بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الأحد، 2 أكتوبر 2011

"الأقليات" بضاعة أوروبية بامتياز

لم يتعامل الغرب الأوروبي مع الشرق العربي على أنه يوجد فيه شعب، إنما توجد فيه أكثرية وأقليات. وحيث يمكنه أن يقسم الأكثرية إلى أقليات، فلا مانع لديه. لذلك تحدث عن الموارنة والأرثوذكس، ومن ثم تحدث عن الكاثوليك والبروتستانت، وتحدث عن السريان والكلدان والأشوريين. وعندما تحدث عن السنة كأكثرية قسمهم إلى أقليات إتنية، أكراد وأتراك وعرب...

وحيث أن الأقليات صناعة غربية سوف نستشهد بمقطع طويل نسبياً من محاضرة ألقاها الفرنسي جاك وُلرس Jacques Weulersse نُشرت سنة 1936 وهي من تعريب الدكتور جوزيف عبد الله (أستاذ في معهد العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية) وهي تلقي الضوء على تشكيل الأقليات في شرقنا العربي. يقول جاك ورلس: "بيد أن المطلوب فهمه، وهنا الأمر الأساسي، هو أنه لا الدين ولا اللغة ولا الاثنين (الدين واللغة معاً) ما يمكنه أن يخلق ما أسميه "المركب الأقلوي" complexe minoritaire. فهذا المركب هو الذي يجعل مجموعة اجتماعية تبني تماسكاً خاصاً بها، ويرسخها لتنتصب بوجه الآخرين".

ثم يضيف: "فمن أين ينبع في الشرق هذا "المركب الأقلوي"؟ إن الدين واللغة، كما قلنا، لا يكفيان لخلقه. بالنسبة للدين، يكفي أن أذكركم بتقاليد التسامح الديني وهي سمة كل الشرق. فالشرق موطن الأديان التي نشأت وتعايشت معاً، وبفعل احتكاكها تعلمت كيف تمارس عيشاً مشتركاً".

ثم يقول: "وإلى جانب تعددية الأديان، هناك أيضاً عملية التوليف syncrétisme (بين العبادات) التي ما تزال حية في سورية. لقد تشابكت الأديان مع بعضها البعض حتى اليوم، في الكثير من المواضع، لدرجة أن نفس الموضع يكون مقصد حج المسيحيين والمسلمين.

لنتذكر أيضاً تسامح الإسلام، خصوصاً في ما يتعلق بأتباع أهل الكتاب: اليهودية والمسيحية. كما أنكم تعرفون أيضاً الدور الذي قدمه اليهود والمسيحيون في الحضارة الإسلامية من بغداد إلى قرطبة".

"وأخيراً، يجب الاستناد إلى قدرة الشرق التسامحية التي سبق وتجلت بكل وضوح في زمن الحروب الصليبية. وإنه لمن المثير في الحقيقة ملاحظة فرق الذهنية بين قدامى الصليبيين والصليبيين الجدد؛ فقدامى الصليبيين المعتادون على بلاد الشرق بحكم معايشة طقوس مختلفة عن طقوسهم لم ينتهوا بعدم شعورهم بالصدمة من الكثير من معتقدات الشرق فحسب، بل تقبلوها. وذلك بعكس الصليبيين الجدد الذين لدى وصولهم شعروا بالتناقض المباشر وطالبوا بملاحقة الكفار"!

"وأخيراً، لنتذكر أن أي دين في الشرق الأدنى، لا المسيحية ولا اليهودية ولا الإسلام، لا يمارس الآن بشكل شائع وسوي التبشير لاجتذاب الآخرين prosélytisme. فمن الغرب أتى "المركب الأقلوي"، هذا إذا شئنا النظر بهذه العين إلى النزعة التبشيرية الساعية إلى اكتساب مواقع على حساب الديانات الأخرى".

"وبالنسبة للغات فالمسألة هي نفسها، لأنه هنا أيضاً لا يكفي عنصر اللغة ليحفر فاصلاً مطلقاً بين مختلف الجماعات الاجتماعية. ونظراً لتعددية اللغات فإن الشرقي بالضرورة متعدد اللسان. وهذا أمر يصعب علينا، نحن الغربيين، تفهمه، وخصوصاً في فرنسا حيث الناس أبناء لغة واحدة؛ بينما من الشائع أن نلاحظ في الشرق، الكلام بلغتين أو ثلاث أو أربع".

"لنضِف إلى ذلك أن تغيرات اللغات كانت متواترة عبر التاريخ؛ ولهذا قبل مسيحيو الشرق بسهولة العربية كلغة شائعة، وكذلك اليهود. وهكذا فالشرق، وعلى الأقل الشرق الأدنى، لم تكن فيه بغير شكل كامن أو افتراضي العناصر الملائمة لتكوين "المركب الأقلوي"؛ ولقد استلزم تحولها إلى عناصر فعلية وتطورها، إن جاز القول، جرثومة ("فيروس" virus). وكانت هذه الجراثيم ("الفيروسات") على نوعين: الجرثومة الاقتصادية والجرثومة القومية".

"تظهر الجرثومة الاقتصادية ما أن تحتل مجموعة، هي أقلية على العموم، موقعاً في الدولة بحيث تزعج الآخرين من خلاله. هذا ما حصل في الشرق مع اليهود ومع الأرمن".

"عندما نقول أقلية غالباً ما نقصد نخبة. وفي الحقيقة، من الطبيعي لمن يشعرون بأنهم في عزلة اللجوء إلى التضامن والمدافعة بالاستناد إلى تفوق مكتسب مرجعه الثقافة. وسرعان ما يتحول هذا التفوق، وهذا التضامن الذي يمارسه الأقلويون، إلى تهديد لجمهور الجماعة".

"ثم جاء، علاوة على نظام الامتيازات الأجنبية الذي كان محدود الأهمية بفعل أن الأجانب وحدهم هم المستفيدون منه، نظام المحميين من جانب قناصل الغرب؛ وبذلك تجمع إلى جانب الغرباء عدد من أبناء البلاد الذين طالبوا بنفس الحقوق. وأصبح هذا الأمر بالغ الخطورة عندما اتخذ نظام الحماية صبغة سياسية: فرنسا ومحميوها من الأقليات الكاثوليكية، روسيا ومحميوها من الأقليات الأرثوذكسية. وكانت النتائج الحتمية لهذه الحماية انتشار مشاعر الغيرة والحقد لدى غالبية السكان بوجه هذه الأقليات. وهكذا تلاحظون في هذا الصراع بين الغالبية والأقلية أن الأقلية هي التي شرعت بشن الهجوم".

"وهكذا نرى أن تأثير الغرب هو الذي أدى تدريجياً بصراع الأقليات إلى أن يتخذ هذا المنحى المأساوي الذي يجعل من الأقليات واحدة من المسائل الأساسية في الشرق الأدنى".

إنطلاقاً من هذه المقدمات سوف نقرأ مقاربة البطرك الراعي من الإنتفاضات العربية ومن سلاح حزب الله، وكذلك الموقف من إسرائيل.

قال البطرك الراعي متحدثاً عن الثورات الديموقراطية القائمة في بعض البلدان العربية: "نحن لا نحترم فقط كرامة الشخص البشري بل نقدسها، وبالتالي لا يمكننا أن نعارض مطالب الشعوب المحقة المطالبة بالديموقراطية وحماية حقوق الأفراد فيها، إلا اننا لا يمكن ان نرضى، تحت هذه الذرائع، أن نشجع على الحروب الاهلية والفتن التي تنتهي ببطش الاكثريات بحقوق الاقليات وثقافتها وتراثها وحقها بالمساواة". وهذه المقاربة بالنسبة لبطش الأكثريات بحقوق الأقليات استوردها غبطة البطرك من العراق، حيث تبطش الأكثرية الشيعية بحقوق المسيحيين. هذا مع العلم أنه لادخل للشيعة بهذه المقاربة. فالحكام في العراق هم صنيعة الإدارة الأمريكية التي قضت على الوجود المسيحي في العراق أو تكاد. فما على غبطته إلا أن يطالب الإدارة الأمريكية باحترام حقوق جميع شرائح الشعب العراقي. فهذا الوضع بالنسبة لمسيحيي العراق تتحمل مسؤوليته الإدارة الأميركية بمفردها، أو مع حلفائها البريطانيين.

وعليه، فإن مقاربة غبطة البطرك بالنسبة للوضع السوري خاطئة أيضاً. يقول غبطته: "وإذا وصل السّنّة إلى الحكم (في سوريا) فسيتحالفون مع سنّة لبنان وسيتأزم الوضع مع الشيعة". هل من منافسة على الحكم ما بين سنة لبنان وشيعته على الحكم في سوريا؟ إن الخطأ في المقاربة لدى البطرك يتأتى من حيث أنه لا يؤمن بوجود مواطن لبناني أو سوري إنما يوجد أقليات وأكثريات كما ينظر الغرب إلى شعبنا في هذه المنطقة. لذلك جاءت مقاربة الفاتيكان متطابقة مع مقاربة البطرك، ليس لأن الفاتيكان أصبح شرقي الهوى إنما لأن البطرك فكر في الشرق على الطريقة الأوروبية. قال وديع الخازن في تصريحٍ له اليوم:

" لأول مرة في تاريخها، تطلق حاضرة الفاتيكان صفارة الخطر، فأكّد وزير خارجيتها المونسنيور دومينيك مومبتي في كلمته إلى مجلس الأمن على هواجس ومخاوف سبقه إليها غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي.
ففي التوقيت، يمثّل هذا الإشعار من أعلى سلطة روحية في العالم بضرورة إتّخاذ التدابير لحماية الأقليات "حيث هم مهدّدون" وتحمّل مسؤولية الحماية التي تتلازم مع قواعد الأمم المتحدة".
اضاف:" في الرسالة، إشارات ذات مغزى إستعجالي، إذ أوجب رئيس الدبلوماسية الفاتيكانية "أن يكون ما سوف يتوقّع إتّخاذه مجلس الأمن حلاًّ لمدة محدودة من الزمن وإجراء طارئًا لسبب ملحّ يرافقه ويليه إلتزام ملموس بالسلام.
وكأني بالكرسي الرسولي قد تراجع عن مقررات السينودس من أجل مسيحيي الشرق وأصبح بحاجة إلى تجنيد الغرب الأوروبي لحماية مسيحيي الشرق، ولكن لا نعلم ممن سوف يحميهم. مسيحيو العراق يجب حمايتهم من الأمريكان. ومسيحيو فلسطين يجب حمايتهم من الصهاينة. ولكن لم يتخذ الفاتيكان صفة الإلحاح بمطالبته أمريكا بحماية مسيحيي العراق، ولم يطالب الكيان الصهيوني بحماية مسيحيي فلسطين. فهذه الإستيقاظة المتأخرة تقول بأن وراء الأكمة ما وراءها؟ من هو بطرس الناسك؟

ثم تابع غبطة البطرك متحدثاً عن سلاح حزب الله: "واشار الى ان سلاح «حزب الله» مرتبط بشؤون عديدة، لافتاً الى ان الحزب يحمل السلاح لان الاسرة الدولية لم تضغط على اسرائيل لتخرج من لبنان. وطلب من المجتمع الدولي المساعدة في تحرير الارض وعودة الفلسطينيين الى بلادهم وحينها نقول لحزب الله سلم سلاحك، فلم يعد هناك من حاجة اليه، لان سلاح حزب الله مرتبط بعدة شؤون". نحن نؤيد هذه المقاربة مع فرق واحد هو أننا لن نطالب حزب الله بتسليم سلاحه حتى يعم العدل على هذه الأرض.
كما أننا نؤيد مقاربة البطرك من الدول الكبرى. فهو يقول: "الدول الكبرى لا يهمها إلا مصالح اسرائيل، وما يحصل من تفتيت للدول العربية هو لصالح اسرائيل". أليس الحديث عن أن الشعب أقليات وأكثريات هو تفتيت أيضاً؟

هذا التأييد لا ينزع عن منطق الأقليات، والذي استخدمه غبطة البطرك، خطورته. وأكثر ما ظهرت هذه الخطورة في لبنان. فمنطق الأقليات هو الذي برر للقوات اللبنانية والكتائب وغيرها من المجموعات المسيحية التحالف مع إسرائيل، وبرضىً من الكنيسة المارونية. كما أن منطق الأقليات هو الذي سمح لأحد أهم حلفاء حزب الله اليوم أن يذهب إلى الكونغرس الأمريكي من أجل القرار 1559. ومنطق الأقليات نفسه هو الذي يجعل هذا الحليف حيث هو اليوم. هذا كلام مزعج ولكنه يعبر عن الحقيقة. نحن نريد تأييد المقاومة لأنها تعبر عن مصالح شعبنا، لا أن نؤيد المقاومة إنطلاقاً من منطق تحالف الأقليات.

والتبعية العمياء هي التي جعلت بعض القوى تسبح بحمد ما قاله غبطة البطرك بالرغم من خطورته على المدى البعيد. لذلك كان البيان الختامي للقمة الروحية خالياً من أي تصحيح لما قاله البطرك. فهم أعلنوا تأييدهم بدل من تصحيح المفاهيم ومن ثم التأييد. وهذا ما جعل المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى ينسف ما جاءت به القمة الروحية.

إن مصلحة لبنان في أن تتحالف جميع القوى لما فيه مصلحة البلد بالحفاظ على سلاح المقاومة حتى نتمكن من تحرير كامل التراب اللبناني واستغلال جميع ثرواتنا. وهذا غير ممكن من دون سلاح المقاومة. كما ولأن حق العودة للشعب الفلسطيني اللاجىء في بلادنا هو بحاجة لسلاح المقاومة أيضاً. إنطلاقاً من هذه المقاربات نحن نؤيد سلاح المقاومة. ليس انطلاقاً من مقاربات تقسم الشعب اللبناني إلى اقليات متناحرة لايستفيد منها إلا العدو الإسرائيلي.

2 تشرين الأول 2011 حسن ملاط