بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الأحد، 14 أبريل 2013

حول القراءة


                                          حول القراءة
حسن ملاط
يقول الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، في مقالة له بعنوان " التربية المستنيرة على التعلم لم تزل في طور الطفولة" نشرها في جريدة لوموند الفرنسية: " ما أنا علي يقين منه هو أن التربية (في المدارس الفرنسية) تعتاش على صور وأفكار خاطئة. فنحن مررنا بانعطاف حاد في السبعينات قضى بالتخلي عن تربية تقوم على نقل المدرس علماً يمتلكه إلى متعلم أو تلمـــيذ يتلقى هذا العلم، وحل محل هذه التربية نــهج نشط يولي التلميذ دوراً فاعلاً في بناء معارفه وصوغـــها. وهـــذا الانقــلاب لا عودة عنه، ولا رجعة فيه. ولكننا استعجلنا الأمور من غير روية. وحسبنا أن الانقلاب وهبنا مفاتيح سيرورات التعلم والوقائع. والحقيقة أننا لا نعلم شيئاً تقريباً من طبيعة التعلم وعملياته. وما نعلمه جنيني وغامض. والصندوق الأسود (الدماغ) لا يزال مغلقاً، ولم تكشف أسراره بعد". ثم يتساءل: " ما العمل لكي تصبح الدراسة جذابة ويقبل عليها التلامذة؟".  ويضيف: " فعلى سبيل المثال، نعرف أن مجموعة الكلمات التي يعرفها الطفل عامل راجح في تعلمه القراءة وتيسيرها، وأن مرونة القراءة والكتابة والحساب تكتسب من طريق عمليات آلية أو تلقائية، أي من طريق التدريب والتمرين"... " وما لا نعرفه إلا على سبيل التخمين هو تجربة الطفل الحقيقية وما يفهمه منها. فما ينشده الطفل، ولا يدركه على نحو واضح، هو رغبته في أن يصبح أو يصير راشداً مستقلاً بنفسه. وقد لا يؤدي إلى هذه الحال ما نحسبه ســـعادة الولد المباشرة والراهنة. وقد تكون نظرة الأهل إلى طفلهم من أعصى الأمور التي على المؤسسة المدرسية معالجتها. فالأهل يثقل عليهم قبول اكتساب المهارة بواسطة الجهد". وينهي مقالته قائلاً: " والاضطلاع بالتعليم والإقبال على مهنة التدريس، أمر محير. فهي مهنة تقتضي من صاحبها القيام بأدوار قلما تجتمع في شخص واحد: عليه أن يكون رائد فريق، وممثلاً، وبصيراً بنفوس أفراد صفه. وإلى هذا، عليه أن يلم إلماماً دقيقاً بمواد تدريسه. وهي مهنة تعنى بإنسانية الإنسان، وترعى جهد الولد في سبيل بلوغه رشده".
والمهارة في القراءة هي العامل الحاسم في تعلم الطفل مختلف مواد المنهاج المدرسي.
ماذا نفعل حتى نقرأ؟ في العشرين سنة الأخيرة، تقدمت الدراسات العلمية حول الدماغ والقراءة، بخطاً سريعة. علم النفس الإختباري والتصوير الدماغي أوضحا كيفية تعرف الدماغ على الكتابة وكيف تغير (الدماغ) خلال هذا التعلم. أصبح الآن ممكناً التحدث عن علم حقيقي للقراءة. والمؤسف حقاً هو عدم معرفة هذه العلوم من الجمهور المعني مباشرة بهذه العلوم، عنينا الأهل والمعلمين.
هذه المحاضرة هي حتى نضع في متناول المعلمين والأهل المعارف العلمية التي تتعلق بعلم الأعصاب المعرفي المتعلق بكيفية تعلم القراءة. وهذا ما صرف العلماء عقوداً من البحوث حتى تمكنوا من اكتشافه، والذي يحاول المعلمون بواسطة التجربة والخطأ الوصول إليه. المعلمون، الخبراء الأوائل بمعرفة غرفة الصف، يعرفون قوانين التفكير والنمو وأسس الإنتباه والذاكرة. ونحن نطمع أن يعرف الأهل كيف يعمل دماغ أبنائهم حتى يساعدوا المدرسة على الإنتاج والإبداع.
هناك فكرة مستجدة يتحدث عنها مؤلف كتاب "الخلايا العصبية للقراءة" ستانيسلاس دوهايين، وهي أن معرفة آلية عمل الدماغ لا تفرض طريقة معينة لتعليم القراءة أو تمارين محدودة للمساعدة في تعليم القراءة، ولكنه يتحدث عن ترك الحرية للطفل والمعلم بابتداع الطريقة التي يريد. ولكنه في مكان آخر من كتابه الجديد" تعليم القراءة" "Apprendre à lire”"  يقول في الصفحة 104: "لم نكن لنكتب هذا الكتاب لو لم يكن هناك عشرات من الدراسات قد أوصلت إلى استنتاجات صلبة والتي تؤكد أن تعليم الصوتمية phonologie وعلاقة الصوتم الروسم هي الطريقة الأكثر فعالية في تعلم القراءة. إنها تقود إلى تقدم أسرع من الطرق التربوية الأخرى في تعليم القراءة أو تعلمها، والتي لا تثير انتباه الأولاد إلى الحروف والأصوات. إن طريقة التعليم الهجائية (التركيبية) هي التي تدوم أكثر من الطريقة التحليلية. كما أن الإختبار قد أعطى نتيجة ضرورة تعلم كتابة الحروف...".
كيف يتعلم الدماغ القراءة؟
ما هي الكتابة؟ الكتابة تشبه الشيفرة السرية التي تحجز الأصوات. وكما كل الشيفرات علينا تعلمها. القارىء المُجيد هو من يعرف تفكيك هذه الشيفرة. في اللغة العربية، كل حرف مع حركنه يدل على صوت معين، ولكن التعقيد يأتي من حيث أن الحرف له أشكال مختلفة. أما في الفرنسية فكل صوت له حرف مقابل أو أكثر من حرف. كما أن هناك نفس الحرف يُلفظ بشكل مختلف: مثال abri و absent مثال آخر agenda و enfant.
كيف يعمل الدماغ قبل القراءة؟
القراءة ليست نشاطاً طبيعياً للطفل. الكتابة هي اختراع حديث نسبياً في تاريخ الإنسانية حتى يتمكن (هذا الإختراع) من التأثير على تطور دماغنا. فبكثير من الجهد تمكن الإنسان من إعادة تأهيل مناطق من دماغه حتى أصبح قارئاً خبيراً. دارون كان قد لاحظ أن القراءة هي نشاط صعب ومستحدث وأنه ليس كالكلام.
أثبتت التجارب العلمية أن الجزء الأيسر من الدماغ هو المسؤول عن تعلم القراءة. وأن هذا الجزء هو المسؤول عن تمييز أصوات اللغة الأم خلال عدة أشهر. فابتداءً من الشهر السادس يصبح الطفل حساساً للغته الأم بحيث يمكنه التمييز بين أصواتها. كما وأن الطفل بعمر السنتين يمكنه أن يميز إن كانت الكلمة تنتمي إلى لغته الأم أو لا. وخلال السنة الثالثة يمكنه التمييز بين الإسم والفعل. ويمكنه أيضاً معرفة أهمية ترتيب الجملة: فعل، فاعل... هذه المعرفة ليست واعية، فهو لا يعرف أنه يعرف.
حتى يتعلم القراءة على الطفل أن يعرف أنه يعرف. عليه أن يكون واعياً لبنية اللغة المحكية: الكلمة، الصوتم...
يوجد منطقة في الدماغ تختص بالكلمات المكتوبة:
قراءة الكلمة لا تتشابه مع تسمية شيء ما. قبل تعلم القراءة، جميع الكلمات تتشابه، خربشة على صفحة بيضاء. معرفة الكلمة المكتوبة يتطلب معالجة مختصة. حتى يتعلم الطفل تفكيك رموز الكلمات المكتوبة، هناك منطقة من الدماغ يجب أن تتخصص بهذا النشاط، لأن هذه الأشياء المرئية هي من نموذج جديد. التغير الرئيس الذي تفرضه القراءة يوجد في المنطقة اليسرى من الدماغ، في مكان محدد يدعى "مساحة الشكل المرئي للكلمات". بقدر ما تتطور القراءة تتطور هذه المنطقة من الدماغ. القراءة تعيد تهيئة الدماغ لتقبل التغيرات الضرورية للقراءة في القشرة الدماغية والخلايا الدماغية. وفي حال تلفت هذه المنطقة من الدماغ تصبح القراءة مستحيلة.
ما هي الفروقات الأخرى بين المتعلم والأمي؟
تبين في المختبر أن منطقة الرؤية في الدماغ تكون متطورة عند القارىء ولا تكون كذلك عند الأمي.
في النتيجة، القراءة تعني تنمية تواصل فعال بين رؤية الحروف وتحويلها إلى أصوات. هذا التواصل يجلب إفراط في الدقة لنظام الرؤية.
تركيز الإنتباه إلى الأصوات:
تركيز الإنتباه إلى أن اللغة المحكية مؤلفة من أصوات أصلية وبسيطة (صواتم) يدعى الوعي الصوتمي. هذا الوعي يعتبر المهارة الأساسية التي تؤدي لتعلم الطفل القراءة.
في البداية، يتنبه الطفل الذي لم يتعلم القراءة، إلى الكلمة بمجملها. ولكن، مع تعلمه القراءة يتنبه الطفل إلى أن الكلمة تتألف من مقاطع، ثم إلى أن المقاطع تتألف من صواتم بسيطة.
إن تعلم القراءة يجب أن يبدأ بتنمية الوعي الصوتمي، وهذا يبدأ في الروضة. هذه المرحلة تعتبر المفتاح لتعلم القراءة. لقد بينت الأبحاث أن التركيز على تنمية الوعي الصوتمي ضروري جداً لتعلم القراءة. لذلك على المعلمة أن تقوم بكثير من التمارين التي تنمي هذا الوعي. فالتمييز بين الأصوات يوجه المساحات الدماغية المختصة بالقراءة إلى التطور بحيث يتمكن الطفل من القراءة.
رؤية الحروف والرواسم:
في الرؤية، كما في السمع، يتنبه الطفل، قبل القراءة، إلى الكلمة بمجملها. فهو لا يتنبه إلى المقاطع، ثم إلى الرواسم، سواء كانت بسيطة أو مركبة. من هنا ضرورة تعليم الطفل وتنبيهه إلى أن الكلمة تتألف من حروف بسيطة ومركبة وبأن جميع الكلمات تتألف من هذه الحروف، وأن الكتابة تبدأ من اليمين أو من اليسار تبعاً للغة التي ندرسها. وهذا ما ينتج " علبة الحروف" في الدماغ. ألم نقل أن تعلم القراءة يستدعي إعادة تأهيل الدماغ recyclage. وعلينا التنبيه أن تعلم الحروف لا يكفي، فهناك ضرورة لتعلم الطفل العلاقة بين الرواسم والصواتم.
لقد أظهرت الإختبارات التربوية أن تعليم الطفل، بشكل واضح ومباشر، للعلاقة بين الروسم والصوتم هي الطريقة التي تؤدي إلى تعلم الطفل القراءة بشكل سريع. كذلك الإنتقال إلى القراءة الواعية السريعة تستدعي هذه الطريقة في التعليم.
كما أن التصوير الدماغي، اظهر أن هذه الطريقة تؤدي بشكل سريع إلى تنشيط المساحة الدماغية المسؤولة عن القراءة. كما أظهرت أن تعليم الطفل للكلمات بشكلها المجمل، لم يغير المساحات الدماغية المسؤولة عن القراءة. فهي تنشط قليلاُ في القسم الأيمن، علماً أن القسم الأيسر من الدماغ هو المسؤول عن القراءة.
إن ترك تعليم القراءة بالطريقة المجملة، وتركيز الإنتباه إلى مكونات الكلمة، هي مرحلة ضرورية في التعلم.
نلخص فنقول: حتى يتعلم القراءة، على الطفل أن يتنبه إلى أن الحروف تمثل أصواتاً في جميع الكلمات التي يتعلمها. كما وأن التعليم المنهجي للعلاقة روسم- صوتم هي التي تسرع التعلم.
الأحرف المتقابلة
هذه مشكلة لا بد من حلها، لأن الطفل الذي لم يتمرس على القراءة يخلط بين هذه الأحرف، وهذا يعود إلى عدم تأهيل الدماغ على التفريق بين هذه الحروف. إذ أن هذا يتطلب تدريباً للمساحة المسؤولة عن رؤية الأشياء في الدماغ. من هنا يخلط الطفل بين ن وب وت عندما تكون الأحرف متصلة أو بين p و q كما وبين b و d.
الطريقة لحل هذا الإشكال تقوم على الكتابة سواء في الفضاء أو على الدفتر أو اللوح. فحركات الكتابة تبين للطفل الفروقات بين هذه الحروف، وليس هناك حل آخر.
الطفل كقارىء جيد
القراءة تتطلب من الطفل جهوداً جبارة، فعليه تحليل الكلمة إلى مقاطع وحروف، ثم إعادة تركيبها حتى يحول الرواسم إلى صواتم أي أصوات. ولكن هذا لا يمنع الطفل من أن يصبح قارئاً جيداً، خاصة بعد إعادة تأهيل المناطق الدماغية الخاصة بالإبصار ومن ثم بالقراءة.
باختصار شديد، القراءة تتطلب جهداً هائلاً ينشط جميع الروافد العقلية عند الطفل.  كما أن آلية القراءة ضرورية لتحرير الذاكرة والإنتباه من العمل. والوقت الذي يستغرقه الطفل للقراءة هو الذي يمكننا من قياس الكفايات عنده. وعندما تصبح القراءة آلية، تستقل عن عدد الأحرف في الكلمة.
صعوبات تعلم القراءة "ديسلاكسي" dyslexie
الديسلاكسي هي تشوه عصبي بيولوجي مبكر، ذو أصول وراثية على الأغلب. والأطفال المصابون لا تتنشط عندهم المنطقة الدماغية الصدغية اليسرى المسؤولة عن القراءة. وتعليم الأطفال المصابين الهادىء والمركز بواسطة الطريقة صوتم – روسم يؤدي إلى تصحيح لهذه التشوهات. علينا استبعاد عامل السمع والرؤية قبل التحدث عن الديسلاكسي.
القراءة في وسط غير محظي أو فقير
مع أن تعلم القراءة هو رهان أساسي بالنسبة لمجتمعنا، إلا أن هناك عدداً كبيراً من التلامذة، حتى في الصفوف المتوسطة، لا يتقنون القراءة. والسبب يعود إلى طريقة تعليم القراءة في الصفوف الأولى. كما وأن أكثرية هؤلاء تنتمي إلى الطبقة المتوسطة أو الفقيرة.
هناك عوامل عديدة، أرجو التنبه لها.
1 – العائلات الفقيرة، أو غير الميسورة، تملك لغة غير غنية بالمفردات والتركيبات المختلفة.
2- كفايات هذه العائلات محدودة على صعيد الصوتمة. وهذا عامل أساسي في تعلم القراءة.
3 – لا وجود للألعاب التي تختص بالكلمات والغنى اللغوي.
إن تراكم هذه العوامل، مضافاً غليها العوامل الوراثية تؤدي إلى الصعوبات في تعلم القراءة الغير مرضية.
يضاف إلى ما تقدم عاملان أساسيان، هما عدم ثقافة الأم التربوية، وعدم وجود كتب في البيت. هذان العاملان يعكسان عدم تأقلم العائلة مع اللغة المكتوبة.
الحل يقوم على نوع من التربية المختصة، تقوم على تكثيف التمارين الصوتمية، على الألعاب اللغوية وخاصة التركيز على التعبيرالشفهي (أي إعطاء الطفل وقتاً للتعبير عن نفسه بحرية، وتشجيعه على ذلك). يضاف إلى ما تقدم، إغناء ملكتهم اللغوية من الكلمات والتعابير.
أخيراً، يبقى أن نتحدث في لقاء آخر، عن المبادىء الكبرى لتعليم القراءة.
شكراً لحسن استماعكم. والآن إلى الأسئلة والملاحظات.

ليست هناك تعليقات: