في الوضع الإقليمي
تميزت المرحلة السابقة
على ما سمي الربيع العربي، بهزائم متلاحقة للإدارة الأمريكية وحلفائها في العالم
والإقليم. فقد تجرأت القاعدة على ضرب أمريكا في عقر دارها، عندما أغارت على
نيويورك وغيرها من المدن الأمريكية. كما وأنها ضربت أكثر من سفارة واغتالت
مستشارين عسكريين في أكثر من دولة. كما أن الشعب العراقي تمكن من طرد القوات
الأمريكية من بلده، وكذلك الشعب الأفغاني. والإنتصارات التي حققتها المقاومة
الإسلامية على إسرائيل في لبنان تندرج ضمن تراجعات الهيمنة الأمريكية. لا ننسى أن
صمود المقاومة في غزة واضطرار جيش الإحتلال الصهيوني للإنسحاب فور الإعلان عن وقف
النار، يأتي في إطار تراجع هذه الهيمنة أيضاً.
ولكن الملاحظ الآن، أن
السطوة الأمريكية عادت للإنتعاش؟ الربيع العربي ليس هو العامل المساعد على هذه
القفزة، إنما مجابهة صحوة الجماهير التي دافعت عن حريتها هي العامل الأهم في عودة
الأميركي البشع للعب الدور الموجه في إقليمنا.
1 – ماذا يريد الأمريكي
في إقليمنا؟
أهم ما يريده الأمريكي
كان ولا يزال أمن الكيان الصهيوني كأولوية أولى. يليها من حيث الأهمية استمرار
تدفق الطاقة إلى الأسواق العالمية، خاصة وأن كلفة استخراج النفط في بلادنا هي
الأرخص في العالم. أما المطلب الثالث بالنسبة للإدارة الأمريكية فهو ترتيب أوضاع
الإقليم بحيث تكون جميع الأطراف بحاجة للأمريكي للحصول على ما يُرضيها من مطالب.
أما بالنسبة للمطلب
الأول، فقد تغيرت الأحوال كثيراً عما كانت عليه سابقاً. لم يعد بإمكان النظام
السوري تأمين حدود الكيان الصهيوني كما فعل طوال أربعين سنة أو يزيد. ينطبق نفس
الكلام على السلطة الفلسطينية بالنسبة للحدود الجنوبية لفلسطين المحتلة. أما
الحدود الشمالية للكيان فهي الأكثر أمناً، وهذا نتيجة التزام المقاومة بالقرار
الدولي 1701.
في عملية القنيطرة الأخيرة،
تمكنت إسرائيل من إيقاع ستة شهداء للمقاومة وجنرال إيراني. ومن الملاحظ ان
المقاومة لم تعلن عن استشهاده، إنما قامت إيران بذلك على لسان مسؤول رسمي إيراني
هو أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني. وبعد أن نفت إسرائيل معرفتها بهوية
الشهداء، عاد وزير الأمن الإسرائيلي وأعلن مسؤولية العدو عن العملية.
بعدها، قامت المقاومة برد
"مدروس" على العدوان الصهيوني. وأعلن السيد حسن نصرالله، عن تغيير قواعد
الإشتباك بوجود مسؤول إيراني رفيع. أما التغيير فيقوم على اعتبار جميع الجبهات جبهة
واحدة بمواجهة العدو بوجود إيراني معلن. أي أن إيران والكيان الغاصب قد أعلموا
العالم أن حدودهما أصبحت مشتركة.
حدود الكيان الغاصب أصبحت
محاطة بإيران وحلفائها من حزب الله وحماس. كما أن هناك جزءاً بيد جبهة النصرة.
المسؤولون الإسرائيليون يقولون بأن العلاقات التي يقيمونها مع المعارضة السورية لا
تعطيهم الأمن الذي يريدونه لأن العلاقات مع هذه المجموعات الإرهابية لا توحي
بالأمان. لذلك هم بحاجة إلى طرف مجرب بإمكانه الإلتزام بالمواثيق مثل النظام
السوري أو المقاومة.
أمريكا ترى خلاف ذلك.
الأمن حسب المنظور الأمريكي هو بحروب داخلية تُخرج الجميع من دائرة الخطر على
إسرائيل. في العراق حرب داخلية وفي سوريا حرب داخلية، أما في لبنان، فما يوقف
الحرب عوامل تكاد تكون لها نفس مفاعيل الحرب الأهلية. هذا هو الأمن الذي تريده
أمريكا. أما ما ساعدها على ذلك فهو تقاطع إيراني سعودي أمريكي بإيقاد مثل هذه
الحروب.
2 – في إقليمنا دولتان
وشبه دولة. أما الدولتان فهما إيران وتركيا. والشبه دولة هو الكيان الصهيوني. فهو
كيان مصطنع، غير طبيعي زرعته الدول الإستعمارية للحفاظ على مصالحها في الإقليم.
إسرائيل هي دور. ما أن ينتهي هذا الدور حتى تنهار طبيعة هذا الكيان.
الدول العربية تريد
المحافظة على كياناتها. هذا ما تريده. دول الخليج تحميها أمريكا. العراق وسوريا في
طور التشكل. اليمن في مخاض. دول المغرب وضعها غير مستقر بنسب متوسطة. أما مصر، فقد
يُراد لها دور في المغرب العربي يُخرجها نهائياً من دائرة الصراع العربي
الإسرائيلي. والتدخل في ليبيا يدخل ضمن هذا التصور.
إذن هناك دولتان هما
تركيا وإيران. ماذا تريد كل منهما؟
أ – تركيا: دولة إسلامية
ذات تاريخ امبراطوري تحت مسمى الدولة العثمانية. هي باب أوروبا إلى المشرق العربي.
عضو فاعل في الحلف الأطلسي وتريد أن تكون عضواً كامل العضوية في الإتحاد الأوروبي.
نظامها برلماني ديموقراطي. يحكمها حزب العدالة والتنمية. أهم رجالات هذا الحزب ذوو
خلفيات إسلامية، أقرب ما يكونون للإخوان المسلمين.
ما يريده حكام تركيا هو
الحفاظ على تقدمها الإقتصادي، مع العلم أنهم على استعداد دائم للعب دور رئيسي في
الإقليم. فهي دولة لها صلات تاريخية في المنطقة امتدت لمئات السنين. أي أنها مؤهلة
للعب دور في الإقليم. ولكن لازالت خطواتها خجولة ومترددة، بالرغم من اتهامها من
قبل المتعاطفين مع إيران بدور كبير ليس له وجود على أرض الواقع.
تركيا ضروري وجودها من
اجل الموازنة مع الدور الإيراني المفترض والذي يحظى بقبول نظري امريكي. لذلك لا بد
من إرضائها. وقد باشرت أمريكا بخطوات عملية في هذا الإتجاه، نعني الموافقة على
تدريب المعارضة السورية والتي ستختارها تركيا بالتعاون مع الادارة الأمريكية وليس
الإستخبارات الأمريكية.
كما وأن تركيا ستلعب
دوراً هاماً بحماية أمن الخليج، خاصة إذا كان على مصر التوجه نحو الغرب، وهذا هو
المرجح. إذا أضفنا إلى ما تقدم التعاون التاريخي الذي كان يسم العلاقات التركية الإيرانية
سواء في حلف السانتو القديم أو بخرق العقوبات الأمريكية على إيران من قبل النظام
التركي. كما علينا أن لا ننسى أن هناك ملفات عديدة مشتركة بين الدولتين: الملف
الكردي والملف العراقي والملف السوري. هذه الملفات لا يمكن إيجاد حل لها إلا
بتعاون هاتين الدولتين.
ب – إيران: إذا أخذت
إيران صفة الإسلامية فقط، فسوف تكون جزيرة في بحر شاسع من الدول الإسلامية. ولكن
بما أنها تريد لنفسها دوراً لم تفتقده عبر التاريخ، حيث كانت كجارتها امبراطورية
أعرق تاريخاً من الإمبراطورية العثمانية الحديثة نسبياً، لذلك لابد من وسم نفسها
بالصفة الشيعية. إيران هي الدولة الشيعية الأكبر، وهي التي تحافظ على مصالح الشيعة
حيثما وُجدوا. وهي تقوم بالتبشير الشيعي حيثما تتمكن من ذلك.
القيادة الإيرانية تعلم
أن الباب الذي يلج منه أي كان إلى إقليمنا هو القضية الفلسطينية. فهي ناشطة في هذا
الميدان وتقدم المساعدات للفلسطينيين وللمنظمات المقاومة. ولكنها رغم ذلك، هي تعلم
أنها لن تخرج عن الإتجاه العام للمسألة الفلسطينية. لذلك أعلنت أنها تسعى إلى حل
مرض للمسألة الفلسطينية.
