حول تعلم القراءة للمبتدئين
مارست التعليم أكثر من ثلاثة عقود ولكن لم أوفق مرة في الدخول الى الصفوف الصغيرة. كنت أعاني مع تلاميذي ضعفهم اللغوي. كنت أعتقد أنه ناتج عن أن اللغة التي أستخدمها هي اللغة الأجنبية. وأنا على يقين الآن أنني كنت مخطئاً في تقديري. فالضعف في اللغة ينسحب على اللغة الأم وعلى اللغة الأجنبية في نفس الآن. هذا الاستنتاج لم أتمكن من الوصول اليه الا بعد أن مارست الاشراف التربوي. وكان الاشراف من الروضات حتى الصفوف العليا. الضعف في اللغة مرض تعاني منه المدرسة في أي مكان. وهذا هو العامل الذي جعلني أعتبر التفتيش عن ضعف اللغة هو الهم الأساسي بالنسبة لي. لقد تمكنت بتوفيق من الله عز وجل الى اليقين بأن الضعف في اللغة يعود الى الطريقة المتبعة في تعليمها. وهذه الدراسة هي مساهمة في ايضاح ما توصلت اليه.
من المعروف أن الطريقة المتبعة في تعليم القراءة للمبتدئين في بلادنا العربية هي الطريقة المختلطة ( اجمالية – تركيبية) ولكنها تبدأ على أنها مجملة. أعني بأنها لا تبدأ بتعليم الصوتم- الروسم، انما تبدأ من الجملة أو الكلمة أو الصورة. وجميع هذه البدايات متشابهة على صعيد تصرف الدماغ معها.
لقد تمكن العلم الحديث نتيجة الثورة التقنية التي لا مثيل لها، تمكن من تصوير دماغ الانسان وهو يتعلم القراءة. فبواسطة التصوير بالرنين المغناطيسي تمكن هؤلاء العلماء من معرفة المناطق الدماغية التي تتأثر بتعلم كل نوع من أنواع التعلم. مثال ذلك أن الانسان عندما يتعرف على صورة ما فالمنطقة الدماغية التي تنشط هي المنطقة الدماغية اليمنى، أما المنطقة الدماغية اليسرى فلا يعنيها هذا الموضوع.
نطرح السؤال: وما يعنينا هذا الموضوع نحن الذين نتحدث عن تعلم القراءة؟
التعليم بالطريقة المجملة، أي البدء بتعلم الكلمة، يعني أن المتعلم يعتبر هذه الكلمة وكأنها صورة لأنه لا يعرف الأحرف التي تتألف منها هذه الكلمة، فهو يتعرف عليها كما يتعرف على صورة الجمل مثلاً، أو صورة قلعة... ولكن القدرة الالهية التي قدرت كل شيء تجعل الدماغ يتصرف بطريقة مختلفة عما نريد نحن. يأخذ الدماغ الكلمة الى المنطقة الدماغية اليمنى لمعالجتها على أنها صورة ولكنه لا يتقبلها لأنها مؤلفة من مكونات، من أحرف. فيحولها الى المنطقة الدماغية اليسرى المولجة بالتحليل، فان كانت تعرف مكونات الكلمة ( الأحرف) يتمكن المتعلم من قراءتها. أما اذا لم يكن يعرف مكوناتها فيبدأ ببث الاحتمالات نتيجة ما يتذكر من أشكال مشابهة للشكل (الكلمة) الموجود أمامه. وربما يصل الى قراءة الكلمة.
ما تقدم ليس قصصاً من الخيال العلمي، انما هي حقائق علمية، سوف أنقل صورها في مرة قادمة ان شاء المولى عز وجل. والجدير ذكره في هذا المقام أن جل الذين قاموا بهذه التجارب هم من الحائزين على جائزة نوبل. ومنهم أيضاً من هو حائز على الكثير من الجوائز العالمية.
المهم في هذا المجال أن نصل الى الاستنتاج التالي: ان الطريقة الصحيحة لتعليم القراءة للمبتدئين هي الطريقة التي تسهل عمل الدماغ وليست الطريقة التي تتعارض مع آلية عمله.
ما تقدم هو العامل الأهم في اختيارنا للطريقة المثلى في تعليم المبتدئين للقراءة. هناك عوامل أخرى واليكموها:
1 – الفشل في تعلم القراءة يعود بالدرجة الأولى للمتعلم.
2 – المقاربة البيداغوجية تؤثر على تقبل المتعلم للتعلم.
3 – على الطريقة التربوية أن تأخذ بكثير من الاعتبار عملية النضج السيكولوجي للطفل.
4 – تعلم القراءة يفرض أن يكون الطفل ناضجاً بشكل أو بآخر.
ما هي التبدلات التي يجب أن تتدخل في بناء شخصية الطفل حتى يتمن من تعلم القراءة في الصف الأول؟
* يرتبط الطفل بعلاقة ثنائية مميزة مع أمه. ففي مخيلة الطفل أنه هو وأمه شيء واحد، مندمجان. الاختلاف طفيف. هنا يأتي دور الأب (أعني ضرورة تكريس الاختلاف).
* تطور علاقة الطفل مع أمه ارتقائياً باتجاه التميز: وهذا ما يسمى النضج. وهو العامل الحاسم في تعلم الطفل الكلام وبالتالي تعلم القراءة.
* حتى يقرأ الطفل عليه أن يكبر.
حتى يكبر، على الطفل أن يقبل عدداً من الحقائق و التي تُعتبر الباعث الى البؤس لدى الطفل.
الحقائق التي لا بد منها لتعلم الطفل القراءة:
1 – المسافة الرمزية:
لا بد من وجود مسافة رمزية بين الطفل وأمه حتى يتمكن من أن ينبني. الروضة هي مرحلة أولى لايجاد هذه المسافة. الروضة قريبة من الأم ولكن الصف الأول بعيد نسبيا.
2 – الفرق:
حتى يكبر، على الطفل أن يقبل التباين بينه وبين أمه. ليسا متشابهين (الطفل وأمه).
- هذا التباين يسبب القلق للطفل، فالمعلوم يوحي بالأمان أما المجهول فلا. بعده عن أمه يشعره بعدم الأمان.
- ما من أحد يعرف كل شيء، ما من أحد الا وينقصه أشياء. من هنا يريد الطفل أن يظل ملتصقاً بأمه.
- القبول بالتباين هو الطريق الأول لصياغة الطفل لنفسه: فرق بين الداخل والخارج، بينه وبين الآخر، بين الحقيقي والمتوهم، بين الفتى والفتاة، بين الشرعي والغير شرعي... بين الألف والباء!
3 – الموضع الرمزي للآخر:
- حتى يكبر على الطفل التخلي عن العلاقة بين اثنين فقط (هو وأمه) و القبول بالعلاقة الرمزية مع ثالث.
- للأم دور حاسم في هذا الأمر من حيث تشجيع الطفل على الانفتاح على الآخر. والا فمن الصعب جداً أن يقبل الطفل بالمدرسة.
- يكون الأب هو أول ثالث، أول آخر... وبذلك تفتح الطريق على الآخرين: المدرسة ...... القراءة!
- الآخر يتيح الانفتاح على النظام الرمزي الذي يؤسس الحدود والقواعد (النسق). الرمزية هي التي تؤسس العلاقات.
- الرمزية تساعد الطفل على الانتقال من الحالة الطبيعية الى الحالة الثقافية.
4 – العدول عن سيطرة التخيلي:
- كل منا بحاجة الى جانب خيالي أو تخيلي. ولكن عل الطفل التخلي عن هيمنة الجانب التخيلي.
- وجود الآخر يساعد الطفل على عدم الاستغراق في التخيل.
- التخيلي مثل قصص الجنيات التي تحقق الرغبات بلمسة عصا.
- الواقع مختلف: تحقيق الرغبة لا يكون مباشرة انما هو بحاجة الى عمل الى نشاط. يوجد فرح ويوجد حزن، هناك معارضة وأشياء يصعب قبولها من الطفل...
ليس هذا فحسب بل هناك الكثير في هذا الموضوع. ولكن نكتفي بهذا القدر الذي وضح موضوع الدراسات المعمقة في هذا الموضوع للوصول الى الطريقة المثلى المقبولة لتعلم القراءة للمبتدئين.
والجدير ذكره أن البرنامج التدريبي للقراءة قد راعى جميع الجوانب العلمية وأعطى نتائج باهرة في التطبيق العملي.
حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق