قراءة لما يجري في غزة
حسن ملاط
لن أبدأ مقالتي بالقول أن الصهاينة يرتكبون المجازر في غزة، مجازر يندى لها جبين الانسانية. فقد قصف هؤلاء المجرمون المدارس والبيوت ومراكز الأونروا علماً بأنهم يعرفون أماكنها وبالاتفاق مع المنظمة الدولية كما صرح المسؤول الدولي. ولماذا فعلوا ذلك؟ أقول لأن كل نظام في هذا الكون يعبر عن قيم معينة يُعرف بها. فالنظام الاسرائيلي قام على استعمار الأرض الفلسطينية وطرد أهلها منها، فما الذي تغير حتى لا يُهجّر الفلسطينيين مرة أخرى وثالثة ورابعة ان أمكنه ذلك، أو يبيدهم من الوجود! هل يخاف لوم الأمريكيين الذين أبادوا الهنود الحمر وأقاموا دولتهم "الحضارية" مكان همجيتهم (همجية الهنود الحمر). أم يخشون الأوروبيين الذين لم يكونوا أقل وحشية من حلفائهم الأمريكيين مع الشعوب التي استعمروها. وما المأساة الفلسطينية الا من نتائج استعمار بريطانيا لفلسطين. اذن، من صلب مبادىء النظام الصهيوني القيام بالمجازر والتهجير لأن مكان الاقامة، اقامة الصهاينة هو نفس المكان الذي يقيم فيه الشعب الفلسطيني. فلا عجب اذن أن الصهاينة يستبعدون من أي "حل" مع العرب امكانية تطبيق قرار المنظمة الدولية 194 الذي ينص على عودة الفلسطينيين الى ديارهم التي هُجّروا منها والتعويض عليهم. وفي هذا المجال يقول جابوتنسكي "ان الهدف الذي لن يحيد عنه هو تحويل فلسطين الى دولة بأغلبية يهودية، وان هذا الهدف هو سلمي اما الوسيلة فهي ليست سلمية، وان استخدام العنف لن يكون بسبب موقف الصهيونية تجاه العرب وانما بسبب موقف العرب تجاه الصهيونية. فالعرب سوف يقاومون بالضرورة «الاستعمار والاستيطان الصهيوني». هذه المقاومة ليست شأنا استثنائيا، ولا هي تعود، كما يقول جابوتنسكي، الى سلوك المستوطنين واعمالهم، ولكن «... لانه لم يسبق في التاريخ او في اي مكان من العالم ان قبل السكان الاصليون لبلد ما بقيام مستوطنات للغير على اراضيهم». «ان اي شعب - سواء كان متمدنا ام همجيا - ينظر الى بلده على انه وطنه القومي، الذي يعيش فيه كسيد مطلق. هؤلاء السكان لن يقبلوا طوعا بالرضوخ لسيد جديد وغريب، ولا حتى لشريك من هذا النوع» (الحياة 8 – 1 -2009 في مقالة لرغيد الصلح). هذا ما يقوله جابوتنسكي (احد الزعماء التاريخيين للحركة الصهيونية، فهو الاب الروحي والفكري لحزبي «ليكود» و «كاديما»).أما ما فعله بعض العرب هو التصالح مع العدو الذي طرد الشعب الفلسطيني من أرضه. ليس هذا فحسب انما يحاولون (هذا البعض من العرب) اقناع من تبقى في فلسطين بتقاسم أرضهم التي بقيت لهم، مع العدو الصهيوني وذلك حتى يتمكن هؤلاء الحكام من الحفاظ على عروشهم الملوثة بحماية أمريكا لها.
كيف تعامل الشارع مع أحداث غزة؟
في بلاد الاغتراب قامت في كثير من الدول مظاهرات ساخطة شارك فيها العرب والمسلمون وأهالي هذه البلدان تضامناً مع الشعب الفلسطيني في غزة ومقاومته الباسلة. أما في بلادنا العربية فقد قامت في بعض البلدان مظاهرات تدين الاعتداء الاسرائيلي ولكن علينا الاشارة الى أن أكثر هذه المظاهرات كان مرضي عنها من الحكام، ومنها (أي المظاهرات) ما أُمر بترتيبها لعدة أهداف سوف نبينها في سياق هذا التحليل. و في بعض البلدان كان ممنوعاً قيام المظاهرات حتى لا تسيء الى النظام العام!
ان اجتياح غزة بقصد القضاء على المقاومة (اياً كانت هذه المقاومة) يعني تصفية القضية الفلسطينية لصالح العدو الصهيوني، كما ويعني أيضاً أن هذه التصفية سوف تكون على حساب الشعوب العربية شاءت أم أبت. كما ويعني أيضاً الاتجاه الى القضاء على أية مقاومة موجودة ومنها المقاومة الاسلامية في لبنان على سبيل المثال لا الحصر، والأنكى من ذلك أن هذا سوف يتم في ظرف أكثر ما تكون فيه الادارة الأمريكية في تراجع. أي أنه عوضاً عن تقدم حركة الشعوب في القضاء على قيودها وعلى من يضع هذه القيود في أيديها يكون الاتجاه معاكساً تماماً لما يجب أن يكون عليه.
ما هي انعكاسات العدوان الاسرائيلي؟
مع بدء الهجوم الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة (وليس على حماس كما يدعي الصهاينة والمعسكر العربي المؤيد لهم، مع الأسف) انقسمت الساحة العربية والاقليمية الى معسكرين أحدهما مؤيد للاعتداء الاسرائيلي ويضم حكام مصر وحكام السعودية وسلطة محمود عباس بشكل أساسي ومعسكرآخر معاد للمعسكر الأول ويضم سوريا وايران. وقد قام المعسكر الأول بالتحريض على المقاومة وبتحميلها تبعات العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني لأنها لم تبادر الى الاستسلام للعدو الصهيوني وتقبل بالحصار الظالم الذي يفرضه العدو عليها. أنا لا أبالغ هنا فبامكان أي من القراء العودة الى مرافعات الرئيس حسني مبارك والرئيس محمود عباس ووزير خارجية مصر أبو الغيط وعباس ومستشاره حماد وغيرهم من المعتاشين والمتعيشين. أما على الجبهة السعودية فجو الديموقراطية التي تفرضها الادارة الأميركية على تلك المجتمعات فهي تسمح بتسريب الأنباء ومنها الاستقبال السيء من ملك السعودية لرئيس اتحاد العلماء الدكتور يوسف القرضاوي الذي كان يطرح ضرورة توحد المسلمين لدعم المقاومة والشعب الفلسطينيين ازاء العدوان الاسرائيلي (وبالمناسبة، رفض الرئيس المصري استقبال هذا الوفد فبذلك يكون أكثر راديكالية من الملك السعودي). وما يعبر عن موقف السعودية الرسمي هي الأقلام التي كانت تدبج المقالات التي تسخر من المقاومة ومن الدور الذي تقوم به أمام جبروت الآلة العسكرية الاسرائيلية. وفي هذا المجال لا أدعي القول أن هؤلاء الكتاب مؤيدون للعدوان الاسرائيلي ولكن عليهم التسويق لوجهة نظر أولياء نعمتهم، فهم يتصورون أنهم بعملهم هذا انما ينصرون المعسكر المصري السعودي على المعسكر السوري الايراني محطمين في طريقهم أسطورة المقاومة، ومستهزئين من معجزة النصر الالهي الذي حققه "حزب الله" على الآلة العسكرية الاسرائيلية. وهنا علينا أن نضيف أن النصر الذي سوف تحققه المقاومة الفلسطينية على اسرائيل انما يعود بشق منه الى النصر الالهي الذي حققته المقاومة الاسلامية على اسرائيل في لبنان. ونصر المقاومة الفلسطينية في غزة هو "نصر الهي" أيضا.
أما على جبهة المعسكر الآخر فكان ما جرى هو الاضاءة على الموقف المصري السعودي والأمر بقيام المظاهرات الشاجبة للعدوان الاسرائيلي والموقف المصري. وعلينا أن نشير أن المظاهرات كانت تهاجم مصر أكثر من ادانتها لاسرائيل، لذلك كان لابد في كل مرة من تأمين الحماية للسفارة المصرية.
ما تقدم يعني بأن قضية العدوان الاسرائيلي على غزة قد استُغلت من المعسكرين المتخاصمين لتسجيل النقاط على بعضهما البعض مطيحين بغزة وبغيرها أيضا. فارادة نصر غزة على العدو الاسرائيلي كانت تستدعي من المعسكر الأول تأمين مستلزمات النصر للمقاومة ونصيحتها باتخاذ الموقف الذي يراه معسكر أمريكا صحيحاً، ولا يتم بمحاصرتها واجبارها على الخضوع.
وعلى المعسكر الآخر الذي اهتم بتأليب الناس على المعسكر المصري السعودي عوضاً من محاولة توحيد الساحة العربية والاسلامية وراء المقاومة ونصرتها. فكان أن جميع ما قام به هذا المعسكر هو تأكيد للانقسام العربي والاسلامي ومحاولة عزل المقاومة عن المعسكر الآخر. هذا مع التأكيد أن هذا المعسكر يملك الكثير الكثير مما يمكنه من دعم المقاومة دعماً فعلياً يفوق بأضعاف أي دعم آخر.
لقد تذرع الرئيس المصري بالاتفاقات الدولية التي تحكم طريقة العبور من المعابر التي تفصل قطاع غزة عن مصر. وهذه ذريعة مردودة كما الذريعة التي تمنع انطلاق المقاومة لتحرير الأراضي المحتلة منذ أكثر من أربعين عاما، وهي اتفاقية وقف اطلاق النار ووجود المراقبين الدوليين.
والنتيجة التي وصلنا اليها أنه "لم يبق في الميدان الا حديدان". بقيت المقاومة وحدها تقاتل بلحمها وبلحم شعبها الوفي. ولم يشاركها في جهادها من الصعيد الرسمي لا الممانعين ولا اللاهثين.
أما على الصعيد الشعبي فلم تكن الصورة أكثر نضارة من المشهد الآخر. فقد أخضعت القوى المتصارعة قضية نصرة المقاومة في غزة الى منطق الصراعات البينية ما بين المعارضة والموالاة، أو بالأحرى ما يسمى المعارضة والموالاة. والمؤسف أكثر من ذلك أن الخلافات المذهبية لم تغب عن الساحة. فقد استخدم البعض أنواعاً من التركيبات التي تعجز عنها أهم أجهزة المخابرات، حتى يتمكن من النفخ في كيره الطائفي والمذهبي. وهذا ما كان ليحدث لو أن القوى الفاعلة أوالتي بامكانها الفعل تريد أن تفعل. وكانت النتيجة أنه بدل استخدام الأزمة التي تمر بها الأمة لتوحيدنا، انما استخدمناها عن وعي لتعميق هذه الخلافات. وتعميق هذه الخلافات يؤدي حتماً الى تشرذم القوى التي تملك المصلحة في التغيير، ويؤدي حتماً الى اطالة تمتع أميركا باستعمارها لشعوبنا ويؤدي أيضاً الى اطالة اقامة اسرائيل بين ظهرانينا.
قام أحد الخطباء الممول سعودياً وأتحفنا بالتحليل التالي: " تقوم ايران والذين يملكون الصواريخ التي تصل الى ما بعد بعد .. بامداد حماس بالسلاح حتى تقاتل اسرائيل بقصد تمكن اسرائيل من القضاء عليها أي على حماس لأنها المقاومة السنية الوحيدة في العالم. وبذلك تبقى المقاومة شيعية فقط". أقسم أن هذا ما قاله. ومن الطبيعي أن لا يعرج على القاعدة وأخواتها أو على المقاومة العراقية لأنه غير مرضي عنهم لا من الموالاة ولا من المعارضة، ولا من معسكر أمريكا ولا من معسكر الممانعة.
واليكم قصة الحرب كما يرويها أحد جهابذة الكتابة في معسكر الموالاة. يقول الدكتور رضوان السيد:
"أعلنت «حماس» في تاريخ 18/12/2008 عن عدم إرادتها (هي والفصائل الحليفة لها في غزة، وأهمها تنظيم «الجهاد الإسلامي»)، تجديد التهدئة مع إسرائيل والتي كانت قد استمرت لستة أشهر وبتوسّط مصري. ومبرر «حماس» لذلك: استمرار الحصار على غزة، واستمرار الخروقات الإسرائيلية. ثم ظهرت الى جانب ذلك الأصوات الأخرى، وأعلاها صوت السيد حسن نصرالله زعيم «حزب الله» في لبنان بأمرين اثنين: إرادة إسقاط نهج التسوية، الذي لم يجلب غير الدمار والاستسلام، واستحثاث السلطة المصرية على فتح معبر رفح لإسقاط الحصار عن غزة وإلا اعتبرت مشاركة في الحصار والاحتلال". (استمرار الحصار المخالف للاتفاق على التهدئة غير كاف لدى رضوان السيد لأنه لا يمكن توظيفه في المعركة الداخلية اللبنانية لذلك يجب ادخال السيد حسن نصر الله في التحليل).
ثم يضيف قائلاً: "وهكذا، وفي يوم 19/12/2008، بدأ إطلاق صواريخ القسّام على المستعمرات الإسرائيلية، ثم تلتها صواريخ غراد. وفجأة ومن دون سابق إنذار - قياساً على لهجة الحمائم لدى المسؤولين الإسرائيليين على مدى شهور متطاولة - أعلنت الحكومة الإسرائيلية المصغّرة (رئيس الوزراء المستقيل، ووزيرة الخارجية، ووزير الحرب) الحرب على قطاع غزة و «حماس»، وقتلت طائراتها في اليوم الأول حوالي الثلاثمئة إنسان".
(آسف أن أقول أنه قد فات الدكتور رضوان السيد القول بأن حماس قد أبلغت الجانب المصري مرات عدة بأنها سوف تستأنف اطلاق الصواريخ على المستعمرات الصهيونية في فلسطين في حال استمر الجيش الصهيوني باعتدائه على السكان الآمنين في الضفة الغربية وغزة وفي حال استمراره باغلاق المعابر. وعدم ذكره ما تقدم هو حتى يوحي للقارىء بأن مسؤولية الحرب على غزة تتحملها حماس وليس الجانب الصهيوني، وهي وجهة نظر الرئيس مبارك والرئيس المنتهية ولايته عباس).
ثم يضيف الدكتور رضوان السيد في تحليله للحرب على غزة قائلاً:"إن أطراف الحكومة الحالية («كديما» وحزب العمل على الخصوص) ستخسرها لمصلحة «الليكود» وأحزاب اليمين الأخرى، والحملة العسكرية هذه خليقة أن ترفع من شعبية المنتصرين فيها وعلى رأسهم ايهود باراك وتسيبي ليفني. وكان هناك من قال إن معنويات الجيش الإسرائيلي تلقت ضربة في حرب لبنان عام 2006، لأن الجيش ما استطاع حسم المعركة لمصلحته. وقد تدرّب طوال العامين الماضيين على القيام بمحاولة لاسترجاع هيبته، والإغارة على غزة و «حماس» أسهل، ليس لأن المقاومين هناك أضعف عسكرياً وحسب، بل ولأن السيطرة الحماسية هناك لا تتمتع بأي شرعية، ولن يكون أحد حريصاً جداً عليها، ويمكن إنهاؤها بسرعة نسبية لوقوعها في منطقة محصورة. وإذا تدخل «حزب الله» للمساعدة، كما حصل عام 2006، فيمكن ضربه وتخريب لبنان، في هذه الفترة التي يسود فيها الغياب الأميركي والارتباك في الأجواء الدولية. وستُخيف الشدة والدقة سورية و «حزب الله» وإيران، وتجعل من «حماس» طرفاً ضعيفاً غير قادر على الاستمرار في التحدي.( رضوان السيد الحياة - 06/01/09//).
هنا أبدع الدكتور رضوان السيد فهنا التحليل لبناني بامتياز! لقد تمكن الدكتور من تمرير وجهة نظره القائلة بأن حزب الله لم ينتصر على اسرائيل (رغم اعتراف الصهاينة بذلك ورغم تقرير فينوغراد ورغم انهيار معنويات الجيش الصهيوني ورغم استمرار الحكومة الصهيونية في الحكم مع أن مؤيديها لم يتجاوزوا في أحسن الحالات ال7%، لعدم وجود بديل لأولمرت وذلك لعقم الطبقة السياسية في اسرائيل عقب هزيمتها في حرب 2006) لأن القول بعدم انتصار المقاومة هي وجهة نظر الموالاة. أضف الى ذلك أن سياق التحليل يوحي وكأن الادارة الأمريكية هي التي دافعت عن حزب الله ومنعت عنه الهزيمة! وبذلك توظف حرب غزة في الخلافات الداخلية اللبنانية وتصبح حماس وحرب اسرائيل على غزة هي من ضمن اللعبة السياسية اللبنانية الداخلية، ويصبح من الأهمية بمكان ضرورة استمرار انقسام الساحة الداخلية اللبنانية، وتصبح بالتالي مسألة نصرة غزة والقضية الفلسطينية خاضعة للتجاذبات الداخلية، وتخسر صفتها التي تتجاوز الطوائف والمذاهب، وتخسر بالتالي صفتها الجامعة.
وفي تحليل آخر،(فالدكتور السيد نشيط جداً ومنظر من الطراز الأول) حيث هاله موقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من الجرائم الاسرائيلية بالرغم من أن تركيا هي عضو في الحلف الأطلسي (للتذكير فقط أن موقف الرئيس التركي كان عنيفاً في تحميل اسرائيل مسؤولية جرائمها في غزة، مضافاً الى اعلانه أنه يحمل وجهة نظر حماس الى المنظمة الدولية وتأكيد حماس على تمثيل الرئيس التركي لها). ان هذا الموقف من الرئيس التركي لعب دوراً كبيراً في تعرية الأنظمة العربية التي تدور في المحور الأمريكي مما دفع الدكتور للتحدث عن هذا الموضوع فاعتبر بشكل ما أن هذا الموقف من الرئيس أردوغان "يشير الى أن أردوغان نفسه قد تكون له اهتمامات ومطامح سياسية باعتباره رجل دولة كبيراً". وحيث أن الدكتور السيد وجد أن هذه الحجة واهية وغير مقنعة أنهى مقالته مستسلماً، حيث أنه لا يمكن الدفاع عن زعماء المعسكر الذي ينتمي اليه قائلاً: " لست فرحاً بتسلُّم إيران زمام وراية الكفاح من أجل فلسطين، ولا بتسلُّم أو تقدم تركيا لتسلُّم راية السلام، ونُصرة الإسلام السياسي في فلسطين والعالم العربي. لكنني لست فرحاً أيضاً بهذا المخاض المؤْسي الذي نغرق فيه، والذي يكاد يبدو قعره السحيق في مأساة غزة، ومع الإسلام السياسي هذه المرة، ومع الأنظمة والتنظيمات في كل مرة. ولا حول ولا قوة إلا بالله".
أما على المقلب الآخر، مقلب المعسكر الذي يعتبر نفسه منتمياً الى المقاومة وأعداء أمريكا، فلم يكن تعاطيه مع قضية العدوان على غزة أفضل من الطرف الآخر. فالقضية، قضية العدوان على غزة،على أهميتها، حيث أنها سوف تطال الساحة اللبنانية في نتائجها من دون أدنى شك، تعومل معها على أنها خلاف ما بين معسكر الرابع عشر من أذار و معسكر الثامن منه. فراح كتاب هذا المعسكر يلاحقون حركة المعسكر الآخر عوضاً عن التفكير فيما يمكن أن ينصر المقاومة في لبنان. فهذا "نادر فوز" في جريدة "الأخبار" يكتب عن العلاقة بين "حماس" و تيار "المستقبل" :" ورغم هذا الاختلاف بين حماس وتيار المستقبل، لا يتردّد أحد المتابعين في التأكيد على تميّز العلاقة بين الحركة والنائبة بهية الحريري، «التي تعطي اهتماماً خاصاً بالفصائل الفلسطينية». ربما بحكم منطقة «انتداب» السيدة الحريري، في صيدا حيث لا هروب من ضرورة الانفتاح والتحاور مع الفصائل كافة في مخيّم عين الحلوة. أما عن العلاقة ما بين السيد وليد جنبلاط فالسيد فوز يعرف لماذا، سواء من ناحية "حماس" أو من ناحية "جنبلاط". فهو يقول:" وإذا كانت القوات اللبنانية ممحوة عن الجدول السياسي لحركة حماس، فالعلاقة مع الحزب الاشتراكي عادية. ولا يرى الحمساويون في الخطاب الأخير للنائب وليد جنبلاط إلا مسعى لكسب تأييد سنّة الشوف، وزيادة اقتناعه بخيارات محور «الاعتدال» اللبناني قبيل الانتخابات النيابية المقبلة".
أما عن كيفية تعامل هذه الوسيلة الاعلامية المرتبطة بمعسكر ما يسمى بالمعارضة، مع قضية الصواريخ فكان جذابا. فقد اعتبر السيد ابراهيم الأمين:" بمعزل عمن يقف خلف هذه العملية، وبمعزل عن أهدافه المباشرة أو غير المباشرة، وبخلاف ما يتوقعه الآخرون من نتائج لهذه العملية، فإن النتيجة العملية الأساسية هي أن الصواريخ محت كل جهود الطمأنة المجانية التي تطوّع لبنانيون لتقديمها إلى إسرائيل مباشرة أو غير مباشرة. وهذا بحد ذاته يمثّل الإنجاز الذي تخشاه إسرائيل في هذه اللحظة، حتى لو كانت تبيّت لعدوان كبير على لبنان. وعندما تقرر ذلك، لن تنتظر أي ذريعة".
وفي نفس العدد نرى السيد نقولا ناصيف يتعامل مع نفس القضية تعامل أمني تعجز عنه كل المخابرات فهو قد قدم وصفا دقيقا لهم (لمطلقي الصواريخ) لا ينقصه سوى ذكر أسمائهم. وقد غاب عن ذهنه الموقف الجديد لرئيس التحرير فقد تعامل معهم على أنهم ارهابيون كما درجت جريدة الأخبار على اتهام كل المجموعات السنية المعادية لأمريكا ما عدا "جبهة العمل الاسلامي". وكتب قائلا:" القصد من نصب الصواريخ السبعة، وفي ما بعد إطلاق الصواريخ الأربعة، توجيه رسالة سياسية إلى إسرائيل مفادها أن المتشدّدين الناشطين في أكثر من منطقة في لبنان في وسعهم التحرّك في الجنوب أيضاً، واختراق الاستقرار الذي يوفره القرار 1701 للحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية وشمال الدولة العبرية خصوصاً، وكذلك اختراق وجود ألوف من جنود الجيش اللبناني والقوة الدولية من أجل الإيحاء بالقدرة على توجيه تهديد جدّي لإسرائيل على متن صواريخ. ولم تحتمل الرسالة في أي حال، وفق التقويم الذي أجرته الأجهزة الأمنية اللبنانية والقوة الدولية، إشعال الجبهة اللبنانية ـ الإسرائيلية بما يتخطى الحادث العابر، ولا يملك هؤلاء القدرات والإمكانات التي تتيح لهم استدراج لبنان إلى حرب جديدة مع إسرائيل ترفضها الحكومة اللبنانية وحزب الله والأفرقاء اللبنانيون جميعاً. بذلك بدت الرسالة المقتضبة تجاوباً مع ما أطلقه الرجل الثاني في تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، يوم 6 كانون الثاني، بدعوته المسلمين إلى مهاجمة أهداف إسرائيلية وغربية في أي مكان ردّاً على حرب غزة".
وبذلك يكون السيد نقولا ناصيف قد طمأن اسرائيل،بالرغم من معارضة رئيس التحرير، أنه لا يوجد أي طرف لبناني يريد أن يعتدي على اسرائيل الا الطرف الارهابي التابع للقاعدة والذي يعرفه السيد ناصيف جيدا، والذي نعاديه جميعا.
أما السيد أسامة سعد فقد كان موقفه مختلفا، فهو قال على مراى من جميع الناس أنه غير مستعد لادانة أية رصاصة تطلق على اسرائيل.
لا داعي للاطالة أكثر فقد بات واضحا أن التعامل على الساحة اللبنانية مع قضية العدوان الاسرائيلي على غزة ليس على مستوى الحدث.
أما انعكاسات العدوان الاسرائيلي على غزة، فهو يرتبط من وجهة نظرنا بالغاية من وراء هذا العدوان. فتوفيق الهندي وهو كاتب معروف بانتمائه الى خط القوات اللبنانية بعد انفصالها بقيادة سمير جعجع، ويقال أنه كان يساريا قبل انتقاله الى القوات! فهو راديكالي اذن. يقول السيد الهندي عن الغاية من العدوان الاسرائيلي:" بات واضحاً ما هو الهدف الإسرائيلي من هذه الحرب فهو يتلخص بسعي إسرائيل لخلق واقع عسكري يفرض ميزان قوى على الأرض يحول دون تمكن "حماس" من إطلاق صواريخها على الأراضي الإسرائيلية، ولا سيما الجنوبية منها، كما يحول دون تمكنها من القيام بعمليات إستشهادية داخل إسرائيل. ولا شك في أن إسرائيل تعلم أنه ليس بمقدورها لأسباب متعددة "شطب" "حماس" من المعادلة الفلسطينية، فضلاً عن أن هذا "الشطب" قد لا يكون بمصلحتها (وهنا ينصح السيد هندي اسرائيل) لأنها قد تريد الإبقاء على الصراع الفلسطيني - الفلسطيني قائماً لكي لا تضطر للسير بالعملية السلمية الآيلة إلى إقامة الدولة الفلسطينية". (النهار 10 – 1 – 2009 )
أما السيد روبرت فيسك الكاتب البريطاني المتخصص في شؤون الشرق الاوسط فيرى الغاية من العدوان الاسرائيلي ما يلي:" ويدل ذلك بوضوح على أهداف حرب إسرائيل الحقيقية، إذ يكمن هدفها في القضاء نهائيا على التطلعات الفلسطينية القومية، ليتسنى لها الاستمرار في امتصاص أراضي الضفة الغربية من خلال توسيع المستوطنات، كما فعلت منذ حرب العام 1967. وقد تتحول الأجزاء الصغيرة المنفصلة عن الضفة الغربية التي لا تستطيع إسرائيل أو لا ترغب في هضمها إلى محميات هادئة. وسيتمّ إجبار سائر الشعب الفلسطيني على الصمت أو الرحيل إلى الأردن.
ويبدو أن إسرائيل التي لن تنهي احتلالها للأراضي الفلسطينية، وهو ما يعتبر مصدر المشكلة كلها، تحاول أن تستولي على أراضٍ إضافية. فقد دفعها إنكارها للحقوق الفلسطينية وعطشها للتوسع إلى تجاهل كل اعتبارات الشرعية والأخلاق.
ولا يكمن هدف إسرائيل بالتالي في إيقاف صواريخ القسام، بحسب الذريعة التي استخدمتها لشن الحرب، بل القضاء على حركة «حماس» بالكامل. ويبدو أنها تعتقد بأن القضاء على «حماس» في غزة مهما كلف الثمن على صعيد تدمير حياة الفلسطينيين، سيضع حدا للمقاومة الفلسطينية المسلحة. هذا هو الرهان الوحشي الذي وضعه كل من ليفني وباراك ورئيس الوزراء المستقيل إيهود أولمرت نصب أعينهم".(الحياة 10 – 1- 2009 ) (يبدو أن السيد فيسك يملك شعورا بالانتماء لأمتنا أكثر بكثير من المنتمين جينيا لهذه الأمة).
ان لهذه الحرب التي تشنها اسرائيل على غزة أهداف متعددة، منها:
1- ابادة ما تتمكن اليه سبيلا من الشعب الفلسطيني. تجمع الناس في مكان آمن ثم تقصفهم. يجمع أهل الصحافة أنهم لم يعرفوا قصفا بهذا الاجرام على الأهداف المدنية، كما أنهم يصفونها بأنها الحرب الأعنف التي رأوها. فالأهداف مدنية: أي القتل من أجل الابادة. لنتذكر جابوتنسكي.
2- القضاء على "حماس" وعلى كل فكر مقاوم. اسرائيل تعلم أنه لامقام لها في وطننا اذا لم تقض وبشكل نهائي على كل فكرة للمقاومة. وهذا يستتبع ما طلبته الادارة الأمريكية عقب أحداث الحادي عشر من أيلول من تغيير للمناهج الدراسية بحيث تشوه الفكر والاعتقاد الاسلامي الذي يرفض العبودية لغير الله ويرفض التبعية للطواغيت.
3- ان انتصار اسرائيل على المقاومة في غزة سوف يستتبع اعتداء حتميا على لبنان بقصد القضاء على "حزب الله" لأنه ما من أحد يقبل بنصف انتصار في السياسة. والا فان ذلك سوف يؤدي الى هزيمة مستقبلا نتيجة تغير الظروف. ولكن الوضع الراهن يظهر أنه ليس بامكان اسرائيل الانتصار على المقاومة في غزة. أما أن تحقق المقاومة انتصارا حاسما على اسرائيل فهذا ليس حتميا لأن الظروف المحيطة غير مؤاتية. فالمعركة مفتوحة على مصراعيها، وهذا ما يقلل بالتالي حظوظ الاعتداء على لبنان.
4- ما تريده اسرائيل أيضا القضاء على كل تفكير باقامة دولة فلسطينية، تملك مقومات الدولة، حتى تتمكن من التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والاستيلاء على المياه والأراضي الصالحة للزراعة.
هذه بعض الأهداف التي تعمل من أجلها اسرائيل. أما عن اختيار الظرف المناسب وهو تبدل الادارة الأمريكية فهذا العامل ليس له أي حظ من الأهمية. والمناسب لاسرائيل هو انقسام الصف العربي والاسلامي، واتجاه أكثر الأنظمة في المسار الذي حددته الادارة الأمريكية. فما أن بدا بصيص من تقاطع في المصالح بين أمريكا والمعسكر الممانع بين الدول الاسلامية حتى شنت هذه الأخيرة الحرب الشعواء على الارهاب الموجه بالدرجة الأولى ضد المصالح الأمريكية من غير أن تدرس وبروية نتيجة هذه الحرب على الساحة الاقليمية. ولا يمكنني أن أؤكد أن الحرب على غزة هي من نتائجها.
هل ماتقوم به الساحات العربية كاف لنصرة غزة ومقاومتها؟
صحيح أن المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات ترفع معنويات الشعب المحاصر والمقاتلين المجاهدين ولكن ما الفرق بين المظاهرة التي تجري في فرنسا والمظاهرة التي تجري في دمشق أو بيروت أو القاهرة؟ ان لم يكن هناك من فرق، فأين تظهر قيمة الانتماء الى أمة واحدة أو عقيدة واحدة ان لم تظهر في الممارسة العملية التي تبين قيمة هذا الانتماء؟
ان كل نصرة لغزة ومقاومتها من قبل المنتمين لأمتنا لا تؤدي الى ارباك العدو لايمكن تصنيفها بالنصرة الكافية. وحتى لا يشكل الأمر على أحد، أقول أن النصرة العسكرية هي أحد الأشكال. ولا يعتقدن أحد أنني سوف أرفع الصوت عاليا وأتوجه بالخطاب للسيد حسن نصر الله وأسأله عن صواريخ المقاومة. هذا ليس من مهماتي تحديده ولا أدعي امتلاكي للفكر الاستراتيجي الذي يمكنني من أن أطلب ذلك. ولكن ما يمكننا قوله من الناحية النظرية أن الظرف السياسي هو الذي يحدد كيفية النصرة. ولكن يجب أن تربك العدو والا ليست نصرة كافية.
هنا لا بد من السؤال التالي: ما هو دور مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والأردن وسوريا في نصرتهم لأهلنا في غزة وللمقاومة؟ هل التظاهر في المخيمات أو عمان أودمشق يربك العدو الاسرائيلي ويجبر هذا العدو على تشتيت قواته للتخفيف عن اخواننا المجاهدين في غزة؟ ألا يوجد أي نوع من النصرة السلمية وأشدد على الصفة السلمية للنصرة، يمكنها أن تربك العدو الاسرائيلي؟ لا أعتقد. " فمن أراد الخروج لأعد له عدة".
أعود الى لبنان وأضم صوتي الى صوت السيد حسن نصر الله بأنه لاخيار لحماية شعبنا الا خيار المقاومة. ولكن علي أن أضيف أن المقاومة لا بد أن تصبح مقاومة متجاوزة للطوائف. والجواب على هذا الكلام لا يكون بأننا لا نمنع أحد من المقاومة انما يكون ببناء للمستقبل يضع مخططا استراتيجيا لتحويل المقاومة الى مقاومة شعب. مخطط لا يسيء بأي شكل من الأشكال للتنظيم المقاوم القائم اليوم والا نكون كمن يقدم خدمة مجانية للعدو.
أما بالنسبة لغزة فما علينا الا أن نعتبر قضية غزة ذات أولوية بحيث نخضع خلافاتنا المحلية لمصلحة نصرتها، لا أن نعتبرها احدى القضايا الخلافية حتى نحولها الى قضية تافهة كتعيين حاجب في احدى الوزارات. وما علينا الا النظر الى قضية غزة كما يراها الرئيس الدكتور سليم الحص:" وليكفّ أصحاب المشاريع العقيمة عن التعاطي مع غزة وكأنها مجرّد مشكلة أمنية، تنتهي بوقف إطلاق النار ومراقبة تنفيذه. متى سيدرك هؤلاء أن غزة قضية، قضية مصير وطني وقومي. فلتكن مشاريع الحل على هذا المستوى من الفهم للحرب الدائرة.
ختاماً فلنعترف أن بعض مظاهر القضية تغلب عليها خصوصيات المشكلة، ومنها التشريد والتشتت والبطالة وسواها. وقد أفلح مناصرو الصهيونية من قوى العالم في تغليب خصوصيات المشكلة على القضية عبر حقبة طويلة من الماضي واستخدام وجه المشكلة ليطغى على وجه القضية. فجاءت معظم مشاريع الحل للمشكلة وليست للقضية. ويريدوننا أن نصدق أنها مشكلة وليست قضية. لن يكون ذلك مهما سعوا وحاولوا. ولكن الواقع أن الصهيونية وحلفاءها استطاعوا أن يشغلوا الشعب الفلسطيني بمشكلته عن قضيته إلى حد ما. كما نجحوا في شغل الشعوب العربية بمشاكلها عن قضاياها".(السفير 10 -1 -2009) .
هناك تعليق واحد:
salam to Ghaza. We're with Ghaza
إرسال تعليق