نتائج "محرقة" غزة
29 كانون الثاني، يناير 2009
لقد بات من المسلم به الآن أن حرب اسرائيل على غزة كانت الأكثر وحشيةً واجراماً في تاريخ حروب هذا العدو على عالمنا العربي والاسلامي. ولسنا في صدد لوم العدو على اجرامه لأن هذا من طبيعته، ولكن اذا كان لابد من اللوم فما علينا الا لوم أنفسنا اذا لم نكن نتوقع منه هذه الممارسات.
لقد كشفت هذه الحرب الغطاء عن كثير من البؤس الذي يعيشه النظام الرسمي العربي. فعلى صعيد المعارف فهو يتمتع بالجهل المطلق. فالنظام الرسمي العربي، بدون استثناء، يعتبر أن الكيان الصهيوني كياناً طبيعياً، مع العلم أن أحد أهم منظري هذا الكيان يقول وبالفم الملآن أن الأرض التي يجب أن يقام عليها الكيان الصهيوني هي أرض الفلسطينيين ومن الطبيعي أن يحاربوا من أجل الحفاظ عليها ويمنعوا اليهود من الاستيلاء عليها. يضيف "جابوتنسكي" لا يوجد شعب في الأرض يقبل بالتخلي عن أرضه. يمكننا هنا أن نضيف "الا النظام الرسمي العربي"، هذا النظام الذي اتهم المقاومة بشتى الأوصاف ليبرر تخاذله وتخليه عن أرض الجدود. فعوض أن يمد المقاومة بجميع أسباب الدعم، حتى تتمكن من النصر المؤزر على العدو، كان يفعل المستحيل حتى يمنع حتى الشعوب من التعبير عن تضامنها مع المجاهدين في غزة. أضف الى ذلك أن الأنظمة التي اعتبرت نفسها تدعم صمود هذه المقاومة ، كانت أشكال دعمها تدخل ضمن دائرة التهريج أكثر من دائرة الدعم الحقيقي. أما النتائج التي تمخضت عنها هذه "المحرقة" فهي التالية:
النتيجة الأولى: انقسام النظام الرسمي العربي الى معسكرين "متخاصمين" لم يفد المقاومة كثير الفائدة، أللهم الا اذا اعتبرنا التصاريح التي كان يبثها الأستاذ خالد مشعل من دمشق، ذات تأثير مفصلي بالنسبة لصمود المقاومة في الميدان. ان اهتمام المعسكرين المتخاصمين بتسجيل النقاط كل منهما على الآخر جعل كسب المعركة هو بانتصار فريق على آخر (على الصعيد الرسمي العربي)، ولا دخل لأرض الميدان في غزة في هذه المعركة. هذا مع التأكيد أننا لسنا من الذين يأخذون الجميع في سلة واحدة. ان اهتمام الاعلام في دول معسكر ما يسمى بالممانعة في المعركة التي كان يخوضها المجاهدون الأبطال في أرض الميدان لعب دوراً هاماً في رفع معنويات الناس. كما وأن اعلام "الجزيرة" و "المنار" كان ايجابياً أيضاً على صعيد تجييش الناس عاطفياً للوقوف مع المجاهدين في غزة. ولكن ما تقدم يستتبع السؤال التالي: هل هذا هو الدور الذي تلعبه الأنظمة في استرجاع حقوق الأمة من اعدائها؟ هل هذه هي الأشكال التي يمكن فيها نصر المجاهدين في الميدان؟ لماذا علينا انتظار المنظمات الشعبية لمجابهة العدو ولا تقوم الأنظمة العربية بخوض المعركة مع العدو كما يفعل "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد" وغيرها من المنظمات المقاتلة؟ لن نسأل جميع الأسئلة، لأن هناك منها الكثير.
أما على صعيد الأنظمة الأخرى، يكاد يكون من المعيب تذكر ما كان يدلي به وزير خارجية النظام المصري من تبرير للعدوان الاسرائيلي على القطاع. أما الأنكى من ذلك، ما كان يقوم به من يسمى "برئيس السلطة الوطنية الفلسطينية" من تحريض للعدو على هدم غزة عله يتمتع بالجلوس على عرش السلطة من دون أدنى تشويش من "حماس" أو من أمثالها. لا داعي للاشارة الى ما كان يقوم به الأزلام الصغار من جماعة "عباس" أو من المتعيشين في الصحف والمجلات الناطقة بما يريده القيمين على أنظمة الارتباط بالادارة الأمريكية. أما فضائيات هؤلاء ، "أخبار المستقبل" أو "العربية" فما كان ينقصهما بعد تحويل المجاهدين في أرض الميدان الى بكائين، كان الشهيد يموت مرتين، في هذه الفضائيات، الأولى عندما يستشهد وفي الثانية عندما يعلم أنه قتل لا لشيء الا لخدمة أحد طرفي الصراع (الممانعة والمرتبطين بأمريكا على حد زعم هذه الفضائيات) أما قضية الجهاد من أجل المقدسات والأرض فأصبحت لا وجود لها عند هؤلاء.
أما المظاهرات الشعبية التي انطلقت لتأييد المجاهدين كانت ايجابية بشكل عام، مع العلم أن أكثر هذه المظاهرات كانت مبرمجة ولم تكن عفوية.
النتيجة الثانية: لقد أثبتت معركة غزة ومن قبلها حرب تموز، يوليو، 2006 في لبنان، أنه لم يعد بامكان الكيان الصهيوني حسم معركة مع المقاومة لصالحه مهما تكن ظروفها (أي المقاومة) غير مؤاتية (كما في مثال غزة). وهذا ما منع السلطة الاسرائيلية من الاعلان المسبق عن أهداف المحرقة التي قامت بها في غزة. كما وأضيف أن المعارضة الاسرائيلية لم تضغط على الحكومة للاعلان عن الأهداف من هذا العدوان. وهذا يعني أن الكيان الصهيوني أصبح الآن يعيش في حماية الأنظمة العربية. هل مهمة "السلطة الوطنية الفلسطينية" منع الفلسطينيين من التظاهر ضد العدوان الاسرائيلي على أهلهم في غزة؟ وهذا المثال ليس على سبيل الحصر، أم هل من مهمات النظام المصري حماية أمن اسرائيل حتى يراقب المعابر ويمنع ليس السلاح فقط انما الغذاء أيضا بحجة الالتزام بالمواثيق! ومع من؟ مع الذين لم يلتزموا يوماً بميثاق، أعني اسرائيل.
النتيجة الثالثة: لم تقم الادارة الأمريكية بادارة الحرب الاسرائيلية على غزة كما فعلت في حرب تموز، يوليو 2006 . ولا يمكننا القول أن الادارة الأمريكية كانت تودع، ذلك أنها ألزمت نفسها باتفاقات مع اسرائيل عشية وداع الرئيس بوش البيت الأبيض. اذن هناك أسباب أخرى، أعتقد أن أهمها على الاطلاق هو يقين هذه الادارة أنه لم يعد بامكانها خوض معارك لصالحها أو لصالح حلفائها قبل أن تعيد تقييم وضعها الحقيقي بعد الانزلاقات أو الهزائم التي وقعت فيها في لبنان والصومال والعراق وأفغانستان ... لذلك لم تمنع الادارة الأمريكية فرنسا والاتحاد الآوروبي وتركيا من التدخل في محاولة ايجاد حلول لهذا "النزاع". وعلينا في هذا المقام علينا أن نتذكر بأن الادارة الأمريكية كانت تمنع أياً كان من التدخل في الصراع الشرق أوسطي الا باذن مسبق منها.
النتيجة الرابعة: لقد بينت حرب غزة أن القضية الفلسطينية لا زالت هي القضية الأساس عند المواطن العربي. ايران أخذت شرعية لوجودها في قضية "الشرق الأوسط" من خلال مساعدتها لحركات المقاومة. وكان الدخول التركي مدويا بسبب المواقف التي تستجيب لعواطف وآمال الشارع العربي والاسلامي والتي أعلنها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والرئيس عبد الله غول. كما والأهم أنه لم يعد بامكان الادارة الأميركية استبعاد أحد من هذه الأطراف عند العمل على اعادة ترتيب البيت الشرق أوسطي. وعلينا التنبه أو الاشارة أنه لا الادارة الأميركية ولا الكيان الصهيوني اتخذا موقفاً سلبياً من الموقف التركي. لم يصرح أحد من المسؤولين اليهود بأن الموقف التركي لم يكن محايداً (الا بعد انتهاء العدوان أو تجميده)، لذلك لا نقبل بوساطته. هذا مع الاشارة الى أن السيد أردوغان قد صرح بأنه سوف يحمل وجهة نظر منظمة "حماس" الى مجلس الأمن ولم يلق هذا التصريح الاستهجان لا من أمريكا ولا من اسرائيل. هناك اربعة لاعبين: أميركا، ايران، تركيا واسرائيل. لا بد من التنبيه هنا بضرورة عدم الاعتقاد بأن الأتراك سوف يلتزمون خط المقاومة، انما هم مستمرون بعلاقتهم الحسنة والمتميزة مع الكيان الصهيوني. أما الموقف الايجابي بالنسبة للمقاومة فهذا يجب فهمه على ضوء الواقع الداخلي التركي وعلاقاته المعقدة مع أمريكا والاتحاد الأوروبي واسرائيل ناهيك عن المصالح التركية مع الجوار العربي على كافة الصعد الاقتصادية والسياسية.
النتيجة الخامسة: ان الوضع الفلسطيني المعقد جداً يستدعي من المنظمات المقاومة "حماس" و"الجهاد" وغيرهما التحرك وبسرعة كبيرة في اصلاح هذا الوضع. ومن المهمات الملحة:
1 – اصلاح ما يسمى "منظمة التحرير الفلسطينية". ضرورة انضمام جميع الفصائل المقاومة ومنظمات المجتمع المدني الفلسطيني الى هذه المنظمة ونفض الغبار والترهل عنها وجعلها ممثلة فعلية للشعب الفلسطيني في الشتات والداخل.
2 – ضرورة أن تمثل المنظمة الشعب الفلسطيني سياسيا. وهذا يستتبع أن تصبح ما يسمى السلطة الوطنية الفلسطينية الراعية الفعلية للشؤون الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعليمية ...الخ للفلسطينيين في الضفة والقطاع، مع التأكيد أن ليس للسلطة أي دخل في عملية التفاوض مع الكيان الغاصب. ان من يفاوض العدو عليه أن يفاوضه من موقع القوة وليس من موضع الضعف. فعندما تكون السلطة هي المسؤولة عن التفاوض، ترى لزاماً عليها التنازل للعدو من أجل فك الحصار مثلاً (كما يفعلون الآن مع "حماس" من أجل تأمين الدواء والغذاء). والنتيجة التي نصل اليها في وضع كهذا هي خسارة القضية الوطنية من أجل تأمين الغذاء. ان تخلي السلطة عن التمثيل السياسي لفلسطينيي الداخل في الضفة والقطاع يجعل منهم بحكم الشعب المحتلة أرضه، وبالتالي يصبح لزاماً على المحتل تأمين المستلزمات الضرورية لحياة هذا الشعب. أما المفاوضات ذات الطابع السياسي فتتسلمها "منظمة التحرير" الممثلة الوحيدة للشعب الفلسطيني.
3 – على "حماس" والمنظمات المقاومة في القطاع ومنذ الآن تسليم مهمة مفاوضة العدو والنظام الرسمي العربي والدول الأجنبية الأخرى الى قيادات الخارج حتى لا تضطر للتنازل تحت الضغوطات المعيشية من غذاء ودواء واعادة اعمار ...الخ
4 – لا بد من الوعي العميق الى أن المعركة الآن أصبحت أكثر شراسة. فالأعداء من كل صوب، فما على المجاهدين في القطاع الا ترتيب أمورهم الداخلية بغض النظر عن تطور المفاوضات سواء مع الأعداء أو "الحلفاء".
5 – هناك خمسة ملايين فلسطيني في الشتات عاطلين عن العمل. ما كان دورهم في معركة غزة؟ وحيث أن الشيء بالشيء يذكر نقول بأنه لا وجود في العالم ليهودي لا يملك موقفاً عملياً من اسرائيل. الجميع يشارك مشاركة فعالة في معاركها. اذا كانت اسرائيل التي تملك أكبر ترسانة عسكرية في الشرق اضافة الى السلاح النووي تستدعي التأييد العملي لجميع يهود الكرة الأرضية عطفاً على المؤيدين من الدول الاستعمارية، فما بالنا نحن لا نشرك من من أجله تخاض هذه الحروب؟
لا بد من وضع برنامج عملي لاشراك جميع فلسطينيي الشتات في النضال من أجل أرضهم.
6 – على منظمات المقاومة في القطاع تأليف لجنة من منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، بغض النظر عن الانتماء السياسي ومشهود لها بنظافة الكف، مهمتها الاشراف على اعادة الاعمار، والنأي بالسياسيين عن العمل في هذا الموضوع وانما الاشراف فقط.
7 – لا بد من التنبيه بأن الاتجاه نحو اقامة كيان بديل لمنظمة التحرير الفلسطينية سوف يؤدي الى انقسام عمودي للشعب الفلسطيني لا يستفيد منه سوى اسرائيل والقيادة الحالية التي تتجه الى التخلي عن حق العودة المقدس والتي لا تملك المسوغات القانونية للتخلي عنه، انما سوف تعطيها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وربما الأمم المتحدة التغطية السياسية لتخليها عن هذا الحق. غير أن اصلاح الأطر الحالية للمنظمة سوف يسحب البساط من تحت أقدام القيادة الحالية، عباس ومن هم على شاكلته، خاصة وأن خطوة كهذه سوف يكون لها انعكاسات ايجابية على مستوى الشارع الفلسطيني. ان اعطاء القيادة الحالية لمنظمة التحرير الشرعية في الاستمرار سوف يؤدي الى كوارث على صعيد القضية الفلسطينية، أقلها التخلي عن حق العودة والقدس والقبول بتبادل الأراضي والحفاظ على المستعمرات. والانقسام أو اقامة كيان بديل سوف يخدم القيادة الحالية. ولا يظنن من يملك الامكانية على تحريك عدة عشرات من الآلاف من الشعب الفلسطيني أنه يملك شرعية خلق كيان بديل، لاسيما وأن هناك الملايين من الشعب الفلسطيني لم يشاركوا بأي حراك. ان أعنف ممارسة قامت بها مخيمات اللجوء في الدول المجاورة لفلسطين هي التظاهر وهذا ماحصل في فرنسا والدانمارك وفي بريطانيا ولكن بوتيرة أكثر حركية. فهل أن مظاهرة تعطي شرعية لخلق كيان بديل؟ لا أعتقد. كما وأن عملاً كهذا سوف ينقل ساحة الصراع من صراع مع العدو الى صراع بين المعسكرات في الصف العربي.
8 – اعادة النظر في طرح شعار الدولتين بات أمراً ملحاً لما يحمل من بذور التراجع سواء على المستوى السياسي أو على المستوى النفسي وهو الأهم.
هناك الكثير الكثير مما يمكن أن يقال في هذا المقام و لكننا أشرنا الى بعض النتائج. ويحضرني الآن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وهو عائد من غزوة الخندق. وغزوة الخندق وما أدراك ما غزوة الخندق حيث بلغت القلوب الحناجر، و حيث قال النبي والذين آمنوا معه "متى نصر الله" وفي هذا دلالة على هول المعركة. نادى النبي على المؤمنين بضرورة التوجه الى بني قريظة هؤلاء اليهود الذين خانوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم. والقضاء على هؤلاء الخونة هو تتمة المعركة وتتمة النصر. وفي غزة، أرى أن الأمر شبيه بالخندق، فالمعركة لما تنته. انما بدأ الشكل الأصعب من المعركة. لذلك لا بد من العمل على استنهاض جميع الامكانات وتوظيفها من أجل تأكيد النصر، ولعل فيما قدمنا فائدة.
حسن ملاط
Hassanmallat.blogspot.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق