بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

السبت، 14 مارس 2009

كيف نختار كتاب تعليم القراءة؟
ان اختيار كتاب التعليم يجب أن يحقق أمور عديدة، منها:
1 – ان كتاب القراءة يجب أن يقوي أواصر انتماء الطفل الى وطنه وأمته العربية والاسلامية. واحترام اللغة الأم هو العامل الأساس في لعب هذا الدور. ان اعتماد المتعلم على لغته الأم التي من المفترض أن تلبي حاجته في تعلمه لجميع العلوم والفنون، هي التي تظهر أن هذه اللغة حية، وأن الشعوب التي تغذي هذه اللغة بخبرتها هي شعوب تستحق الحياة. وأن ما تمر به الأمة من عثرات هي مؤقتة وزائلة بفضل جهود المنتمين اليها. والطفل يمكنه استنتاج ذلك من خلال ملاحظة من يكبرونه في العمر. ان تعليم العلوم باللغات الأجنبية يعطي انطباعا بأن اللغة الأم لا يمكنها تلبية هذه الحاجة، علما أن هذا الأمر غير صحيح لأن الطالب السوري يتعلم المواد العلمية باللغة العربية. أما في لبنان فقد ﹸأخذ قرار بامكانية استخدام العربية في تعليم المواد العلمية ولكن من دون تأهيل جهاز تعليمي من أجل تطبيق هذا القرار. لذلك فان هذا القرار ظل حبرا على ورق، كما يقال.
2 – ان معظم المنتمين الى الأمة العربية هم من المسلمين. كما وأن القرآن الكريم هو الذي لعب وما زال يلعب الدور الرئيس في حماية هذه اللغة. والمحاولات التي قام بها الغرب الاستعماري للاعتداء على القرآن وعلى اللغة العربية معروفة، ومحاولة الرئيس الأمريكي جورج بوش والادارة الأمريكية ليست عنا ببعيدة. هذا ما يقوم به الآخر، أما ما نقوم به نحن فلا يقل خطورة عما يقوم به الأعداء. اذا كان القرآن الكريم يلعب دور الحامي للغتنا الأم، فلماذا هذه الغربة بين اللغة التي نستخدمها ولغة القرآن؟ أللغة هي وعاء ثقافة الأمة ولسان حضارتها، من هنا فان كتاب اللغة يجب أن يحقق هذه الحاجة، أي ردم الهوة بين اللغة المستخدمة ولغة القرآن. واضح أن ما تقدم ليس له علاقة بالانتماء الديني.
3 – كتاب القراءة يجب أن يكون رابطا بين الطفل وقضايا أمته. نحن نعلم أن الطفل يتعلم بالطريقة الغير مباشرة أكثر من تعلمه بالطريقة المباشرة. فالايحاء هو من الطرق المستخدمة في التعليم. ولا يغيب عن ذهننا أن الايديولوجية التي تسيطر على عقول الشعوب انما تأتي عن طريق الايحاء (وهذا ما جعل أجيالنا تحترم الأجنبي وتنظر نظرة الاحتقار لكل ما هو وطني). من هنا وجب أن يلعب كتاب القراءة دوره في ترميم بنيان الأمة على الصعيد الايديولوجي. وحتى لا يكون كلامي نظريا، أسوق هذا المثال لما سوف يحويه هذا الكتاب في هذا المجال: على المعلم أو المعلمة أن تعلم الأطفال الصواتم. ولتركيز الصوتم عند الطفل على المعلمة ايراد الكثير من الكلمات والألفاظ التي تحوي هذا الصوتم. ولتحقيق الغاية التي تحدثت عنها (اي ربط الطفل بقضايا أمته) سوف أورد مع الكلمات أسماء القرى الفلسطينية التي أزالها الاحتلال الاسرائيلي من الوجود مع التأكيد على المعلمة بأن تقول للأطفال أن هذه الكلمة هي اسم لقرية فلسطينية أزالها الاحتلال الاسرائيلي من الوجود، ومن دون شروحات. (عند تعليم الطفل الصوتم "سو" تورد المعلمة اسم القرية الفلسطينية "بيت سوسين" التي أزالتها اسرائيل من الوجود، وتسأل الأطفال ان كانوا يسمعون الصوتم المطلوب تمييزه، وهو "سو" ثم تقول لهم أن الكلمة التي سمعوها هي اسم قرية فلسطينية أزالتها اسرائيل من الوجود). ليس هذا فحسب بل انه علينا تعريف الطفل على المعالم الجغرافية لبلاده وعلى ميزاتها وقيم شعوبها وهذا يتم بنفس الطريقة التي أوردناها سابقا.
ان القول بأن اللغة هي التي تعبر عن ثقافة وحضارة ومستقبل الأمة ليس كلاما من غير مضمون. لذلك يمكننا التأكيد أن كتاب القراءة يجب أن يكون مشروع أمة، فهو مشروع تنموي بكل ما في الكلمة من معنى. وكذلك فهو تعبير عن النظام القيمي للأمة التي ننتمي اليها.
4 – يجب أن تكون الطريقة التربوية (البيداغوجية) المستخدمة في الكتاب متوافقة مع آلية عمل الدماغ عند تعلم المبتدىء القراءة. هذا الكلام أصبح بامكاننا استخدامه، خاصة بعد ظهور كتاب "الخلايا العصبية للقراءة" لمؤلفه "ستانسلاس دو هايين". حيث ان هذا الكتاب قد بين أن علماء الأعصاب الذين يهتمون بالقضايا التربوية (البيداغوجية) وعلاقتها بالدماغ(Les Neurosciences )، قد تمكنوا من اكتشاف ألية عمل الدماغ عند تعلمنا القراءة، كما وأنهم تمكنوا من استخلاص النتائج عن الطرق التربوية (البيداغوجية) التي يجب وضعها قيد الاستخدام.
ملاحظة: ان المساهمات التي قدمتها "د. جيسلان ويتستين بدور" لا تقل أهمية عما قدمه "دوهايين" ولكننا نعود اليه لأن مؤلفه هو الأحدث في هذا الميدان (آب – أغسطس 2007 ). وقد أثار هذا المؤلف الرائع الكثير من النقاشات من المؤيدين والمخالفين. ويمكنني أن أزعم أن مساهمات المخالفين لم تكن ترتدي طابع الجدية التي تتطلبه هذه الدراسات والتجارب العملية. أما مساهمات المؤيدين فكانت تعتمد في أكثرها على تجارب هؤلاء العملية مع الأطفال، ومن هنا تأتي أهميتها.
* - ما الذي يجري في دماغنا عندما نتعلم القراءة وعندما نقرأ؟ ما هي النتائج التي استخلصها "دو هايين"؟
المبدأ الأول: القراءة تستدعي تعلما نوعيا (مختصا spécifique). وهذا التعلم سوف يغير بدوره آلية عمل الدماغ. لقد طرح العالم "دو هايين" التساؤل التالي: كيف أن دماغنا قد تلاءم مع القراءة مع أنها لم تخترع الا منذ عدة آلاف من السنين؟ للاجابة على هذا التساؤل، طور هذا العالم مفهوم "اعادة التأهيل العصبي": "خلال اكتساب القراءة، يجب على الدوائر العصبية المكلفة بمعرفة الأشياء اعادة تأهيل نفسها حتى تفكك اللغة المكتوبة، أو تقرأها. فأولادنا، يضيف "دوهايين" عندما يعودون من المدارس يكون دماغهم قد تغير، لم يعد كما كان".
• - ما هي النتائج التربوية (البيداغوجية)؟
اذا كان تعلم القراءة يعدل الدماغ ويغيره هكذا، فاختيار الطريقة يصبح حاسما. كتب "دوهايين": "نحن لا نتعلم القراءة بمائة طريقة مختلفة. كل طفل متفرد، ولكن عند تعلم القراءة، فأدمغة جميع الأطفال تعمل بطريقة واحدة، وتفرض نفس القواعد ونفس مراحل التعلم". ثم يضيف " الطريقة يجب أن تكون الأكثر ملاءمة لآلية عمل الدماغ".
المبدأ الثاني: الدماغ يتعرف على الأحرف أولا. ليس الاطار الاجمالي للكلمة هو ما يتعرف عليه الدماغ. كتب "دوهايين": "هناك منطقة صغيرة في الدماغ الأيسر (Hémisphère gauche ) تحلل الصور وتسجل، نعم. هناك عدد من الأحرف، يوجد "م" و"ت" و"ع"، وهذه معلومات أساسية على المناطق الأخرى من الدماغ معرفتها". ثم يضيف: "ان الاطار الاجمالي للكلمة لا يلعب أي دور في القراءة... المعرفة البصرية للكلمة لا تستند على الادراك الاجمالي لاطارها، انما الى تجزئتها الى عناصرها البسيطة: الأحرف والرواسم... ان القراءة الفورية هي ليست الا وهما،انما تتأتى بسبب اختصار مراحل القراءة".
• - ما هي النتيجة التربوية (البيداغوجية)؟
بما أن الدماغ يتعلم التعرف على الأحرف أولا (الرواسم) ثم يحولها الى أصوات اللغة (صواتم) ثم الى معاني، فان الطرق التركيبية هي التي تعمل بنفس الآلية، أي تبدأ من البسيط الى المركب، من الحرف فالمقطع فالكلمة الى أن نصل الى النص. كتب "دوهايين": "ان هدف تعليم القراءة هو واضح اذن: يجب الأخذ بعين الاعتبار هذا التدرج الموجود في الدماغ (أي من البسيط الى المركب أو المعقد "الملاحظة لنا") حتى يتمكن الطفل من التعرف الى الأحرف والرواسم وتحويلها بسهولة الى صواتم (أصوات اللغة)".
ان المقاربة التركيبية هي التي تلبي هذا التدرج في الدماغ الذي تحدث عنه "دوهايين".
و كتب أيضا: "ان الكلمات والجمل التي يستخدمها الطفل عند القراءة يجب أن تحوي الألفاظ التي سبق للطفل التعرف عليها"، و يضيف "أن الطرق التركيبية تفعل ذلك".
المبدأ الثالث: وهو تحول الحروف الى أصوات: كتب "دوهايين" في فصل "تحول الحروف الى أصوات": "المناطق الصدغية العليا من الفلقة الصدغية اليسرى هي المسؤولة عن تحويل الحروف الى أصوات، وهي المسؤولة عن تحليل الأصوات، وخاصة أصوات الكلام. كما وأن القشرة الأمامية السفلى والوسطى اليسرى تتدخلان في اللفظ. فعلى مستوى الفلقة الصدغية تتحد الكلمات التي نراها مع الأصوات التي نسمعها". كما علينا أن نضيف أن هذه المعرفة هي تصاعدية، من البسيط الى المعقد فالأكثر تعقيدا، من الحرف الى المقطع فالكلمة...
• - ما هي النتيجة التربوية (البيداغوجية)؟
"لا يمكننا أن نؤمن للطفل المتعة في القراءة اذا لم نعلمه مفاتيح القراءة"، يقول "دوهايين". وهذا يتم من خلال تعليمه تحليل الأصوات التي تتألف منها الكلمة. ثم يضيف قائلا: "نقطة مفصلية: التعليم يجب أن يكون واضحا ومباشرا(لا مكان للتخمين من قبل الطفل) للعلاقة روسم-صوتم، وهذا هو السبيل الوحيد الذي يعطي الطفل الحرية في القراءة، لأنه الوحيد الذي يسمح للطفل بالانفتاح على كلمات جديدة. ان الأطفال الذين تعلموا عبر الطريقة المجملة أو الكلية هم أقل تأهيلا في قراءة الكلمات الجديدة، وأقل سرعة وأقل فعالية في فهم النصوص".
المبدأ الرابع: الانفتاح على المعنى: "لا يعبر دماغنا من صورة الكلمة الى معناها مباشرة" يقول "دوهايين"، "انما يفككها الى عناصرها ثم يعيد تركيبها حتى يتمكن من معرفة معناها". والقراءة السريعة مع الفهم هي نتيجة الخبرة بالتفكيك واعادة التركيب، حتى تبدو وكأن هذه العمليات متزامنة.
• - ما هي النتيجة التربوية (البيداغوجية)؟
التهجئة والفهم يسيران سوية. الطفل الذي يقرأ جيدا هو نفسه الذي يفهم جيدا. من هنا فان الطرق التركيبية الصوتمية هي التي تؤمن للطفل امكانية القراءة السهلة والميسرة والسريعة، والانفتاح السريع على المعنى.
النتيجة: ما تقدم هو ما يجب أخذه في عين الاعتبار عند اختيار الكتاب الذي يجب أن يدرس فيه أولادنا القراءة. ان ما قمت به من التفتيش عن كتاب يؤمن هذه المتطلبات كان فاشلا، لذا كان لا بد من اللجوء الى التصدي لتأليف كتاب يلبي جميع هذه المتطلبات.
بقي أن نشير الى أن العمليات التي شرحناها وباختصار شديد، انما هي عمليات أمكن رؤيتها من خلال التجارب المخبرية، وليس الوصف الذي أوردناه الا نتاج لهذه الاختبارات. ومن يريد الاستزادة يمكنه العودة الى كتاب "دوهايين"، هذا الذي يؤكد أن جميع العاملين في الحقل التربوي عليهم معرفة ألية عمل الدماغ. وما قمت به هو اختصار شديد لهذه الآليات.
Stanislas DEHAENE هو أستاذ كرسي علم النفس المعرفي الاختباري في أهم جامعة فرنسية في هذا الميدان وهي Collège De France. وهو المركز الذي كان يحتله عالم النفس والتربية المشهور PIAGET. و"دوهايين" حائز على العديد من الجوائز العالمية، وهو الى جانب الاختصاص السابق فهو متخصص في الرياضيات وفي التصوير بواسطة الرنين المغناطيسي الوظيفي ( وجميع النتائج التي تحدثنا عنها جاءت عبر هذه التقنية)، وهو عضو الأكاديمية الفرنسية للعلوم.
كتابه هو Les Neurones de la lecture من اصدار دار النشر Odile Jacob .
لا تحرمونا من ملاحظاتكم. حسن ملاط

ليست هناك تعليقات: