بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الثلاثاء، 14 يوليو 2009

النظرية الاقتصادية في الاسلام (الجزء الثالث)

الأبعاد العملية للنظرية الاقتصادية الاسلامية (الجزء الثالث)

مقدمة
ان أهم ميزة للنظام الرأسمالي هو تمكنه من "تسليع" كل شيء (أي تحويله الى سلعة)، ابتداءً من الخيرات المادية انتهاءً بالانسان نفسه. علماً أن الانسان وكل ما يتعلق به يجب أن يكون له وضع خاص، وضع يتناسب مع أهمية الانسان كمستخلف من رب العالمين في هذه الأرض.
وهذه الميزة للنظام الرأسمالي هي التي جعلت تطور المجتمع على جميع الصعد (الاجتماعي، الاقتصادي، التربوي والسياسي) متعلقاً بما يحقق قيم هذا المجتمع: تأمين الربح المادي للطبقة الرأسمالية المسيطرة.
ان أهمية الانسان، كمخلوق متميز عن جميع المخلوقات، تجعل من المنطقي أن يكون هو محور هذا الكون. ولكن منطق الأشياء يفرض نفسه.
بناءً على ما تقدم لا بد من التحدث عن الواقع الفعلي القائم اذا أردنا التخطيط للمستقبل.
ان أهم ما يميز المرحلة القائمة اليوم هو التناقض البارز بين المسار السياسي والمسار التاريخي (اذا صح التوصيف). فالولايات المتحدة الأمريكية قد تلقت ضربات موجعة في السنوات القليلة المنصرمة. قامت بغزو العراق بمعونة مجموعة كبيرة من الدول ولم تتمكن حتى الآن من تحقيق انتصار فعلي على قوى المقاومة العراقية بالرغم من هزال المجتمع العراقي الذي يعاني من الانقسامات العرقية والمذهبية والطائفية والحزبية، ويعاني أيضاً من الفقر وندرة المواد الغذائية.
وفي الصومال، لم تتمكن أمريكا من تحقيق انتصار على قوى قليلة من الاسلاميين الصوماليين بالرغم من انشقاقهم على أنفسهم، وبالرغم من تدخل الجيش الاثيوبي المجهز وبعض قوى الاتحاد الافريقي.
وفي لبنان، تمكنت المقاومة الاسلامية من تحقيق انتصار فعلي على العدو الصهيوني جعل "المجتمع الصهيوني" يعيش حالاً من الانقسام الداخلي والتشتت السياسي لم يعهدها من قبل، مما جعلنا نتجه للقول أن "المجتمع" الاسرائيلي أصبح عاجزاً عن انتاج طبقة سياسية تملك القدرة على قيادة "البلاد".
وفي فلسطين المحتلة، لم يتمكن العدو الصهيوني من تحقيق انتصار على المقاومة الفلسطينية بالرغم من تدميره الغير مسبوق لمدينة بكاملها، على مرأى من العالم بأجمعه، وبالرغم من استخدامه للأسلحة الأمريكية المحرم استعمالها.
أما في أفغانستان، فالوضع يتجه الى تورط كبير على الطريقة الفيتنامية. ومخاوف الحلفاء كبيرة على ما صرح به رئيس الوزراء البريطاني السيد غوردن براون أن صيف أفغانستان سوف يكون حارا. كما أنه لا يمكن فصل الوضع الباكستاني عن جاره الأفغاني. علماً أن الادارة الآمريكية تستخدم استراتيجية مختلفة عن تلك المستخدمة في أفغانستان. فهي قد كلفت وكلاءها المحليين بخوض الحرب ضد الشعب الباكستاني بدلاً من الادارة الأمريكية، بالرغم من أن الولايات المتحدة تضع بصماتها على هذه الحرب، من دون اعلان، من خلال قصفها اليومي للمجاهدين بواسطة الطيارات من غير طيار.
كما أن الوضع في أمريكا الوسطى والجنوبية لا يمكن اغفاله وخاصة لما يمثله بالنسبة للولايات المتحدة كملعب خلفي لها تاريخياً، فهو يتجه الآن للتحرر من هيمنة الولايات المتحدة. فكثير من الدول أصبحت حكوماتها يسارية أو معادية للولايات المتحدة. كما وأن هذه المجتمعات قد كسرت تقليد التبعية للولايات المتحدة والخوف من جبروتها.
ولكن الضربة الأفعل كانت تلك التي أدت الى الركود الاقتصادي على الصعيد العالمي، والذي لم يتمكن الخبراء حتى الآن من اعطاء تاريخ لامكانية تجاوز هذه الأزمة.
السؤال المطروح هو لماذا تمكنت الولايات المتحدة من الاستمرار في قيادة العالم بالرغم من أن هذه الضربات التي تلقتها هي ذات طابع استراتيجي؟
الجواب أن المسار الاستراتيجي (أي ذا الطابع التاريخي، أي الذي يسم الحقبة التاريخية بطابعه) لا يتطابق دائماً مع المسار السياسي، ذلك أن لكل من المسارين متطلباته الخاصة. فالولايات المتحدة اليوم تقود العالم لأنه لايوجد في هذا العالم بديلاً سياسياُ لها. فالكيانات الكبرى (روسيا، الاتحاد الأوروبي، الصين والهند) لا تملك الامكانية السياسية للعب هذا الدور. لذلك لم تتصد أياً من هذه الكيانات للعب هذا الدور. حتى روسيا التي تملك تاريخاً امبراطورياً (الاتحاد السوفياتي) لم تتصد لهذه المهمة (قيادة العالم) بل كانت تفتش عن الخروج بأقل قدر من الخسائر من الأزمة العالمية للرأسمالية.
وبصيغة أخرى، كان على الولايات المتحدة بعد الهزائم المتكررة لسياساتها، كان عليها أن تركن الى الظل وتترك لقطب آخر التصدي لمهمة قيادة العالم. هذا ما فعلته روسيا عندما انهار الاتحاد السوفياتي.
ان ما جعل روسيا تركن الى الظل هو تصدي الولايات المتحدة لوراثتها حتى في الدول الأقرب من روسيا، الدول التي يشكل خروجها من تحت الهيمنة الروسية اهانة لهذه الأخيرة(اوكرانيا، جورجيا، جمهوريات البلطيق...). ما جعل روسيا تركن الى الظل هو توافق المسار السياسي مع المسار التاريخي. تاريخياً، انتهى الدور الروسي السوفياتي وكذلك سياسيا (لوجود الولايات المتحدة). أما في حالتنا الراهنة لا وجود لوريث للدور الأمريكي، لذلك رأينا الولايات المتحدة تخسر على الصعيد الاستراتيجي، ولكن دورها السياسي لا يزال مستمرأ. لذلك قلنا أن هناك تناقضاً بين المسار الاستراتيجي والمسار السياسي.
ما هي تداعيات الخسارة الأمريكية على الصعيد الاستراتيجي؟
"دعونا نبدأ بكلام أراه مهماً لهوبير فيدرين وزير خارجية فرنسا السابق: " الأرجح أن الشرق الأوسط ليس المحل الذي يتقرر فيه مستقبل العالم. فعالم الغد المتعدد الأقطاب، ومسرح منافسة غير مستقر بين دول كبرى، يتقدم المسائل الأخرى ويغلب عليها. ومن المسائل الأخرى الراجحة مسألة الانتقال من اقتصار تبديد مجنون ومدمر الى ما يسمى «نمواً مستداماً». ولكن الشرق الأوسط يتصدر من غير شك المسائل الاستراتيجية، الجغرافية والسياسية، الراهنة. فالقضايا الشائكة إنما ميدانها المنطقة التي سماها زبيغنيو بريجنسكي، لسنوات خلت، «قوس الأزمة». وهي تمتد بين الشرق الأدنى وبين آسيا الوسطى، مروراً بأفغانستان وباكستان. ومحورها هو الشرق الأدنى. ولا يسعني إلا الاقرار بشجاعة أوباما، وتصديه لصلب الموضوع من غير إبطاء، وتخليه عما جرى عليه اليمينان الاسرائيلي والأميركي منذ 15 الى 20 عاماً، وهو الزعم أن المسألة الفلسطينية ثانوية. وهو يحسب أن استئناف قيادة أميركا العالم، ولو على نحو جزئي ونسبي، مستحيل من غير تخطي الخلاف مع 1.3 بليون مسلم، وصرف عنايته الى الموضوع الذي يشغلهم وأناأرى أن خطبة القاهرة على جانب عالٍ من الأهمية. وبعض مستشاريه أشار عليه بترك مخاطبة العالم الاسلامي كتلة ثقافية واحدة. ولكنه لم يأخذ بالمشورة، وحسناً فعل. فتحذير صموئيل هونتينغتون من «صدام حضارات»، إذا صدق، فمحله الوحيد المحتمل هو بين الغرب والاسلام. وحمل الخوف عدداً كبيراً جداً من الناس على إنكار الاحتمال، وآثروا سياسة النعامة. وينبغي فهم خطبة أوباما جزءاً مؤثراً في سيرورة عامة وعريضة. فهي مواكبة سمفونية للسياسة التي ينوي انتهاجها في الشرق الأدنى والعراق وأفغانستان وباكستان، وفي جملة العالم العربي – الاسلامي". "الحياة" اللندنية عن «لونوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية، 25/6-1/7/2009.
المهم في هذا الكلام أن فيدرين اعتبر العالم متعدد الأقطاب، وهذه هي النتيجة الأولى لما سميناه الخسارة الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة.
أما النقطة الثانية والتي ترتدي طابع الأهمية هو اعتبار فيدرين العالم الاسلامي كتلة واحدة؛ وهذا ما فعله أوباما، الرئيس الأمريكي أيضاً بتوجهه للعالم الاسلامي، سواء في القاهرة أو في تركيا.
نحن نرى أن العالم الراهن، في القرن الواحد والعشرين، لا يقبل أياً كان أن يكون مستقلاً الا بشروط محددة. وأهم هذه الشروط على الاطلاق هو أن يكون كتلةً، ذلك الذي يريد أن يكون حرا.
ما هي الشروط التي يجب توافرها للكتلة؟ وهل بامكان العالم الاسلامي أن يكون كتلة؟
1 – عدد السكان. عدد سكان العالم الاسلامي مليار ومئتي مليون انسان.
2 – الثروة الزراعية. جميع أنواع النباتات توجد في تربة العالم الاسلامي.
3 – المناخ المؤاتي. وهذا الشرط يتوافر للعالم الاسلامي.
4 – الامكانات المادية. الغنى في عالمنا الاسلامي فاحش.
5 – الطاقة. ففي العالم الاسلامي توجد الطاقة الغير متجددة (البترول والفحم) والطاقة المتجددة (الطاقة الشمسية والمياه).
يضاف الى ما تقدم التنوع الموجود في العالم الاسلامي والذي يعتبر غنىً آخر.
انطلاقاً مما تقدم يمكننا التأكيد بأن العالم الاسلامي بامكانه أن يكون كتلة. أو بصيغة أخرى يمكن للعالم الاسلامي أن يكون حراً؛ أي ان الشروط المادية للحرية تتوفر في عالمنا الاسلامي.
أما الدول التي يمكن أن تشكل كتلاً في عالمنا الراهن فهي:
1 – الولايات المتحدة الأمريكية (وهي كذلك).
2 – الصين واليابان.
3 – الهند.
4 – أمريكا اللاتينية.
5 – الاتحاد الأوروبي مع روسيا.

لماذا طرحنا موضوع الكتل؟
ان التخطيط للمستقبل يفرض وجود رؤية استراتيجية لمن يريد التصدي لهذا الموضوع. نحن لم نتعود على رؤية عالمنا منذ أكثر من خمسة عقود الا ثنائي القطبية (أمريكا والاتحاد السوفييتي) أو آحادي القطبية(أمريكا). ولمّا نعرف عالماً متعدد القطبية كما نزعم أنه سيحصل. من هنا علينا منذ الآن الاجابة على السؤال: ما هو وضع بلادنا في المستقبل الآتي؟ من هنا كان لا بد لنا من التصدي لهذا الموضوع.
لا حياة الا للكتل الكبرى في العالم الآتي. كما وأن القيم الاسلامية تفرض على المسلم أن يكون ارتباطه بالله عز وجل وليس بأي من طواغيت هذه الأرض. ان العبودية لله تستدعي أن يكون الانسان حراً، لذلك لا بد لنمط الاقتصاد الاسلامي الا أن يؤمن الحرية للانسان المسلم حتى تكون علاقته مع الله عز وجل علاقة صافية لا يشوبها أي شبهة من شرك. من هنا علينا التفكير بالشروط المادية التي تجعل من العالم الاسلامي عالماً حراً، أي يعتمد على نفسه بانتاج الخيرات المادية التي يتقوى بها الانسان على عبادة الله عز وجل. وعليه فان الأبعاد العملية للنظرية الاقتصادية الاسلامية يكون ميدانها العالم الاسلامي، أو البلاد العربية على أقل تقدير.

الأبعاد العملية للنظرية
يقول ربنا تبارك وتعالى: "اني جاعل في الأرض خليفة". ويقول أيضاً: "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون". من هنا فان كل انسان معني بعمارة الأرض حتى يتمكن من القيام بالدور الذي أناطه به خالق هذا الكون. والدور الاقتصادي فريضة على المؤمن الذي يعيش على هذه الأرض. فالشرط الأول هو اذن أن الانسان مكلف. والانطلاق من التكليف الشرعي يسهل، نظرياً على الأقل، جميع المهام التي يفرضها انتاج الخيرات المادية لمصلحة الانسان الخليفة.

أولاً: ترشيد العرض.
القرب من منطق الأشياء يستدعي التحدث عن ترشيد الطلب. فما بالنا نتحدث عن ترشيد العرض. علينا مقدماً أن نكون على يقين أن نمط الانتاج الاسلامي لا يمكن أن يكون نمطاً استهلاكياً. لذلك لا بد من التحدث عن ترشيد الطلب.
تدخل الحكومة ضروري في حالات منها على سبيل المثال منع الاحتكار، أو تحديد السلع الضرورية في مرحلة معينة من أجل انتاجها ومنع الاحتكار. كذلك لا بد من تدخل الحكومة في اعطاء اجازات لانتاج السلع الصناعية وكذلك المنتجات الزراعية. وهناك نوع من التدخل ضروري جداً وذلك لاعادة التوازن لحركة السوق بحيث تمنع الندرة عن المواد الضرورية والمساهمة الحكومية بالانتاج عندما ترى الحكومة بأن هناك بعض السلع قد أصبحت نادرة أو تسير في هذا الاتجاه.
ان القيم الاسلامية (الأخوة والتعاون) تفرض بأن يجمع النمط الاقتصادي الاسلامي بين التاجر والصناعي والمستهلك. أي بصيغة أخرى، فجميع فئات المجتمع تتعاون من أجل تأمين حاجاته. وهذا التعاون سوف لن يمنع التاجر من تأمين الربح لنفسه وكذلك الصناعي وغيره من المنتجين لتأمين حياة مريحة ولا يخرج عن هذه القاعدة المستهلك نفسه. من هنا فالغاء الوساطة والسمسرة سوف يؤمن وصول المنتج للمستهلك من دون اضافات غير ضرورية(السمسرة). وبذلك يتأمن الربح للمنتج ويتأمن أقل سعر ممكن للمستهلك.
والاسلام لايشجع على احتراز المال، انما على العكس من ذلك فهو يحض على الانفاق. يقول ذو العزة والجلال: ”مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ“. الحشر (7)
لقد تحدثنا في الجزء الثاني من الدراسة عن الدوائر المتناقضة ومنها دائرة الرزق-المال. وقلنا بأن نمو أحد طرفي الدائرة يكون على حساب الطرف الآخر كما وأنه يكون دلالةً على اتجاه معين. فكبر طرف الرزق يعني بأن هذا المجتمع يؤمن الضرورات لأفراده. أما اتساع دائرة المال فبهذا دلالة على الاتجاه نحو الاستهلاك. والاسلام يحض على توسيع دائرة الرزق. لأن الاسلام يؤمن بالتنمية المتوازنة في المجتمع. أي أنه يعمل على أن يرتقي بجميع أفراد المجتمع مع بعضهم البعض.
ثانياً: ترشيد الطلب
ان أساس هذه النظرية هو المؤمن المتفَقِّه بدينه وعليه بالتحديد يقوم تطبيقها العملي. فالمجتمع الرأسمالي يقوم على خلق الحاجات. ومن أجل ذلك يقوم بعرض أنماط عديدة من السلعة الواحدة بغرض تحويل الانسان الى عبد للسلعة. لذلك نرى المزارع الأفريقي يبيع حليب بقرته ليشتري الكوكا كولا (يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير). أما المجتمع الاسلامي فهو يحدد الحاجات الفعلية للانسان من أجل العمل على انتاجها. فالقيادة الاسلامية تعيش كما يعيش معظم أفراد المجتمع. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اذا دُعي بحلف الفضول لأجاب. وهذا الحلف ينص فيما ينص عليه على "نصرة المظلوم والتأسي في المعاش".
وعليه فان الممارسة السياسية بامتياز للمسلم الملتزم، عنيت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلعب دوراً مهماً في التأثير على الممارسة الاقتصادية، مثال ذلك رفض الأسعار اذا لم تكن عادلة والتحريض على رفضها، أو رفض انتاج سلع غير ضرورية اذا كان المجتمع بحاجة الى سلعة أخرى... وعليه، يصبح ترشيد الطلب كما ترشيد العرض لأن الوعي السياسي هو الذي يجعل منهما كذلك. من هنا ضرورة تأمين غذاء يكون في متناول جميع أفراد المجتمع وكذلك تأمين لباس بمتناول الجميع. ولا بأس من انتاج أنواع متعددة الى جانب الغذاء واللباس لمن يريد أن ينوع. وبالطبع فمن الملاحظ أننا حتى بالاتجاه الى الانتاج نرى مسيرة معاكسة لما يبشر به المجتمع الاستهلاكي من قيم. ذلك أن القيم الاسلامية مناقضة لقيم المجتمع الاستهلاكي الذي يحض على الاسراف والتبذير. ألله تبارك يقول بأن المبذرين كانوا اخوان الشياطين. وهذا لا يفرض فرضاً على المجتمع، بل على الانسان اتخاذ هذا الموقف عن قناعة تامة انطلاقاً من الحلال والحرام وانطلاقًاً من انتماء الفرد وتموضعه، كما جاء في دراستنا التي تحمل هذا العنوان. وحيث أن الشيء بالشيء يذكر فقد كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصوم عندما يخف وجود المأكل.

البعد الأول: الاستثمار- الرساميل.

نحن نعلم أن أهم شرط للاستثمار الناجح هو اتساع السوق. والسوق الاسلامية هي كذلك، من هنا نرى بأن اقامة مشاريع استثمارية كبيرة هي مهمة ممكنة. أما الشرط الثاني فهو الرأسمال الاستثماري، وهذا متوفر أيضاً بفضل أموال النفط ومن عائدات المشاريع الأساسية الكبرى: الحديد، البتروكيميائيات والتي تقوم على انتاج جميع المشتقات بحيث يغطي انتاجها حاجات المجتمعات الاسلامية لمدة خمسين سنة على الأقل. أضف الى ذلك المشاريع الزراعية، مثال مشاريع انتاج اللحوم في السودان أو تربية الغنم في المغرب وسوريا، أو مشاريع السمك في الخليج واليمن والمغرب أو زراعة الحبوب في السهول الشاسعة تبعاً لأحدث الطرق المتبعة...
وحيث أن ما ذهبنا اليه ليس بعيداً عن تفكير الاقتصاديين العرب فقد شددوا في مؤتمرهم الذي عقد في بيروت والذي انتهى في 20 حزيران 2008 على ما يلي:
"وركزت المداخلات على أهمية تنشيط الاستثمار في القطاع الزراعي وتطويره، خصوصاً في ظل موجة التضخم العالمية الكبيرة والمتواصلة، فضلاً عن أهمية الاستثمار في قطاع الصناعات التحويلية، ومنها الغذائية والزراعية.
وأكد المشاركون في المؤتمر ضرورة رفع مستوى التعاون بين الدول العربية في مجالات الأمن الغذائي والمائي، والتنمية الزراعية، والاهتمام بقضايا الغلاء في إطار نهج مزدوج يعتمد أسلوب توجيه المساعدات العاجلة إلى الفئات الاجتماعية الضعيفة، بالتوازي مع تشجيع الاستثمار في مجال تعزيز الإنتاج العربي، خصوصاً في السلع الغذائية الأساسية.
وطلب تطوير الاتفاق الموحد لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية لتحقيق منطقة استثمارية مفتوحة على مستوى العالم العربي".

البعد الثاني: الانتاج.

حتى يكون الانتاج ذا جدوى اقتصادية لا بد من أن يكون كبيراً يتجه الى تغطية حاجات المجتمعات الاسلامية. وهو يقوم على ما يلي:
1 – الانتاج الصناعي الكبير: الحديد، الفوسفات، البيتروكيميائيات، الاسمنت....
2 – الانتاج الزراعي: المشاريع الحكومية للضروريات التي تؤمن الغذاء لجميع الناس. أما المشاريع الفردية فهي لمنافسة الانتاج الحكومي (منافسة للتحسين).
3 – الانتاج الحيواني: اللحوم ومشتقاتها، بحيث توزع الحكومة الحيوانات على المزارعين، الطيور والبيض.
4 – انتاج المنسوجات لتغطية السوق المحلية.
وهذه المشاريع يمكن أن تكون حكومية، أو مختلطة ما بين القطاع العام والقطاع الخاص أو يمكن أن تكون تابعة للقطاع الخاص. الناظم هو تأمين حاجات المجتمع أو تغطية السوق المحلية.

البعد الثالث: التوزيع – الاستهلاك.

التوزيع: الاتجاه الى ما يلي:
• القضاء على السمسرة.
• الضرورات توزعها الحكومة على السوق مباشرة.
• الانتاج الزراعي غير الخاص ينزل الى السوق حيث يشتريه تجار المفرق.
الاستهلاك:
• من المهم أن يرتبط مفهوم الاستهلاك بمفهوم الزهد وخاصة في حالة البناء.
• ترشيد الطلب والتدخل في العرض بواسطة الانتاج الحكومي حتى تحافظ السلعة على سعرها الفعلي وليس حسب سعر السوق كما يقال في أيامنا هذه.
• تشجيع المشاريع الفردية لتغطية حاجة السوق. فالسوق له الأولوية.

البعد الرابع: التجارة.

التجارة هي ايصال المواد المعيشية الى جميع الناس بأقل ما يمكن من التكاليف.
التجارة الداخلية:
• الحكومة يمكن أن تكون تاجراً. والمشروع يمكن أن يكون تاجرا. والأفراد كتجار يقومون يتوزيع الانتاج الزراعي والصناعي على السوق أو الناس.
• السوق من حيث المبدأ حرة، ويسمح بالمنافسة طبعا.
• التاجر الصغير تقوم عليه التجارة الداخلية. والخمس يمكن أن يكون ربحاً عادلاً.
التجارة الخارجية:
• تستورد الحكومة ما تراه ضرورياً لتلبية حاجة السوق المحلية. ان معيار الصحة الاقتصادية هو استقرار السوق المحلية. وهذا يعني أن السوق يؤمن حاجات الناس.
• الاستيراد يمكن أن يكون فردياً أو حكومياً، أو مشتركاً.
• التصدير يكون لحاجة المجتمع للاستيراد وليس للربح.
القاعدة الأساسية: أقل ما يمكن من الاستيراد والتصدير.

البعد الخامس: الاحصاء:

 الاحصاء ضروري جدا للنظرية، والا كيف يكون التخطيط ؟
 علينا احصاء المواد التالية على سبيل المثال لا الحصر: البترول – البتروكيميائيات – الحديد – الفوسفات – الاسمنت – الأخشاب.
 الأرض: المستثمرة، القابلة للاستثمار، التي يمكن استصلاحها، المراعي والغابات. المياه.
 الحيوانات: البقر، الجاموس، الماعز، الغنم، الدجاج والبيض والأسماك.
 النسيج: الصوف والحرير والقطن والكتان.
 السكر – زيت الزيتون والقطن والعبيد، الأرز والسمن.

ملاحظات:

 علينا أن نعي أنه لا يمكننا أن نستخدم نفس أدوات النظام الرأسمالي وبنفس المضمون وننتج نظاماً آخر مغايراً له. (هذا ما يقوم به من ينظرون لنظام اقتصادي اسلامي في الوقت الحاضر).
 جاء استعمال ”رأس مال“ في القرآن مرة واحدة بمعنى ”أصل المال“ وهذا مختلف عن مضمون استعمال ”رأس مال“ في الاقتصاد السياسي السائد اليوم.
 يقول تعالى: ”يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين. فان لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، و ان تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. البقرة 278 – 279 .
 الواضح أن رأسمال تعني كمية المال التي استعملت في الربا.
 الرأسمال في الاقتصاد السياسي هو المال الموظف لانتاج فائض القيمة. من هنا فان الرأسمال الربوي له معنى ملتبس في الاقتصاد السياسي الغربي. فمنهم من يميل الى عدم اعتباره(الرأسمال الربوي) ”رأسمال“ بالمعنى الاصطلاحي للكلمة.
 علينا اعادة الاعتبار للشكل والمضمون كمفهومين متكاملين حتى على الصعيد الاقتصادي. من هنا نقول أنه علينا ابتكار أدواتنا الذاتية ومصطلحاتنا حتى في الاقتصاد.
 يقول رب العزة: ”فلا تعجبك أموالهم“ لأن مضمون المال الذي يعطيه المنافقون مختلف عن مضمون مال المؤمنين، لذلك علينا رفض هذا المال شكلاً أيضا.

تطبيق عملي:
بعث الامام علي كرم الله وجهه لمحمد بن أبي بكر، لما ولاه على مصر، الكتاب التالي:
”يا عباد الله إن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم، قال الله عز وجل: ”قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة؟ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون“.ثم يتابع رضي الله عنه: ”سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت، وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من طيبات ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أفضل ما يسكنون، وركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غداً جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق من كان له عقل، ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله“.

نتيجة:

 النظام الاقتصادي الاسلامي ينطلق من الانسان ويعود اليه بالمنافع. وما ذلك الا لأن الله تبارك وتعالى قد بعث لنا الدين من أجل سعادتنا في الدنيا والآخرة.
 بناء هذا النظام يكون طاعة لله وفي سبيله.
 شرط بناء هذا الاقتصاد، الايمان الحقيقي، أي الانتماء الجواني لهذا الدين والتموضع بالتالي معه.
 سعادة الانسان لا تكون الا بسعادة اخوانه أو نظرائه.
 في الاسلام، الخلاص هو خلاص الأمة. وكل آتيه يوم القيامة فردا، أما في الدنيا ”يا أيها الناس، أو يا أيها الذين آمنوا...“، خطاب الدنيا للجماعة وليس للفرد...
 علينا أن نضع نصب أعيننا مضامين ذلك الحلف الذي أبرم في الجاهلية والذي قال عنه النبي اذا دعي به في الاسلام لأجاب. انه حلف الفضول. وأهم بنوده نصرة المظلوم والتأسي في المعاش.

حسن ملاط

ليست هناك تعليقات: