بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الاثنين، 23 نوفمبر 2015

المشهد الدولي الحالي

                                        المشهد الدولي الحالي
حسن ملاط
الميزة الأولى للمشهد الدولي الحالي هي الإندفاعة الروسية خارج نطاقها الإقليمي. بدأ الرئيس بوتين عند تسلمه الحكم بالوكالة بترميم وضع روسيا المزري الذي أوصلها إليه الرئيس بوريس يلتسين. وكانت البداية من الشيشان المتمردة التي أرادت الإنفصال عن الإتحاد الروسي. شن بوتين الحرب عليها و اعلن في 6 شباط 2000 ان «عملية تحرير غروزني انتهت» في الوقت الذي شددت فيه القوات الروسية قبضتها على العاصمة الشيشانية.
بعد استتباب الأمن في نطاق الإتحاد الروسي، وجه الرئيس الروسي القوي نظره إلى نطاقه الجغرافي حتى يجعله آمناً. جورجيا تطاولت على المصالح الروسية بمحاولتها الدخول إلى الحلف الأطلسي، بعد أن افتعلت العداء مع روسيا. وقام الرئيس الجورجي بشن الحرب على أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الجمهوريتين الجورجيتين المرتبطتين بروسيا واللتان تقعان على حدودها، وذلك في 2008. تدخل الجيش الروسي وحسم الأمر بسرعة كبيرة وأعلنت روسيا اعترافها باستقلال أوسيتيا الجنوبية. وكذلك بالنسبة لأبخازيا.
وفي نطاق تدعيم حكمه، شن الرئيس بوتين الحرب على أوكرانيا التي عزلت الرئيس الموالي لموسكو واتجهت غرباً. فأعلن ضم القرم الذي كان يعتبر جزءاً من أوكرانيا. أما المناطق الشرقية المحاذية لروسيا والناطقة بالروسية فقد أعلنت استقلالها عن أوكرانيا تحت اسم جمهورية دونيتسك والثانية تحت اسم جمهورية لوغانسك. وقد تم ذلك في 2014.
خلفت الحرب الأوكرانية نتائج سيئة على روسيا لأن الغرب أتخذ عقوبات اقتصادية مؤذية بحقها لأنها لم تنسحب من أوكرانيا. وقد ارتفع سعر صرف الروبل الروسي من 34 للدولار إلى 65حالياً، وهربت رؤوس أموال ضخمة من روسيا قدرها الخبراء ما بين 100 و200مليار دولار.
هذه الإجراءات الغربية أتت غداة صرف روسيا حوالي 50مليار دولار على الألعاب الأولمبية الشتوية التي أجرتها في سوتشي، جنوب روسيا، والتي ساهمت أمريكا بتأمين الحماية الأمنية لها بسبب الإعتداء الإرهابي على محطة القطارات الروسية.
هذه الحروب التي خاضها بوتين أدت إلى رفع شعبيته بشكل كبير (85%). فقد أحيت الشعور القومي عند الروس وأشعرتهم بتميزهم في محيطهم الجغرافي. ولكن الأزمة الإقتصادية التي خلفتها هذه الحروب، مضافاً إليها العقوبات الإقتصادية وانخفاض سعر النفط إلى ما دون النصف والغاز أيضاً ضاعفا من حجم المأساة. وقد أعلن رئيس الوزراء الروسي أن روسيا لا يمكنها أن تستمر إذا لم تُصلح إقتصادها في مؤتمر إقتصادي عُقد في سوتشي تزامناً مع بدء الحرب الروسية على سوريا. كما وأعلن أن مصاريف الحرب يتم تأمينها من ميزانية وزارة الدفاع، وأنها تكفي لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر.
هذه العقبات لم تحل دون ارتفاع التأييد لبوتين إلى 90% من الشعب الروسي. ولكنها تزامنت مع ظواهر معبرة، نذكر منها:
·       إعلان الرئيس الروسي أنه يدافع عن روسيا في سوريا لوجود المقاتلين القوقاز في سوريا حالياً وأنهم سيعودون مدربين لخوض المعركة ضد روسيا بعد فراغهم من سوريا.
·       امتناع العديد من الجنود الروس عن الذهاب إلى سوريا، حيث أن القانون يسمح لهم بذلك. هذا ما اضطر الإدارة الروسية إلى تجنيد المرتزقة وبأجور مرتفعة وخاصة في شرق أوكرانيا الناطق بالروسية.
·       اضطرار بوتين إلى تسعير الشعور الديني عند الأغلبية الأورثوذكسية بإعلانه أنه بعد سنوات قليلة سيصبح مقابل كل جنديين روس مسيحيين ثالث مسلم. كما وأنه أعلن أن تعداد الشعب الروسي ينخفض حيث أصبح الآن 143 مليوناً. وأضاف بأن عدد المسيحيين ينخفض، وبالمقابل عدد المسلمين يرتفع. هذا ما دفع الكنيسة الروسية إلى الدخول إلى جوقة التحريض الطائفي من خلال إعلان البطرك الروسي أن حرب روسيا في سوريا هي مقدسة لأنها تدافع عن القيم الأورثوذكسية.
المشاركة في الحرب السورية هو القرار الأخطر الذي أخذه الرئيس بوتين. فسوريا هي خارج النطاق الاستراتيجي التقليدي لروسيا. ولكن، وبما أن الشعار الذي رفعه بوتين للحرب في سوريا هو نفس الشعار الذي تقاتل تحته الإدارة الأمريكية، رأينا هذه الأخيرة تسارع إلى الإعلان أنها تحترم المصالح الاستراتيجية لروسيا في سوريا. هذا الإعلان هو بمثابة تأكيد لموافقتها وتأييدها للتدخل الروسي، حتى وإن لم يكن تحت راية التحالف الدولي التي تقوده الولايات المتحدة. ولكن رغم ذلك أعلنت الولايات المتحدة أنها ستبعث بعدد من جنودها إلى سوريا الذي يمكن تفسيره بمثابة وضع خطوط حمرلا يحق للروسي تجاوزها.
كما أن الروس نسقوا تحركهم السوري مع حلفاء الولايات المتحدة كالأردن والكيان الصهيوني. فقد كان التنسيق مع الأخيرعلى أعلى المستويات اللوجيستيكية. كما وأن إعلان روسيا أنها جاءت إلى سوريا لحماية الأقليات الدينية والإتنية يأتي ضمن الإتجاه الأمريكي الذي يدعم الأكراد رغم ما يشكل هذا الدعم من توتر في علاقتها مع الإدارة التركية.
بقي موضوع المدة التي سيستغرقها هذا التدخل. فالمدة هي الفزاعة التي تحملها الإدارة الأمريكية من أجل الضغط على روسيا في حال تجاوزت الحدود المفترضة. هذا لا يعني أن روسيا سوف تخضع، ولكنه يعني حساسية الموقف الذي تعمل ضمنه القوات الروسية.
كان إعلان فيينا لحل المأساة السورية بموافقة جميع الأطراف المشاركة في هذا اللقاء. ولكن الرئيس السوري أعلن ثوابت تتناقض مع ما توصل إليه المؤتمرون. ومن المؤكد أن الرئيس السوري لا ينطق من دون التشاور مع الروس. فهو قد أعلن أن التقدم الذي أحرزه كان بفضل الطلعات الجوية الروسية. وكان لافتاً عدم ذكره الدعم الإيراني وقوات حزب الله لقواته. حتى أنه لم يشكر دعمهم الغير مسبوق له!
هذا الموقف يمكن أن يعطي اتجاهين متناقضين: الإتجاه الأول هو إيعاز من إيران لخربطة توافق فيينا لأن اتجاه سيره لا يناسب المصالح الإيرانية التي دفعت الكثير من أجلها في سوريا. فالإتفاق على الشكل المطروح في فيينا سيهمش الدور الإيراني. أما الإتجاه الثاني، فهو أن يكون هذا الموقف بإيحاء من روسيا للضغط على الأطراف الأخرى لمحاولة الحصول على أكبر كمية من المكاسب نتيجة تدخلها العسكري في سوريا.
أما الإجتماع الذي عُقد بين السيد الخامنائي والرئيس بوتين فقد جاءت الرواية الرسمية تؤكد على الثوابت السابقة بأن الشعب السوري هو الذي يقرر مستقبله، ولكن ليس بالإتجاه الذي تحدث به الرئيس السوري.
نخلص إلى القول أنه ليس أمام الرئيس الروسي خيار إلا الإنتصار في سوريا. فهذا يجعله في موقف تفاوضي قوي أمام الغرب للوصول إلى إلغاء العقوبات الإقتصادية المفروضة على بلاده والتي جددها الغرب لمدة ستة أشهر إضافية. وهذا يتطلب بالإضافة إلى الإنتصار على الإرهاب المتوافق عليه، إمساك الورقة التفاوضية للسلطة السورية، مضافاً إليها مقدرته على التفاوض مع المعارضة السورية التي سيتم التوافق عليها في السعودية منتصف الشهر المقبل.
أما الخيار الآخر فهو الغوص بوحول الأزمة السورية التي من المرجح أن توصل روسيا إلى أزمة إقتصادية خانقة.
أما الميزة الثانية للوضع الدولي الراهن، فهي وصول الإرهاب إلى قلب أوروبا. لم يكتف الإرهابيون بإسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء (حسب الرواية الأمريكية والروسية والداعشية/الدولة الإسلامية)، والتي خلفت 224 قتيلاً، جميعهم من الروس، بل امتد إرهابهم إلى قلب العاصمة الفرنسية باريس، حيث سقط 130 قتيل حسب الرواية الرسمية والكثير من الجرحى.
الذين قاموا بهذه العملية الإرهابية والإعتداء على المجلة الساقطة شارلي إيبدو كانوا فرنسيي المولد والتربية أو من بلجيكا. ولكن السلطات الفرنسية والبلجيكية قررت القيام بعمليات مداهمة واعتقال على الشبهة مثل أكثر الأنظمة شمولية في العالم. إلى جانب ذلك قرر الرئيس الفرنسي المشاركة الفعالة في الإغارة على الشعب السوري والإرهابيين حسب زعمه، وأرسل حاملة الطائرات شارل ديغول إلى البحر المتوسط حيث باشرت عمليات الإغارة في العراق وسوريا.
هل هذه القرارات صائبة وخاصة بعد تكرار الإحتجاجات التي يقوم بها سكان الأحياء والضواحي المهملة في المدن الأوروبية والفرنسية بشكل خاص؟ لماذا الإصرار على عدم اعتبار الفرنسيين من أصل مغاربي وكأنهم غير فرنسيين حتى وإن كانوا من الجيل الثالث، وأكثرية هؤلاء الساحقة لا يعرفون اللغة العربية ولا يعرفون بلاد جدودهم الأصلية؟
الأزمات التي أوجدتها العولمة النيوليبيرالية، وأهمها فقدان الهوية القومية والوطنية، افتقاد رأس المال لهوية وطنية، التعويض عن الكمية المفترضة للربح بعد الأزمات التي مرت بها دول العالم الأول، كل هذا دفع المسؤولين إلى أن يمدوا أيديهم إلى المكاسب التي كانت الطبقة العاملة قد حققتها عبر السنين وأهمها الضمان الإجتماعي والصحي كما يحصل اليوم في اليونان وفي الولايات المتحدة (عدم إقرار أوباما كير)، ورفع سن التقاعد في فرنسا من 60 إلى 64 سنة...إلخ. أن يضيفوا إلى هذه "الأعباء" عبء تأمين حياة مستقرة في الأحياء الشعبية، يبدو أن هذا مستحيل. فلا بأس من استبدال ذلك بحروب تشغل الآلة العسكرية فتحصل الطبقة الناهبة على أكثر من استثمار في دماء الأوروبيين والسوريين أيضاً.
الحكومة الفرنسية لا تريد أن تجد الحلول للمهمشين، لذلك هي تشغلهم عند الإستخبارات كما كان يفعل المعلم الأكبر نابوليون. ويعيشون على المال الملوث. اليس مما يسترعي الإنتباه أن جميع من قام بالعمليات لديهم ملفات أمنية عند السلطات المختصة؟ من أجل ذلك رأت السلطات المختصة أن تستغل هذه الحوادث للوصول إلى ترتيبات جديدة لكيفية الحياة في بلادها. منها على سبيل المثال:
·       تشديد القبضة الأمنية على الجميع وخاصة ذوي الأصول الغير أوروبية والمسلمون منهم بصورة شبه حصرية.
·       مصادرة كم لا بأس به من الحريات الديموقراطية بحجة حفظ الأمن. ولا ننسى أن مؤتمر المناخ على الأبواب.
·       من الممكن أن تطال هذه الإجراءات فضاء شينغن وهو التطور الأهم بأوربة الدول الأوروبية.
·       وبما أن أوروبا لا يمكنها الإستغناء عن اليد العاملة الأجنبية، فمن الممكن أن تُستغل هذه الحمى الأمنية في إعادة استعباد الطبقة العاملة، وخاصة المهاجرة منها (الكفيل على سبيل المثال).
·       وحتى لا نسير في اتجاه واحد، أليس من الممكن خلق توافق جديد بين أوروبا وروسيا على أن تكون الأخيرة خزان الطاقة والقبضة العسكرية للإتحاد الأوروبي!
وحتى ننهي، نقول بأن المشهد الدولي الحالي يبدو وكأن أمريكا تتفرج على أوروبا المضطربة لأسبابها الخاصة وبسبب الإضطراب على حدودها الجنوبية. أوروبا، بما فيها روسيا لا يمكنها إيجاد حلول لهذه المشاكل لوحدها، حتى مع الضعف الأميركي الحالي. وكأن ضعف المركز يؤدي بشكل أو بآخر إلى ضعف الأطراف!
                                                              23 تشرين الثاني 2015







الخميس، 19 نوفمبر 2015

مستجدات في الوضع اللبناني

                     مستجدات في الوضع اللبناني
حسن ملاط
منذ اندلاع ما اتُفق على تسميته "الربيع العربي"، والذي تسابقت معظم الأطراف على تبنيه، إلى أن اندلعت الإحتجاجات في سوريا. بعض الأطراف استخدمت كوابحها، وبدأت تدافع عن النظام الديموقراطي والممانع والمقاوم في هذا البلد. ونتيجة هذه المواقف المتناقضة انقسمت الساحة الداخلية التي كانت منقسمة بالأصل، إلى مؤيد للنظام ومعارض له. وتعمقت الخلافات وانعكست سلباً على الوضع الداخلي. فكان الإنقسام عمودياً في المجتمع اللبناني بحيث لم يبق طرف مهما صغُر إلا وقد اصطف مع أحد الأطراف. ولكن الرعاية الدولية للسلام اللبناني هي التي منعت الإضطرابات الأمنية التي أخذت طابع البؤر هنا وهناك وهنالك. أما البؤر التي كانت أكثر نشاطاً فهي طرابلس وعرسال.
تطور المفاوضات الأمريكية الإيرانية حول الملف النووي تركت أثراً إيجابياً على الوضع اللبناني، خاصة بعد أن أعلن المرشد الإيراني دخوله في الحرب ضد الإرهاب السني التي أعلنتها الإدارة الأمريكية. فقد أصبحت الخلافات بين المؤيدين للسعودية والمؤيدين لإيران ضئيلة، بما أن هذه الدول أعلنت أنها ملتزمة الحرب ضد التكفيريين.
وبعد التوقيع على الإتفاق المذكور، انتقلت الأوضاع خطوة إلى الأمام، بحيث أصبح كل طرف مهتماً بترتيب أموره الخاصة. فإيران راحت تفكر بكيفية تطوير إقتصادها بعد رفع العقوبات. كما أنها أصبحت مهتمة بالوصول إلى خاتمة للحرب المستمرة في سوريا والتي تتطلب منها مصاريف كثيرة بسبب دعمها للنظام المنهار إقتصادياً، عطفاً على الخسائر البشرية. أضف إلى ذلك ضعف الموارد النفطية بسبب انخفاض الأسعار إلى أقل من النصف.
أما السعودية فقد اتجهت جنوباً لحسم الوضع في اليمن الذي يشكل خطراً كبيراً على حدودها، كما وعلى وحدة أراضيها، بسبب الأقاليم التي سبق واستولت عليها المملكة وضمتها إلى أراضيها. وحتى الآن لم يوافق اليمنيون على التخلي عن هذه الأراضي.
هذه الأوضاع أجبرت الطرفين السعودي والإيراني إلى جعل الحرب بينهما باردة ومحاولة اختزال ما يمكنهما من الساحات. الساحة اللبنانية كان نصيبها أن تكون باردة بالنسبة للتنافس الإيراني السعودي. فالسعودية ليس بإمكانها تأمين المصاريف لهذه الحرب. كما أن إيران يفيدها اختزال المصاريف.
هذا خارجياً، أما داخلياً فالوضع واعد أكثر من المتوقع. ما هي العوامل التي تجعله كذلك؟
طرفا الصراع الأساسيان في الساحة اللبنانية هما حزب الله وتيار المستقبل. الأول يمثل شيعة لبنان ويستتبع معه بعض القوى مثل المسيحيين الشيعة أو السنة الشيعة (لا أقصد متشيعين، ولكن متشيعين سياسياً). أما المستقبل فيمثل سنة لبنان ويستتبع معه قوى أخرى أيضاً مثل المسيحيين السنة والشيعة السنة. لذلك يمكن التحدث عن الإنقسام العمودي. الطرف الأول يتحالف مع إيران. وتحالفه هذا يمكن وصفه بالعضوي. أما المستقبل فيتبع السعودية. وتبني السعودية لهذا التيار يمر باستمرار بعثرات، مما لا يسمح لنا بوصفه بالعضوي.
مشاركة حزب الله بالحرب السورية تركت آثاراً سلبية على الحزب نفسه كما وعلى بيئته الحاضنة. فالخسائر الكبيرة بالأرواح لم تكن مقنعة للأهالي المؤيدين للحزب رغم كل الشحن المذهبي. كما وأن الإنشغال الكبير والغير عادي أدى إلى تباعد نسبي بين الحزب وبيئته. وهذا ما شجع على نوع من الفساد لم يكن سائداً إبان مشاركة الأهالي مع الحزب في نشاطاته.
أما حرب القلمون السورية فكانت آثارها سلبية رغم الإنتصارات التي حققها الحزب في هذه المنطقة. فالإنقسام المذهبي بلغ أشده وخاصة في منطقة البقاع. وأصبح من ضمن برنامج الحزب سواء أراد أم لم يرد التصدي لهذه الأوضاع.
وعندما أصبح هذا الواقع ملموساً، راى الحزب أن يأخذ خطوة ذات طابع نوعي بعلاقته مع المستقبل. وما نراه الآن من ارتياح في الوضع اللبناني هو نتيجة هذا القرار. فتشكيل الحكومة كان بقرار من الحزب وبموافقة المستقبل. وبدء الحوار الثنائي، كان أيضاً بقرار من الحزب وبموافقة المستقبل. عندما أقول بقرار من الحزب، ذلك أنه الطرف الذي بإمكانه أخذ القرار وتنفيذه.
لماذا استجاب المستقبل لهذه القرارات؟ ظهر ذكاء الحزب باتخاذه قرارات يرى الجانب الخصم أن من مصلحته الموافقة عليها. فالمستقبل يمر بأوضاع صعبة للغاية: فرئيسه خارج البلاد بشكل شبه متواصل مما يؤثر سلباً على العمل الحزبي. أما الأمر الحاسم بالنسبة للمستقبل فهو أن الإدارة السعودية الجديدة لم تتخذ قراراً، حتى الآن، باعتماد المستقبل كممثل حصري لها في لبنان. هذا ما جعل الحريري يأخذ قراراته بمفرده، خاصة أنها إيجابية بالنسبة له، مما يمكن أن يجبر السعودي مستقبلاً على اعتماده كممثل حصري له في لبنان.
وهنا، لا بد من الإشارة أن حزب الله كان له الفضل الأكبر في اعتماد الرئيس الحريري كممثل وحيد لسنة لبنان منذ قبوله به بهذه الصفة في محادثات الدوحة. ولا نعفي الجهات السنية المعارضة للمستقبل من هذا الأمر، لأن معارضتها الجدية كانت دفعت الحزب، ربما، لعدم القبول حصرية الحريري في تمثيل السنة.
إن الفصل بين عمل حزب الله في سوريا وعمله في لبنان يبدو واضحاً للمتابعين. من أجل ذلك، نرى أكثر المتشددين في تيار المستقبل ينتقدون وجود الحزب في سوريا بشكل حيي. كما أن الرئيس الحريري لا يترك أي موقف سلبي من جماعته ضد الحزب يمر مرور الكرام، إنما يسارع إلى تصحيحه. وهذا ما حصل عندما أخطأ المشنوق بالتهديد بوقف الحوار الثنائي. فكانت مسارعة الجسر إلى التأكيد أنه سيحضر الحوار وكذلك فعل الرئيس الحريري.
نستنتج أن الوضع اللبناني سيستمر ممسوكاً جيداً من طرفي الصراع اللذين يريان أن المصلحة تقتضي التحضير للمرحلة المقبلة من التسويات على الصعيد الإقليمي بأقل خسائر بالنسبة لهما. والظاهر أن هذا القرار داخلي وليس بإيعاز من أطراف خارجية. لذلك فإمكانيته على الصمود تكون مرجحة!
                                                                19 تشرين الثاني 2015
hassanmallat.blogspot.com


الاثنين، 2 نوفمبر 2015

لماذا ربح العدالة والتنمية؟

                       لماذا ربح العدالة والتنمية؟
حسن ملاط
ربح حزب العدالة والتنمية الإنتخابات التركية، بقيادة أحمد داود أوغلو وإشراف من الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يمنعه القانون التركي أن يكون حزبياً! وهذا الفوز لم يكن متوقعاً حتى من الحزب نفسه. كما وأن استطلاعات الرأي، حتى المنحازة لأردوغان، لم تعط الحزب أكثر من 43% من الأصوات، علماً أنه فاز بأقل قليلاً من 50%.
ما هي العوامل التي أدت إلى هذا الفوز الكبير؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أن نعيد إحياء المشهد التركي العام، وخاصة ذلك الفاصل ما بين انتخابات حزيران 2015 وتشرين الثاني من العام نفسه. فترة تميزت بعدم استقرار كبير أعاد الأتراك إلى الحقبات التي سبقت حكم حزب العدالة والتنمية والتي كانت سمتها الأساسية عدم الأمان السياسي والإقتصادي والنفسي. حكم كان يسيطر عليه العسكر الذي صادر الحريات الخاصة والعامة ومنع الناس من التعبير عن أنفسهم. بعكس الحقبة التي سيطر فيها حزب العدالة والتنمية على السلطة والتي أعادت الإستقرار إلى المجتمع التركي على جميع الصعد، حيث أبعد العسكر عن التدخل في السياسة وتضاعف دخل الفرد عدة مرات واستقر سعر صرف الليرة التركية إزاء العملات الرئيسية. أما الدخل القومي فقد تضاعف حجمه مرات عديدة. ويكفي أن نقول أن تصنيف تركيا كان من أسوأ التصنيفات، فأصبحت من الدول الأوائل.
أما عن الخمسة أشهر التي سبقت انتخابات الإعادة، فقد كانت صورة مكررة لما كانت عليه الأوضاع السياسية ما قبل مرحلة العدالة والتنمية: عدم استقرار أمني، عدم استقرار إقتصادي، حيث تراجعت الليرة التركية مرات عدة أمام الدولار رغم تدخل البنك المركزي. ضياع مركز القرار، سياسياً وأمنياً وإقتصادياً...
وعليه، يمكننا التفصيل:
أولاً: سياسياً
1-    خبر الأتراك جميع أنواع الحكومات العسكرية منها واليسارية واليمينية والإسلامية. منها ما كان يسيطر عليه الحزب الواحد ومنها ما كان ائتلافياً. جميع هذه الحكومات لم تؤمن الإستقرار السياسي للمواطن التركي. فقط في عهد العدالة والتنمية تمكن المواطن التركي أن يعيش عهداً مستقراً سياسياً رغم ما شابه من بعض الممارسات الغير ديموقراطية والتي تميز شخصية رجب طيب أردوغان، والذي كان يحد منها علاقاته الشخصية بالناس وقربه منهم نتيجة تجربته الغنية في العمل الشعبي والمدني عندما كان رئيساً لبلدية اسطنبول.
2-    ممارسة الأحزاب الثلاثة التي دخلت البرلمان إلى جانب العدالة والتنمية، أظهرت بعدها عن الهموم الحقيقية للناخب التركي. استخدمت هذه الأحزاب التكتيكات التقليدية والتي تُظهر أن هذه الأحزاب تفتش عن مصالحها وليس عن مصالح المواطن. دعونا نأخذ مثالاً حزب الشعوب الديموقراطي، وهو الحزب الأحدث وهو الذي يمثل الكتلة الكردية. ما إن دخل البرلمان حتى نسي من يمثل، وراح يفتش عن مصلحته الحزبية وفتح معركة على حزب العدالة والتنمية، علماً أن هذا الحزب هو الحزب الوحيد منذ تأسيس الجمهورية التركية الذي قبل التحدث عن حقوق الأكراد الخاصة ضمن الدولة التركية، والذي فتح حواراً مع أوجلان ممثل حزب العمال الكردستاني والذي يعتبر حزباً إرهابياً. حزب الشعوب الديموقراطي كان عليه التفاهم مع أوغلو والدخول معه في حكومة إئتلافية حتى الوصول إلى تنفيذ الإتفاق على حل القضية الكردية. ولكن رئيسه دميرطاش راح يتلهى بالمناورات السياسية التقليدية. وقد خسر هذا الحزب 22 نائباً من رصيده، ربحها حزب العدالة والتنمية ومنها في المنطقة الكردية نفسها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الموقف السلبي لأوجلان من تسعير الحرب أخيراً كان انعكاسه إيجابياً بالنسبة للحزب الحاكم.
3-    اعتبرت الأحزاب التي جابهت حزب العدالة والتنمية أن السياسة الخارجية أولوية بالنسبة للناخب التركي، وركزت على موقف أردوغان من الوضع السوري. تبين أيضاً أن هذه الأحزاب بعيدة عن الحس الجماهيري وهذا ما أظهرته نتيجة الإنتخابات في إقليم هاتاي (الإسكندرون) والذي يتميز بالأكثرية المطلقة للعلويين، والذي فاز فيها العدالة والتنمية رغم معارضته المعلنة للرئيس الأسد.
4-    الناخب التركي كان يفتش عن الإستقرار السياسي، لذلك أعطى العدالة والتنمية حتى يحكم بمفرده. وهذا ما يفسر ارتفاع نسبة التصويت في هذه الإنتخابات عن سابقتها في حزيران الماضي، بالرغم من التفجيرين الإجراميين اللذين أديا إلى العديد من الضحايا، والتي ارتفعت من 86% إلى 90%.
ثانياً: إقتصادياً
1-    لم تشهد تركيا استقراراً اقتصادياً إلا في عهد العدالة والتنمية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن مضاعفة الدخل الفردي والدخل القومي قد أدى إلى تحويل تركيا إلى جنة استثمارية. فالإقتصاد التركي يقوم بمجمله على الإستثمار الخارجي ما يتطلب ضرورة الإستقرار السياسي، وهذا ما يعرفه المواطن التركي.
2-    حزب العدالة والتنمية لم يدخل الحرب السورية ولا العراقية رغم كل الإتهامات بالإنخراط في هذه الحروب. عدم دخوله لم يكن تعففاً، إنما خوفاً من هروب رؤوس الأموال الأجنبية. ومن المعروف أن بنية الإقتصاد التركي تُعتبر هشة بسبب من اعتمادها على الإستثمار الأجنبي بنسبة كبيرة. وقد شعر المواطن التركي بنتائج عدم الإستقرار الذي سببته الحرب الأخيرة ضد الحزب الكردي على الدخل الفردي لكل مواطن.
ثالثاً: المؤسسة الحاكمة
النظام الرأسمالي لا يمكنه أن يستمر إلا بتجديد نفسه باستمرار. والنظام التركي نظام تابع للعولمة النيوليبيرالية، لا يمكنه أن يُجدد نفسه بمعزل عن المركز، وذلك لعدم استقلاليته. من أجل ذلك فكر أردوغان بتجديد المؤسسة الحاكمة، أي بتحويل النظام البرلماني إلى نظام رئاسي وذلك من أجل مركزة القرار أكثر. وهذا النجاح في الإنتخابات يمكن أن يساعد في هذا الإتجاه.
لا يمكننا التأكيد أن تجديد المؤسسة الحاكمة سيكون له تأثير إيجابي على الإقتصاد التركي، ولكن ما يمكن تأكيده أن هذا التجديد سيولد دينامية سياسية نشطة تؤدي، ربما، إلى تجديد الحياة السياسية، وهذا ما يعطي الحزب الحاكم فرصة إضافية بعد أن وصل إلى حالة من الترهل. هذا الترهل هو ما دفع بالرئيس إلى فتح معارك باتجاهات مختلفة: العسكر، القضاء، غولين... أما موضوع الفساد فلم يقربه! لماذا؟
أخيراً، هل سيكون لفوز العدالة والتنمية انعكاسات هامة على الحرب السورية والعراقية؟
لا يمكن لأي قوة، مهما عظمت، أن تنفذ حلاً في سوريا والعراق بمعزل عن تركيا. فهذه الأخيرة قوة إقليمية هامة، مصالحها متداخلة مع شريحة لا بأس بها من المجتمع السوري والعراقي، لذلك لا بد من أخذ مصالحها بعين الإعتبار. رأيها وازن في التفتيش عن الحلول. ولكن، بالرغم مما تقدم، لا نعتقد بأن نجاح حزب العدالة والتنمية سيكون له تأثير مباشر، في الوقت الراهن، على الأحداث السورية والعراقية.

                                                       3 تشرين الثاني 2015
hassanmallat.blogspot.com