من سيرة المصطفى
يقول تبارك
وتعالى موجهاً خطابه للمؤمنين: "إن الشيطان لكم عدو، فاتخذوه عدواً". (فاطر
6 ). إن الله تبارك وتعالى يريد من المؤمنين أن يكونوا إيجابيين بمقاتلة العدو، أي
أن يبادروا بعداوتهم للشيطان. وحيث أن الشيطان يمكن أن يكون إنساناً، فهذا يعني أن
مبادرته بالعداوة ممكنة. أما إذا كان من الجن مثلاً، فنستعيذ بالله منه حيث أنه من
عالم الغيب الذي لا يمكننا ولوجه.
بما أن الله
أمرنا أن نتخذ الشيطان عدواً فهذا يعني أن الخطوة الأولى هي تحديد هذا العدو. هل
أن تحديد العدو هي ممارسة ذاتية أم ممارسة موضوعية. نعتقد أن الجواب على هذا
السؤال يتطلب، بل يفرض علينا العودة إلى من "كان خلقه القرآن"، يفرض
العودة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. علينا أن نعود إلى سيرة المصطفى حتى نعرف
كيف كان يحدد عدو المسلمين وعدوه. فحديثنا نحن لا ينطلق من منطلقات فردية، بل من
منطلقات تتعلق بالمجتمع الذي نعيش فيه.
مكة: كانت مكة
حاضرة جزيرة العرب. "المتتبع لتاريخ مكة وجغرافيتها، يجد أنها كانت وادياً
غير ذي زرع، لا ماء فيه ولا شجر، تحيط به الجبال الوعرة من كل الإتجاهات. ولم يكن
يتصور أن تكون في يوم صالحة للحياة، لكن حكمة الله سبحانه وتعالى تجلت في أن
يجعلها قبلة الناس حين أمر سيدنا إبراهيم، وابنه عليهما السلام، بالهجرة إليها،
فتحققت المعجزة الخالدة بتفجر عين زمزم فيها، وبناء البيت العتيق (الكعبة) ليصبح
مكاناً مقدساً يفد إليه الناس، ركباناً ورجالاً، ليؤدوا فريضة الحج، حيث أصبحت مكة
قبلة العالم ومحط الأفئدة. وقد صور القرآن هذه المراحل في عدة آيات. يقول تعالى:
"ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا
الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون"(37إبراهيم).
وقوله تعالى: "أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم
أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون".(72 النحل) وقوله تعالى: "وإذ قال
إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم
الآخر. قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير".(128
البقرة) هذه القدسية والخصوصية جعلت لمكة مكانة إقتصادية مرموقة عبر التاريخ، من
خلال القوافل التجارية وأسواقها، ولكن المصادر لم تقف على تاريخ محدد لنشأة
الأسواق في مكة. ويبدو أن القبائل التي كانت تحكم مكة قبل قريش(جرهم وخزاعة) لم
ترجح موقعا ًآمناً لإقامة الأسواق فيها، مما يؤكد أن أمر الأسواق ظهر في مكة بظهور
قبيلة قريش، خاصة في عهد زعيمها التاريخي قصي بن كلاب".
"ازدادت
مكانة مكة عندما قامت على أمرها قبيلة قريش، التي اشتهرت بتنظيماتها الإدارية
وحنكة رجالها. وقد ذهب أحد الباحثين إلى أن تاريخ مكة الحقيقي يبدأ منذ تولي قصي
بن كلاب القرشي أمر مكة، في منتصف القرن الخامس الميلادي تقريباً (ولكن الثابت أن
تاريخها أقدم من ذلك بكثير. فقد أثبتت دراسات حديثة أن اليهود والنصارى كانوا
يحجون إلى مكة وليس إلى بيت المقدس). فقد قام قصي بعدة أعمال جعلت مكة مركزاً إقتصادياً
مرموقاً. والمعروف أن مكة في عهد قريش أقامت علاقات متنوعة مع البلدان المجاورة
لها كالطائف ويثرب، ومع بعض القبائل التي كانت تقطن على الطريق، لتحمي تجارتها،
فحدث لها ما ارادت وازدهرت أسواقها".
"جاء ذكر
قريش صريحاً في القرآن والسنة. فلا غرابة أن يصف القرآن قبيلة قريش وتجارتها في
سورة قريش: "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت
الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".(سورة قريش) وقد أشارت المصادر والدراسات
إلى مصطلح الإيلاف، وتجارة قريش، ورحلة الشتاء والصيف، وبينت دور قادتهم في بناء
أحلاف ومعاهدات مع قبائل ودول كبرى، لإبرام صفقات تجارية، كالروم والفرس واليمن
والحبشة. فأصبحت مكة بسبب إتفاقية الإيلاف موقعاً متميزاً على طريق التجارة
العالمية آنذاك، مما ساهم في ازدهار أسواق مكة وتجارتها".
"وردت في
كتب السنة عدة أحاديث في قبيلة قريش وفضلها ومكانتها، وهذا الأمر حددت له العديد
من مصادر الحديث أبواباً وفصولاً".
"بعد
حملة أبرهة الحبشي لهدم الكعبة المعظمة، والمؤرخة بعام الفيل (570 – 571 )
والواردة في سورة الفيل: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم
في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف
مأكول". زاد صيت القرشيين الذين لم يتصدوا لهذه الحملة متيقنين أن للبيت رباً
يحميه، فحدث ما تيقنوه، وباءت الحملة بالفشل، مما زاد في مكانة مكة دينياً وارتفعت
مكانة قريش، فاشتهروا بأنهم أهل الله، وولاة الكعبة، وجيران الحرم".
"يمثل
القرن السادس الميلادي بعداً إقتصادياً جيداً لقريش، حين أمسكت مكة بزمام التجارة
في بلاد العرب، فطريق التجارة الذي يمر بها أصبح أكثر أمناً بعد إتفاقية الإيلاف،
وأصبحت مكة في منآى عن الصراع الدولي القائم آنذاك بين الفرس والروم، وخاصة حين
أخذت قريش مواقف حيادية اتجاه الأطراف".
"أشارت
الدراسات إلى أن مكة أصبحت بعلاقاتها الخارجية وأحلافها مع المجاورين لها آنذاك،
مركزاً تجارياً تعج أسواقها بالخيرات القادمة من الشام والحبشة وبلاد فارس. وظهرت
منها شخصيات قرشية عظيمة، وأسر ثرية قبيل الإسلام في أسواق مكة، ، كعبد الله بن
جدعان التيمي، والوليد بن المغيرة المخزومي، وأبي سفيان الأموي. كما كان للنساء
نشاط ملحوظ كالسيدة خديجة بنت خويلد، التي كانت تمارس التجارة في سوق مكة، وكانت
معها أختها هالة، فكانتا تبيعان الأدم. ومثلهما هند بنت عتبة التي كانت من النساء
الشهيرات بمكة في عمل التجارة بالأسواق، وكانت تصحب زوجها أبا سفيان، في رحلاته
للتجارة".
"صارت
أسواق مكة قبل الإسلام وكالات مهمة للروم والأحباش، حيث ظهرت تنظيمات تجارية
وتعاملات حسابية، وعملات ونقود، ومكاييل، استخدمت في تلك الأسواق، وقد أكد ذلك
العديد من المصادر، خاصة الأجنبية".
"أشارت
المصادر إلى أسواق العرب الموسمية القائمة في الجاهلية وطبيعتها، وما يهمنا منها
أسواق مكة. فقد ذكر الأزرقي، وغيره من المؤرخين، عدة روايات عن مواسم العرب
وأيامهم وتجمعاتهم بمكة وما حولها، ومفادها: إنه إذا كان موسم الحج، خرج الناس من
عدة قبائل يوم هلال ذي القعدة، إلى سوق عكاظ، كل له مكانه، ورايته منصوبة، يضبط كل
قبيلة أشرافها وقادتها، ويتم بينهم البيع والشراء مدة عشرين يوماً. ثم يمضون إلى
سوق مجنة فيقيمون بها عشراً، أسواقهم قائمة، وإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى
سوق ذي المجاز بعرفة، أقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة. وكان يحضر هذه الأسواق
التجار ومن يريد التجارة. وكان العرب لا يتبايعون في يوم عرفة، ولما جاء الإسلام
أحل الله لهم ذلك. قال تعالى: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من
ربكم".(البقرة 198) وفي قراءة أبي بن كعب "في موسم الحج"، يعني:
منى وعرفة وعكاظ ومجنة وذي المجاز، فهذه مواسم الحج. وقد وضع البخاري في صحيحه باب
"الأسواق التي كانت في الجاهلية فيتبايع بها الناس في الإسلام".
المصدر (http://www.kunoooz.com/vb374/showthread.php?p=180900)
ومن الجدير ذكره أن العرب كانوا يتناشدون
الشعر في الأسواق ويتبادلون الأسرى ويدعو كل منهم إلى ما يؤمن به.
ما تقدم يبين أن مكة كانت قبلة العرب الأولى
في جميع ما يتعاطى به العرب آنذاك. المكانة الدينية، المكانة الإقتصادية والمكانة
العسكرية، حيث أن قريشاً كانت تملك جيشاً شبه منظم هم الأحابيش الذين كانوا يقومون
بالذود عن قريش عندما يُطلب منهم ذلك. هذا، ومن دون أن ننسى الهالة التاريخية التي
تحملها قريش لوجود الكعبة في بلدها، وخدمتها المجانية للحجيج.
مكانة مكة وقريش يعرفها النبي عليه السلام.
فهو يعلم أن قريشاً هي العقدة في جميع جزيرة العرب. من هنا فإن ضرب هذه العقدة
تجعل جميع العقد تتحلل من دون لأي ولا تعب. لذلك، بعد ان استقر بالنبي عليه السلام المقام في المدينة (يثرب)، باشر ببعث
السرايا لملاحقة قريش بتجارتها، وخاصة تلك التي تذهب إلى الشام. ونحن نعلم أن عصب
الاقتصاد المكي (القرشي) هو التجارة. فعندما تصبح طريق القوافل غير آمنة فهذا يعني
تهديداً للإقتصاد المكي، وليس للإقتصاد فقط، إنما لمجمل الدور التي تلعبه هذه
القبيلة القائدة لجزيرة العرب.
هذا ما جعل
النبي يحدد أن قريشاً هي العدو. ومن ينتصر على هذا العدو يسود على جزيرة العرب
بمجملها. وقد كان تحديد الرسول صلوات الله وسلامه عليه للعدو صحيحاً على الإطلاق
لأنه بعد فتح مكة، أي الإنتصار على قريش كان عام الوفود. العام الذي دخل فيه العرب
إلى دين الله أفواجاً، من غير بعوث ولا إغارات.
لمن يريد
الإستزادة في هذا المجال فليرجع إلى السرايا والغزوات التي قام بها النبي أو
أرسلها فسوف يجد أن مجملها كان ضد قريش. والقليل القليل منها كانت لتأديب من
يتطاول على المسلمين أو يتآمر مع العدو أي مع قريش عليهم. وهنا علينا أن نتذكر أن
الوثيقة التي درسناها في المقالة السابقة، كانت هذه الوثيقة تحرم على أصحابها أن
تتعامل مع قريش أو تؤازرها.
وننهي فنقول
أن من يسيطر على عصب الحياة، أي على الإقتصاد، ويملك القوة العسكرية، ويستخدمهما
في استغلال واستعباد العالم يكون هو العدو، وانهياره يعني إنهيار جميع مفاصل
الإستغلال والإستبداد والإستعباد في العالم.
أما في
منطقتنا العربية، فالكيان الصهيوني هو الذي احتل فلسطين وطرد أهلها، وهو الذي يمنع
أي تطور للعرب لأنه يعتدي عليهم باستمرار، كما أنه يمنع الوحدة بين العرب لوجوده
بين القسم الأسيوي والإفريقي للوطن العربي. لكل ما تقدم نقول أن العدو المباشر
لأمتنا هو الكيان الصهيوني، ولا تتقدم هذه الأمة إلا إذا تمكنت من القضاء على هذا
لعدو. من هنا ضرورة التوجه الكلي من قبل العرب والمسلمين إلى حل القضية الفلسطينية
بالقضاء على الإستعمار الإستيطاني الصهيونيي.
كما وأن الهيمنة الأمريكية على بلادنا، سواء اقتصادياً
أو عسكرياً، عبر تواجد قواعدها العسكرية في البر والبحر، يجعل من هذه الإدارة
العدو الأول لجميع شعوب العالم بما أنها هي مركز العولمة النيوليبيرالية التي تنهب
جميع الشعوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق