بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الاثنين، 30 مارس 2009

الجزء الثالث من كتاب المعلم

أبحاث ودراسات



ما هي العوامل التي يجب توافرها حتى يتمكن الطفل من القراءة؟ (3)
السبت, 03.28.2009 (GMT+3)

هناك العديد من العوامل التي يجب توفيرها للطفل حتى يتمكن من تعلم القراءة. سوف نحاول احصاءها جميعاًً والتحدث عن كل منها.
1 – الوعي الصوتمي أو النغمي أو النطقي ( (Conscience phonémique: لقد تبين من الدراسات التي أجريت في هذا المجال أن أصوات اللغة يجب تعليمها للأطفال حتى يتقنوها. اذ أن هذه الكفاية لا تتطور مع الزمن، أي ان الصوتم يجب تعلمه منذ البداية بشكله الصحيح ولا يجوز الانتقال الى صوتم آخر قبل اتقان الأول. ويقال أن هناك علاقة ايجابية بين التطور السليم للوعي الصوتمي للمعطيات الكلامية وبين الاكتساب السليم للمهارات اللغوية، وخاصةً القراءة. كما أن الوعي الصوتمي ينبىء بالقدرة لكسب المقدرة على القراءة. أما "ستنوبتش" فيرى أن الوعي النطقي لا ينبىء بالقدرة على القراءة فقط انما يشكل وظيفةً مركزيةً في عملية اكتساب القدرة على القراءة. لذلك سوف نقوم بكثير من التمارين التي تكسب الطفل الطلاقة في لفظ جميع صواتم اللغة. وهذه التمارين تبدأ بسماع الصوتم ثم تمييزه واستخراجه ومن ثم استخدامه.
2 – توجيه الطفل الى أهمية استخدام اللغة المكتوبة وحاجته لاستخدامها. هذه نقطة مركزية لأن الدراسات قد اثبتت أنه ما من أحد بامكانه تعليم الطفل اذا كان يرفض ذلك. من هنا وجب على المعلم أن يوحي (اي ليس بالطريق المباشر) (Par imprégnation ) الى الأطفال بأهمية اكتساب اللغة المكتوبة من خلال بعض الممارسات والتي نوردها على سبيل المثال لا الحصر:
أ – قراءة القصص المسلية على مرآى من الأطفال من كتاب وليس غيباً حتى وان كانت المعلمة تحفظ غيباً هذه القصة، وذلك حتى يربط الطفل بين المتعة التي سببتها قراءة القصة واللغة المكتوبة.
ب – قراءة التعليمات على المعلبات التي يحبها الأطفال مثال كيفية صناعة المثلجات. نقرأ التعليمات وننفذها.
ج – قراءة اللوحات الاعلانية وخاصةً تلك التي تختص بحاجيات الأطفال ثم نربط قراءتها بتلبية حاجة الطفل اليها.
د – المشاريع التي تقوم بها المعلمة مع أطفالها في الصف: على المعلمة تدوين الخطوات الواجب القيام بها على مرآى من الأطفال. وعند التنفيذ، يجب قراءة الخطوات مجدداً وتنفيذها.
هناك العديد من الممارسات التي توجه اهتمام التلميذ أو الطفل الى ضرورة تعلم اللغة المكتوبة. ان هذه التمارين تجعل من الطفل مهيئاً وعلى أتم الاستعداد للمشاركة في جهد تعلم اللغة المكتوبة، أي القراءة.
3 – يجب اعلام الأطفال عن كل خطوة سوف تقوم بها المعلمة وعن أهميتها. أي بصيغة أخرى لماذا على الطفل المشاركة في التعلم. سوف نورد بعض الأمثلة:
أ – قبل البدء بتعليم الأطفال الصواتم- الرواسم، على المعلمة أن تقول للاطفال أنه لا يمكننا قراءة التعليمات أو الاعلانات الا اذا تعلمنا الأحرف التي تكون هذه الكلمات. وتقول لهم أن عدد الأحرف هو ثمانية وعشرين حرفا. وكل صوت له عدة أشكال أي رواسم، سوف ندرسها جميعها حتى نتمكن مستقبلاً من القراءة.
ب – على المعلمة أن تخبر الأطفال أن الكلمة تتألف من عدة صواتم ونكتبها من رواسم هذه الصواتم أي أشكالها.
ج – الجملة تتألف من عدة كلمات تبعاً لمعناها وتنتهي بنقطة.
ما تقدم يعني أن المعلمة تأخذ من الأطفال ترخيصاً لتعليمهم، أو بصيغة اخرى حتى يقبلوا أن يتعلموا او بصيغة أخرى فان ما نقترحه هو صيغة مشاركة بين الأطفال والمعلمة تؤمن تعليم الأطفال اللغة برضىً من قبلهم. والنقطة المركزية هي قبول الطفل بأن يتعلم.
4 – لقد أثبتت الدراسات وخاصةً تلك التي قام بها "نعوم تشومسكي" (Noam Chomsky ) أن الطفل يستوعب التركيبات النحوية في اللغة الأم. أي أن الطفل في عمر الثلاث سنوات يستخدم المؤنث والمذكر وكذلك الجمع والمفرد بشكل صحيح في لغته الأم. وهذا ما يمكن ملاحظته بسهولة في أي بيت يوجد فيه أطفال. فنرى الطفل يستعمل المؤنث مع أمه وأخته من غير أن يعلمه أحد، وكذلك يستعمل المذكر مع والده وأخيه من غير تصحيح من أحد. ما تقدم يبين ويؤكد ما ذهب اليه تشومسكي. وبذلك يكون دور المدرسة تأكيد هذه المعرفة وتنميتها وذلك لوجود التعقيد في بعض الصيغ النحوية.
5 – بالاضافة الى ما تقدم، تبين أن العمر المثالي لتعلم اللغات هو من الصفر حتى سن السادسة، وتخف هذه القدرة الى العاشرة ثم تصبح ضعيفة نسبيا. وأن العمر الذي يمكن فيه تعليم الأحرف هو الخامسة، أي ما يوازي صف الروضة الكبرى في مختلف أنظمة التعليم المعتمدة سواء في أوروبا أو بلادنا العربية. وظاهرة ثنائيي اللغة أو ثلاثيي اللغة ليست ظاهرة اعجازية، انما هي تأكيد لما ذهبنا اليه. فتعلم اللغات يكون شفاهياً وليس بطريقة أخرى. وكل تعلم يجب أن يبدأ شفاهة وليس خلاف ذلك. فما من أحد يعلم متى تكلم الانسان ولكنه قرأ منذ حوالي سبعة آلاف سنة حسب أكثر المصادر تفاؤلا.
6 – هناك مساهمات قام بها بعض المحللين النفسانيين وابرزهم هو "جاك لاكان" (Jacques LACAN ). هذه المساهمات ترتدي أهمية بالنسبة للتعلم عند الأطفال. وعلينا أن نشير في هذا المجال بأن ما سوف نفصله الآن لا يصل الى درجة اليقين العلمي، كما دراسات "دوهايين"، ولكنها من دون أدنى شك مفيدة، لأنها أثبتت فائدتها عمليا. وهي تدخل ضمن دائرة علم النفس، وهذا العلم لم يصل بعد الى درجة اليقين العلمي مع أنه له الكثير من النتائج الايجابية. وكذلك التحليل النفسي فهو يتقدم وتطبيقات بعض نتائجه في ميدان التربية والتعليم كانت مفيدة.
حتى يتعلم الطفل يجب أن يكبر، اي أن ينضج. وعملية النضوج لا تأتي مرة واحدة انما هي عملية مستمرة. فلا يمكننا القول أن الطفل يصبح ناضجا في عمر الست سنوات أو العشرين. انما هناك دلائل على النضوج، يمكن للمراقب (هنا المعلم) أن يستنتج من مراقبتها أن هذا الطفل اصبح لديه درجة من النضوج تؤهله للقيام بممارسات معينة. ولكن ما يمكننا تأكيده أن تعلم اللغة المكتوبة (أي القراءة) يتطلب نضوجا.
وحيث ان النضوج هي عملية مستمرة (Processus )، فيمكننا كمعلمين مساعدة الطفل على بلوغها بمعاونة الأهل.
حتى يكبر،على الطفل أن يقبل عدداً من الحقائق والتي تعتبر باعثا على البؤس لديه. منها:
أ - المسافة الرمزية(Distance Symbolique ) : حتى يتمكن الطفل من الانبناء (الصياغة) ((Structuration، من الضروري وجود مسافة، مسافة رمزية، بينه وبين أمه. احدى مراحل هذه المسافة هو الدخول الى الروضة (اي أن الدخول الى الروضة يجب أن يكون عاملاً مساعداً لبناء هذه المسافة الرمزية (أي البعد) والتي تعتبر من أهم العوامل مع عوامل أخر في صياغة شخصية الطفل التي سوف تمكنه من الانفتاح على تعلم القراءة. عند عدم القبول بهذه المسافة فهذا يعني أنه من الصعب جداً على هذا الطفل أن يقبل الدخول الى المدرسة: يبكي، لا يهتم بأقرانه من الأطفال ولا بالمعلمة فهو يريد حصرياً العودة الى أمه.
الحضانة كصف لا يزال قريباً من الأم، أما الصف الأول فهو بعيد نسبياً أكثر من الأم.
ب - الفرق أو التباين (Différence ): حتى يكبر، على الطفل أن يقبل التباين بينه وبين أمه. هو وأمه ليسا متشابهين: لا يوجد موضوعان متشابهين. القبول بذلك صعب على الطفل لأن الاختلاف يقلقه، المعروف يوحي بالأمان. والاختلاف صعب أيضاً لأن القبول به سيجر الى القبول بحقيقة "أنه لا أحد يعرف كل شيء"، وبالتالي ما من أحد الا وينقصه أشياء، لذلك لا يحب الطفل وجود الفرق بينه وبين أمه. أما القبول به من قبل الطفل فهو السبيل الأولى لصياغة الطفل لنفسه: فرق بين الداخل والخارج، بينه وبين الآخر، بين الحقيقي والمتوهم، بين الفتى والفتاة، بين الشرعي واللاشرعي ... ولكن أيضاً بين الألف والباء.
ج - الموضع الرمزي للآخر (La Place Symbolique Du Tiers ): حتى يكبر، على الطفل أن يرفض العلاقة بين اثنين فقط (هو وأمه) والقبول بالعلاقة الرمزية مع ثالث حتى ينفتح على العلاقة مع الآخرين (على كثرتهم). هذا الاختيار يتعلق بالطفل ولكن بالأم أيضا. اذا رفضت الأم أن يتبوأ ثالث هذا الوضع الرمزي، عندها سوف تكون لدى الطفل صعوبات كبيرة في اقتحام هذه المرحلة الأساسية.
على أغلب الظن، الوالد هو المهيأ للعب دور العنصر الثالث، وهو الذي عليه مساعدة طفله في سلوك هذا الطريق. هذه العلاقة الثلاثية هي التي سوف تفتح الطريق واسعاً للعلاقة مع الآخرين: الرفاق، المعلمات، المدرسة، ... القراءة. كما وأن وجود الآخر يتيح الانفتاح على النظام الرمزي الذي يبني أو يؤسس الحدود والقواعد: الرمزية هي التي تؤسس العلاقات، هي التي تساعد الطفل على الانتقال من الحالة الطبيعية الى الحالة الثقافية.
د - العدول عن هيمنة الخيالي(Le renoncement à la prédominance de l’imaginaire ): طوال حياته، كل شخص بحاجة الى جزء خيالي، ولكن الطفل عليه أن يتخلى عن هيمنة الجانب الخيالي. ففي البداية، يعمل الولد بالطريقة الخيالية، ولكن الآخر، الثالث، الرمز كل هؤلاء سوف يتيحون للطفل أن لا يستغرق في العمل الخيالي. الفكر الخيالي عند الطفل يكاد يتطابق مع ما يعيشه من حكايات الجنيات والساحرات. فالعصا السحرية يمكنها أن تحقق جميع الرغبات، فكل شيء ممكن من خلالها. يموت الولد في قصة الجنيات ولكنها تحييه، وتبني أحلى القصور في لمحة عين. وعندما يتماهى الطفل مع الجنية يرى نفسه قادراً على أن يمسك بالكتاب ويقرأ حيث يريد. وهو يفعل ذلك، ولكنه يقرأ من خياله وليس مما هو مخطوط في الكتاب.
التخيل أو على الأصح هيمنة التخيلي يعني التفتيش عن الفرح المباشر (من غير جهد) وتحقيق الرغبات مباشرة. ولكن الواقع مختلف: تحقيق الرغبة لا يكون مباشرة، يوجد فرح ولكن يوجد حزن أيضا، يوجد معارضة وحدود. وهذه أشياء يصعب قبولها من الطفل، وخاصة ان لم تؤمن له العائلة المساعدة لتقبلها.
• حول الانتقال من الروضة الى الصف الأول:
ما تقدم من نقاط يبين أن الانتقال من الروضة الى الصف الأول له أهمية تقريرية في صياغة الطفل: يجب الابتعاد وبصورة ارتقائية عن حضن الأم، وعن التصورات التخيلية للعالم الواقعي حتى ينفتح على عالم الآخرين.
• لماذا هذا الانتقال يمكن أن يكون صعبا؟
لأن الطفل مهدد أصلاً بالخسارة، خسارة ما ينقصه، ان اقامة مسافة (رمزية) بين الطفل والأم تعني أن الأم لن تؤمن جميع متطلبات الطفل وعلى الطفل بالتالي أن يبذل مجهودا، وهذه خسارة. ان العلاقة الاندماجية مع الأم تؤمن للطفل جميع متطلباته من دون أي جهد. وهذا بالطبع عالم تخيلي بشكل كبير لأن من غير الممكن أن يعيش الانسان طوال حياته في حضن أمه.
ان معرفة الطفل للتباين بينه وبين أمه (أي هو كيان وأمه كيان آخر) تحمل الطفل على أن يأخذ بعين الاعتبار معنى الخسارة، لأن ما من أحد يمكنه أن يملك كل شيء.
تجربة أخرى لها كبير الأهمية سيمر بها الطفل عندما يتخلى عن هيمنة التخيلي لديه، تجربة في تحمل الخسارة، خسارة الراحة، وهو بذل المجهود من أجل تعلم الحروف حتى ينفتح على القراءة ومن ثم يجد المتعة في المطالعة.
• ماذا نعني بالنضج؟
ان النضج العاطفي للطفل يتعلق بالطريقة التي ينفتح فيها على مختلف المراحل التي سوف تتيح له المجال أن يبني نفسه، أن يصوغ نفسه. (se structurer) النضج هو نتاج صياغة الطفل كموضوع، ككيان (مستقل). انها تتجلى مثلاً في الرغبة والقدرة على استقلالية الطفل، في رغبته بأن يتملك بنفسه المعرفة، بقبوله الارتقائي للتفتح، وبقبوله أن يعارضه الآخرون وبقبوله بالتالي القواعد المفروضة (normes ).
النضج هو هدف. ان صياغة الطفل (structuration) للوصول الى النضج العاطفي لا تنتهي في عمر محدد. لا يمكننا القول أن الطفل أصبح ناضجاً لأنه بلغ من العمر ثماني سنوات. ان الصياغة تبدأ من الولادة وتنتهي مع الموت. لا يوجد انسان مثالاً للنضوج حتى نتخذ سلوكه معياراً. ولكن ما يمكننا فعله هو أن نقول أن هناك بعض الميزات التي تجعل من الطفل مؤهلاً للقيام بمهام معينة ومنها على سبيل المثال تعلم القراءة. أي بصيغة أخرى ان لدى هذا الطفل من المؤهلات ما يجعلنا نقول عنه أنه ناضج.
حالياً، هناك عدد متزايد من الأطفال يصل الى الصف الأول ناقصي النضج (غير ناضجين بصورة كافية). انهم أطفال نشطون، أذكياء، فطنون ولكنهم طائشون. ليس لديهم القدرة على تقديم أقل جهد ضروري لاكتساب المعرفة. حقيقةً، ليس لديهم الرغبة أن يمتلكوا المعارف.
• هل أصبح تعبير النضج مشوشا؟
في أكثر الأحيان يعتبر الطفل ناضجاً لأنه كثير الحركة. وأخذ هذا العامل فقط في عين الاعتبار يقود الى غموض ولبس كبير بالنتائج: التعامل مع الأطفال وكأنهم مكتملي النضج علماً أنهم ليسوا كذلك، وخاصةً على الصعيد العاطفي. وهذا يساوي منع الأهل أولادهم من تخطي جميع المراحل التي تقود الى النضوج الحقيقي.
ان التمييز بين النضوج الحقيقي والنضوج الظاهري يتيح للطفل عدم الوقوع في الفشل. كما وأن النضوج الفكري المبكر عند الطفل لا يعني أبداً أن نضوجه العاطفي كذلك. لذلك فالتعامل مع هذا النوع من الأطفال يكون أكثر صعوبةً في أكثر الأحيان.
• كيف تتدخل عملية الصياغة (structuration) في تعلم القراءة؟
1* - تحدثنا عن المسافة الرمزية (distance symbolique):
خلال مرحلة الروضة يأخذ الطفل "مسافةً" ما بالنسبة لأمه والتي تتيح له مع تطورها أن يصبح مستقلا. ان القبول بهذه المسافة يتطلب رفض الطفل لفكرة أن يكون مرتاحاً جداً مع أمه: ان الرغبة بتعلم القراءة تتعلق بهذا النضج. فاذا أصر الطفل على التخيل بأنه يملك كل شيء، وساعدته أمه في هذا التصور، عندها يصبح غير محتاج للتعرف على معلومات جديدة لأن أمه تلبي حاجته لما ينقصه.
من دون رغبة مستقلة للطفل، متميزة عن رغبة الأم، لا مكان للرغبة في التعلم والمعرفة. ان الطفل الذي يتقبل بصورة سلبية التعليم المعطى له لا يحفظ المعلومات لأنه ليس لديه الرغبة بامتلاكها. وهذا ما يجعلنا نعتقد بأن لديه معاناة في الذاكرة. كما وأن الافتقار للرغبة في المعرفة تتجلى بمظهر آخر: نرى الأولاد يهتمون بكل شيء ولكنهم لا يركزون انتباههم على أي شيء.
مظهر آخر: الولد الذي لديه الدافع في أن يبقى مشدوداً لنظر البالغ عندما يطلب منه القراءة. فهو يعتقد بأن البالغ فقط يملك المعرفة وهو لايمكنه أن يعرف. فالمشكلة الحقيقية هي عدم وجود الرغبة في الاستقلالية: البالغ يعرف (أي الأم تعرف) اذن ليس للطفل حاجة بأن يعرف (فهناك تماه بينه وبين أمه).
أول عمل للكبير سوف يباشره الطفل، هو تعلم القراءة. وهذه الممارسة تلعب دور "الكاشف" عن وجود أو عدم وجود الرغبة عند الطفل.
• ما العلاقة بين"المسافة الرمزية" و"اللغة المكتوبة"؟
"المسافة الرمزية" تحدد أن "الانفصال" عن الأم ممكن، وهو في طريق التحقق. هذا الانقطاع الرمزي ضروري لتحول الطفل الى كيان مستقل، كما وأنه ممر مفروض لانفتاح الطفل على اللغة المكتوبة. فالقراءة تستدعي "اشارات" لغوية حيث أن عملها يستدعي التقطع في السلسلة الصوتية. وخلاف ذلك، لا نصل لأي معنى: "مادامهنا" هي غير "ما دام هنا".
اذن يجب تصحيح التقطعات عقلياً أو ترتيبها حتى تتمكن من فهم جملة مكتوبة من غير تقطيع. "الترقيم" له وظيفة تقطيعية، فعدم احترام الترقيم طوعاً هو دلالة على عدم النضج عند الطفل.
من جهة أخرى، هذه الاشارات (الكلمات المكتوبة) هي تمثيل (فكلمة "حمامة" ليست "صورة" الحمامة، انما تمثيل لها). الصورة تفرض تطابقاً مباشراً مع ما تمثل، أما الكلمات فلا، لذا التمثل بالكلمات يفرض القبول بمسافة رمزية بين الكلمات وما تمثل.
متعلم القراءة يفتش دائماً عن الصورة، لأنها تفتح له طريقاً مباشراً للمعنى. اذا كان لدى الولد تحفظات على قبول "المسافة الرمزية" بينه وبين أمه، فسوف نجده لا يهتم، اختياريا، بالرموز اللغوية التي تمثل المسافة الرمزية بين المعنى والطفل، ويفضل التطلع الى الصورة.
2* - الفرق أو التباين:
من حيث اللفظ، ان ما يميز "ق" عن "ك" هو مخرجهما المختلف، وهذا الاختلاف هو الذي يجعلنا نميز "الكلب" عن "القلب". "فالفرق" أو "التباين" لا يمكن تجاوزه على صعيد الصوتم. أما على صعيد الروسم فهذا الذي يجعلنا نميز "درك" عن "درك".
اذا كان الولد لا يقبل بالفرق، بالاختلاف، سوف يجد صعوبات كبيرة في تملك رموز القراءة، المستندة بصورة قطعية على الفرق والتباين بين رسمها وما تمثل من معان، لذلك نرى بعض الأولاد الذين لا يقبلون بالتباين لا يجدون فرقاً بين الحروف المتقاربة بالشكل، بل يحاولون البرهان للآخرين أنها كذلك. (مثال ت وث).
3* - ما العلاقة بين "الثالث"، "الرمزي" وتعلم القراءة؟
علينا التنبه الى أن "الأنساق الرمزية" تقيم علاقات واسطة بين الموجودات، أي أن العلاقة بين "الهو" و"الآخر" يتوسطها رمز، لا تكون فورية من غير وسيط. (أي أن "الهو نمثله برمز له، وكذلك "الآخر"، وبذلك تتوسط الرموز العلاقات القائمة).
المدرسة هي مكان "آخر" "ثالث" بالنسبة للطفل، ويمكنه بالتالي أن يميزها بسرعة كبيرة. الطفل بحاجة لعدة أيام ضرورية حتى يتمكن من تقبل هذا المكان وهؤلاء الناس "الغرباء" الذين يضعون في دائرة "الخطر" علاقته الآمنة والحصرية أحياناً بأمه. ان الشكوى من الواجبات المدرسية، من قبل الأهل، هو برهان على أن المدرسة تمثل "الثالث" بالنسبة للطفل. فالرهانات العاطفية والتعليم لايعيشان أغلب الأحيان في وفاق. على المعلم أن يتموضع بشكل يتيح للطفل أن يتعلم من غير تأثير على العلاقة الخاصة التي تربط الطفل بأمه.
القراءة (اللغة المكتوبة) هي علاقة جديدة للطفل مع "الآخر". "الآخر" هنا هو الرمز اللغوي الذي سوف يعبر بالطفل من الملموس الى المجرد، من الصورة الى المفهوم.
القراءة هي جزء من النسق الرمزي لأنها تستند الى قواعد وقوانين حكمية تعسفية (أنت تقبل قواعد اللغة رغماً عنك). علينا مساعدة الطفل على قبول هذه القواعد الغريبة حتى يتمكن لاحقاً أن يتواصل مع الآخرين (الغرباء). ان ولداً غير "ناضج" سوف يتحاشى الانفتاح على نص كتبه "ثالث" مجهول يسبب له القلق (لأنه آخر ومجهول).
قوانين اللغة تفرضها طائفة اللغة، واكتساب اللغة المكتوبة يعني القبول بالانخراط في هذه الطائفة أي عبور رمزي الى الطائفة الجديدة.
4* - لماذا على الطفل رفض التفشي المرضي للتخيلي حتى يتعلم القراءة؟
اذا ظل الطفل متمسكاً أو متمترساً بالتخيلي، اذا استمر بالتصور بأنه قادر على كل شيء، لايمكنه أن يباشر تعلم القراءة التي تتميز بقواعد وقوانين لا يمكننا اكتسابها وتعديلها بضربة من العصا السحرية. لذا يمكننا أن نلتقي مع متعلمين يتحاشون التهجئة، يخترعون نصاً لا علاقة له بما هو مكتوب، انهم "يبنون" قصةً خاصةً بهم. وهذا دلالة على هروبهم من تعلم الرموز الذي يستدعي جهدا. ينظرون الى الصورة ويقرأون وفي هذا دلالة على هيمنة التخيلي. انهم يهربون من الحقيقة (ضرورة تعلم الرموز للتمكن من القراءة) ويلجأون الى عالم غير موجود، انهم يبقون في الخيال.
بعض الأولاد الذين لا ينخرطون في تعلم القراءة يقولون أن لديهم الرغبة في التعلم. هذه الرغبة ليست سوى العصا السحرية التي يريد أن يستخدمها لمباشرة القراءة من دون أن يتعلم الأحرف والقواعد وغيرها. ومع ذلك يريد أن يقرأ مثل الكبار. ان الرغبة في التعلم تفترض أن الولد يعرف ويقبل أن اكتساب القراءة يوجب تعلم الرواسم والتهجئة.
فضلاً عن ذلك، فان تملك الطفل للرموز سوف يمكنه من القراءة والفرح والمتعة بما يقرأ. فالجهد الذي بذله في التعلم سوف يوجد له انشراحاً بعد حين وهذا ما يناقض التصور الخيالي بالقدرة على الوصول الى المتعة من دون اي جهد.
الانتقال من الروضة الى الصف الأول تستدعي جهداً. على الأهل أن يبذلوا هذا الجهد حتى يساعدوا طفلهم على اجتياز هذه المرحلة الهامة من حيث استكمال النضج العاطفي. وهذا ما يمكنه من الانفتاح على الاستقلال الذاتي، أي بناء شخصيته المستقلة. وهذا شرط في تعلم القراءة.
وبالعكس من ذلك، يبدو بأن الطرق الأكثر استخداماً في تعليم القراءة، الطرق ذات الانطلاقة المجملة، لا تساعد الأطفال قليلي النضج أن يندرجوا في تعلم القراءة. فهي تشجع الولد على أن يحفظ صورة الكلمة لا أن يقرأها. وهكذا نكون قد عززنا عدم النضوج: فالكلمات أصبحت صوراً، في الوقت الذي علينا فيه اخراج الطفل من الوضع التخيلي الى وضع يتقبل معه الرموز. وفي حين علينا تعزيز الاستقلالية لديه حتى ينفتح وحيداً على عالم القراءة من خلال تعليمه الرموز، نقوم بعكس ما يجب القيام به بتأكيدنا على تعليمه الكلمات كصور للحفظ وليس للقراءة.
7 – علينا أن نؤمن للطفل طريقة تشرك أكثر من حاسة في التعلم (Plurisensorielle ):
من المسلم به أن اشراك أكثر من حاسة في تعلم أي جديد، يساهم بتصليب المعلومة وتحفر في ذاكرة المتعلم أكثر من استخدام حاسة واحدة. وهذه المعلومة تكاد تكون بديهية.
أ – التعرف على الجسم: وهذه التمارين تبدأ أول ما تبدأ بتعريف الطفل على جسمه. وهذه التمارين تأخذ طابع العب أو التسلية: مثال "أضع يدي على فمي"، "اضع اليد الثانية على فمي". وهكذا دواليك، الأنف، الفخذ فالفخذ الآخر، الركبة فالركبة الأخرى، الكتف فالكتف الثاني. نستعمل اليمين واليسار أو الشمال في الروضة الكبرى. ومن ثم نستخدم الاصبع والاصبع الآخر في التعرف على أجزاء الجسم: العينين والأذنين والجبهة... وباستمرار علينا استخدام اليدين وليس يداً واحدة.
ب – استخدام تمارين التعرف على الجسم لتصليب وتمتين اللغة الشفاهية أو التعبير الشفاهي عند الطفل: مثال أن يقول الطفل: "أضع اصبعي على أنفي" أو "أضع يدي على فخذي الثاني". وبكلمة واحدة: على الطفل أن يصف شفاهة كل تمرين يقوم به.
ج – التعرف على الأوضاع المختلفة: ومهمة هذا التمرين هو تعريف الطفل على الوضع الذي يوجد فيه.
* - الوقوف: وهذا يعني أنه يقف على قدميه، وعليه أن يتحسس ذلك وذلك بالطلب منه الوقوف على أطراف أصابعه ومن ثم على قدميه، أو على قدم واحدة، وبعدها الأخرى.
* - الجلوس: عليه أن يتحسس جلوسه على الكرسي وكيف تصطدم قدماه بالأرض.
* - وضع اليدين على الطاولة: وعليه أن يتحسس الطاولة بكفوف يديه وأن يتعرف بيديه على حدود الطاولة. فالاحساس بالحدود سوف تجعله يقبل بحدود الورقة التي يكتب عليها، وبحدود الرواسم...
* - المشي على الأرض، ومن الأفضل على خط مرسوم: مستقيم، دائري ومتكسر.
* - القفز على الحبل: على قدم واحدة وبعدها على الاثنتين، ثم على جانب واحد فالجانبين.
* - الجلوس متربعا: يمد أحد فخذيه ثم الآخر، يتحسس الأرض بكفيه ...
* - النوم ماداً يديه على جنبيه، يرفع رجله ثم الأخرى، يرفع يديه أو احداهما ثم الأخرى. ويمكننا تحويل هذا التمرين الى لعبة لتسلية الأطفال كما غيره من التمارين.
ان هذا النوع من التمارين تساعد الطفل على حسن التموضع مع نفسه ومع الآخر. كما وتساعد على التآلف بين الحركة والأمر المطلوب تنفيذه.
د – الاستعداد الحركي: ومن الضروري في هذا المجال أن يعرف الطفل الاتجاهات بالنسبة لجسمه. علينا أن نعلم الطفل: أمام، وراء أو خلف، الجنب والجنب الآخر، فوق وتحت.
كم وعلينا تعليم الأطفال على الأشكال الخطية واتجاهاتها، وهذه هي الخطوة الأولى لتعليم الكتابة.
ﻫ - تعليم الأطفال على تصنيف الأشياء المتشابهة، وتحديح اتجاهاتها (ألعاب البازل).
و – معرفة الاختلاف بين صور متشابهة.
ز – ممارسة الطفل تمارين لها علاقة بالخط، هذه التمارين التي ترتبط بتعليم الكتابة.
ح – تمارين سمعية، وذلك لتدريب الأطفال على تمييز الأصوات وحتى الأصوات المتشابهة.
ط – سماع وانشاد الأغاني المخصصة للأطفال.
هذه التمارين ضرورية جدا حتى يتعود الطفل على أشكال وعلى أصوات اللغة التي سوف يتعلمها.
8 – على المعلم أن يختبر الطفل قبل البدء بالتعليم من النواحي الخلقية:
* - هل يسمع أم أن لديه مشاكل في الأذن.
* - هل يرى جيدا، أم هناك بعض المشاكل في الابصار.
* - ادراك واضح للأصوات (الصواتم) داخل الكلمة.
* - انتباه متزامن للكلمة المحكية وصورتها، أو العلاقة صوتم – روسم كمرحلة أولى.
* القدرة على تحليل الكلمة الى صواتمها ومن ثم اعادة تأليفها ...
وقبل أن ننهي هذا الفصل علينا أن نشير الى أمر هام: ان استبعادنا لبيداغوجيات معينة لا يعني مطلقا أن جميع التفاصيل الواردة في هذه البيداغوجيات هي خاطئة؛ انما يعني وبالتحديد أن جميع الايجابيات المتضمنة في البيداغوجيات السابقة يمكن أن توظف في البيداغوجيات المقترحة. ان ما يستبعد هو فقط ما ثبت علميا أنه مضر للأطفال كما في حالة الطرق ذات الانطلاقة المجملة في تعليم القراءة للمبتدئين. ولكن استخدام الطرق الناشطة في التدريس فهي تلعب دورا ايجابيا منشطا فعلا للأطفال، لذلك لا بد من الاصرار على الاستمرار في استخدامها.
حسن ملاط

نحو نظرية اقتصادية اسلامية

نحو نظرية اقتصادية اسلامية
مارس 28th, 2009

حسن ملاط

لقد كان للأزمة التي يمر بها النظام الرأسمالي العالمي، بعض الحسنات، منها اهتمام الناس بمفردة “الاقتصاد” و”الاستثمار” و”البورصة” و”السرقة الموصوفة” …. وقد تحدث الكثير الكثير عن الأزمة، ولكن يمكنني أن أزعم أن أهم عامل على الاطلاق في هذه الأزمة لم يؤت على ذكره، ليس لقصور ذهني انما أعتقد أن المصلحة تستدعي عدم الحديث عنه، عنيت “نظام القيم” المسؤول عن انتاج هذه الأزمة وسوف ينتج غيرها. وهذا التأكيد هو يقين وليس ظنا.
كتب “مالك بن نبي” منذ أربعة عقود على الأقل: “الديناميكية الاقتصادية ليست هي هذه النظرية أو تلك الخاصة بعلم الاقتصاد، بل هي مرتبطة بجوهر اجتماعي”. لو أن الممسكين بالقرار الاقتصادي- السياسي في بلادنا ( التي تمتلك الأموال) كانوا يشعرون أنهم مؤتمنون على أرزاق الناس ومسؤولون عن هذه الأمانة أمام من ائتمنهم، ما كان لهم أن يخوضوا معركة الدفاع عن النظام الرأسمالي. ان مئات المليارات التي أنفقتها دول النفط للدفاع عن السارق الأمريكي لخيرات بلادنا هي حق لأهلنا الذين يكدون ويشقون، ولكن وللأسف فان شقاءهم ذاهب من أجل أن يتمتع الأمريكي أو الأوروبي. ان جميع من راقب الأزمة التي ما زالت مستمرة يعرف كم هي هائلة الخسائر التي تكبدتها بورصات دولنا، وما زالت، لا لذنب اقترفته شعوبنا التي تكد وتشقى لتأمين قوت يومها، انما ارضاءً للسيد الأمريكي والأوروبي. وما الثمن الذي يقدمه هؤلاء لشعبنا مقابل هذه السرقة الموصوفة؟ استعباد واستغلال واذلال. وقد اعتبر نبي أمتنا صلى الله عليه وسلم، أن الشقي الشقي هو من باع آخرته بدنيا غيره. فحكامنا يبيعون آخرتهم بدنيا الأمريكان والأوروبيين.
اخترع الأمريكي النمط الاستهلاكي لتأمين مصالح الطبقة السائدة في بلاده، الممسكة بالقرار الاقتصادي والسياسي. هذا النمط الذي لا يهتم الا بتكديس الأرباح. ومن مخترعاته التي أودت بممتلكات الكادح الأمريكي وفي باقي الدول هو ما يسمى بالاقتصاد الوهمي الذي أدى الى الأزمة الحاضرة.
لماذا علينا الخضوع لهذا النمط؟
هناك عاملان مهمان يمكن أن نجد فيهما تفسيراً لخضوع مجتمعاتنا للنمط الاستهلاكي.
العامل الأول هو الذي تحدث عنه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة. يقول ابن خلدون: “ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه و مركبه و سلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله”. اخترع الغرب البورصة لتجميع الأموال في أيدي الطبقة المسيطرة. فما كان من مقلدي الغرب من حكامنا الا أن أنشأوا البورصات حتى يتمكن الغرب من تجميع الأموال عنده وليس عندهم. ونظرة بسيطة من أي مراقب الى الخسائر التي تكبدتها بورصات دول الخليج ومصر خلال الأزمة الحالية تجعله يتأكد مما ذهبنا اليه في تحليلنا لما جاء على لسان ابن خلدون. ان جميع ما نتشبه به بالغرب انما يخدم الغرب، سواء في الملبس (نشغل المصانع الأوروبية أو الأمريكية للنسيج) أو المركب (السوق العربية هي من الأسواق الناشطة في استيراد السيارات) أو في السلاح (فالسلاح الذي نستورده لايقتل أعداءنا، انما نتقاتل فيه فيما بيننا. كم تحدث الاعلام عن ترسانة الأسلحة عند جيش صدام العراقي، هذا الجيش الذي قتل العراقي والكويتي ولكنه لم يقتل الأمريكي عندما دخل العراق. وبدأت مقاومة الأمريكان بعد انهيار الجيش العراقي التابع لصدام، ولم تستعمل المقاومة الباسلة لا الطائرات ولا الدبابات وغيرها من أنواع السلاح الثقيل الغالي الثمن، انما استعملت السلاح الفردي، الذي يمكن الحصول عليه بسهولة). فنحن المغلوبين نقلد من غلبنا فيما يؤمن فائدة الغالب، ولا نقلده بالشكل الذي يؤهلنا أن نصبح غالبين. لماذا؟ لأن الاتجاه نحو تقليد الغالب انما هو ناتج عن الاعجاب بهذا الغالب. وهذا الاعجاب يولد شعورً بالدونية عندنا مما يجعلنا نعتقد بأن هذا الغالب غير مؤهل أن يصبح مغلوباً، أو بأننا قاصرون أن نكون مثل الغالب. وهذا يوصلنا الى العامل الثاني.
العامل الثاني هو الذي تحدث عنه مالك بن نبي. انه العامل الذي أسماه فيلسوفنا الفذ “القابلية للاستعمار”. ان التحدث عن هذه الاشكالية ودراستها هي المدخل الى امكانية تحرير أنفسنا وبلادنا من التبعية للغرب الاستكباري. لقد نقل بن نبي المشكلة من الآخر الى الأنا. أحد الاستراتيجيين الكبار اعتبر معرفة النفس أساساً لا يمكن الاستغناء عنه لتأمين النصر. فهو يرى أن من يعرف نفسه ويعرف عدوه لا بد له الا أن ينتصر. فمشكلة التخلف، هي مشكلة ذاتية لها أسباب تاريخية. وحلها يستدعي دراستها على أنها مشكلة موضوعية خاصة شعبنا، وهذه الخصوصية هي العامل الحاسم في امكانية حلها. وهذا ما يراه مالك بن نبي وهومحق بذلك. اي بتعبير آخر، الدواء الألماني لايفيد في حل مشاكلنا لأن طبيعة شعبنا مختلفة عن طبيعة الشعب الألماني.
عندما اتخذ الكويتيون القرار بافتتاح “سوق المناخ” تقليداً منهم للغرب الذي استعبد عقلهم أول ما استعبد منهم، حقق خسائر بعدة مليارات من الدولارات، او بصيغة أخرى استولى الغرب على أموال المقامرين الكويتيين. وبذلك يكون الغرب قد استولى على البترول الكويتي من غير مقابل. لماذا؟ لا أريد أن أسأل القرد الذي حاول تقليد النجار لماذا قطع ذيله.
هذه الأزمة الحالية لا زالت تستنزف مليارات الدولارات من الدول الخليجية عن طريق البورصات. من قال أن بناء الاقتصاد يستدعي وجود البورصات. فوجود البورصة الذي لم يأت تبعاً لتطور طبيعي للاقتصاد الخليجي، سوف يجعل منها جسماً غريباً (وهي كذلك) تخدم من اخترعها. ذلك الذي اخترعها كوسيلة لنهب كل ما تجمع من أموال في أيدي من يثق بهؤلاء الرأسماليين. وهكذا نرى البورصات الخليجية تلعب الدور المرسوم لها، وهو نهب أموال البترول لصالح السيد الأمريكي. نعود للسؤال لماذا، حتى نجيب أن قابليتنا للاستعمار هي التي جعلتنا نثق بمن يستعمرنا ولا نثق بقدراتنا الذاتية بسبب من شعورنا بالدونية أمام من يستعبدنا برضىً منا. من المؤكد أن القابلية للاستعمار ليست العامل الوحيد ولكني أزعم أنه العامل القائد.
النظام الاقتصادي هو نظام قيم. وهذا النظام القيمي لا يمكن بناءه بمعزل عن الأنظمة الأخرى، أعني النظام التربوي والسياسي… دعونا نطرح السؤال التالي: لماذا يريد الرئيس الأمريكي بوش تغيير النظام التربوي الاسلامي وكلنا يعلم أنه لا يوجد في دولنا من يلتزم بالاسلام كنظام للحياة؟ الجواب هو أن تشرّب أبناء شعبنا للقيم الاسلامية سوف تؤهل من يلتزم بها الى أن يكون مقاوماًلكل من يريد أن يستعبد الناس، وهم الأمريكان في عصرنا الحاضر. ليس هذا فحسب، بل يمكنني أن أزعم أنه لا يوجد تقاطع بين القيم الاستهلاكية الأمريكية والقيم الاسلامية. فالقيم الأمريكية تقوم على الفردانية، كل يعمل لتحقيق مصالحه الخاصة بمعزل عن مصالح الآخرين. بينما الاسلام لايرى الخلاص الا عبر الأمة، أي أن من يبغي ايجاد الحلول للمشاكل الفردية عليه اللجوء الى الجماعة، الى “الأمة”. قديماً اعتبر أحد الساسة البريطانيين أن مشكلة الاستعمار البريطاني هي مع القرآن الكريم، لذلك اقترح ضرورة القضاء عليه في أنفس الناس. وما يجري اليوم ليس بعيداً عما اقترحه السياسي الاستشرافي، وذلك عبر ما يسمى “تيار الوسطية” الذي يريد أن يدخل المفاهيم الغربية في المفاهيم الاسلامية،معتبراً الاسلام وعاءً يتسع لجميع ما يلقى فيه. وهذا الكلام غير صحيح، لأنه يفرغ الاسلام من القيم التي تميزه، أي التي تعطيه هويته. ان ما يقوم به الداعون الى القيم “الوسطية” والتخلي عن القيم الاسلامية، باعتبار الاسلام هو الوسطية هو أكبر تزوير معاصر للقيم الاسلامية وللدين الاسلامي. ولا داعي للتذكير أن هذا مضمون ما طلبته الادارة الأمريكية عقب تفجير نيويوك. طلبته من وكلائها في الدول الذي يدين أهلها بالاسلام.
وفي هذا المجال لا بد من الاشارة الى ما يسمى بمراكز “التنمية البشرية” والتي زاد تفريخها في بلادنا. فهذه المراكز تستقطب عادةً المؤهلين لأخذ المراكز الهامة في الدولة. أما المواد التي تدرسها هذه المراكز فيمكن تلخيصها ب”كيف تصبح أمريكياً”، أي كيف تتشرب النفسية الأمريكية. تصوروا الكوارث التي سوف تحل على شعوبنا عندما يتحكم فينا من يفكر على الطريقة الأمريكية.
هل ما تقدم له علاقة بالنظرية الاقتصادية الاسلامية؟
أعيد التأكيد أن النظام الاقتصادي هو نظام قيم، سواء كان اسلامياً، رأسمالياً أو شيوعيا.
بيل غيتس يتبرع للجمعيات الخيرية لأن ما يتبرع به يخفف من الضرائب. التاجر المسلم يدفع زكاة أمواله، لأن طاعة الله توجب عليه دفع الزكاة. التاجر المسلم لا يتوازن نفسياً ان لم يدفع الزكاة، ولكن بيل غيتس يمكنه أن يدفع الضرائب من غير أن يتبرع للجمعيات الخيرية. كما وأن دفع الزكاة بالنسبة للتاجر المسلم لا يعفيه من دفع الضرائب المتوجبةعليه. ودفع الزكاة والضريبة لا تعني أن هذا التاجر سوف لن يدفع الصدقة للمحتاجين، لأن التوازن العاطفي والنفسي الذي يفرضه نظام القيم الاسلامي يدفع هذا التاجر لدفع الضريبة والزكاة والصدقة.
التوصل الى اقرار الضمانات الاجتماعية الموجودة في الغرب الأوروبي قد كلف الطبقات الكادحة عشرات الآلاف من القتلى. وعلى العكس من ذلك فنظام القيم الاسلامي يمنع على المؤمن أن يشبع وجاره جائع وهو يعلم. أي أن التضامن الاجتماعي ليس مفروضاً على الانسان المسلم، انما ينبع من داخل. نعود فنقول أن الاستقرار النفسي يستدعي الممارسة العملية للقيم التي يفرضها ايمان المؤمن. فبمجرد قبولك بالالتزام الديني يستتبع القيام بما يفرضه نظام القيم لهذا الدين. ولا داعي للتذكير بأن التوازن النفسي يتطلب الالتزام بالقيم التي يفرضها الالتزام الديني.
دعونا نوضح ما نذهب اليه في القول أن النظام الاقتصادي هو نظام قيم:
1 – بالنسبة للنظام الرأسمالي يكون العامل الحاسم لنجاح مشروع استثماري ما، هو تأمين الربحية التي يتطلبها التوظيف المالي في هذا المشروع.
2 – بالنسبة للنظام الشيوعي معيار نجاح المشروع مرهون بقيام كل من يساهم فيه بالمهمات المطلوبة منه في الزمان والمكان المحددين.
3 – بالنسبة للنظام الاسلامي يكون معيار نجاح المشروع هو مدى الفائدة التي يحققها للناس.
ثلاثة اتجاهات مختلفة لأن القيم التي تنطلق منها مختلفة، حتى وان كان المشروع الذي نتحدث عنه هو نفسه. من هنا لا يمكننا القول أن الاسلام اشتراكي على سبيل المثال، أو أن البنوك اسلامية كما نسمع ويقال في أيامنا هذه. فالمجتمع الرأسمالي له قيمه الخاصة، والتي يفرضها على جميع من يعيش في كنفه سواء كان مسلماً، ملحداً أو خلاف ذلك. أي أن العلاقات التي تكون سائدة في المجتمع الرأسمالي هي علاقات رأسمالية، والعلاقات التي تسود في المجتمع الاسلامي عندما يسود النظام الاسلامي تكون اسلاميةً والشيء نفسه ينطبق على النظام الاشتراكي أو الشيوعي.
اليكم هذه الرزمة من التصريحات لمسؤولين في دول اسلامية، (أعني أنها تدعي بأنها تحكم بما أنزل الله عز وجل) وما أرجوه من ايرادها التفتيش الدقيق على القيم الاقتصادية الاسلامية الكامنة في هذه التصريحات (مصلحة الناس).
قال وزير الاقتصاد الإماراتي امس الخميس إن اقتصاد الإمارات العربية المتحدة قد ينكمش هذا العام بسبب التباطؤ العالمي مع تزايد المؤشرات على أن الأزمة المالية العالمية وجهت ضربات أعنف مما كان متوقعاً بادئ الأمر لمنتجي النفط الخليجيين.
وقال وزير الاقتصاد لخامس أكبر بلد مصدر للنفط في العالم إن الاقتصاد قد ينكمش هذا العام في خضم أزمة أوقعت معظم العالم الصناعي في ركود. وفي وقت سابق هذا الأسبوع توقع محافظ البنك المركزي أيضا أن الاقتصاد قد ينكمش.
أكد عضو مجلس الشورى السعودي وكبير الاقتصاديين في البنك الأهلي الدكتور سعيد بن عبدالله الشيخ أن المملكة قادرة على مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية إذا ما استمرت حتى عام 2011 بسبب الفائض الذي حققته العام الماضي والبالغ حوالي 1.1 تريليون ريال. وأكد الشيخ أن سياسات مؤسسة النقد المتحفظة، والتي استثمرت الاحتياطات في سندات الخزينة الأميركية بعيداً عن سوق الأسهم ولا في الاستثمارات المهيكلة التي انخفضت قيمتها جعلت المملكة تحافظ على قيم أصولها التي تتراوح بين 450-460 مليار دولار صافي الاستثمار الأجنبي، وهو وضع أفضل بكثير من هيئات الاستثمار في أبو ظبي أو الكويت مثلا، لأن 40 % من استثماراتها كانت في سوق الأسهم الذي انخفض بشدة فتراجعت تلك الصناديق 30%.
أين تكمن مصالح المسلمين بما أوردناه من تصريحات على لسان المسؤولين في الدول الاسلامية التي تملك الأموال؟
جميع ما يتحدث عنه هؤلاء هو كيفية الاستثمار على الطريقة الرأسمالية في مؤسسات رأسمالية. وهذا لا علاقة له بالاسلام حتى وان صاموا وصلوا. الاستثمار على الطريقة الاسلامية لا يمكن أن يكون الا في نظام سياسي اسلامي، يتبنى القيم الاسلامية. وأما ما يقال عن بنوك اسلامية تتعامل بالدولار فهي طريقة لتجميع الأموال في مؤسسات ذات طابع رأسمالي، يضاف اليها بعض من “الفذلكات” اللفظية توحي للمتعامل المؤمن أنه لا يقع في المحظور الديني. نقول هذا الكلام باختصار حتى لانضطر للحديث عن النقد الورقي وكيف نشأ هذا النقد وماذا يمثل هذا النقد. ان مجرد التعامل بالدولار هو خدمة للنظام الأمريكي الذي ينهب خيرات بلادنا وينهب خيرات جميع الشعوب، فما بالكم بالذين يوظفون خيرات بلادنا في الخزينة الأمريكية؟ فهذا يعني كما قلنا سابقاً أننا نؤمن للسارق الأمريكي سرقتنا مرتين، في الأولى عندما يستولي على النفط في طرق متعددة، وفي الثانية عندما “نستثمر” أموال النفط في الخزينة الأمريكية أو في أسواق الأسهم أينما وجدت لأن خراجها سيعود الى المايسترو الأول: الأمريكي صاحب الدولار.
ان التعامل مع البنوك الاسلامية انما هو تعبير من المتعامل على صدق تمسكه بدينه بالطريقة التي يراها، فهو يزكي نفسه وأمواله ولا يمكن لأحد أن يلومه. فالنظام الاقتصادي الاسلامي هو نظام مجتمع وليس نظاماً فردياً أي لا يمكن التحدث عن علاقات اقتصادية اسلامية في مجتمع تحكمه العلاقات الرأسمالية. اليكم ما يقوله مالك بن نبي في هذا المجال: “واذا بالمسلم الذي يختار هذا الاتجاه يغوص في محاولة تخليص الرأسمالية من الربا، لأنه محرم في شريعته”. ويضيف: “وكأنه من الناحية الفنية يحاول تخليص جسد من روحه، ويرجو أن الجسد سيبقى حياً ويقوم بمهامه”. ثم يوضح قائلاً: “وان نجح في ايجاد حل نظري في قضية الربا يطابق الفقه الاسلامي، فيكون كأنه وجد روحاً لا يضمه جسد، أو تناقض مع جسده؛ لأن نظام البنوك يرفض هذا الروح وهو يرفضه، فيبقى الحل النظري معلقاً عملياً، لأن صاحبه انطلق على أساس مسلمة استثمار المال بصفته منطلق للديناميكا الاقتصادية، دون أن يراجع هذا المبدأ نفسه”. هذا ما ذهبنا اليه سابقاً، أي ليس علينا الاستسلام الى القول أن النظام الاقتصادي هو دراسة العلاقات بين الأصول المالية، انما هو نظام قيم. من هنا طلب مالك بن نبي ضرورة مراجعة الأساس الذي يقوم عليه النظام الاقتصادي وليس النظر الى متفرعاته.
نظر النبي صلى الله عليه وسلم الى بلال بن رباح وقال له: “أنفق يا بلال”!

من هو بلال حتى ينفق؟ من المعروف أن بلالاً هذا كان عبداً مملوكاً عند أحد عتاة الكفر في مكة، ولا يملك أموالاً حتى ينفقها، والنبي عليه الصلاة والسلام يعرف هذا، فلماذا اختصه بهذا الطلب أو الأمر؟ لا يمكن ايجاد الجواب الا بالنظر الى نظام القيم الاسلامي للتعامل بالمفردات الاقتصادية. ان من يريد أن يحترز المال، من الناحية النفسية، هو ذلك الذي حرم منها، لذلك كان طلب النبي من بلال وليس من ابن عوف المعروف بغناه. فالمال مهما كانت كميته ليس للكنز انما للتوظيف حتى يستفيد المجتمع من حركته، حركة المال. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الدينار كنز والقيراط كنز”.



كيف يمكن صياغة نظام اقتصادي انطلاقاً من القيم الاسلامية؟


هذا هو موضوع بحثنا القادم.

السبت، 14 مارس 2009

كيف نختار كتاب تعليم القراءة؟
ان اختيار كتاب التعليم يجب أن يحقق أمور عديدة، منها:
1 – ان كتاب القراءة يجب أن يقوي أواصر انتماء الطفل الى وطنه وأمته العربية والاسلامية. واحترام اللغة الأم هو العامل الأساس في لعب هذا الدور. ان اعتماد المتعلم على لغته الأم التي من المفترض أن تلبي حاجته في تعلمه لجميع العلوم والفنون، هي التي تظهر أن هذه اللغة حية، وأن الشعوب التي تغذي هذه اللغة بخبرتها هي شعوب تستحق الحياة. وأن ما تمر به الأمة من عثرات هي مؤقتة وزائلة بفضل جهود المنتمين اليها. والطفل يمكنه استنتاج ذلك من خلال ملاحظة من يكبرونه في العمر. ان تعليم العلوم باللغات الأجنبية يعطي انطباعا بأن اللغة الأم لا يمكنها تلبية هذه الحاجة، علما أن هذا الأمر غير صحيح لأن الطالب السوري يتعلم المواد العلمية باللغة العربية. أما في لبنان فقد ﹸأخذ قرار بامكانية استخدام العربية في تعليم المواد العلمية ولكن من دون تأهيل جهاز تعليمي من أجل تطبيق هذا القرار. لذلك فان هذا القرار ظل حبرا على ورق، كما يقال.
2 – ان معظم المنتمين الى الأمة العربية هم من المسلمين. كما وأن القرآن الكريم هو الذي لعب وما زال يلعب الدور الرئيس في حماية هذه اللغة. والمحاولات التي قام بها الغرب الاستعماري للاعتداء على القرآن وعلى اللغة العربية معروفة، ومحاولة الرئيس الأمريكي جورج بوش والادارة الأمريكية ليست عنا ببعيدة. هذا ما يقوم به الآخر، أما ما نقوم به نحن فلا يقل خطورة عما يقوم به الأعداء. اذا كان القرآن الكريم يلعب دور الحامي للغتنا الأم، فلماذا هذه الغربة بين اللغة التي نستخدمها ولغة القرآن؟ أللغة هي وعاء ثقافة الأمة ولسان حضارتها، من هنا فان كتاب اللغة يجب أن يحقق هذه الحاجة، أي ردم الهوة بين اللغة المستخدمة ولغة القرآن. واضح أن ما تقدم ليس له علاقة بالانتماء الديني.
3 – كتاب القراءة يجب أن يكون رابطا بين الطفل وقضايا أمته. نحن نعلم أن الطفل يتعلم بالطريقة الغير مباشرة أكثر من تعلمه بالطريقة المباشرة. فالايحاء هو من الطرق المستخدمة في التعليم. ولا يغيب عن ذهننا أن الايديولوجية التي تسيطر على عقول الشعوب انما تأتي عن طريق الايحاء (وهذا ما جعل أجيالنا تحترم الأجنبي وتنظر نظرة الاحتقار لكل ما هو وطني). من هنا وجب أن يلعب كتاب القراءة دوره في ترميم بنيان الأمة على الصعيد الايديولوجي. وحتى لا يكون كلامي نظريا، أسوق هذا المثال لما سوف يحويه هذا الكتاب في هذا المجال: على المعلم أو المعلمة أن تعلم الأطفال الصواتم. ولتركيز الصوتم عند الطفل على المعلمة ايراد الكثير من الكلمات والألفاظ التي تحوي هذا الصوتم. ولتحقيق الغاية التي تحدثت عنها (اي ربط الطفل بقضايا أمته) سوف أورد مع الكلمات أسماء القرى الفلسطينية التي أزالها الاحتلال الاسرائيلي من الوجود مع التأكيد على المعلمة بأن تقول للأطفال أن هذه الكلمة هي اسم لقرية فلسطينية أزالها الاحتلال الاسرائيلي من الوجود، ومن دون شروحات. (عند تعليم الطفل الصوتم "سو" تورد المعلمة اسم القرية الفلسطينية "بيت سوسين" التي أزالتها اسرائيل من الوجود، وتسأل الأطفال ان كانوا يسمعون الصوتم المطلوب تمييزه، وهو "سو" ثم تقول لهم أن الكلمة التي سمعوها هي اسم قرية فلسطينية أزالتها اسرائيل من الوجود). ليس هذا فحسب بل انه علينا تعريف الطفل على المعالم الجغرافية لبلاده وعلى ميزاتها وقيم شعوبها وهذا يتم بنفس الطريقة التي أوردناها سابقا.
ان القول بأن اللغة هي التي تعبر عن ثقافة وحضارة ومستقبل الأمة ليس كلاما من غير مضمون. لذلك يمكننا التأكيد أن كتاب القراءة يجب أن يكون مشروع أمة، فهو مشروع تنموي بكل ما في الكلمة من معنى. وكذلك فهو تعبير عن النظام القيمي للأمة التي ننتمي اليها.
4 – يجب أن تكون الطريقة التربوية (البيداغوجية) المستخدمة في الكتاب متوافقة مع آلية عمل الدماغ عند تعلم المبتدىء القراءة. هذا الكلام أصبح بامكاننا استخدامه، خاصة بعد ظهور كتاب "الخلايا العصبية للقراءة" لمؤلفه "ستانسلاس دو هايين". حيث ان هذا الكتاب قد بين أن علماء الأعصاب الذين يهتمون بالقضايا التربوية (البيداغوجية) وعلاقتها بالدماغ(Les Neurosciences )، قد تمكنوا من اكتشاف ألية عمل الدماغ عند تعلمنا القراءة، كما وأنهم تمكنوا من استخلاص النتائج عن الطرق التربوية (البيداغوجية) التي يجب وضعها قيد الاستخدام.
ملاحظة: ان المساهمات التي قدمتها "د. جيسلان ويتستين بدور" لا تقل أهمية عما قدمه "دوهايين" ولكننا نعود اليه لأن مؤلفه هو الأحدث في هذا الميدان (آب – أغسطس 2007 ). وقد أثار هذا المؤلف الرائع الكثير من النقاشات من المؤيدين والمخالفين. ويمكنني أن أزعم أن مساهمات المخالفين لم تكن ترتدي طابع الجدية التي تتطلبه هذه الدراسات والتجارب العملية. أما مساهمات المؤيدين فكانت تعتمد في أكثرها على تجارب هؤلاء العملية مع الأطفال، ومن هنا تأتي أهميتها.
* - ما الذي يجري في دماغنا عندما نتعلم القراءة وعندما نقرأ؟ ما هي النتائج التي استخلصها "دو هايين"؟
المبدأ الأول: القراءة تستدعي تعلما نوعيا (مختصا spécifique). وهذا التعلم سوف يغير بدوره آلية عمل الدماغ. لقد طرح العالم "دو هايين" التساؤل التالي: كيف أن دماغنا قد تلاءم مع القراءة مع أنها لم تخترع الا منذ عدة آلاف من السنين؟ للاجابة على هذا التساؤل، طور هذا العالم مفهوم "اعادة التأهيل العصبي": "خلال اكتساب القراءة، يجب على الدوائر العصبية المكلفة بمعرفة الأشياء اعادة تأهيل نفسها حتى تفكك اللغة المكتوبة، أو تقرأها. فأولادنا، يضيف "دوهايين" عندما يعودون من المدارس يكون دماغهم قد تغير، لم يعد كما كان".
• - ما هي النتائج التربوية (البيداغوجية)؟
اذا كان تعلم القراءة يعدل الدماغ ويغيره هكذا، فاختيار الطريقة يصبح حاسما. كتب "دوهايين": "نحن لا نتعلم القراءة بمائة طريقة مختلفة. كل طفل متفرد، ولكن عند تعلم القراءة، فأدمغة جميع الأطفال تعمل بطريقة واحدة، وتفرض نفس القواعد ونفس مراحل التعلم". ثم يضيف " الطريقة يجب أن تكون الأكثر ملاءمة لآلية عمل الدماغ".
المبدأ الثاني: الدماغ يتعرف على الأحرف أولا. ليس الاطار الاجمالي للكلمة هو ما يتعرف عليه الدماغ. كتب "دوهايين": "هناك منطقة صغيرة في الدماغ الأيسر (Hémisphère gauche ) تحلل الصور وتسجل، نعم. هناك عدد من الأحرف، يوجد "م" و"ت" و"ع"، وهذه معلومات أساسية على المناطق الأخرى من الدماغ معرفتها". ثم يضيف: "ان الاطار الاجمالي للكلمة لا يلعب أي دور في القراءة... المعرفة البصرية للكلمة لا تستند على الادراك الاجمالي لاطارها، انما الى تجزئتها الى عناصرها البسيطة: الأحرف والرواسم... ان القراءة الفورية هي ليست الا وهما،انما تتأتى بسبب اختصار مراحل القراءة".
• - ما هي النتيجة التربوية (البيداغوجية)؟
بما أن الدماغ يتعلم التعرف على الأحرف أولا (الرواسم) ثم يحولها الى أصوات اللغة (صواتم) ثم الى معاني، فان الطرق التركيبية هي التي تعمل بنفس الآلية، أي تبدأ من البسيط الى المركب، من الحرف فالمقطع فالكلمة الى أن نصل الى النص. كتب "دوهايين": "ان هدف تعليم القراءة هو واضح اذن: يجب الأخذ بعين الاعتبار هذا التدرج الموجود في الدماغ (أي من البسيط الى المركب أو المعقد "الملاحظة لنا") حتى يتمكن الطفل من التعرف الى الأحرف والرواسم وتحويلها بسهولة الى صواتم (أصوات اللغة)".
ان المقاربة التركيبية هي التي تلبي هذا التدرج في الدماغ الذي تحدث عنه "دوهايين".
و كتب أيضا: "ان الكلمات والجمل التي يستخدمها الطفل عند القراءة يجب أن تحوي الألفاظ التي سبق للطفل التعرف عليها"، و يضيف "أن الطرق التركيبية تفعل ذلك".
المبدأ الثالث: وهو تحول الحروف الى أصوات: كتب "دوهايين" في فصل "تحول الحروف الى أصوات": "المناطق الصدغية العليا من الفلقة الصدغية اليسرى هي المسؤولة عن تحويل الحروف الى أصوات، وهي المسؤولة عن تحليل الأصوات، وخاصة أصوات الكلام. كما وأن القشرة الأمامية السفلى والوسطى اليسرى تتدخلان في اللفظ. فعلى مستوى الفلقة الصدغية تتحد الكلمات التي نراها مع الأصوات التي نسمعها". كما علينا أن نضيف أن هذه المعرفة هي تصاعدية، من البسيط الى المعقد فالأكثر تعقيدا، من الحرف الى المقطع فالكلمة...
• - ما هي النتيجة التربوية (البيداغوجية)؟
"لا يمكننا أن نؤمن للطفل المتعة في القراءة اذا لم نعلمه مفاتيح القراءة"، يقول "دوهايين". وهذا يتم من خلال تعليمه تحليل الأصوات التي تتألف منها الكلمة. ثم يضيف قائلا: "نقطة مفصلية: التعليم يجب أن يكون واضحا ومباشرا(لا مكان للتخمين من قبل الطفل) للعلاقة روسم-صوتم، وهذا هو السبيل الوحيد الذي يعطي الطفل الحرية في القراءة، لأنه الوحيد الذي يسمح للطفل بالانفتاح على كلمات جديدة. ان الأطفال الذين تعلموا عبر الطريقة المجملة أو الكلية هم أقل تأهيلا في قراءة الكلمات الجديدة، وأقل سرعة وأقل فعالية في فهم النصوص".
المبدأ الرابع: الانفتاح على المعنى: "لا يعبر دماغنا من صورة الكلمة الى معناها مباشرة" يقول "دوهايين"، "انما يفككها الى عناصرها ثم يعيد تركيبها حتى يتمكن من معرفة معناها". والقراءة السريعة مع الفهم هي نتيجة الخبرة بالتفكيك واعادة التركيب، حتى تبدو وكأن هذه العمليات متزامنة.
• - ما هي النتيجة التربوية (البيداغوجية)؟
التهجئة والفهم يسيران سوية. الطفل الذي يقرأ جيدا هو نفسه الذي يفهم جيدا. من هنا فان الطرق التركيبية الصوتمية هي التي تؤمن للطفل امكانية القراءة السهلة والميسرة والسريعة، والانفتاح السريع على المعنى.
النتيجة: ما تقدم هو ما يجب أخذه في عين الاعتبار عند اختيار الكتاب الذي يجب أن يدرس فيه أولادنا القراءة. ان ما قمت به من التفتيش عن كتاب يؤمن هذه المتطلبات كان فاشلا، لذا كان لا بد من اللجوء الى التصدي لتأليف كتاب يلبي جميع هذه المتطلبات.
بقي أن نشير الى أن العمليات التي شرحناها وباختصار شديد، انما هي عمليات أمكن رؤيتها من خلال التجارب المخبرية، وليس الوصف الذي أوردناه الا نتاج لهذه الاختبارات. ومن يريد الاستزادة يمكنه العودة الى كتاب "دوهايين"، هذا الذي يؤكد أن جميع العاملين في الحقل التربوي عليهم معرفة ألية عمل الدماغ. وما قمت به هو اختصار شديد لهذه الآليات.
Stanislas DEHAENE هو أستاذ كرسي علم النفس المعرفي الاختباري في أهم جامعة فرنسية في هذا الميدان وهي Collège De France. وهو المركز الذي كان يحتله عالم النفس والتربية المشهور PIAGET. و"دوهايين" حائز على العديد من الجوائز العالمية، وهو الى جانب الاختصاص السابق فهو متخصص في الرياضيات وفي التصوير بواسطة الرنين المغناطيسي الوظيفي ( وجميع النتائج التي تحدثنا عنها جاءت عبر هذه التقنية)، وهو عضو الأكاديمية الفرنسية للعلوم.
كتابه هو Les Neurones de la lecture من اصدار دار النشر Odile Jacob .
لا تحرمونا من ملاحظاتكم. حسن ملاط

الأربعاء، 11 مارس 2009

كتاب تعليم العربية للمبتدئين

جانب القراء المحترمين،

لا يخفى على أحد أن اللغة الأم هي حاملة الثقافة والقيم والهوية لأي شعب من الشعوب. من هنا فان الاهتمام بها هو دليل على جدية الانتماء الى الهوية القومية والحضارية والتمسك بقيمها الثقافية ومنها الدينية.
انطلاقاً مما تقدم، أقوم بمقاربة تأخذ الطابع التربوي والتعليمي ابتغاء حل اشكالية تعليم القراءة التي يعاني منها "المتعلم" العربي. وهذه المقاربة تعتمد آخر مستجدات العلم الحديث في هذا الميدان. كما وأنها ليس لها أية غايات تجارية، انما هي قيام بواجب يعبر عن انتمائنا لهذه الأمة وضرورة خدمتها.
وعليه أرجو من حضراتكم استمطار المساهمات في التعليق على مضمون هذه المقاربة من حضراتكم وممن يرى عنده الامكانية على ذلك ابتغاء تقويم هذا الجهد خدمة لمتعلمي أمتنا. ولكم منا كل الشكر والأجر من الله العزيز الكريم.
حسن ملاط
التعليق يكون اما على البريد الالكتروني أو على الهاتف.
hassanmallat@hotmail.com
أما من يريد مناقشتنا مباشرة فيمكنه ذلك على الهاتف وذلك عند الساعة العشرين حسب توقيت غرينيتش على الرقم 9616401153 ولكم الشكر.


كتاب المعلم

مقدمة
ان حمّى التحدث عن تعلّم القراءة في المدارس تكاد تصيب جميع دول العالم، ذلك أنه لا امكانية للتّقدّم العلمي والثّقافي من دون القدرة على القراءة. ولكن لحسن حظ أمّتنا أنّ هذه الحمّى لمّا تصل الى بلادنا العربية، ذلك أننا ولله الحمد محصّنون ازاء أيّ تفكير باقتحام العقبة، على ما جاء في الكتاب الكريم.
لقد نشرت مؤسسة الفكر العربي تقريراً عن الحالة الثقافية في بلادنا العربية، وكان نصيب القراءة منها "أن هناك 4% من القراء في البلاد العربية بالنسبة للقراء البريطانيين". وهذه النتيجة كارثية، ولكنها تصبح كارثية أكثر اذا علمنا أن البريطانيين لا يُعتبرون قُرّاءً من الدرجة الأولى.
مع أهمّية هذا التقرير ولكن مايزيد أهمّية عليه بحدّ ذاته هو انعكاس هذا التقرير على الممسكين بقرار تعليم أولادنا، أولاد أمتنا. لم نسمع عن ورش عمل في مختلف البلاد العربية لدراسة هذه النتائج التي كانت معلومة منذ أمد بعيد. فالجميع كان يعلم أن كمية الكتب التي تطبع في العالم العربي لا تعادل شيئا بالنسبة لأي بلد أوروبي، ومع ذلك بقي القديم على قدمه، أعني من دون اهتمام من أصحاب القرار.
معظم الدول الأوروبية تجري تقييما سنويا يطال جميع طلابها الذين سينتقلون الى مرحلة التعليم المتوسط، ومن ضمن التقييمات التي يجرونها، يقيّمون امكانية الولد على القراءة. وقد تبين أن هناك معامل (coeficient ) يكاد يكون ثابتا عند المتعثرين في القراءة وهو حوالي 20% من عدد الطلاب. ومنهم من يمكن أن نسميه أمّيا في القراءة، هذا مع العلم أنه قد أمضى في التعليم ثلاث سنوات في الروضات وخمس أو ست سنوات في التعليم الابتدائي(تبعا للنظام المتبع في كل دولة)، ومع ذلك أطلقوا عليهم لقب "أميين". ما يهمنا من ايراد ما تقدم هو كيفية تعامل السلطات المختصة مع تلك النتائج: راحت تلك السلطات تدرس الأسباب التي أدت الى هذا التعثر. لذلك رأينا هذه الدول تغير طرق تعليم القراءة انطلاقا من نظريات علم النفس التربوي أو انطلاقا من النظريات التي يبثها التربويون. ولكنهم لم يكونوا سلبيين ازاء هذه الظاهرة.
تمكن أحد المراكز الذي يهتم بمحو الأمية في الولايات المتحدة الأمريكية و يدعى (NICHED ) تمكن من الوصول الى نتائج قيّمة جدا أدت الى نقلة نوعية في موضوع تعلم- تعليم القراءة للمبتدئين ( وعندما نقول مبتدئين نعني الكبار والصغار على السواء). لقد تمكن هذا المركز من نقل موضوع تعلم القراءة من الاحتمالات والفرضيات الى الحقائق العلمية الثابتة، التي لا يمكن مناقشتها، أي التي تفرض علينا القبول بها.
ازاء ما تقدم قررت أن أبدأ بتأليف كتاب للقراءة للمبتدئين يتناسب مع جميع ما توصل اليه العلم الحديث بالنسبة لهذا الموضوع.
وعليه عليّ أن أشير أن مشروع تأليف الكتاب لا يبغي الربح المادي، انما يعمل على سد ثغرة كبيرة في موضوع تعلم-تعليم القراءة عند الطفل العربي أو الأمّي العربي (أي الذي دخل الى ميدان العمل). لذلك سوف أنشر هذا الكتاب على الانترنت حتى يتمكن أي كان من الحصول عليه من دون الرجوع اليّ، ومن غير منّة منّي لأي كان، لأنني سوف لن أتمكن من معرفة الذين سيستفيدون من هذا الكتاب.

الأسس النظرية للطريقة الجديدة في تعليم القراءة

الطرق المستخدمة في تعليم القراءة:
جميع الدول العربية تستخدم الطريقة الكلية أو المجملة (Globale ) في تعليم القراءة. ومن لا يستعمل هذه الطريقة فانه يستخدم الطريقة المختلطة (Mixte ) والتي تكون انطلاقتها مجملة أو كلية.
والطريقة ذات الانطلاقة المجملة أو الكلية تبدا بتعليم الطفل "جملة" أو "عبارة" أو "كلمة" تحوي الحرف الذي يريد المعلم تعليمه للطفل. بعد مساعدة الطفل على قراءة هذه الجملة نصل بالأطفال الى مرحلة تحليل الكلمات التي تحوي الحرف المراد تعليمه، فنُبرز هذا الحرف للطفل ونعلمه اياه وندربه على كتابته وحفظه. وهكذا الى ان يتعلم الطفل جميع الحروف.
أما الطريقة الأخرى التي كانت مستخدمة في تعليم القراءة فهي "الطريقة الأبجدية" أو "الهجائية". هذه الطريقة تبدأ بتعليم الطفل الأحرف الأبجدية، ومن ثم نبدأ بتعليم الطفل دمج الأحرف فيما بينها لتأليف مقطع فكلمة وبعدها نصل الى الجملة فالنص. وهذه الطريقة كانت مستخدمة في جميع بلاد المعمورة قبل الانتقال الى الطريقة المجملة وذلك منذ عدة عشرات من السنين فقط.
ومن الجدير ذكره أنه بدأ بالطريقة المجملة أحد الأساقفة البلجيك انطلاقا من نظرية ال"جشطالت" في علم النفس التي تدّعي بأن ادراك الأشياء يكون مجملا وليس تفصيليا، لذلك علينا البدء بتعليم الكلمة وليس مكوناتها. وحيث أن كل جديد له "رهجة" فقد تبنى التربويون هذه الطريقة لأنه لم يكن بامكانهم القول أن هذه الطريقة خاطئة، كما وأنه لم يكن بامكانهم التأكيد على صحتها. فهي قد بدأت من تصور، من احتمال، أو فرضية. فنفيها يستدعي حقيقة علمية وليس فرضية كما فعل أصحاب الطريقة المجملة عندما عملوا بها. ما تقدم لا يعني أنه ليس بامكان أي كان أن يضع فرضيات أخرى ثم يعمل من خلالها، علما أن جميع النظريات تبدأ بفرضية.

لماذا نتحدث عن طرق تدريس القراءة؟
بعد النتائج الكارثية التي تحدثنا عنها في الأسطر السابقة التي تتعلق بتعلم أطفالنا للقراءة، كان لا بد من اعادة النظر في جميع طرائق التعليم. ماهي النتائج التي توصل اليها الدارسون والباحثون؟ لقد تبين لهؤلاء أن الطريقة المستخدمة في تعليم القراءة هي التي تؤدي الى التجهيل وعدم التعلم من قبل الأطفال. أي ليس أولادنا هم المعوقين انما الطريقة المستخدمة في التعليم هي التي تؤدي بالطفل أن يصبح يعاتي من"الديسلكسيا" (Dyslexie ) أي صعوبات تعلم القراءة. وهذا المرض الذي يظهر عند الطفل هو من النوع ذي التجليات "الكاذبة" أي ما يسمى (Fausse Dyslexie ) و الذي يصاب به الطفل نتيجة استخدامنا طريقة خاطئة في التعليم. فيصبح الطفل عندها وكأنه يعاني من الديسلكسيا، نقول "كأنه" لأن الديسلكسيا هي مرض فعلي (نوع من التشوه في الدماغ Anomalie dans le cerveau )، أما الولد الذي لم يتمكن من تعلم القراءة لا يعاني فعليا من هذا المرض، انما طريقة التعليم هي التي أدت به الى عدم التعلم مما جعلنا نعتقد بأنه يعاني من هذا المرض.

هل جميع الأطفال متشابهون ازاء طرق التعليم؟
من شبه المسلم به أن كل صف يتألف من ثلاثة أصناف من التلاميذ، وهم موزعون بالشكل التالي: حوالي 5% من المتفوقين كما يوازي هذا الرقم أو أقل قليلا من المتخلفين و القسم المتبقي هم من المتوسطي الذكاء. وكل فئة من هذه الفئات الثلاث تقسم بدورها الى فئات مختلفة. ولكن ما يهمنا نحن هم الفئة الكبرى، لأن التخطيط الذي نقوم به يجب أن يهتم بهذه الفئة. أما المتميزون فيمكن أن نسلك معهم في الصف بشكل مختلف قليلا عن أقرانهم. أما المتخلفون فيجب أن يكون لهم صفوف خاصة.
طريقة التعليم التي يجب تعميمها هي التي تختص عادة بالفئة الكبرى من التلاميذ. لذلك لا يمكن القياس على المتميزين من التلاميذ عندما نتحدث عن طرق التعليم. فهناك فئة من التلاميذ يمكنها أن تتعلم القراءة من خلال أية طريقة يستخدمها المعلم. ولكن نجاح الطريقة في تعليم القراءة يجب قياسها من خلال الفئة الكبرى من التلاميذ، أي الفئة المتوسطة الذكاء. لذلك فان التقييمات التي تقوم بها المؤسسات أو الوزارات المختصة تهتم بالفئات الأكثر عددا وهذا هو المعول عليه وهو الصحيح قطعا. فما يمكن القياس عليه هو الأكثرية، وهو ما نقوم به في عملنا. أي نحن نبغي تسهيل التعليم على جميع الأطفال باستثناء المتخلفين عقليا، وهؤلاء يكون تعليمهم مختلفا عن الآخرين.

أهم المستجدات في عالم تعلم- تعليم القراءة للمبتدئين:
لقد اتفق جميع الدارسين أن الدماغ هو المسؤول عن التعلم، أو لنقل عن العمليات التي تتعلق بالفكر. ولم يكن بامكان أحد أن يعرف ما الذي يجري في الدماغ عندما يمارس أي عملية فكرية. فلم يكن بامكان أحد أن يطلع على جوف الدماغ. لذلك رأينا العلماء يبثون احتمالات أو فرضيات الى ما يجري داخل الدماغ، وهذه الفرضيات لم تصل اطلاقا الى ما يسمى حقيقة علمية. كانت فرضيات وبقيت كذلك الى أن تمكن العلماء من اختراع الآلة التي يتم من خلالها ما يسمى بالتصوير بواسطة الرنين المغناطيسي الوظيفي (IRM f ). لقد أصبح العلماء قادرين على رؤية العمليات التي تجري داخل الدماغ نتيجة هذه التقنية. وكانت الثورة، ثورة القضاء على الفرضيات والاحتمالات للوصول الى الحقائق العلمية بالنسبة لتقنيات تعليم القراءة للمبتدئين!
1 – نحن نعلم أن هناك نوعين من اللغات، اللغات التصويرية (Pictogrammique ) مثل اللغة الصينية واليابانية، واللغات الهجائية (Alphabétique ) مثل اللغة العربية والفرنسية. أما الفروقات بين هذين النوعين هو أن الرمز في اللغات التصويرية يمثل فكرة، بينما الرمز في اللغات الهجائية يمثل صوتا لا يحمل أي معنى. هذا الاستهلال حتى نبين أن الدماغ يتعامل مع تلك اللغات بطرق مختلفة. فالرمز الذي يمثل فكرة يعالجه الدماغ في القسم الأيمن منه (Hémisphère droit )، أما الكلمة فلا يقبل الدماغ أن يعالجها في هذا القسم انما يبعثها الى القسم الأيسر (Hémisphère gauche ) لأن هذا القسم هو المسؤول عن التحليل.
ان عدم قبول الدماغ للكلمة على أنها صورة سوف يؤدي الى أن يقوم الدماغ بتحليلها الى عناصرها، أي الى الحروف التي تكوّن هذه الكلمة. وهنا تكمن أهمية اختيار طريقة التعليم. فالطريقة المجملة التي تعلم الكلمة من دون البدء بعناصر هذه الكلمة، سوف تؤدي الى ما يلي:
• عندما ترى العين الكلمة بواسطة ما يسمّى Fovéa (النقرة) تنقلها الى القسم الأيمن من الدماغ على أنها صورة ولكن الدماغ يرفضها لأنها مؤلفة من عناصر (الحروف) عندها ينقلها بدوره الى القسم الأيسر المسؤول عن التحليل، فيقوم هذا الأخير بتحليلها الى عناصرها المكونة. ويقوم ببعث كل حرف الى القسم المسؤول عن الذاكرة حتى يتمكن من اعطاء الأمر للفظ الحرف، وحيث أنه (أي الطفل) لم يتعلم الحروف، يرى الدماغ بأنه لا يوجد شيء له علاقة بهذه العناصر في الذاكرة، يروح الولد الى بث احتمالات للفظ هذه الكلمة. هذا ما يحصل مع الطفل عندما يتعلم بالطريقة المجملة.
• الوقت الذي يجب أن يستغرقه الطفل لقراءة الكلمة هو 20 ميليثانية لو أنه يعرف جميع مكونات أو عناصر الكلمة التي عليه قراءتها، ولكن في حال عدم معرفة الحروف يصبح الوقت المتوسط حوالي ال300 ملليثانية، لأن القسم الأيسر من الدماغ سوف يضطر في كل مرة الى التفتيش على ما يوجد في الذاكرة مما يشابه الحرف المراد قراءته. النتيجة هي أن الطفل لا يتوصل الى القراءة الصحيحة. وفي حال توصل الى القراءة يكون قد خسر خمسة عشر ضعف من حياته هي الفرق بين ال20 و ال300 مليثانية، وهذا من غير ذنب اقترفه.
• ان حجم الحرف ليس له تأثير على عملية تعلم القراءة فهو لا يساعد ولا يعسق عمل النقرة.
2 – لقد تبين أن القسم المسؤول عن الرؤية في العين هو Fovéa (النقرة)، وهذه المنطقة الصغيرة جدا الموجودة في وسط الشبكية، لا يمكنها رؤية سوى من سبعة الى تسعة حروف في المرة الواحدة. نضيف الى ما تقدم أن الرؤية لا تتم مرة واحدة، انما العين ترى في كل مرة ما بين سبعة الى تسعة حروف. وقراءتنا المتتالية هي مظهر غشاش يبين وكأننا نقرأ مرة واحدة. أما علاقة ما تقدم بطريقة التعليم هو أنه في حال لم يكن الطفل (أو الشاب) يعرف مكونات الكلمة سوف يضطر الى عدد غير معروف من (النظرات) أو (Saccades ) من العين حتى تتمكن من الوصول الى القراءة بواسطة العمليات التي تحدثنا عنها في الفقرات السابقة. ان هذا التفصيل (مع الكثير من الاختصار) حتى نعلم جميعا مدى الظلم الذي نقترفه بحق أطفالنا عندما نعلمهم القراءة بطريقة لا تتناسب مع آلية عمل الدماغ.
ملاحظة: لقد تبين للعلماء وجود هذه الظاهرة: أن العين عند القراءة تحاول أن تسابق الوقت وذلك باتجاه القراءة اذا كانت من اليمين الى اليسار أو بالعكس، فسبحان الله.
3 – لقد تبين أن مجمل المحسنات التي نقوم بها غير مستندين على أي كشوفات علمية لتحسين القراءة عند الأطفال ليست صحيحة بالمطلق.
* الكتابة بواسطة الألوان: بينت الدراسات أن هذا السلوك يؤدي الى لفت نظر الطفل عن القراءة الى التفرج على الألوان. فالألوان تلعب دورا بالاعاقة وليس بالترغيب.
* الصور: كما تبين أيضا أن وجود الصور يجعل الولد يتطلع الى الصور بدل النظر الى الكلمات، فيقرأ الولد ما له علاقة بالصور وليس الكلمات المكتوبة.
* النتيجة أن كتب تعليم القراءة للمبتدئين يجب أن تكون بالحرف الأسود على مساحة بيضاء لأنها تريح النظر، ومن غير وجود لأية تصاوير.
4 – يجب تعليم الحرف كما يلفظ وليس اسم الحرف كما كان يفعل أصحاب الطريقة الهجائية. فعندما نعلّم الطفل حرف "ب" مثلا على أنها "باء"، فكأنما نجري مساواة بين طرفين غير متساويين:
ب = باء
أي حرف واحد يساوي ثلاثة حروف وهذا غير صحيح قطعا. أضف الى ذلك أنه في حال أراد الطفل أن يلفظ الحرف كما تعلمّه، فماذا عليه أن يفعل؟ يقرأ "بدر" على سبيل المثال : باء، دال" راء؟ لأنه تعلم كذلك؟
أما ما يفعله أصحاب الطرق ذات الانطلاقة المجملة أو الكلية فهم يعلمون الطفل الحرف وكأنه ساكن، كأن نلفظ الحرف "ب" وكأنه "بﹾ". وبذلك نقع في الاشكال الذي يجعل من"ب" = "بﹾ" وهذا خطأ.
من هنا علينا تعليم الطفل كل حرف كما يلفظ تماما. أي أن التعليم يكون مباشرة للصوتم (Phonème ) مع الرواسم التي تمثله. ففي اللغة العربية لكل صوتم عدة رواسم (Graphème )، مثال ذلك:
بَ = ﺒَ = -ﺒَ = -بَ = ba بالفرنسية
وكذلك بالنسبة للضم والكسر والسكون.
عـﹸ = ـعـﹸ = ـعﹸ = عﹸ
هـﹺ = ـهـﹺ = ـهﹺ = هﹺ
ﺘﹾ = ﺕﹾ = ﺔﹾ = ﺓﹾ
كما وعلينا اضافة المد. هناك ثلاثة مدود: مثال ذلك (فا ، فو ، في). نجد بأن أكثر الكتب المستخدمة تتعامل مع مد الفتح بصورة خاطئة. مثال ذلك نكتب : "با" مع وضع الفتحة على "ب" ونحن نعلم أن لفظ الباء مع المد يحول لفظ بﹶ من ba بالفرنسية الى ما يشبه لفظ الباء في الكلمة الانكليزية bad أي أن الفتح يصبح مائلا. وهذا خطأ. ان افتراضنا بأن الطفل لا يأخذ هذه الأمور بعين الاعتبار يجعلنا نتجاوز عن هذه الأخطاء. ولكن من قال بأن من حقنا أن نعلم الطفل بطريقة خاطئة افتراضا منا بأن الطفل لا يتأثر بهذا التعليم الخاطىء!
* كما وأن أكثر المدرسين يعلمون الحرف بلفظ خاطىء أيضا مثال ذلك : نعلم الطفل حرف التاء اما بلفظه "تاء" وقد بينا أن هذا خطأ، ومنهم من يعلمه التاء بغير حركة على أنها "ته" وهي ليست كذلك. والنتيجة أنه لا يمكننا، وليس من حقنا أن نعلم الحرف الا كما يستخدمه الطفل أو بالكيفية التي عليه استخدام الحرف فيها.
* تؤكد الطريقة الكلية أو المجملة على أن الطفل عليه أن يعرف من النص "الكلمة المفتاح"، وليس جميع معاني الكلمات. فما يهم المعلم أن يتوصل الطفل الى معرفة صور الكلمات ولفظها ان أمكنه ذلك. وقد تبين أن العامل الأهم بغربة شعبنا عن القراءة (المطالعة) هو تعلمه بالطريقة المجملة التي تمنع الطفل من امكانية الانفتاح على المعنى، معنى الكلمات التي يقرأها، وهذا ما يجعل الطفل لا يتمتع بالقراءة (المطالعة) لأنه لا يفهم ما يقرأ. ولا يصبح الانسان قارئا الا اذا بدأ بالقراءة منذ الصغر وتمتع بقراءته. فعملية رعاية اللغة، لغة الأم، وتطويرها منذ الأيام الأولى لحياة الطفل تعتبر العامل الأكثر أهمية من بين العوامل التي تساهم في بناء وتطوير مهارات التعلم والكفاءات الحياتية الاجتماعية والانفعالية والأكاديمية على حد سواء.
* اكتساب مبادئ القراءة والكتابة ليستا بالمهام السهلة على الأطفال. أثبتت الأبحاث في السنوات الأخيرة بأن اكتساب القراءة والكتابة لا يحدث كرد فعل تلقائي لانكشاف الطفل لبيئة مليئة بالمواد المكتوبة حتى ولو أثارت هذه البيئة حب أستطلاعه أو حفزته على المعرفة وأثارت تساؤلاته. تعلم القراءة واكتساب مبادئها يحتاجان الى وساطة الأولياء أو المربين لمساعدة الطفل على فهم مبادئ النظام الأبجدي بأساليب متعددة وبوسائل متنوعة.
الطفل الذي يتربى في محيط "متمدرس" (Scolarisé ) أو متعلم، بمعنى وجود كتب في البيت يكون مؤهلا لتعلم القراءة أكثر من الأطفال الموجودين في محيط مختلف. ولكن ما تقدم لا يعني أنه يمكننا تجاوز تعليم الطفل أدوات القراءة (رواسم – صواتم). روسم = Graphème - صوتم = Phonème حسب "المنهل" لصاحبه "سهيل ادريس".
ملاحظة: لقد تنبهت دولة الامارات العربية المتحدة الى ضعف القراءة عند الأجيال فوضعت برنامجا لتنشيط القراءة عند الأطفال، اعتقادا من المسؤولين بأن تأمين قصص جميلة للأطفال هو عامل كاف لحفز هؤلاء على القراءة، متجاهلين بأن العامل الأهم للرغبة في القراءة هو قدرة الطفل على فهم ما يقرأ بعد أن يتمكن من القراءة، أي فك رموز القراءة. وحيث ان الطريقة المستخدمة لتعليم القراءة في دولة الامارات هي الطريقة ذات الانطلاقة المجملة، فيمكنني أن أؤكد من الآن أن هذا الجهد سوف يذهب هباء. رب قائل أن هناك الكثير من الأطفال يتعلمون القراءة بالطريقة المستخدمة. أقول أن كلمة "الكثير" تحمل الكثير من المبالغة، لأن مراقبة نسبة التسرب تعطينا فكرة جيدة عن المخاطر التي تحملها طريقة التعليم، وكمية هذا "الكثير".

كيف نختار كتاب تعليم القراءة؟

الاثنين، 9 مارس 2009

المفاوضات الفلسطينية

أين فلسطين في المفاوضات الفلسطينية – الفلسطينية

لقد بات من شبه المؤكد أن المفاوضات ما بين المنظمات الفلسطينية تتجه في المسار الخاطىء، المسار الذي يؤدي الى خسارة جميع المكاسب التي كان من الممكن أن يحظى بها الشعب الفلسطيني من خلال الصمود البطولي أمام آلة الدمار الصهيوني في غزة، والذي أجبر المعتدين على الانكفاء.
1 – اذا تمكن الفرقاء الفلسطينيون من الاتفاق على حكومة وحدة وطنية حتى بالمواصفات التي تريدها حماس، فان هذه الحكومة لن تكون مؤهلة الا الى التراجع أمام الضغوطات الاسرائيلية والعربية المشابهة للضغوطات الصهيونية. فتأمين المتطلبات الحياتية للفلسطينيين في الضفة والقطاع لا يمكن الا من خلال العدو الصهيوني، وهذا الأخير سوف يستخدم هذه الحاجات للضغط على أية سلطة لتأمين مصالحه السياسية. وحيث أنه لا معنى لوجود سلطة وطنية ان لم يكن بامكانها تامين المصالح الحيوية لشعبها، فلماذا التقاتل والاختلاف والتنافس بين الفلسطينيين على حكومة لن يكون مآلها الا مثل حكومة سلام فياض، حكومة تنتظر ما يفرض عليها من تنازلات. ان من يعتقد بأنه يقود سلطة لها حرية التصرف وأخذ القرار يكون واهما. من هنا لا معنى لحكومة في الضفة والقطاع الا لحكومة تؤكد للمجتمع الدولي أنها حكومة تسيير أعمال لمصالح الشعب الفلسطيني الحياتية والذي لا يزال يرزح تحت الاحتلال، أما كل ما يتعلق بالشؤون السياسية فيجب أن تكون سلطة القرار فيه خارج الضفة والقطاع.
2 – ان اصلاح منظمة التحرير الفلسطينية يستدعي بالضرورة الاشراف على الشؤون السياسية للشعب الفلسطيني في الوطن وفي الشتات. وهذه المنظمة يجب أن تكون أولى مهامها الاشراف على مقاومة الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات. وعندما نقول مقاومة، فهذا يعني جميع اشكال المقاومة ومنها المقاومة المسلحة طبعا. من هنا أصبح بديهيا أن قيادة هذه المنظمة يجب ان تكون منفصلة عن قيادة ما يسمى السلطة الوطنية في الضفة والقطاع. ان القسم الأكبر من الشعب الفلسطيني لا زال خارج أرضه، وهذا القسم هو الذي يعاني أكثر من ذلك الذي يعيش تحت ذل الاحتلال: فظلم ذوي القربى أشد مضاضة... وحيث ان المهام المنوطة بمنظمة التحرير هي أكبر بكثير من تلك المكلفة بها السلطة الوطنية ومنها الادارة السياسية للسلطة الوطنية، من هنا ضرورة وجودها خارج اطار الضغط الصهيوني عليها.
3 – ان اتجاه الحوار ما بين المنظمات الفلسطينية يدعو الى الأسى. فهي لم تتعلم من تجربة الرئيس عرفات الذي عاش آخر حياته في الأسر.فكيف يقود شعباً من هو بالأسر؟ أما الثنائي عباس – فياض فلم يكن بحاجة للأسر لتقديم التنازلات. وعندما نتحدث عن التنازلات فلا نعني بأنها من اختصاص هذا الثنائي، لا بل أن الظروف التي يعيشها القائد في ظل الاحتلال تحتم عليه تقديم التنازلات. والمبرر دائماً جاهز وتحت الطلب: وهو امتناع الاحتلال عن تقديم المتطلبات الحياتية الا مقابل التنازلات السياسية. فما معنى المفاوضات التي تجريها المنظمات الفلسطينية لاعادة انتاج حكومة أهم مهامها التنازل للاحتلال الاسرائيلي مهما كانت وطنية، اذا أرادت أن تكون حكومة "سياسية".
4 – لقد قدم السيد سلام فياض استقالة حكومته لرئيسه محمود عباس قائلاً: ان "هذه الخطوة تأتي دعما لجهود تشكيل حكومة توافق وطني، وانسجاما مع دعوته المستمرة لتشكيل حكومة توافق تعيد الوحدة للوطن". واعتبر ان "الاولوية هي لعمل لجان الحوار المقرر ان تنهي اعمالها كحد أقصى في نهاية آذار"، مشدداً على ان "الجولة الأولى للحوار في 25 شباط الماضي، ينبغي ان تتمثل في سرعة الاتفاق على تشكيل حكومة توافق وطني، باعتبارها الاداة العملية القادرة على تجسيد اعادة وحدة الوطن بصورة فورية، وبما يمكن من توحيد مؤسسات السلطة الوطنية، وحماية النظام الديموقراطي الفلسطيني من خلال التحضير لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية متزامنة في بداية السنة المقبلة حداً أقصى". ان من يقرأ هذا الكلام عليه أن يتنبه جيداً الى تعابير مثل "اعادة الوحدة للوطن" أي رئيس حكومة السلطة الوطنية يعتبر أن الوطن هو الضفة وغزة. وليس هذا فحسب بل انه يضيف "حماية النظام الديموقراطي الفلسطيني"، وكأن هناك نظام فلسطيني، أللهم الا اذا اعتبرنا أجهزة القمع التي تبنيها حكومة عباس بمعونة الادارة الأميركية والاسرائيلية والأردنية، هي النظام الديموقراطي الفلسطيني.
5 – أما ما يدعو الى الأسى أكثر، فهو رد فعل حماس على الخطوة التي أقدم عليها سلام فياض. فقد صرح الناطق باسمها فوزي برهوم بأن "حماس ليست اسفة على استقالة فياض وحكومته اذ انها حكومة غير شرعية اصلا وغير قانونية وبنيت على باطل". واضاف: "يبدو ان هناك خلافات مالية وامنية وشخصية بين سلام فياض ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وان هذه الخلافات طفت على السطح منذ تأسيس هذه الحكومة".
اما حكومة رئيس الوزراء المقال اسماعيل هنية فرأت ان "الحكومة المتنفذة في الضفة الغربية هي حكومة غير شرعية، وتمارس عملها بشكل مخالف للقانون، ومعاكس لارادة الجمهور الفلسطيني الذي صوت بغالبيته لبرنامج التغيير والاصلاح الذي تمارسه الحكومة الشرعية برئاسة هنية". ودعت الى "تمكينها من ممارسة دورها كاملا بالضفة الغربية الى حين انتهاء اعمال الحوار الوطني في القاهرة".
ان من يقرأ هذا الكلام يعتقد أن المتحدثين به لا يعيشون في منطقة لا زالت تحت الاحتلال. كما وأن الاحتلال هو من النوع الاستيطاني، أي على النمط الأمريكي الذي يطرد السكان الأصليين حتى يستوطن مكانهم. فهم يتناقشون على راحتهم، غير متهيبين من الأوضاع الفعلية التي يعيشها الشعب الفلسطيني الذي يمثلونه نظريا. لا أريد أن أضيف أنه في الوقت الذي يدور هذا النقاش ما بين المنظمات الفلسطينية، تقوم اسرائيل بهدم بعض المنازل الفلسطينية في القدس الشريف لاقامة حي استيطاني يهودي يكمل تهويد القدس بطرد عشرات العائلات المقدسية.
6 – اليكم ما يقوله تقرير الاتحاد الأوروبي عن تهويد القدس:
"وأكد التقرير السرى الذي حصلت عليه صحيفة الجارديان البريطانية نشرته السبت (أي البارحة) ان الحكومة الإسرائيلية تستخدم التوسع الاستيطاني وهدم المنازل وسياسات التمييز فيما يتعلق بالإسكان والجدار العازل في الضفة الغربية كوسيلة لمواصلة الضم غير المشروع على نحو نشط للقدس الشرقية.

وأوضح التقرير ان الحقائق الإسرائيلية على الأرض، بما في ذلك إقامة مستوطنات جديدة والجدار العازل وسياسات التمييز في قطاع الإسكان وهدم المنازل ونظام التصاريح المقيد لبناء المساكن واستمرار إغلاق المؤسسات الفلسطينية، تهدف الى زيادة الوجود الإسرائيلي اليهودي في القدس الشرقية وإضعاف المجتمع الفلسطيني في المدينة وعرقلة التطور الحضري الفلسطيني وعزل القدس الشرقية عن بقية الضفة الغربية.

وأضاف التقرير ان إسرائيل قد أسرعت بوتيرة خططها الخاصة بالقدس الشرقية وأنها تقوض مصداقية السلطة الفلسطينية وتضعف المساندة لمحادثات السلام.

وأكد تقرير الاتحاد الأوروبي ان عمليات هدم المنازل ليست قانونية بموجب القانون الدولي ولا تخدم أي غرض واضح ولها تاثيرا ت إنسانية خطيرة وتؤجج الشعور بالمرارة والتطرف.

وقال التقرير ان الاتحاد الأوروبي أعرب عن قلقه في لقاء دبلوماسي رسمي في الأول من شهر كانون اول /ديسمبر الماضي.

وبين الاتحاد الاوروبي انه يتم إقامة مستوطنات في شرق القدس بخطى سريعة، مشيرا الى انه منذ بدء محادثات السلام في انابوليس في أواخر عام 2007 تم عرض قرابة 5500 وحدة إسكان جديدة في المستوطنات للمراجعة العامة وتمت الموافقة على ثلاثة الاف منها. ويوجد الان نحو 470 الف مستوطن في الاراضي المحتلة بما في ذلك 190 الف في القدس الشرقية.
وكشف القرير ان الهدف من وراء ذلك هو خلق التواصل الأرضي بين المستوطنات الواقعة في القدس الشرقية والمدينة القديمة ولعزل القدس الشرقية وكتلتها الاستيطانية عن الضفة الغربية.

ومن جانب آخر قالت مصادر فلسطينية السبت إن السلطات الإسرائيلية سلمت خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية إخطارات لـ 21 عائلة فلسطينية في مدينة القدس لهدم منازلها بدعوى عدم الترخيص.

وذكرت المصادر أن السلطات الإسرائيلية سلمت عائلتين فلسطينيتين من سكان حي الشيخ جراح شمال البلدة القديمة من القدس أمرين بالإخلاء من منزليهما لصالح جمعية اليهود الشرقيين التي تنشط في الاستيلاء على عقارات المقدسيين.

وتتيح أوامر الإخلاء للعائلتين القيام بتنفيذ الأمرين بعد الخامس عشر من الشهر الجاري وعلى نحو فوري.

وفي نفس السياق سلمت الشرطة الإسرائيلية أوامر هدم جديدة لـ 19 عائلة فلسطينية جديدة في حي الطور في القدس وأمهلتها مدة 40 يوما لتنفيذ أوامر الهدم، في وقت قررت فيه مصادرة نحو 15 دونما من أراضي الحي.


وكانت بلدية القدس سلمت الجمعة 36 عائلة فلسطينية في حي العباسية إخطارات هدم لمنازلها ويقيم في هذه المنازل أكثر 230 فلسطينيا، حيث أمهلتهم البلدية مدة عشرة أيام لإخلائها".
أما ممثلو عباس وعباس نفسه يريدون من حماس صكا بالاعتراف باسرائيل حتى تتمكن من المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية، والا فهي سوف تستفز اسرائيل التي سوف تعاود اغلاق المعابر. فاسرائيل تحترم المواثيق، فما تقوم به في القدس هل هو باستفزاز من الثنائي عباس – فياض؟
يقول نبيل عمرو سفير فلسطين في مصر (كم نتمنى أن تصبح فلسطين واقعا): : "جميع أصدقاء حماس السوريين والقطريين يقولون لا داعي لحكومة جديدة إذا كانت الحكومة ستطيل الحصار أو تأتي بحصار جديد، ولذا فقد أصبحت الأمور واضحة، فليس مطلوبا من حماس أن تلبي شروط الرباعية وإنما الـمطلوب من الوزراء المسميين أن يعلنوا أمام الرئيس أنهم ملتزمون التزاما كاملا بالتزامات منظمة التحرير وأنهم سيعملون ما يكلفهم إياه الرئيس، وهم لا يستطيعون أن يقوموا بعمل في وزاراتهم دون أن يكون لذلك علاقة تنسيق مع الإسرائيليين".
هذا ما قاله السيد نبيل عمرو ولكنه لم يقل لنا ما هي مكاسب الشعب الفلسطيني من مشاركة حماس في السلطة التي تلتزم هذه السياسات.
7 – اذا كانت المنظمات الفلسطينية جادة في نقاشها وتصبو الى تصحيح المسار فما عليها الا أن تستأنس بما يقترحه السيد كلوفيس مقصود الذي يتمتع بخبرة طويلة:
1 - اعادة شمولية منظمة التحرير الفلسطينية في اطار غير مطعون بشرعيته لكل مكونات الشعب الفلسطيني وشرائحه.
2 - ان تكون منظمة التحرير بعد اعادة تنظيمها مرجعية المقاومة للاحتلال، وتكون السلطة الفلسطينية هيئة ادارية تتعامل مع الاحتلال، ولكن خاضعة لقيادة مقاومة مرجعيتها منظمة التحرير الفلسطينية.
3 - يستتبع هذا ان تحدد المقاومة خياراتها لتؤمن حقوقها الوطنية، وهذه الخيارات تكمن في استنفاد البدائل المتوافرة من عصيان مدني، تظاهرات واحتجاجات شعبية، تعبئة اعلامية لانتزاع تأييد شامل يوفر عنصراً ضاغطاً على المحتل ومسانداً لأهداف المقاومة المعترف بها شرعياً ودولياً.
هذه الوسائل يجب ان تكون خيارات المقاومة حتى اذا لم تؤد الى نتيجة ملموسة تلجأ الى الكفاح المسلح كخيار اخير يحتضنه الرأي العام الدولي تعبيراً عن حق المقاومة في مواجهة الاحتلال بموجب ميثاق الامم المتحدة، وكما حصل في نضالات التحرر الوطني في افريقيا وآسيا.
ثم يتحدث عن المفاوضات التي أجرتها المنظمة فيقول:
كذلك الأمر في ما يتعلق بمصطلح "المفاوضات" الذي استعمل منذ اتفاقات اوسلو واخيراً في انابوليس. فالمفاوضات تشير بدورها الى توقعات مستحيلة الانجاز، فما كان يتم منذ اتفاقات اوسلو هو محادثات غير مرتبطة بالمعادلة القانونية التي كان يجب تأكيدها وهي "احتلال تقابله مقاومة". لذلك لم تأت تلك المحادثات المسماة خطأ بالمفاوضات إلا بتعطيل احتمالات قيام دولة وبتعطيل مماثل لقيام مقاومة فلسطينية شاملة ومرجعية وموثوق بها تفاوض عند اللزوم، معتبرة ان التفاوض منهج سليم للمقاومة اذا اتفقت مع المحتل مسبقاً على النتيجة المتوخاة.
ثم ينهي قائلا:
لذلك الوضع أخطر مما يعتقد، ولعل استقالة فياض مناسبة لوضع الحقائق في نصابها، فتكون الاولوية لإعادة منظمة التحرير الفلسطينية إطاراً للشعب الفلسطيني بمختلف مكوناته القابعة تحت الاحتلال واللاجئة في المخيمات والمنتشرة في بقاع العالم. وهذا الإطار الجامع يتحول بالضرورة مرجعية ديموقراطية تحسم قبل اي محادثات ان الطريق لانجاز ما تمليه الشرعية الدولية هو استقامة معادلة مقاومة تواجه احتلالاً، وبدون هذه المعادلة نبقى في حيز اجترار ما هو حاصل من مآس وعبثية، كما في تكرار ما هو بالنسبة الينا بديهيات، ولا مفر من تحقيق شروط احتضان عربي قادر على ردع التمادي الاسرائيلي المستمر، فتعود القضية الفلسطينية مؤهلة لاحتضان الضمير العالمي لها، كما كانت في أوج مراحل الهامها.
8 آذار – مارس 2009 حسن ملاط