بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الأربعاء، 1 أكتوبر 2008

الانتماء والتموضع

الانتماء والتموضع
سبتمبر 24th, 2008

حسن ملاط ـ لبنان

هناك الكثير من الظواهر التي تحصل في مجتمعاتنا تُفسر بطريقة تبسيطية تفقد الظاهرة معها معناها ومدلولها الحقيقي. من هذه الظواهر الاختلافات والانقسامات في التنظيمات التي تنتمي الى نفس الاتجاه الفكري والتنظيمي أحيانا. ومن هذه الظواهر أيضاً الاعلان عن مواقف سياسية لا تنسجم مع الموقع الفكري والسياسي وحتى التنظيمي لمن أعلن عن هذا الموقف. أما التفسيرات التي تعودنا على اعطائها فهي اما العمالة أو الخيانة أو التراجع …. ومن الممكن أو لنقل من الأكيد أحياناً أن هذه التفسيرات تفتقر الى المصداقية، انما يكون الموقف المتخذ ينسجم كل الانسجام مع انتماء الشخص أو الفريق وتموضعه. وهذا ما جعلني ألجأ الى هذين المفهومين: الانتماء والتموضع، حيث أنني رأيت أنهما يعبران وبصدق عن الظواهر التي نتحدث عنها. مضافاً الى ذلك أنهما ليسا مفهومين أخلاقيين انما يمكننا القول أنهما ينتميان الى ما يسمى بعلم الاجتماع السياسي، وهذا ما نحن بحاجة اليه.
الانتماء في اللغة هو الارتقاء على ما جاء في “لسان العرب” لابن منظور، وأضاف “المعجم الوسيط” لمجمع اللغة العربية في القاهرة أن الانتماء هو الى جانب الارتفاع الانتساب ، وهو المعنى الذي يناسبنا في هذا المقام.
والانتماء درجات أو أنواع. فهناك انتماء عاطفي وانتماء عصبي وانتماء سياسي وانتماء فكري وانتماء ديني… أما نحن فسوف نتحدث عن الانتماء البراني والانتماء الجواني، وسوف نترك التحدث عن الانواع الأخرى لتأصيل أكثر لهذه المفاهيم يمكن لأي مهتم القيام به.
فالانتماء بالنسبة للانسان العربي أو المسلم عو انتماء “براني”. فهو لا يفعل فعله في هذا الانسان. ولو أنه كذلك لأصبحت حركاته وسكناته تنطلق من فعل انتمائه. ودليلنا على ذلك واضح وضوح الشمس اذا ما أخذنا مثالا عليه ممارسة الأحزاب القومية أو الحركات القومية منها والاسلامية. فحزب البعث كان يسيطر على الحكم في سوريا والعراق وأعدى كيانان لبعضهما البعض كانا سوريا والعراق. واذا أخذنا بعين الاعتبار بأنهما ينطلقان من نفس المنطلقات العقائدية ويطرحان نفس الشعارات القومية فلا نجد امكانية للخلاف بينهما. فكيف لتا أن نفسر هذا الخلاف؟ نقول بأن الانتماء ليس حقيقيا. هذا اذا لم نعرج على الانقسامات بين الحركات التي تطرح نفس الشعارات ولها نفس المنطلقات. حركة القوميين العرب التي انقسمت أكثر من مرة على نفسها ؛ وأنتجت على المستوى الفلسطيني الجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية والقيادة العامة. ولا يمكن تفسير ذلك الا بما رحنا الى تسميته الانتماء البراني. أما التفسيرات الايديولوجية التي استخدمتها الأطراف المختلفة تبريرا لانقساماتها فلا تساوي، حسب اعتقادي ثمن الورق الذي صرف لتأكيد هذه التبريرات.
نأتي على الجبهة الاسلامية، وعلينا أن نتنبه هنا الى أن الكلام يتناول الاعتقادات ذات الطابع السياسي والالتزام على صعيد السياسة العملية وليس على صعيد طاعة الله عز وجل من وجهة نظر عقائدية أو ايمانية، “فانما الأعمال بالنيات، وانما لكل امرىء ما نوى….”. نقول بأن هناك العديد من الحركات الاسلامية التي تنطلق من نفس المنطلقات وتعود فقهيا الى نفس العلماء ومع ذلك نراهم على صعيد الممارسة السياسية أو الدعوية مختلفين أو متعادين ، ولا نرتكب معصية ان قلنا متحاربين. الام يعود هذا؟ لا يمكن تفسير ذلك الا بأن الالتزام لم يفعل فعله بعد في النفوس حتى يتمكن هؤلاء من ممارسة عقيدتهم بالشكل الذي يحقق أهدافهم ويقربهم الى الله عز وعلا أكثر؛ وهذا نتيجة لما أسميته الانتماء البراني . فالانتماء الحقيقي يجعل امكانية التناقض في الوحدة ممكنة أو متيسرة. فالتناقض على ما نعلم، يمكن أن يختلف كميا ونوعيا . فتناقضنا مع اسرائيل هو تناقض عدائي لا يمكن حله الا بازالة أحد طرفي التناقض أو بتغيير فعلي للصفة المميزة لأحد طرفي هذا التناقض. فهذا النوع من التناقض هو تناقض نوعي. أما التناقض بين الحركات الاسلامية فهو تناقض من نوع آخر، لنسمه كميا، وحله لا يكمن بازالة أحد طرفي التناقض كما في حالة اسرائيل والأمة الاسلامية، انما يتم بالتفاهم فيما بين هذه الحركات على حل التناقض فيما بينها ، حبيا، أي بالتفاهم وايجاد نقاط اتفاق يمكن العمل عليها وتكبير مساحة العلاقة المشتركة والعمل المشترك؛ وذلك يساهم مساهمة فعالة في القضاء على مثل هذا التناقض. أما في حال عدم التمكن من ايجاد الوحدة ضمن التناقض ، فانما يدل ذلك على ما قلناه آنفا : أعني ضعف الانتماء الجواني، الذي يمكن أن يفعل فعله في تغيير النفوس وبالتالي ترشيد الممارسة الايمانية. لن أطيل في هذا المجال ، انما سوف أضرب مثلا واحدا يليق بهذا المقام (الانتماء الحقيقي الجواني). ورد في السيرة المشرفة أن أبا سفيان بن حرب وأبا سفيان بن الحارث قد أشهرا اسلامهما في نفس اليوم، عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم على مشارف مكة يريد أن يفتحها. وبعد فتح مكة بعدة أيام كانت غزوة حنين، حيث مني المسلمون بهزيمة في بدايتها. وقد صمد مع النبي عليه السلام قلة من المسلمين ومن بينهم أبو سفيان بن الحارث، بينما كان زميله أبو سفيان الآخر يدعو على النبي ويتمنى له الهزيمة. هكذا ورد في السيرة. نقول أن انتماء أحدهما كان برانيا وشكليا بينما انتماء الآخر كان جوانيا . أو كما قال تبارك وتعالى “انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون “.
أما بالنسبة لمسألة الموضعة أو التموضع، فهو أخذ المكان أو الموقف أو الموقع أو الوضع الذي ينسجم مع انتمائه، وهذا الأخذ أو الاختيار يكون عن سابق تصور وتصميم تبعاً للغة القانونية، أي اختيار عن ارادة. والتموضع من هذه الوجهة النظر يكتسب أهمية كبيرة وخاصة اذا أخذنا بعين الاعتبار، وعلينا أخذه، الالتفاتة القرآنية لهذا الموضوع. يقول رب العزة:” واذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، واما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين”. ويقول تبارك وتعالى في مكان آخر”واذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين“.
ما تقدم يوحي، ان لم يكن يعني بأن هناك علاقة ما بين الشكل والمضمون وليس من الممكن تجاهلها. من هنا فالتموضع أو الموضعة تشير أو تعبر أوتوضح الانتماء، لذلك طلب الله تبارك وتعالى منا عدم الجلوس مع الذين لا يشابهونا من حيث الانتماء. أو دعوني أقول أمرنا بعدم التموضع مع هؤلاء…
لعل المثال التالي يوضح عملية التموضع أو الموضعة على الصعيد السياسي: (كيف اختار أتاتورك أن تكون موضعته غربية الهوى والممارسة مما دفعه للتخلي عن عثمانية الدولة التركية). وفي المناسبة فالموضعة كما جاء في المعجم الوسيط من تأليف مجمع اللغة العربية في مصر، ما يلي: الموضعة اسم لمكان؛ ونقول في قلبي موضعة لفلان أي محبة.
أقام مصطفى كمال الملقب “أتاتورك” الجمهورية التركية. وكان لابد له أن يعطي هذه الجمهورية الوليدة صفات تميزها عن الدولة التي أقيمت على أنقاضها (الدولة العثمانية). راح يفتش عن هوية جديدة غير هويتها الاسلامية. ودعا الى التتريك. هذه الخطوة كانت قفزة كبيرة قام بها الحاكم الجديد، ولكنها لم تكن مدروسة ما يكفي. فالتتريك كان الخطوة الأولى لانبثاق مشاكل كثيرة لم يُقم لها مصطفى كمال حسابا. فالأكراد الذين قبلوا بالانضواء تحت راية الدولة العثمانية، قد قبلوا ذلك انطلاقا من أنها دولة اسلامية وليست دولة قومية تركية. وهذا هو العامل الأساس والحاسم الذي جعل تركيا لا تعاني من هذه المشكلات ابان عثمانيتها. المهم أن أتاتورك أخذ قرارا حاسما بالتوجه غربا. ونفذ ما وعد به. غير الحرف التركي من العربي الى اللاتيني، وخفف علاقاته مع جيرانه المسلمين ما أمكنه ذلك . وكان لما قام به انعكاسات سلبية في الجوار العربي. علما أنه لا يمكننا انكار انبثاق طبقة بورجوازية وطنية (أي من الأتراك) ساهمت في بناء اقتصاد تركي. ولكن القضايا الخلافية التي أثارها انتقال أتاتورك الى الغرب على البنية الداخلية التركية على الصعيد الايديولوجي كانت كبيرة، وكذلك الأمور التي ظهرت ولم يكن لها وجود سابقا، منها قضية لواء الاسكندرون بين سوريا وتركيا، قضية اقتسام مياه دجلة والفرات والعاصي ما بين تركيا ، سوريا والعراق وجزئيا لبنان، القضية الكردية التي تتوزعها تركيا، العراق، سوريا وايران….
كما وأنه أثار قضية ذات طابع أوروبي أيضا هي العلمانية. وهذه قضية ليس لها مكان في عالمنا اذ أنه ليس عندنا كنيسة تتدخل في السياسة وليس “لرجال الدين” أن يحكموا. حيث أنه لم يمر في تاريخ الدول الاسلامية أن حكم الفقهاء أو من يسمون برجال الدين، علماً أن الشريعة لا تفرض وجود طبقة رجال دين كما في الدين المسيحي. ومع أنها ليست قضية فعلية، ولكن التركيز عليها من قبل أتاتورك قد زاد الطين بلة بالنسبة للقضايا التي أشرنا اليها سابقا، وجعلها قضية فعلية. فالجيش التركي اضطر للقيام بعدة انقلابات للحفاظ على ما يسميه علمانية الدولة التركية. علماً أن ما يقوم به لا ينسجم مع ما يسمى مبادىء العلمانية. فالتعدي على الحرية الفردية لا ينسجم مع العلمانية، رغم ذلك نرى الدولة الأتاتوركية تمنع الدراسة على الأنثى التي تختار الحجاب، ويطرد من الجيش كل من يمارس معتقداته الدينية، اذا كانت اسلامية.
ان ما قام به أتاتورك يدخل ضمن نطاق ما أسميته” الموضعة والانتماء”. فأتاتورك هذا كان خياره الغرب “الموضعة” مع الغرب وصارت نظرته، وخلفاؤه، نظرة غربية. لذلك لم يجد الحكام الأتراك غضاضة في الاعتراف باسرائيل. علما أنها قامت على أرض اسلامية، كل مسلم مأمور بالدفاع عنها والجهاد من أجل الدفاع عن حياضها. وكانت تركيا “المنتمية” و”المموضعة” مع الغرب الكيان المسلم الوحيد الذي اعترف باسرائيل؛ الى أن قررت بعض الدول “الاسلامية” الالتحاق بالغرب واعترفت باسرائيل أيضا مثال مصر والأردن وما يسمى السلطة الوطنية الفلسطينية.

أدرج في المنظور الحضاري |
موقع مالك بن نبي
www.binnabi.net

ليست هناك تعليقات: