مقدمة في تعليم القراءة للمبتدئين
مسألة تعليم القراءة ليست مستجدة، فتعليم القراءة ابتدأ منذ اختراع الحرف. ولكن تطور العلوم هو الذي أدى الى تطور النظر الى تعلم أو تعليم القراءة.
سوف نتحدث أولاً عن تأثير علم النفس في تعليم القراءة للمبتدئين. وما نتحدث عنه هو ما قام به فرع من علم النفس وهو فرع التحليل النفسي.
من المعروف تقليدياً أن ارتباط التعليم بعلم النفس يمر بعلم النفس التربوي (البيداغوجي) Psychopédagogie، أو علم النفس المعرفي،Psychologie cognitive ولكن أن نتحدث عن التحليل النفسي Psychanalyse فهذا أمر مستجد. ولكن يمكنني أن أؤكد أن الأفكار التي اكتسبناها من هذه الأبحاث ترتدي أهمية كبيرة في ميدان تعليم القراءة للمبتدئين. وأهم هذه الأبحاث تلك التي قام بها المحلل النفسي، Jacques Lacan . وقد ساعدت أبحاثه في تطوير الأفكار التربوية الهامة عند Françoise Dolto أيضا. وسوف نستعرض الآن وعلى وجه السرعة أهم هذه الأفكار.
1 – حتى يتعلم الطفل يجب أن يكبر. فتعلم القراءة مرتبط ارتباطاً يكاد يكون شرطياً بالنضوج النفسي Maturité عند الطفل ( وهذا هو المقصود بضرورة أن يكبر). فبقدر ما يتأمن النضوج عند الطفل بقدر ما يكون هذا الطفل مستعداً للتعلم.
2 – حتى يتعلم الطفل يجب أن يكون لديه أي (الطفل) الرغبة بالتعلم. ما من أحد يمكنه أن يعلم انساناً لا يرغب في التعلم. لذا على المعلم أن يوجد جواً تعلمياً يساعد على خلق الرغبة بالتعلم عند الطفل.
3 – المسافة الرمزية Distance symbolique: اذا ظل الطفل مرتبطاً بأمه (أو بمن يقوم مقامها) فسوف يعيق نضوجه. لذا يجب ايجاد مسافة (مسافة رمزية) بين الطفل وأمه حتى يتمكن الطفل من الانفتاح على القراءة. أو بصيغة أخرى، حتى تصبح القراءة حاجة له، عليه تأمينها حتى تقوم بالتالي أي القراءة بتأمين ما يتطلبه الطفل. ان وجود هذه المسافة هو الذي يجعل الطفل يتخلى تدريجيا عن أمه. أمه التي تؤمن له جميع متطلباته. الانفتاح على القراءة يتطلب جهدا يقوم به الطفل ، كما و يتطلب استقلالية نسبية Autonomie. أما الرمزية فهي التي ستجعل الطفل ينفتح مستقبلا على الرموز: رموز اللغة Symboles .
4 – الفرق أو لنقل التباين la différence على الطفل أن يعي أن هناك فرقا بينه وبين أمه، أو لنقل تباينا فهو ليس أمه وأمه ليست هو. أي أنه ليس هناك تماهيا بينه وبين أمه. هذا الشعور أو الوعي أو القبول من الطفل هو الشرط الأول لاستقلاله عن أمه أي لقبوله القيام بجهد ما حتى ينفتح على أي نوع من النشاط ومن ضمنها الجهد الذي عليه القيام به للتعلم. علينا أن نكون على يقين أن بعد الطفل عن أمه سوف يسبب له الأسى. ان الدور الذي تقوم به الأم بالنسبة للطفل لا يمكن استبداله ولا الاستغناء عنه، أضف الى ذلك أن البعد عن الأم أو القبول بالتباين يعني حتما الانفتاح على عالم مجهول من الطفل عالم سوف يسبب له الأسى لأنه يجهله.
5 – القبول بوجود الآخر la présence du tiers ان أول آخر يتعرف عليه الطفل هو الأب. من هنا على الأب أن يعلم أن عليه لعب دور الآخر. الآخر يعني بالنسبة للطفل أن هناك عالما آخر لا يقتصر عليه هو وأمه. فاذا تمكن الأب أن يلعب هذا الدور فسوف يجد الطفل سهولة بالانفتاح على العالم الخارجي، أي البعد عن أمه، أي القيام بجهد لتأمين متطلباته ، تلك المتطلبات التي تقوم الأم عادة بتأمينها من غير طلب من الطفل. الاستقلال عن الأم يكلف الطفل جهدا، وكذلك الانفتاح على القراءة وتعلم رموزها.
5 – التخلص من هيمنة التخيلي L’imaginaire : التخيلي يجعل الطفل يعتقد أنه بلمسة واحدة يمكنه تغيير العالم، كما تفعل الجنية أو الساحرة. فهي تحرك عصاها السحرية فتحصل على قصر أشبه ما يكون بقصور الملوك. وهيمنة التخيلي عند الطفل تجعله يعتقد أنه بامكانه أن يقرأ ساعة يشاء وأن يقرأ أيضا ما يشاء. ومن من المعلمين لم يصادف هذا النوع من الأطفال الذي يمسك بالكتاب ويبدأ بالقراءة. ولكن ماذا يقرأ؟ انه يقرأ من خياله وليس من الكتاب.
معرفة ما تقدم ضروري بالنسبة للمعلم لأنه يساعده على معرفة الطفل بشكل أفضل كما وأنه يساعد المعلم على التعامل الأفضل مع الطفل، التعامل الذي لايؤدي بالطفل الى أخذ فكرة سلبية عن المدرسة أو أي مؤسسة تعليمية أخرى.
بعد التزود بهذه المعارف يأتي دور اختيار الطريقة التي على المعلم أن يوصل من خلالها المعارف الى المتعلم. من المعروف أن هناك طريقتين لتعليم القراءة: الطريقة المجملة والطريقة التركيبية.
1- الطريقة المجملة ويندرج تحتها الطرق التي تبدأ بتعليم الطفل الجملة، أو الكلمة، أو الصورة أو القصة. ولا يظنن أحد أن الطريقة المختلطة لا تندرج تحت خانة الطرق المجملة. فجميع الطرق التي تعتمد التحليل للوصول الى الحرف هي في المحصلة طريقة مجملة، لأن انطلاقتها مجملة. واذا أحببنا أن نختصر فنقول أن كل طريقة تسمح للطفل بقراءة كلمة لا يعرف جميع مكوناتها تعتبر طريقة مجملة.
2- الطريقة التركيبية ويندرج تحتها الطريقة الهجائية والطريقة المقطعية والطريقة الصوتمية. وهذه الطرق يمكننا أن نطلق عليها اسم الطرق الطبيعية، ذلك أن الطرق المجملة لم يمر على استخدامها قرن من الزمان. وقد جاء استخدامها بناء لنظرية الجشطالت في علم النفس. وعندما نقول نظرية فهذا يعني أنها تحتمل الخطأ والصواب، أما عندما نقول أنها حقيقة علمية فهذا يعني أنه بامكاننا الفركون الى صحتها.
ها قد تعرفنا على طرق تعليم القراءة المستخدمة، فكيف لنا أن نختار الطريقة الفضلى؟ أو بصيغة أخرى هل هناك طرق صحيحة لتعليم القراءة وطرق خاطئة؟
ما المستجد على صعيد تعليم القراءة؟
المعهد الوطني لصحة الطفل والتنمية البشرية في الولايات المتحدة NICHD (وهذا يعتبر أهم مركز في العالم في مجاله) وهو يعمل في مجال محاربة الأمية، وبالتالي التفتيش عن الطريقة المثلى في تعليم القراءة، توصل علماؤه الى الحقيقة التالية: ان الخيارات البيداغوجية تتحكم بمورفولوجية Morphologie الدماغ وبنيته structure، وتضغط أيضا وبشكل سلبي على نوعية المعارف، كما وتؤثر سلبا أيضا على نمو وتطور العملية المعرفية والذكاء.
كما وأن أهم ما توصل اليه هذا المركز هو الانتقال بعملية تعليم القراءة من مجال علم النفس الى مجال علم الأعصاب. كما وأنه نتيجة الأبحاث التي قام بها الحائز على جائزة نوبل R.W. SPERRY فقد تم البرهان على أنه يوجد في الدماغ مركزان الجزء الأيسر من الدماغ هو مركز التحليل وتشريح المعطيات و الجزء الأيمن الذي يأخذ الصورة ويتعرف عليها من خلال المقارنة. كما وأنه تم البرهان على أن الدماغ لا يقبل الكلمة كصورة، فهو يحللها الى عناصرها. وعناصر الكلمة هي أحرفها لذا علينا معرفة عناصرها. فمن المعروف أن هناك نوعين من اللغات: اللغة الألفبائية واللغة الرسموية وهي اللغة الصينية واليابانية القديمة، حيث أن هناك محاولة جادة لتحويل هذه اللغات الى ألفبائية.
ما أهمية ما تقدم بالنسبة لاختيارنا طريقة تعليم القراءة؟
عندما نعلم الطفل الكلمة على أنها "صورة" أي من دون أن نعلمه مكوناتها أي أحرفها نطلب منه قراءتها وتذهب الكلمة الى الدماغ الأيمن لأنه مسؤول عن معرفة الصور بالمقارنة أو بالتذكر ويجد (أي الدماغ الأيمن) أن هذه ليست صورة انما لها مكونات صوتمية يرفضها ويبعث بها الى الدماغ الأيسر المسؤول عن التحليل وحيث أنه (أي الدماغ الأيسر) لا يعرف مكوناتها تقع المشكلة أي مشكلة ايقاع الدماغ في التعثر وعدم امكانيته على القراءة. وحيث أن مهمتنا هي تعليم الطفل القراءة وليس مرافقته الى التعثر في القراءة من هنا تأتي أهمية معرفتنا بكيفة عمل الدماغ أو آلية عمله حتى نتمكن من اختيار الطريقة التي تسهل عمل الدماغ على تعلم القراءة، واختيارها.
الدكتور Michèle Mazeau عالم نفس وأعصاب يقول: من وجهة نظر الكفايات الدماغية، لا نتعلم القراءة كما نتعلم الكلام، اللغة المكتوبة لا يمكن تعلمها الا بواسطة المبدأ الألفبائي الذي يصل كل شكل بصوت. فمن الضروري أن نعطي المفتاح للطفل منذ بداية التعلم.
اذا كنا لا نعرف العمليات processus العقلية التي تتيح لنا أن نقرأ، فهذا لا يعني مطلقا عدم وجود هذه العمليات.
التهجئة و المخزون اللغوي هما اللذان يتيحان للطفل أن يقرأ قراءة واعية.
اذا أردنا مساعدة الطفل على بناء معرفته فلا خيار لنا الا باعطائه المفاتيح التي تمكن من ذلك: الأحرف والمؤالفة Combinatoire.
ويمكننا أن نستمر في السياق نفسه حتى تتضح الأفكار بشكل أفضل. اليكم ما يقوله العالم التالي: البروفيسور Lucien Israël لم يتردد بالكتابة أن المقاربة الاجمالية globale هي تفسير معكوس بالمطلق. لقد تم البرهان على أن مركز اللغة هو الجزء الأيسر من الدماغ : انه مركز التحليل وتشريح المعطيات.
من هنا فان الطريقة الكلية لا تعلم الطفل القراءة لأنها مخالفة لآلية عمل الدماغ.
و اليكم هذه التجربة التي قامت بها "اليز تامبل" أجرت IRM f لعشرين طفلا عاديين وعشرين طفلا يعانون من الديسليكسيا قبل وبعد العلاج التعلمي الذي يرتكز على التمييز السمعي وعلى عمل من النمط المقطعي (syllabique ).
بعد العلاج أصبحت أدمغة الأطفال المرضى متقاربة مع أدمغة الأصحاء.
النتيجة:
ان تعلما للقراءة بشكل سيئ يساعد على تثبيت آلية للدماغ من النمط الديسلكسي.
من هنا ما نريد قوله هو التالي:
آن الأوان للانتقال بالتربية من الفرضيات الى الحقائق!!
علماء النفس يضعون فرضيات عن العلاقة بين انتاج الأفكار وعمل الدماغ. هذه ليست حقائق.
F. GRICK الحائز على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا قال أنه يمكننا أن نعرف كيف يعمل الدماغ لانتاج الأفكار من خلال IRM f و SCANNER أي الوصول الى حقائق.
و نضيف الى ما تقدم لقد برهن Noam CHOMSKY وSteven PINKER على الخاصية الفطرية للغة.
كما وأن Sally SCHAUWITZ برهنت أن المعلومة الناتجة عن عدة صواتم (يكون المقياس الصوتي الدماغي قد حللها) تكون مدموجة في وحدة صوتية واحدة. أي من يقرأ عليه أن يحول الاشارات المكتوبة الى اشارات لغوية، أي تحويل الروسم graphème الى صوتم phonème.
إن كثيرا من الأخطاء التربوية ذات النتائج الكارثية وُجدت نتيجة الجهل بهذه الحقيقة العصبية التي لا يمكن تجنبها. القارئ الجيد يحتاج الى 20 ملليثانية لتمييز الصوت بينما الآخرون يحتاجون الى 300 ميلليثانية.
التمييز بين الأصوات لا يتحسن مع العمر، بل مع التعلم بشكل جيد.
معرفة الرموز المكتوبة هي التي تحدد سرعة الانتقال من كلمة الى أخرى.
بعد تمييز الدماغ للأشكال الكتابية، تصبح هذه الأشكال مدركات نظرية. إنها رموز كتابية وليست صوراً. لا بد إذن من تحليلها.
لكن!! كيف يتم تحويل هذه المدركات النظرية الى لغة شفهية؟
في جميع اللغات: القراءة هي أن ينجح القارئ في ربط الرموز الشكلية بعناصر اللغة المحكية التي تمثلها هذه الرموز وأن يعطي معنىً لهذا المجموع من المعطيات الموجودة في الذاكرة ومن ثم تتكامل مع المجموعات الدلالية الأكثر تعقيداً والتي تشكل الكلمة ومن ثم مجموعات الكلام: الجمل والنصوص.
وهكذا يكون المتعلم قد قرأ.
سوف نقوم من دون أدنى شك بعرض مراحل تعلم القراءة من قبل الطفل على من يريد أن يعرف هذه الآلية، أما معلمو ومعلمات الروضات والحلقة الأولى فعليهم معرفة هذه المراحل بشكل مفصل حتى يعلموا مدى الخطورة التي يشكلها الخيار السيء في طريقة التعليم على الطفل ودماغ الطفل.
حسن ملاط
القلمون في 30 تشرين الأول أوكتوبر 2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق