كيفية التعامل مع الصراعات
حسن ملاط
يوجد في المجتمعات الكثير من التناقضات، ولا وجود لمجتمع من دون تناقضات.
ولكن طبيعة هذه التناقضات تختلف عن بعضها البعض، سواء في نفس المجتمع أو في
المجتمعات المختلفة. فالإختلاف بالرأي هو نوع من أنواع التناقض، كذلك الإختلاف بين
الغني والفقير، أو ذلك الذي بين العامل ورب العمل.
وهناك تناقضات بين المجتمعات المختلفة، وهي بدورها تختلف من حيث طبيعتها.
فالخلاف بين لبنان وسوريا ليس كالخلاف بين لبنان وإسرائيل. والخلاف بين سوريا
وتركيا ليس كالخلاف بين أمريكا ودول إقليمنا.
الإختلافات بين طبيعة التناقضات القائمة ترتدي أهمية كبيرة. لذلك هناك
ضرورة ماسة لتحديدها. فتحديد طبيعة هذه التناقضات هو الذي يؤشر إلى كيفية حلها.
والفشل في تحديد طبيعة هذه التناقضات يؤدي بالتالي إلى فشل السياسة التي تنفذها
الدولة أو التنظيم أو الحزب الذي عليه القيام بحل هذه التناقضات.
تصنيف التناقضات
لمعرفة كيفية التعامل مع التناقضات المختلفة، لابد من تصنيفها. فهناك
التناقضات الأساسية والتناقضات الثانوية. وهناك التناقض الرئيسي. كما وأن هناك
أيضاً التناقض العدائي والتناقض الغير عدائي. وكل من هذه التناقضات يتم التعامل
معها بشكل مختلف عن الآخر.
فالتناقضات الأساسية هي تلك التي لابد من حلها، لأن عدم حلها يخلق عدم
توازن في المجتمع. ولكن حلها يتم على مراحل يحددها التناقض الذي يلعب الدور
الرئيسي، أي التوازن الذي لا بد من حله لإعادة التوازن إلى المجتمع. مثال ذلك،
المشكلة الأمنية في طرابلس. هذه المشكلة خلقت عدم توازن في طرابلس والجوار، مما
أثر على حياة الناس, فطرابلس هي إهراء الشمال. فتأمين الغذاء مرهون بتأمين الأمن
في طرابلس. التواصل مع عكار يتم عن طريق طرابلس. تأمين الخضار لمعظم أهل الشمال هو
من طرابلس. استمرار الحياة كما كانت عليه لا يتم إلا بأمن طرابلس أو بخلق مركز
للشمال غير طرابلس وهذا مستحيل على المدى المنظور. من أجل ذلك أسمينا هذا التناقض
الرئيسي لأن إعادة التوازن في المنطقة لا يتم إلا بحل هذا التناقض.
فتحديد التناقض وتصنيفه هو مسألة علمية وموضوعية وليس مسألة اختيارية تتم
من قبل هذا أو ذاك.
هل يمكن للتناقض الثانوي أن يصبح رئيسياً؟ هذا يحصل، ولكن يجب التعامل معه
على أنه ثانوي وليس رئيسياً.
أما التناقض العدائي فهو ذاك التناقض الذي لا يحل إلا بإزالة أحد طرفي
التناقض. فالتناقض مع إسرائيل هو تناقض أساسي وعدائي. أي أن حل هذا التناقض يتم
بالقضاء على إسرائيل ككيان غاصب. أما التناقض بين السنة والشيعة فهو تناقض غير
عدائي كما أنه ليس أساسياً. وحل هذا التناقض لا يتم إلا بإيجاد صيغة للتفاهم
بينهما، لأنه لا يستدعي إزالة أو القضاء على أحد طرفي التناقض، إنما يستدعي إزالة
الصفة العدائية المستجدة نتيجة أخطاء بشرية مقترفة. ليس هناك تناقضاً تكوينياً بين
السنة والشيعة. من أجل ذلك، هذا تناقض غير أساسي وغير عدائي.
كيف تعامل النبي محمد مع التناقضات؟
لقد حدد النبي محمد أن التناقض الأساسي هو التناقض مع قريش. ذلك أن قريشاً
تهيمن على الفكر والدين والإيديولوجيا والإقتصاد، وهي الوحيدة التي تملك جيشاً
محترفاً. كما وأنه اعتبر قريشاً العدو الرئيسي الذي يجب محاربته لأنها لعبت دور
الحائل دون إتمام المسلمين الدعوة إلى الله، إنطلاقاً من مبدأ حرية الإختيار، وليس
فرض الدين الذي ترتضيه القبيلة المهيمنة لنفسها وللناس. وجهز النبي نفسه لمحاربة
قريش منذ انتقاله إلى المدينة وتأمينه قاعدة للإنطلاق. لذلك بدأت السرايا ضد قريش
من قبل المهاجرين، حتى لا يحمل الأنصار تبعة القتال، تبعاً للأعراف التي كانت
سائدة في الجزيرة العربية.
أما من حيث تعامله مع التناقضات الثانوية، فقد كان كالتالي: كان هناك عهد
بين المسلمين والمشركين واليهود بكيفية التعامل فيما بينهم. وقد أمضوا هذه العهود
فيما بينهم. عندما خان يهود بني قينقاع العهد حاربهم النبي من دون شن حملة على اليهود
توحي وكأن التناقض الرئيسي أصبح مع اليهود ولم يعد مع قريش. والدليل على ذلك، أنه
ما أن انتهى الإجراء المحدد بحق بني قينقاع حتى عادت الحرب على قريش إلى سيرتها
الأولى. كما وأن انتصار النبي على بني قينقاع لم يخلق تبديلاً للحقائق على أرض
الصراع، إنما ما ساهم به هذا الإنتصار هو منع تغير الحقائق بالنسبة للصراع مع
قريش. أي أن الإنتصار على بني قينقاع لم يعط مشركي قريش أي ميزة على المسلمين في
الصراع القائم. وهذا ما حصل عند حرب المسلمين على بني النضير.
أما في حربه مع العدو الرئيسي فالنتائج كانت دائماً مختلفة: عندما ترك
مشركو قريش أرض المعركة في غزوة الخندق قال النبي قولته الشهيرة "نغزوهم ولا
يغزوننا". هذه نتيجة كبيرة في الصراع مع الشيطان الأكبر، فقد أصبحت المبادرة
بيد المسلمين. وهذا ما حصل فعلاً. لقد غزا المسلمون مكة وانتصروا على المشركين
وكان بعد فتح مكة عام الوفود الذي كرس الإنتصار النهائي على الشرك في جزيرة العرب.
وبذلك انتقل الصراع إلى أماكن أخرى، لأن التناقض الأساسي والرئيسي قد تم حله
بالقضاء على شرك قريش.
لقد كان النبي واضحاً في تعامله مع التناقضات الثانوية بشكل يساعد على خدمة
الصراع ضد العدو الرئيسي والأساسي. حارب بني النضير لأنهم تآمروا مع قريش. وحارب
بني قريظة لأنهم تآمروا مع قريش، وكذلك فعل مع المجموعات التي حالفت قريش... أي
بكلمة كان يوظف كل حركته لخدمة الإنتصار على عدوه الأساسي والرئيسي قريش.
كومونة باريس، كانت أول ثورة اشتراكية قادها العمال وصغار الكسبة وكان
للنساء دور مهم فيها. انتصر العمال على الحكومة التي هادنت الألمان الذين كانوا
يحاربون الفرنسيين وانتصروا عليهم. بعد قيام الكومونة، تحالفت الحكومة الألمانية والحكومة
الفرنسية ضد الكومونة وحاربوها حتى سقطت. التناقض بين الألمان والفرنسيين كان
تناقضاً ثانويا، مع أنه أدى للحرب. ولكن الكومونة كانت تريد أن تقضي على حكم
البورجوازية. لذلك تحالف الألمان والفرنسيون للقضاء على حكم الطبقة العاملة وحلفائها،
بسبب من عدائية التناقض بين الكومونة والحكم البورجوازي سواء كان في فرنسا أو
ألمانيا.
في الصين، كانت الحرب قائمة بين الحزب الشيوعي الصيني والكومنتانغ على حكم
الصين. في تلك الأثناء، غزت اليابان الأراضي الصينية. فما كان من ماو تسي تونغ إلا
أن راسل شان كاي شاك من أجل إيقاف الحرب بينهما والتحالف من أجل قتال الغازي الأجنبي.
لم يقبل شان العرض، عندها أبلغه ماو بأنه لن يحاربه ما دام اليابانيون في الأراضي
الصينية. بعد انسحاب اليابانيين، عادت الحرب إلى سيرتها الأولى.
عندما يغزو الأجنبي البلاد، تكون الأولوية لمحاربة الأجنبي وليس للقتال
الداخلي. التناقض الأساسي والرئيسي يكون دائماً ضد الغازي الأجنبي وهو عدائي أيضاً.
في بلادنا، التناقض الأساسي والرئيسي هو مع إسرائيل. ولا شيء يبرر نقل
الحرب مع الصهاينة إلى حرب داخلية، يستفيد منها عدو الأمة. داعش هي سليلة القاعدة،
ومع عدم موافقتنا على قراءتها وممارساتها، ولكن لا يمكن اعتبارها عدواً أساسياً
للأمة. حاربت الإستكبار منذ نشأتها وحتى الساعة. ومن حدد داعش والقاعدة عدواً
للناس هي الولايات المتحدة الأميركية. ومن جمع التحالف الدولي ضد داعش هي الولايات
المتحدة. فإذا هاجم البعض الولايات المتحدة، فهذا لا يعني أنه لا ينفذ أجندتها في
الصراع في بلادنا.
ليست القاعدة وحدها من يملك قراءة خاطئة للدين. هناك الكثير ممن يروجون
لتدين يقسم الأمة لصالح أعدائها هل علينا العمل في الحرب الداخلية وكأن التناقض
الرئيسي هو بين مختلف فئات الأمة. على مدى مئات السنين، تحارب أصحاب التدين "الرافضي"
وأصحاب التدين "الناصبي"، من انتصر على الآخر. لا يمكن لأحد أن ينفي
الآخر. من أجل ذلك، إيجاد الحلول لهكذا خلافات طريقها مختلف. تكرار التجارب بشكل
غرائزي يوصل إلى الخراب أو خدمة العدو. والنتيجة واحدة. أما إذا كان لابد من
التعامل العنيف مع بعض الفئات الداخلية، فلا يُجند لها الإعلام وكأن التناقض لم
يعد مع إسرائيل. وهناك العديد من الأساليب التي لا تحول وجهة الصراع الأساسي.
التناقض بين أصحاب التدين هو تناقض ثانوي داخل الأمة، لا يُحل إلا بالحوار.
وتنفيذ أجندات لصالح هذا الطرف أو ذاك على حساب مجموع الأمة تجارة خاسرة. أما
تجارة الوحدة على الله فهي تجارة لن تبور. الطريق الوحيد الذي ينصرنا على إسرائيل
ويطرد الأمريكان من بلادنا.
6 تشرين الثاني 2014