أولوية الصراع
حسن ملاط
يعتقد بعض قادة الأحزاب أو التنظيمات أو الجماعات السياسية، أن الصراعات في
المجتمع تُخاض بناءً لأهواء أو إملاءات خارجية، من دون أن يعرفوا بأن التصرفات
المشابهة تسيء إلى الممارسة النضالية، وهي بمثابة خداع للعاملين في هذه التنظيمات
أو الأحزاب، وخداع للجماهير المساندة.
إن تحديد العدو يستند إلى قوانين علمية، ويمكن استنتاجه من التجارب
العالمية للشعوب، سواء في بلادنا أو في البلاد الأخرى. كما أن تجربة النبي محمد
تبين بوضوح كيف مارس هذا النوع من العمل. والمسلم عليه التأسي بتجربة النبي. أما
الآخرون، فيمكنهم الإستفادة من هذه التجربة الناجحة.
إن مناسبة هذا الكلام، هو ما نراه من تخبط غير مبرر بتحديد الأولويات في
العملية السياسية. وهذا ما أدى إلى قسمة الناس واستحضار جميع الآفات التاريخية
التي تم تجاوزها عندما كان التحديد لأولوية الصراع صحيحاً.
منذ هجرته إلى المدينة، حدد النبي أن الصراع هو مع عدو الدعوة الإسلامية
المتمثل بقريش. وعندما أعلن النبي ميثاق التعايش في المدينة بين المسلمين واليهود
والمشركين، كان هناك اشتراط بعدم جواز التعامل مع قريش. وكانت جميع السرايا
والغزوات موجهة ضد قريش، إلا تلك التي فيها رد على عدوان اقترفته إحدى المجموعات
بحق المسلمين. وحيث كان بإمكان المسلمين موادعة أحد الأطراف، كانت المسارعة إلى
الموادعة دائماً، عدا قريش طبعاً. وكان الإستثناء صلح الحديبية الذي لم يوافق
النبي على تجديده مع قريش.
لماذا كانت قريش هي العدو؟
كانت مكة الحاضرة الأهم في الجزيرة العربية. فقد كانت تتميز عن غيرها
بالأمور التالية:
1 – وجود الكعبة الجامعة للقبائل العربية. كان العرب يحجون إلى أماكن عديدة
ولكن الحج المركزي كان في مكة.
2 – وجود عدة أسواق مركزية كان يشارك فيها العرب من كل القبائل: سوق
عكاظ...
3 – كانت مكة هي الوحيدة التي تملك جيشاً محترفاً: الأحابيش، مهمته الدفاع
عن مكة، الحرم الآمن.
4 – إلى جانب الدور الإقتصادي الذي كانت تلعبه الأسواق في مكة، كانت مجالاً
لتبادل الأفكار والمبارزات الأدبية. كانت مركزاً للتلاقح الفكري والثقافي.
هذه العوامل جعلت من مكة قبلة أنظار جميع القبائل، إنها النقطة المركزية في
الجزيرة العربية: المركز الإقتصادي الأول، المركز الفكري والديني للعرب كافة،
والقوة العسكرية الوحيدة المتفرغة. من هنا فالإنتصار على هذا العدو يحدد مستقبل
المسلمين في الجزيرة العربية.
هكذا حدد النبي هوية عدو المسلمين، وذلك من خلال دراسته للواقع الفعلي
والحقيقي، العوامل الأساسية، الرئيسي منها والثانوي، ثم أعلن أن العدو الذي على
المسلمين قتاله هو قريش. ودقة التحديد هذه أدت إلى أنه بعد الإنتصار على قريش، كان
عام الوفود. أي بدل من ذهاب النبي أو موفديه إلى القبائل لدعوتها للإسلام، كانت
القبائل هي التي تأتي للنبي شاهرة إسلامها.
في اللغة العصرية، على الأحزاب أو التنظيمات أو المجموعات السياسية التي
تعمل في مجتمع معين، أن تحدد التناقضات الموجودة في هذا المجتمع: الأساسي، الرئيسي
ومن ثم التناقضات الثانوية. وطريقة تحديد هذه التناقضات لا تختلف كثيراً عما قام
به النبي عند تحديده لعدو المسلمين.
في عصر العولمة النيوليبيرالية، أصبحت الساحة كبيرة، كبر تحرك الرأسمال
المعولم. الساحة القومية يكاد ينتفي وجودها لولا بعض الأصوات التي تنادي بضرورة
الحفاظ على الميزات الخاصة من دون نفي الهوية الجامعة. أي بصيغة أخرى، يريد
الألماني المحافظة على تميزه كألماني عن باقي الشعوب الأوروبية مع الإحتفاظ
بالروابط التي يفرضها وجود الإتحاد الأوروبي ككيان جامع يمكن الأوروبيين من إيجاد
مكان لهم في هذا العالم. مكان يتمتعون فيه باستقلال نسبي من دون تبعية للمركز
الأمريكي.
تمكن الأميركي من فرض إيقاعه على العالم حالياً. فالدولار هو معيار التقييم
الإقتصادي، وهو النقد الذي يجب الإحتفاظ به. التعاملات الإقتصادية تتم بالدولار
إلا نادراً. وهذا بسبب من وجود مصالح مشتركة لدى كبار المستثمرين من جنسيات
مختلفة. وإلا كيف نفسر تعثر مسيرة التحالفات الدولية التي تدعي عملها للتحرر من
الهيمنة الأميركية مثل مؤتمر شنغهاي والبريكس وتكتل أميركا اللاتينية...
أضف إلى ذلك، أن الأمريكي تمكن من تعميم أو تدويل قيمه في الإستهلاك.
فتقييم تقدم المجتمع يتم من خلال قياس استهلاكه. كما أن طريقة الحياة الأمريكية
أصبحت معممة، حتى في الدول التي تدعي أنها ستجابه أمريكا. الوجبات السريعة، السلع
الغير ضرورية، الأزياء وموديلات السيارات والمركبات الأخرى...إلخ
الإقتصاد، قبل أن يكون نظام إنتاج وإستهلاك وتجميع أرباح هو نظام قيم. إذا
كنت تريد بناء نظام إقتصادي يتمتع باستقلالية عن المركز الأمريكي، عليك أن تنتج
نظام قيم مختلف، يميزك عن الآخرين، نظام يقوم على إنتاج الحاجات الحقيقية وليس
إنتاج السلع الإستهلاكية. نظام يقوم على التبادل للضروريات وليس بيعها وشراءها
بالنقد الذي يستعبد الناس، إنما بإعادة نظام المقايضة، وبنظام تقييم لا يقوم على
الدولار، إنما يقوم على حاجات كل مجتمع للسلعة.
في عصرنا الحاضر، النظام الذي يقوم باستعباد البشر واضطهادهم، هو نظام
العولمة النيوليبيرالية. فالشيطان الأكبر هو أمريكا، كان ولا يزال. والشعوب لن
تتخلص من عبوديتها إلا عندما تتحرر من الهيمنة النيوليبيرالية.
أما في بلادنا، فإسرائيل التي اغتصبت أرضنا في فلسطين، والقاعدة المتقدمة
لأمريكا، والتي تقمع أي حركة تحررية عربية هي العدو الذي يجب محاربته في كل آن.
حيث أن الدور الذي يلعبه الكيان الصهيوني هو
ما يجعلنا نحدد بأنه العدو الأساسي والرئيسي لأمتنا.
لم تتوحد أمتنا يوماً إلا على هذا العدو، ولم تغب خلافاتها المذهبية إلا
عندما كانت تقاتل هذا العدو. إن تغيير اتجاه القتال هو الذي أدى إلى إعادة الدور
الأميركي الذي هزم في أفغانستان والعراق إلى نشاطه السابق.
المصالح المستجدة لبعض القوى التي كانت تريد أن تحارب أمريكا مع التزامها
بنمطه الإستهلاكي، أدى بها إلى التراجع عن شعاراتها والتفتيش عن كيفية التوافق مع
الأمريكي من أجل جلبه إلى كرمها من أجل استغلال شعبها بحجة التطوير الإقتصادي،
وكأن الإنسانية ليس بإمكانها ابتكار نمط للإنتاج سوى النمط السائد اليوم.
إن عدم إنتاج نظام للقيم يتناسب مع معتقدات مجتمعاتنا، نظام يُعمم على جميع
مناحي حياتنا الثقافية والإجتماعية والإقتصادية سيبقي تبعيتنا للأمريكي البشع وسيؤدي
بالتالي إلى خوض معارك لا تفيد إلا أعداء أمتنا. إن تحويل العداء الفعلي من
إسرائيل إلى ما يسمى الإرهاب السني، الذي اكتسب تسميته هذه من خلال قتاله لأمريكا
في جميع الساحات، تحول بقدرة قادر إلى العدو الرئيسي إلى من كانوا يعتبرون أمريكا
الشيطان الأكبر وإسرائيل الغدة السرطانية التي يجب إزالتها. وأصبحت الحرب داخل
أمتنا بدل أن تكون على أعداء أمتنا.
إن الخطأ في تحديد العدو يؤدي إلى خراب الأمة. هل لداعش دور إقتصادي يؤدي
إلى إفقار الأمة ونهب خيراتها وإعطائها للأجنبي؟ هل لداعش دور حربي يمنع محاربة
إسرائيل والشيطان الذي كان أكبر. هل لداعش دور ثقافي يمنع الأمة من التوحد على
الله؟ هل لداعش الإمكانية على تشويه فكر كل الأمة. أين كان دورها عندما كانت
البندقية موجهة للعدو الصهيوني؟
مصلحة الأمة والإقليم (البلاد العربية وتركيا وإيران) تستوجب إعادة النظر
في هذه الممارسة الخاطئة التي تقوم على خدمة مصالح سياسية فئوية وقسمة الأمة إلى
معسكرات مذهبية وطائفية.
طرابلس في 3 تشرين الثاني 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق