوان. وحيث أن الشيء بالشيء يذكر فقد كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصوم عندما يخف وجود المأكل.

البعد الأول: الاستثمار- الرساميل.

نحن نعلم أن أهم شرط للاستثمار الناجح هو اتساع السوق. والسوق الاسلامية هي كذلك، من هنا نرى بأن اقامة مشاريع استثمارية كبيرة هي مهمة ممكنة. أما الشرط الثاني فهو الرأسمال الاستثماري، وهذا متوفر أيضاً بفضل أموال النفط ومن عائدات المشاريع الأساسية الكبرى: الحديد، البتروكيميائيات والتي تقوم على انتاج جميع المشتقات بحيث يغطي انتاجها حاجات المجتمعات الاسلامية لمدة خمسين سنة على الأقل. أضف الى ذلك المشاريع الزراعية، مثال مشاريع انتاج اللحوم في السودان أو تربية الغنم في المغرب وسوريا، أو مشاريع السمك في الخليج واليمن والمغرب أو زراعة الحبوب في السهول الشاسعة تبعاً لأحدث الطرق المتبعة...
وحيث أن ما ذهبنا اليه ليس بعيداً عن تفكير الاقتصاديين العرب فقد شددوا في مؤتمرهم الذي عقد في بيروت والذي انتهى في 20 حزيران 2008 على ما يلي:
"
وركزت المداخلات على أهمية تنشيط الاستثمار في القطاع الزراعي وتطويره، خصوصاً في ظل موجة التضخم العالمية الكبيرة والمتواصلة، فضلاً عن أهمية الاستثمار في قطاع الصناعات التحويلية، ومنها الغذائية والزراعية.
وأكد المشاركون في المؤتمر ضرورة رفع مستوى التعاون بين الدول العربية في مجالات الأمن الغذائي والمائي، والتنمية الزراعية، والاهتمام بقضايا الغلاء في إطار نهج مزدوج يعتمد أسلوب توجيه المساعدات العاجلة إلى الفئات الاجتماعية الضعيفة، بالتوازي مع تشجيع الاستثمار في مجال تعزيز الإنتاج العربي، خصوصاً في السلع الغذائية الأساسية.
وطلب تطوير الاتفاق الموحد لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية لتحقيق منطقة استثمارية مفتوحة على مستوى العالم العربي".

البعد الثاني: الانتاج.

حتى يكون الانتاج ذا جدوى اقتصادية لا بد من أن يكون كبيراً يتجه الى تغطية حاجات المجتمعات الاسلامية. وهو يقوم على ما يلي:
1 –
الانتاج الصناعي الكبير: الحديد، الفوسفات، البيتروكيميائيات، الاسمنت....
2 –
الانتاج الزراعي: المشاريع الحكومية للضروريات التي تؤمن الغذاء لجميع الناس. أما المشاريع الفردية فهي لمنافسة الانتاج الحكومي (منافسة للتحسين).
3 –
الانتاج الحيواني: اللحوم ومشتقاتها، بحيث توزع الحكومة الحيوانات على المزارعين، الطيور والبيض.
4 –
انتاج المنسوجات لتغطية السوق المحلية.
وهذه المشاريع يمكن أن تكون حكومية، أو مختلطة ما بين القطاع العام والقطاع الخاص أو يمكن أن تكون تابعة للقطاع الخاص. الناظم هو تأمين حاجات المجتمع أو تغطية السوق المحلية.

البعد الثالث: التوزيع – الاستهلاك.

التوزيع: الاتجاه الى ما يلي:
القضاء على السمسرة.
الضرورات توزعها الحكومة على السوق مباشرة.
الانتاج الزراعي غير الخاص ينزل الى السوق حيث يشتريه تجار المفرق.
الاستهلاك:
من المهم أن يرتبط مفهوم الاستهلاك بمفهوم الزهد وخاصة في حالة البناء.
ترشيد الطلب والتدخل في العرض بواسطة الانتاج الحكومي حتى تحافظ السلعة على سعرها الفعلي وليس حسب سعر السوق كما يقال في أيامنا هذه.
تشجيع المشاريع الفردية لتغطية حاجة السوق. فالسوق له الأولوية.

البعد الرابع: التجارة.

التجارة هي ايصال المواد المعيشية الى جميع الناس بأقل ما يمكن من التكاليف.
التجارة الداخلية:
الحكومة يمكن أن تكون تاجراً. والمشروع يمكن أن يكون تاجرا. والأفراد كتجار يقومون يتوزيع الانتاج الزراعي والصناعي على السوق أو الناس.
السوق من حيث المبدأ حرة، ويسمح بالمنافسة طبعا.
التاجر الصغير تقوم عليه التجارة الداخلية. والخمس يمكن أن يكون ربحاً عادلاً.
التجارة الخارجية:
تستورد الحكومة ما تراه ضرورياً لتلبية حاجة السوق المحلية. ان معيار الصحة الاقتصادية هو استقرار السوق المحلية. وهذا يعني أن السوق يؤمن حاجات الناس.
الاستيراد يمكن أن يكون فردياً أو حكومياً، أو مشتركاً.
التصدير يكون لحاجة المجتمع للاستيراد وليس للربح.
القاعدة الأساسية: أقل ما يمكن من الاستيراد والتصدير.

البعد الخامس: الاحصاء:

n الاحصاء ضروري جدا للنظرية، والا كيف يكون التخطيط ؟
n علينا احصاء المواد التالية على سبيل المثال لا الحصر: البترول – البتروكيميائيات – الحديد – الفوسفات – الاسمنت – الأخشاب.
n الأرض: المستثمرة، القابلة للاستثمار، التي يمكن استصلاحها، المراعي والغابات. المياه.
n الحيوانات: البقر، الجاموس، الماعز، الغنم، الدجاج والبيض والأسماك.
n النسيج: الصوف والحرير والقطن والكتان.
n السكر – زيت الزيتون والقطن والعبيد، الأرز والسمن.

ملاحظات:

n علينا أن نعي أنه لا يمكننا أن نستخدم نفس أدوات النظام الرأسمالي وبنفس المضمون وننتج نظاماً آخر مغايراً له. (هذا ما يقوم به من ينظرون لنظام اقتصادي اسلامي في الوقت الحاضر).
n جاء استعمال ”رأس مال“ في القرآن مرة واحدة بمعنى ”أصل المال“ وهذا مختلف عن مضمون استعمال ”رأس مال“ في الاقتصاد السياسي السائد اليوم.
n يقول تعالى: ”يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين. فان لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، و ان تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. البقرة 278 – 279 .
n الواضح أن رأسمال تعني كمية المال التي استعملت في الربا.
n الرأسمال في الاقتصاد السياسي هو المال الموظف لانتاج فائض القيمة. من هنا فان الرأسمال الربوي له معنى ملتبس في الاقتصاد السياسي الغربي. فمنهم من يميل الى عدم اعتباره(الرأسمال الربوي) ”رأسمال“ بالمعنى الاصطلاحي للكلمة.
n علينا اعادة الاعتبار للشكل والمضمون كمفهومين متكاملين حتى على الصعيد الاقتصادي. من هنا نقول أنه علينا ابتكار أدواتنا الذاتية ومصطلحاتنا حتى في الاقتصاد.
n يقول رب العزة: ”فلا تعجبك أموالهم“ لأن مضمون المال الذي يعطيه المنافقون مختلف عن مضمون مال المؤمنين، لذلك علينا رفض هذا المال شكلاً أيضا.

تطبيق عملي:
بعث الامام علي كرم الله وجهه لمحمد بن أبي بكر، لما ولاه على مصر، الكتاب التالي:
يا عباد الله إن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم، قال الله عز وجل: ”قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة؟ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون“.ثم يتابع رضي الله عنه: ”سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت، وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من طيبات ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أفضل ما يسكنون، وركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غداً جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق من كان له عقل، ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله“.

نتيجة:

n النظام الاقتصادي الاسلامي ينطلق من الانسان ويعود اليه بالمنافع. وما ذلك الا لأن الله تبارك وتعالى قد بعث لنا الدين من أجل سعادتنا في الدنيا والآخرة.
n بناء هذا النظام يكون طاعة لله وفي سبيله.
n شرط بناء هذا الاقتصاد، الايمان الحقيقي، أي الانتماء الجواني لهذا الدين والتموضع بالتالي معه.
n سعادة الانسان لا تكون الا بسعادة اخوانه أو نظرائه.
n في الاسلام، الخلاص هو خلاص الأمة. وكل آتيه يوم القيامة فردا، أما في الدنيا ”يا أيها الناس، أو يا أيها الذين آمنوا...“، خطاب الدنيا للجماعة وليس للفرد...
n علينا أن نضع نصب أعيننا مضامين ذلك الحلف الذي أبرم في الجاهلية والذي قال عنه النبي اذا دعي به في الاسلام لأجاب. انه حلف الفضول. وأهم بنوده نصرة المظلوم والتأسي في المعاش.

حسن ملاط

مرسلة بواسطة فكر وتربية في 11:25 ص  

التسمياتإقتصاد