بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الخميس، 27 أكتوبر 2016

عن مبادرة الحريري الرئاسية

               
حسن ملاط
منذ تعثر الإنتخابات الرئاسية والطبقة السياسية في لبنان تعيد مشاكل البلاد والعباد إلى عدم إتمام هذا الإستحقاق. الرئيس الحريري قام بمبادرات عديدة في هذا المجال: من ترشيحه سمير جعجع، إلى اقتراحه أمين الجميل ثم إلى ترشيحه سليمان فرنجية. وجميع هذه المحاولات باءت بالفشل. وكانت المحاولة الأخيرة المنتجة هي ترشيحه للعماد ميشال عون. وهذه المحاولة الأخيرة يبدو أنها ستكون ناجحة.
ما أن بدت إمكانية نجاح هذه المحاولة حتى بدأت الترانيم الجنائزية لما قام به الحريري من القضاء على استقلالية لبنان وعلى إرث والده الرئيس رفيق الحريري، على ألسنة حلفائه ومحازبيه. وهذا ما جعلني أذكر تلك الأقصوصة التي تتحدث عن امرأة عجوز تعيش وحيدة مع هرها. رأت أن تعلمه الكلام حتى تتمكن من التحادث معه، خاصة أنها لا ترتاح إلا لصحبته. فعلت المستحيل من أجل ذلك ولم تتمكن من النجاح في مسعاها، إلى أن اهتدت إلى طريقة، ربما سيكون فيها النجاح النهائي. رأت أن تُطعمه ببغاء يتكلم. وفعلت. ولكنه لم يتحدث!
بينما هي جالسة تنظر إليه بأسى، إذا به يناديها بأعلى صونه: إنتبهي إلى السقف إنه يقع عليك. وبدلاً من أن تأخذ حذرها لتنبيهه لها، نظرت إليه مستعجبة ونزل الحجر على رأسها.
هذا ما فعلته الطبقة السياسية. فبدلاً من تطوير المبادرة إن كان فيها نقص، راحت تنعي على الحريري بيعه للقضية. طالبته بالمبادرات، وعندما حصلت المبادرة، نراها ترفض الإستفادة من هذه المبادرة.
هل صحيح أن المبادرة هي استسلام من الحريري لحزب الله الذي لا يقبل برئيس إلا ميشال عون؟
كل اتفاق بين قوى سياسية مختلفة يأتي نتيجة تنازل من الطرفين كل منهما للآخر. وخلاف ذلك، يكون فيه قضاء مبرم على الطرف المهزوم.
قبل الحريري بعون رئيساً للجمهورية ولم يتعهد بأن تنتخب كتلته جميعها العماد عون، لأنه كان يعرف مسبقاً أنه لا يمكنه إلزامها جميعاً.
بالمقابل، اعترف الحزب بالإتفاق الذي جرى بين الحريري وعون وتعهد بالقبول برئاسة الحريري لمجلس الوزراء.
هذا ما جرى بين الطرفين. أما الأخطر مما جرى هو انعكاسات ما جرى على الساحة اللبنانية في المستقبل الآتي!
لقد أعلن الحزب أنه سيفصل بين الملف الإقليمي وبين الملف المحلي، وعقب هذا الإعلان كان قبوله بالتسوية الداخلية التي جرت بين المستقبل والتيار الوطني الحر.
اللافت كان رد الفعل العنيف للرئيس بري على هذه المبادرة وعلى القبول. واعتبر فيها إعادة إنتاج للتوافق التاريخي بين المارونية السياسية والسنية السياسية، علماً أن هذا الكلام بعيد عن الواقعية بعد السماء عن الأرض. الواقع الحقيقي أن هناك مارونية سياسية وسنية سياسية مهزومتان أمام شيعية سياسية منتصرة. وليس صحيحاً أن مهزومين ينتجان انتصاراً. الحريري وعون يتحالفان مع حزب الله المنتصر حتى يتمكنا من الإستمرار في لعب دور سياسي على الساحة المحلية. أما الوضع بالنسبة للحريري فيختلف نوعياً عن وضع عون.
العالم كله بقيادة أمريكا يقوم بمحاربة الإرهاب السني. والسنة في جميع الإقليم يشعرون بالمظلومية لأن العالم لا يعاملهم بعدالة. وهذا الشعور بالمظلومية يكون أرضاً خصبة لتوليد الحركات الإرهابية. هذا لا يعني ميكانيكية توليد الحركات الإرهابية مطلقاً. ولبنان هو ساحة سنية كغيرها من الساحات. وما يميز السنة في لبنان انتشارهم على كامل الأراضي اللبنانية. الحريري هو السياسي السني الوحيد الذي يملك تأثيراً على امتداد الساحة اللبنانية.
إن إصرار حزب الله على الإستمرار في المشاركة في الحرب السورية يتطلب استقرار الساحة الداخلية. هذا العامل هو الذي يفرض على الحزب الإتفاق مع الحريري لإعادة إنتاج السلطة في لبنان. فالحاجات متبادلة بين الطرفين، وكذلك المصالح.
أما ردة فعل الرئيس بري العنيفة فهي ناتجة عن ما تفرضه ضرورة فصل الملف الإقليمي عن الملف الداخلي من إنخراط الحزب في الإدارة اللبنانية، والذي يؤدي مباشرة إلى خسران بري نصف الوظائف لمؤيديه. فحركة أمل ترتبط بشخص الرئيس. أما الحزب فلا يرتبط بشخص السيد نصرالله. من هنا فتحالف الحريري مع مؤسسة سيكون منتجاً حتماً بعكس التحالف مع شخصية سياسية مهما كانت قوتها.
الخلاصة
إن ردود الفعل التي قام بها بعض المؤيدين للحريري تدل على أنهم لم يأخذوا مبادرة الحريري بجميع أبعادها، وخاصة المستقبلية منها!
                                    27 تشرين الأول 2016



الجمعة، 14 أكتوبر 2016

ماذا تريد الإدارة الأمريكية

             
حسن ملاط
لا نريد تتبع النصائح التي أسداها الكثير من الكتاب الصحافيين العرب والأجانب للإدارة الأمريكية في معالجتها للأحداث التي تجري في إقليمنا. فهذه المهمة مستحيلة! لقد بين الرئيس أوباما عقيدته في قيادة الولايات المتحدة بشكل مفصل في حديثه مع مجلة أتلانتيك، وبين أن جميع القرارات التي اتخذها في جميع بقاع الأرض كانت تتوافق مع رؤيته. وبالرغم من ذلك، لا يزال الكثير من الكتاب يقولون بأن أوباما غير حاسم في قراراته!
نحن نرى بأن ما تقوم به الإدارة الأمريكية يستجيب بشكل فعلي لسياستها في منطقتنا.
إن الثابتة الأولى في السياسة الأمريكية هي حماية الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين. وحماية هذا الكيان يتطلب مساعدته مادياً، وعليه فقد رفعت المساعدة السنوية من ثلاثة مليارات دولاراً بمقدار 800مليون دولاراً سنوياً. وهي ساهمت بحض الدول العربية، وخاصة الخليجية منها، على تطبيع علاقاتها مع هذا الكيان. أما الأهم الذي فعلته الولايات المتحدة فهو إخواء الدول العربية من تماسكها الداخلي، بحيث تصبح هذه الدول فاقدة لأية فعالية.
ليس هذا فحسب، بل إنها تريد منع قيام أي تكتل لا تتطابق سياسته مع سياستها. والمؤشرات على هذه السياسة بدت واضحة في تصريحها الأخير عن الوجود العسكري التركي في الأراضي العراقية: "قال مسؤول في الخارجية الأميركية لـ «الحياة»، إن القوات التركية الموجودة قرب الموصل «ليست جزءاً من التحالف الدولي». ودعا «كل جيران العراق إلى احترام سيادته ووحدة أراضيه»، كما دعا بغداد وأنقرة إلى الحوار «للوصول إلى حل سريع لهذه المسألة والتركيز على عدوهما المشترك داعش، فعلى جميع الأطراف التنسيق بشكل وثيق لتوحيد الجهود في المعركة". وشددت وزارة الخارجية الأميركية في بيان، على أن «على كل القوات الدولية التنسيق مع الحكومة، برعاية التحالف». وقال الناطق باسم وزارة الدفاع (البنتاغون) جيف ديفيس، إن «العراق دولة ذات سيادة، وأي قوات على الأرض يجب أن تأخذ موافقة حكومته".
ما هي دلالات هذا البيان؟
علينا التذكير أولاً بأن تركيا هي عضو أساسي في حلف الناتو. كما وأنها حليفة موثوقة للولايات المتحدة، وأن دخول قواتها إلى سورية حظي بتغطية أمريكية، علماً أنه كان مستحيلاً من دون التنسيق مع القيادة الروسية. كما ولا بد من التذكير أيضاً أن حرب تركيا مع داعش أدت إلى اعتبارها من قبل الإدارة الأمريكية أنها من ضمن التحالف، بالرغم من تناقض موقفيهما من قوات الحماية الكردية التي تعتبرها تركيا إرهابية مثل البي كا كا، في حين تعتبرها أمريكا حليفة وتسلحها وترعاها أيضاً.
من المعروف أنه منذ أكثر من سنة كانت القوات التركية في بعشيقة وتقوم بعملية تدريب للقوات الكردية من البيشمركة وبتدريب بعض الأطراف العراقية "السنية". عندما أرادت تركيا زيادة عدد هذه القوات، عندما طُرحت مسألة تحرير الموصل بصورة جدية، اعترض العبادي على هذا الموضوع وطلب انسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية. لم تُعلن يومها الإدارة الأمريكية أن القوات التركية ليست من ضمن التحالف الدولي الذي يحارب داعش. ولكن العكس هو الصحيح، فعندما كانت تُعلن القوات الموالية لإيران أن تركيا حليفة لداعش، كانت الإدارة الأمريكية تنفي ذلك. ما الذي استُجد حتى أعلنت أمريكا أن تركيا خارج التحالف وأن عليها أخذ إذن السلطات العراقية في حال تريد الإحتفاظ بقواتها في "بعشيقة" أو المشاركة بعملية تحرير الموصل؟
1- عند فشل المحاولة الإنقلابية في تركيا، تبين أن القوات العسكرية المشاركة في هذه المحاولة تنتمي إلى الألوية الثلاثة التي تتدرب مع الجيش الأمريكي.
2- لم يتصل أي مسؤول من الإدارة الأمريكية بالقيادة التركية مستنكراً هذه المحاولة الإنقلابية.
3- كان الرئيس بوتين هو أول المتصلين بأردوغان مهنئاً إياه بالسلامة لأن الإنقلابيين حاولوا قتله ولم ينجحوا بذلك. وكان الإتصال الثاني من الرئيس الإيراني. هذا مع العلم أن التوتر هو الذي كان يسود العلاقات السياسية بين كل من روسيا وإيران من جهة وتركيا من جهة ثانية بسبب الموقف من سورية.
4- شنت الإدارة الأمريكية وصحفها إلى جانب حلفائها الغربيين حملة مركزة على السلطات التركية بسبب حملة التطهير التي قامت بها الأخيرة ضد الإنقلابيين. كما أن أمريكا رفضت تسليم غولن المتهم الرئيس من قبل تركيا بالمحاولة الإنقلابية، والموجود في الولايات المتحدة الأمريكية.
5- جاهرت تركيا باتهامها للإدارة الأمريكية بالضلوع بالمحاولة الإنقلابية، بشكل أو بآخر، وبادرت فوراً إلى تحسين علاقاتها مع روسيا وإيران بشكل لافت. فقد عادت العلاقات الإقتصادية المقطوعة بين روسيا وتركيا إلى سابق عهدها، وتم التوقيع على البدء بتنفيذ مد أنابيب الغاز في البحر الأسود...إلخ وزار أردوغان بوتين ورد الأخير الزيارة. أما على الصعيد الإيراني فقد زار ظريف، وزير الخارجية الإيراني، تركيا ثلاث مرات خلال شهر واحد...
علينا النظر إلى تصريح الخارجية الأمريكية من ضمن هذه المعطيات جميعها. ليس هذا فحسب، بل علينا أن نُضيف أيضاً، أن الكلام عن تحالف أو تفاهم وتنسيق بين روسيا وتركيا وإيران كان ولا يزال جدياً.
أ‌-    دخلت القوات التركية سورية بعد تفاهم مع روسيا وإيران. فهذان الطرفان اللذان يشاركان بنشاط في الحرب الدائرة في سورية لم يتفوها بكلمة عن التدخل التركي، علماً أنه كان ممنوعاً على الطيران التركي التحليق في الأجواء السورية.
ب‌-                    ما أن أعلنت السلطات العراقية موقفها من الوجود العسكري التركي وصمت الطرف الإيراني، حتى سارعت المملكة العربية السعودية إلى تلقف الموضوع وفتح طريقاً واسعاً للعلاقات البينية الخليجية التركية. وهذه هي التطورات التي حصلت خلال فترة وجيزة جداً:
1-   اعتبر مجلس التعاون الخليجي، منظمة "فتح الله غولن"، الضالعة في محاولة الانقلاب الفاشلة بتركيا منتصف يوليو/تموز الماضي، "منظمة إرهابية".
3-   استقبل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وزيري الخارجية والاقتصاد التركيين مولود جاويش أوغلو، ونهاد زيبكجي، على هامش زيارة يقومان بها للرياض.
وقالت وكالة الأنباء السعودية (واس) إن اللقاء جرى في مكتب العاهل السعودي بقصر اليمامة في العاصمة الرياض، و"استعرض العلاقات الثنائية، وآفاق التعاون بين البلدين الشقيقين في مختلف المجالات".
هذا على صعيد العلاقات التركية الخليجية. أما على صعيد العلاقات التركية مع الكيان الصهيوني، فقد قال وزير طاقة الكيان الصهيوني "يوفال ستينيتز"، إن الأخيرة تفكر في نقل الغاز الطبيعي إلى القارة الأوروبية عبر تركيا.
كما وأن الكيان الصهيوني، مساهمة منه بتخفيف الحرج عن إردوغان، فقد بحث وزبر الطاقة والموارد الطبيعية التركي، براءات ألبيرق، مع نظيره الإسرائيلي، يوفال ستينيتز، سبل توفير الكهرباء للفلسطينيين، بما في ذلك محطتي الطاقة الكهربائية في جنين وغزة.
كيف يمكن الربط بين جميع هذه المعطيات؟
بعد مرور أشهر على المحاولة الإنقلابية، لا تزال أنقرة تُصعد ضد الولايات المتحدة لعدم تسليمها غولن من أجل محاكمته. فقد قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين إن المسؤولين الأمريكيين لم يدركوا على ما يبدو جدية طلب تركيا تسليم رجل الدين فتح الله كولن الذي تنحي أنقرة باللائمة عليه في تدبير انقلاب فاشل في يوليو تموز. وهذا يعني أن الخط التي تمشي فيه تركيا بتوثيق علاقاتها مع روسيا وإيران لا زال مستمراً. فما كان من الإدارة الأمريكية إلا أن زرعت إسفيناً في هذه العلاقات بتأييدها إيران على تركيا في المسألة العراقية، باعتبارها التدخل التركي غير قانوني. وسكوت إيران على التصريح الأمريكي يعني القبول بمضمونه. وبما أن الموصل الذي تملك حدوداً مشتركة مع تركيا، والتي تضم الجالية الأكبر من أصول تركية كما وأن أكثريتها "سنية" وليست "شيعية"، يجعل تراجع تركيا عن التدخل مسنحيلاً. وإذا كانت إيران بصراعها مع السعودية تحت العنوان المذهبي يجعل تأييدها لتركيا شبه مستحيل، تكون أمريكا قد تمكنت من منع تطور العلاقات السياسية بين إيران وتركيا. علماً أن إيران بإمكانها السكوت عن التدخل التركي في الموصل كما سكتت تركيا عن التغييرات الديموغرافية التي قامت بها إيران في ديالى العراقية المحاذية لحدودها من تهجير لسنة هذه المحافظة واستبدال سكانها بسكان شيعة من أصول إيرانية وأفغانية وغيرها.
إن انفتاح الدول الخليجية على تركيا، وكذلك الكيان الصهيوني فيه إغواء لتركيا بعدم الإنخراط بمحور إيراني روسي بعيداً عن أمريكا، الحليف التاريخي، لما لهذا الإنفتاح من تحقيق لمصالح إقتصادية واعدة. هذا، بالرغم من تأكيد الرئيس التركي على عدم وجود أطماع تركية في الأراضي العراقية. أكد أردوغان على أن "تركيا ليست لديها مطامع ولا في شبر واحد من أراضي وسيادة غيرها، ولا نملك هدفا غير حماية أراضينا وسلامة المسلمين في المنطقة".... "لا يمكن أن نبقى متفرجين حيال ما يحدث في العراق، ولا يمكن أن نصم آذاننا لدعوات أشقائنا هناك". هذا النداء يدل على مدى حراجة الموقف التركي إزاء الأقلية التركمانية في الموصل وكذلك الأكثرية السنية، بعد ما حصل في صلاح الدين والأنبار على أيدي الميليشيات العراقية التابعة لإيران. ولكن العبادي لم يرد أن يستمع بسبب تأييد الإدارة الأمريكية لمواقفه وسكوت إيران لما في موقفه دعم لمصالحها الآنية وليس الاستراتيجية. بدوره وصف المكتب الإعلامي للعبادي تصريحات أردوغان، "بغير المسؤولة"، معتبرا أن الحديث مع الجانب التركي "لم يعد مجديا".
ما تقدم يبين أن الإدارة الأمريكية بصدد جر المنطقة إلى مزيد من التفتيت وإلى منع قيام أي تكتل يملك إمكانية الدفاع عن مصالحه، برشوة هنا أو بإغواء هناك. وارتباط مصالح جميع الأطراف مع أمريكا بوصفها قائدة العولمة النيوليبيرالية يجعل مقاومتهم لإملاءاتها ضعيفة. إضافة إلى الإستنزاف الذي يصيب جميع الأطراف بسبب انخراطهم في الحروب الدائرة سواء في العراق أو سورية أو اليمن.
                                        14 تشرين الأول 2016






                         


الأحد، 2 أكتوبر 2016

حلب وديرالزور!

                  
حسن ملاط
منذ زمن بعيد كانت "الخرائط" تلعب دوراً أساسياً في حياة الناس والمجتمعات. من القبائل والعشائر والأفخاذ، إلى الأمم والطوائف والمذاهب والطبقات والأحزاب. ومن الجبال والأنهر، إلى الصحاري والبحار والمحيطات...
كنا نتحدث عن الهجرات وكأنها توقفت! ماذا جرى في ليبيا والعراق؟ وماذا يجري في سوريا؟ ألم يحدث مثيله في جورجيا وأوكرانيا؟ انهار الإتحاد السوفياتي، وبقيت العلاقات على قوتها بين روسيا وروسيا البيضاء وبين روسيا وكازاخستان. أليس الخريطة الجغرافية والديموغرافية من فعل ذلك؟
لنعد إلى سورية... ماذا يحصل الآن؟
اتفقت روسيا وأمريكا على وقف القتال في سوريا. وكان الإتفاق سرياً. لم تقبل أمريكا بإذاعة بنوده حسب روسيا. وكشف بنود الإتفاق من أي من الطرفين سوف لن يكون صحيحاً، لأن كل منهما سيذيع الإتفاق بما يتوافق مع مصالحه. يمكن معرفة بنود الإتفاق إذا أذاعوه سوية فقط. على كل حال، أذيعت بنود الإتفاق أم لم تُذع، لن يُغير من الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب السوري شيئاً.
ما هو دور كل من الأطراف الفاعلة بتدمير سورية؟
أمريكا
ما تريده أمريكا هو أن تصبح جميع دول الإقليم من دون أية فعالية، مجتمعاتها مفككة إلى طوائف ومذاهب وإتنيات، يستحيل إعادة اللحمة لها بعد هذه الحروب البينية المدمرة. واستمرار الحرب في ليبيا والعراق واليمن وسوريا، وتجييش مشاعر العداء بين مختلف مكونات المجتمعات هي حتى تطمئن الإدارة الأمريكية إلى استحالة بناء دول تتمكن من تأمين استقلالها عن العولمة النيوليبيرالية واستحالة تحرير الأراضي المحتلة من براثن العدو الصهيوني.
روسيا
ورثت روسيا الإتحاد السوفياتي من دون أن تتمكن من وراثة الدور العالمي الذي كان يقوم به. وحيث أنها تسيطر على ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، تود أن يكون دورها السياسي موازياً لقوتها العسكرية. وبما أنها متخلفة إقتصادياً ويُعتبر اقتصادها ريعياً، لذلك ترى نفسها خاضعة للسوق العالمية التي تتحكم بها أمريكا من حيث تحديد أسعار السلع الرئيسية التي يقوم عليها الإقتصاد الروسي (نفط، غاز ومعادن...). تدخلت في الشيشان وأخضعتها عسكرياً، وكذلك فعلت في جورجيا وأوكرانيا. وهذا ما تفعله الآن في سوريا. أمريكا لا تقبل أن تصنف روسيا إلا كدولة إقليمية مهمة. روسيا تفرض وجودها في سوريا بقوة السلاح. أمريكا لا تقبل إلا بدور محدود لها في هذا البلد. من أجل ذلك نرى أن الإتفاقات التي يتوصل إليها الطرفان، لا تُنفذ. عدم تنفيذ هذه الإتفاقات يترك آثاراً سلبية على الروس، لمشاركتهم الفعلية بالحرب. أما أمريكا، فقد وضعت أجندة لحركتها، بحيث لا تتأثر بالتغيرات القائمة. روسيا اضطرت حالياً لمضاعفة ترسانتها العسكرية. وهذا الأمر ينطبق على حلفائها أيضاً. أمريكا تقاتل بحلفائها. روسيا تقاتل هي وحلفاؤها.
صحيح أن روسيا تكسب الآن بتوريط إيران بحرب لصالحها، لن يستفيد منها الإيراني شيئاً، ولكن هذا لن يعوض الخسائر الروسية التي تبلغ أكثر من ثلاثة ملايين دولاراً يومياً.
تركيا
تركيا، حصتها محفوظة من جميع الأطراف. مهمتها إبعاد "الدولة الإسلامية" عن الحدود التركية وقد فعلت. ومهمتها الخاصة هي الفصل بين مختلف المناطق الكردية في سوريا، لأنها تتهم الأكراد بتبعيتهم لل"بي كا كا"، عدوها الرئيسي. وقد فعلت أيضاً. وهذه المهمة نالت استحسان الإيرانيين والنظام السوري أيضاً، ولكنها مسألة معلقة مع الإدارة الأمريكية.
إيران
وهي الطرف الذي أخذ الكثيرمن أمام شعبه ليقدمه من أجل الحفاظ على النظام السوري. فإيران تعتبر أن بقاء هذا النظام يؤمن لها مصالحها في المنطقة. من أجل ذلك، جندت له ميليشيات أفغانية وباكستانية وعراقية وغيرها، بالإضافة إلى مشاركة حزب الله اللبناني المعلنة. ولكن المؤشرات تعطي انطباعاً أن "التضحيات" الإيرانية تصب في سلة الروس والنظام. كما وأن المعركة الوحيدة التي يمكن أن تخدم التوجه الإيراني هي معركة القصير.
الخريطة السورية تقول أن المنطقة الساحلية، حيث توجد القواعد العسكرية الروسية سوف تكون منطقة نفوذ روسية، خاصة بعد تعزيز الترسانة العسكرية بأسلحة جديدة. وهذه ستمتد حتى حلب. أما دمشق وريفها امتداداً إلى درعا ستكون المنطقة التي سيسيطر عليها النظام الرسمي، كائناً من كان الرئيس، خاصة أن الكيان الصهيوني لن يقبل بتواجد إيراني في جوار الأرض المحتلة ولا يقبل أيضاً بوجود لحزب الله.
 يبقى لإيران أن تحلم بشريط يمتد من شرقي لبنان مروراً بحمص فديرالزور فديالى العراقية إلى أن تصل إلى الأراضي الإيرانية. هذا من حيث الجغرافيا، أما من حيث الديموغرافيا، فهذا يستدعي عملية تهجير محدودة من ديرالزور كما يحصل في حلب وكما حصل في دمشق وكما حصل في ديالى أيضاً. ولكن تنبه أمريكا لهذا المخرج الذي يجعل الجميع منتصراً، دفعها إلى الإغارة على الجيش السوري الموجود في ديرالزور، وكأنها رسالة معلنة لرفضها لهذا المخرج.
السؤال الذي يطرح نفسه، لم تحارب إيران في سورية؟ وهل ستستمر بالسماح للروس والنظام باستغلال "تضحياتها" إن كانت ستخرج من "المولد من دون حمص"؟
النظام
النظام الصوري ستكون حصته دمشق وضواحيها إلى درعا، حيث يعيش بأمان وسلام مع العدو الصهيوني.
أما الداخل السوري فهو أرض استنزاف الأطراف المشاركة في الحرب على الشعب السوري، إلى أن تجد الإدارة الأمريكية ضرورة لإيقاف الحرب بشكل متناغم مع العراق واليمن وليبيا ربما.
خلاصة
إن هذا التصور هو الذي يجعل شعوب هذه المنطقة قبائل تتعامل مع بعضها البعض بهذه العقلية، بحيث يصبح من شبه المستحيل أن تصل إلى تضامن اجتماعي فيما بينها، شرط اللحمة الوطنية المستقبلية. هذا ما يحافظ على استمرارية الكيان الصهيوني جاثماً على أرض فلسطين. كما ويؤمن نهب الخيرات التي لا تزال متبقية في بلادنا لصالح العولمة النيوليبيرالية.

                                           2 تشرين الأول 2016