ما تقدم لم يمنع القيادة
الإيرانية من العمل في الساحات التي تنشط فيها على أساس مذهبي وذلك لتأكيد تميزها
عن باقي الدول الإسلامية كما ولتحقيق التمدد الذي تريده في الإقليم. فهي تقود
الميليشيات الشيعية في العراق في حربها ضد داعش وبتغطية من الطيران الأمريكي،
وبسكوت من قبلها ومن قبل التحالف الأمريكي عن الجرائم التي تقترفها ميليشيات الحشد
الشعبي بحق مواطنيهم العراقيين السنة. وقد تحدثت المرجعية في النجف عن هذه الجرائم
أكثر من مرة، وقد تحدث عنها رئيس الوزراء أخيراً.
أميركا لا تغطي إيران،
إنما تغطي الحرب الأهلية التي تلهي الجميع عن الكيان الصهيوني الغاصب.
في سوريا، تقوم إيران بنفس
الممارسات، فهي حشدت لمعاركها من أجل الإحتفاظ بحكمها لسوريا بالميليشيات من جميع
الأماكن الذي يوجد فيها شيعة. والتغطية قائمة من قبل دول التحالف. والمعركة
الأخيرة التي تُخاض على الحدود الجنوبية من أجل ربط ساحة الصراع مع العدو الصهيوني
بوضع القرار بيد النظام الإيراني، وذلك من أجل الضغط على إسرائيل عندما تتدخل
سلباً في الملف النووي خاصة وأن مجلسي الكونغرس الأمريكيين أصبحا تحت السيطرة
الجمهورية. وهذا ما يكبل يدي الرئيس الأمريكي نسبياً.
إيران أصبح دورها وازناً
في الإقليم. ولا يمكن لأمريكا أن تتغافل عن هذا الموضوع. من أجل ذلك تسعى إلى
إطالة امد الحرب ضد "الدولة الإسلامية" علها تستنزف القدرات الإيرانية
وتنهكها على صعد عديدة. ولكن هذه اللعبة لا يمكن أن تستمر من غير أفق. لذلك لا
يمكن الإستمرار بها من دون نهاية. من هنا لا بد من الحديث عن توزيع الحصص، سواء في
سوريا أو العراق ولبنان أيضاً.
من الضروري إبداء ملاحظة
أخيرة حول الإختلاف على صعيد البنى بالنسبة للنظام السياسي الإيراني والتركي.
فالنظام السياسي التركي يملك الإمكانية على الصمود والإستمرار أكثر من النظام
الإيراني لأن الأول يقوم على اقتصاد انتاجي يقوم على تشغيل الناس وإشراكهم في
العملية الإنتاجية، ومعيار صموده هو العملية الإقتصادية السليمة. الشائبة في
الإقتصاد التركي هو اعتماده الكبير على الإستثمارات الخارجية، وهذا ما يجعله يتهرب
من المغامرات العسكرية رغم كل الدعايات المضللة.
أما الإقتصاد الإيراني
فهو ريعي يقوم على بيع البترول والغاز والصناعات العسكرية والحشد الإيديولوجي.
وهذا ما يذكر بالنمط السوفياتي الذي انهار في مباراته مع الإقتصاد الرأسمالي
المعادي للشعوب. وحيث أن الإقتصاد الإيراني يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسوق
الرأسمالية، فهو يتبنى نفس قيمها الإقتصادية، لذلك لا مكان لمباراة مع أمريكا فهي
خاسرة قبل البدء بها. التعويض الوحيد يكون عبر الإيديولوجيا. وهذه المباراة سبق أن
هُزمت في المثل السوفياتي. من هنا كان الرهان على الرئيس روحاني من أجل بناء
إقتصادي حديث بالشراكة مع الغرب النيوليبيرالي.
التنافس بين أمريكا وإيران
وتركيا هو تنافس لا يحمل أي طابع عدائي. هذا هو مستقبل الإقليم. شراكة بين خصوم،
يدوم ربما لعقود، أو يقع الخصام سريعاً فيبدأ جميع الأطراف بتموضع جديد ينتج عنه
توافقات جديدة.
إن ما يحصل الآن هو اتجاه
حثيث نحو ترتيب للمنطقة يُبعد إمكانية الحروب لأمد بعيد. وهذا بالطبع ما يمكن
أمريكا من التفرغ للمحيط الهادي الذي تعتبره التحدي الرئيس للسنوات القادمة.
21 شباط 2015