هلهلنع
نعم سنستمع للسيد ونحن مرتاحون
سأبدأ من حيث انتهى السيد "الطاهر ابراهيم" الذي استفزني لكتابة هذه المقالة. يقول الكاتب: "البعض يرجع اللهجة التصعيدية في خطاب نصر الله يوم الجمعة 15 أيار الجاري إلى إحساسه بهزيمة انتخابية محققة لحليفه الجنرال "عون" في7 حزيران القادم ما يعني هزيمة لقوى 8 آذار ،كأن نصر الله أراد أن يذكّر اللبنانيين بأن يوم7 أيار منكم ليس ببعيد! فأراد أن يخرج للبنانيين "العصا من تحت العبا"، كما يقول المثل اللبناني". ان ما كتبه السيد ابراهيم ينم عن عدم معرفة بالوضع الداخلي اللبناني. فمن يعتقد أن "حزب الله" بحاجة لكتلة برلمانية حتى يحقق ما يريد تحقيقه يكون مخطئا. فيكفيه أن يشير بما يريده حقيقة حتى تسارع جميع أجهزة الدولة لتحقيقه. وهذه المكانة التي اكتسبها الحزب انما اكتسبها لسبب واحد، يعلمه القاصي والداني، انه قتاله للعدو الاسرائيلي. واذا أحببنا أن نعود قليلا الى الوراء لنتحدث عن عدائية الشعب اللبناني للعدو الصهيوني، فيمكننا القول ما يلي: أرجو المعذرة من القارىء الكريم لأنني سوف أتحدث بالطريقة التي تناسب السيد طاهر ابراهيم.
1 – السنة هم الشريحة الكبرى من الشعب اللبناني التي شاركت المقاومة الفلسطينية قتالها لاسرائيل، كما وأنها شاركت في جميع معارك الدفاع عن وجود المقاومة الفلسطينية على الأرض اللبنانية. ولا يعتقدن أحد أن هذه المشاركة كانت لأسباب مذهبية، انما كانت لأسباب دينية، وطنية وقومية. ونحن من الذين يعتبرون الشعور الديني شعوراً سامياً، على عكس الشعور المذهبي الذي نعتبره شعوراً غريزياً لا يتمتع بأي حظ من العقلانية.
2 – لقد شاركت الشريحة الكبرى من الطائفة الشيعية المقاومة الفلسطينية كفاحها ضد العدو الصهيوني، ولا يفوت القارىء أن القتال بمعظمه كان يحصل في المناطق الشيعية. أي بصيغة أخرى، لو أن الشيعة كانوا ضد المقاومة الفلسطينية، ما كان لهذه المقاومة أن تبقى في الجنوب اللبناني. ومشاركة الشيعة كانت بمعظمها عبر الأحزاب الوطنية والقومية، ثم عبر حركة المحرومين التي قادها السيد موسى الصدر.
اما عن تغير مواقف المواطنين الشيعة من المقاومة الفلسطينية فقد كان بسبب الممارسات الخاطئة لعدد لا بأس به من الرموز الفلسطينية وبعض الممارسات اللاأخلاقية والتي يعرفها الذين كانوا ينخرطون في صفوف المناضلين في تلك الأيام.
3 – اما بالنسبة للطوائف الأخرى فكان معظم الذين شاركوا الفلسطينيين نضالهم، من المنخرطين في العمل الوطني والديموقراطي.
ما تقدم يدلل على أن الذين يعملون اليوم في العمل القتالي ضد العدو الصهيوني هم الذين يحملون جميع تقاليد العمل الوطني عبر السنين الطوال. وأهم الأسباب الذي دفع معظم الوطنيين والماركسيين للانخراط في صفوف المقاومة الاسلامية هو رؤيتهم أن هذه المقاومة تحقق أحلامهم بالرغم من حملها شعارات اسلامية ومذهبية أحيانا.
وقبل أن ننهي هذه الالتفاتة نشير الى أن السنة في لبنان يشعرون بالغصة لأن قادتهم (بين هلالين) لا يشاركون في العمل القتالي والجهادي الى جانب "حزب الله".
فحزب الله ليس بحاجة للعصا للوصول الى ما يريده. كما أن الشعب اللبناني لا يقاد بالعصا. الشعب الذي ينتصر على اسرائيل لا يخيفه الأعداء الصغار. وللتذكير فقط نقول للأستاذ الطاهر أن الجيش الأميركي انسحب من لبنان ليس طوعاً. والجيش الفرنسي انسحب من لبنان لأسباب يعرفها المتابع. والجيش الاسرائيلي انسحب من لبنان على ايقاع السلاح وليس الموسيقى. فالشعب اللبناني لا يمكن تدجينه. وللتذكير فقط سوف نتحدث بالنفس الطائفي الذي يليق بمقالة الأستاذ الطاهر: أن الرئيس الحريري هو الذي اقترح على حزب الله أن يكون له نائب عن مدينة بيروت لأنه من المعيب أن الحزب المقاوم لا يكون له ممثل في عاصمة المقاومة. وأعتقد أن الرئيس الحريري كان يعرف مكانة حزب الله في الأوساط السنية.
يقول الكاتب: "إن إصرار "نصر الله" على أن تكون كلمته هي الكلمة الوحيدة المسموعة في لبنان، إنما تأتت من كونه "معجبا برأيه" أشد العجب".
المطلع على الأوضاع السياسية اللبنانية يعلم أن السيد حسن نصر الله لا يهمه الا شيئاً واحداً وهو كيفية استمرار المقاومة لتحقيق أهدافها المعلنة وهي تحرير جميع الأراضي المحتلة. كما وأنه من الغباوة في مكان أن يثق انسان مؤمن بعدوه، وخاصة اذا كان هذا العدو هو العدو الصهيوني. نحن مسلمون نعلم بأن اليهود لا يصونون العهد الا تحت تهديد السلاح. لذلك لا بد من ان يظل سلاح المقاومة مشهراً ما بقيت اسرائيل كنظام عنصري في بلادنا. هذا ما تعلمنا اياه السياسة وما يعلمنا اياه ديننا الحنيف. يقول ماو تسي تونغ ليس المهم النصر (رغم أهميته) انما المهم الاحتفاظ بالنصر. ان النصر الذي حققته المقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله في 25 أيار 2000 كان الانتصار الأول الذي يحققه العرب في تاريخهم الحديث على أحد أعدائهم. وما كانت حرب تموز 2006 الا دلالة على أن حزب الله يعرف حق المعرفة كيف يحتفظ بالنصر.
سوف أطرح هذه الفرضية، مع أني لا أحب الفرضيات. لو أن حزب الله استمع الى الأصوات الغير بريئة التي طلبت منه وضع سلاحه. ألم تكن اسرائيل لتقضي على جميع من يريد ان يفكر في التحرير في يوم من الأيام. ماذا تفعل اسرائيل في الضفة الغربية هي وعباس وفياض. اذا كنت تحب الأمثال اللبنانية، فالمثل يقول:" اذا لم تكن قد مت فانظر الى من مات". حزب الله رأى جيداً ما الذي فعلته اسرائيل بعرفات وخلفائه، لذلك نحن جميعاً نصر على ضرورة احتفاظ الحزب بسلاحه مشهراً الى أن تزول اسرائيل من الوجود.
فيا أيها الكاتب الجليل، السيد حسن غير مصاب بجنون العظمة مثل حكامنا ولكنه يعرف كيف يقاتل اسرئيل.
يقول الكاتب: " وربما لا يدرون أن بلاغة البيان في خطاب "نصر الله" فيها السم الناقع، وقد تجر لبنان –والمصفقين فيه- إلى فتنة مذهبية عمياء لا تبصر، تماما مثلما لا يبصر "نصر الله" ما تفعل كلماته في لبنان وأهل لبنان".
عزيزي، يقول المثل "أعط خبزك للخباز ولو أكل نصفه". تواضع قليلاً. ليس بامكان أحد أن يفجر حرباً مذهبيةً في لبنان. ليس من حسن نواياهم انما لأن حزب الله لا يريد حربا مذهبية. وتأكد يا صاحبي ليس من سبب آخر. يمكنك أن تستريح. لا حرب مذهبية في لبنان. أمريكا واسرائيل ليس بامكانهما أن تفجرا مثل هذه الحرب. ويمكنك أن تتفرج على العراق والصومال وأرض 67 ماذا تفعل أمريكا وحلفاؤها. لبنان محصن ضد الحرب الأهلية لأن من يملك السلاح يريد توجيهه للعدو الصهيوني فقط!
ثم يقول صاحبنا: " لا يستطيع الواحد أن يتوقع ماذا سيقوله سماحة "السيد!" وهل سيكون كلامه بردا وسلاما على لبنان، يخلط فيه الجد في المزاح؟ أم سيكون كقاصف الريح وعاصف البحر، حتى يضع الواحد منهم يده على فؤاده، خوفا أن يكون الذي يطل من الشاشات العملاقة قد أحضر في جعبته "أمر القتال" سيوزعه على "فتوات" حزب الله لينساحوا في زواريب بيروت الغربية فيعيثون فيها فسادا".
ان من يحقق الانتصارات على المجتع الأكثر تقدماً في منطقتنا، لا بد الا أن يكون يتمتع بعقل متقدم على الذين انتصر عليهم. اسرائيل متقدمة تقنيا بسنوات عديدة على مجتمعاتنا العربية، وبالرغم من ذلك فقد تمكنت المقاومة الاسلامية من الانتصار عليها حتى بالتقنية. فقيادة الفتوة والزعران يملكون التقنية التي تمكنهم من قيادة الزعران في بيروت الغربية.
ويقول كاتبنا أيضاً: " تذكرت مشاهد محاصرة "محمد الدرة" وأنا أتابع على إحدى الفضائيات اللبنانية مشاهد الرعب الذي تنطق به ملامح آباء وأمهات، وقد عقروا خوفا على أبنائهم وهم على بعد أمتار منهم فلا يقدرون أن يصلوا إليهم خوفا من رصاص "زعران" حزب الله أن تطالهم، وقد ملأوا شوارع بيروت الغربية يطلقون رصاص بنادقهم على كل متحرك فيها يوم 7 أيار من عام 2008، فلا يختلفون في كثير أو قليل عن سلوك جنود إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة".
أعتقد أن من يجرؤ على الكتابة بهذا الشكل عن المقاومة الاسلامية يحتاج الى اعادة تقييم لكل منظومته القيمية. أقول ذلك مع احترامي الشديد للكاتب. ان من يعزل الظاهرة عن ظروفها لا يكون عادلاً.
1 – الفكر الماركسي (ومن ضمنه الهيجلي) يتحدث عن التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية. ثم يتحدث عن اخضاع التناقضات الثانوية لصالح التناقض الرئيسي.
2 – الاسلام يتحدث عن الأولويات، والقرآن الكريم قد تحدث عن هذا الموضوع وهو واضح جداً في موضوع الهجرة.
أصدرت الحكومة اللبنانية قراراً في حال تنفيذه يسلم رأس المقاومة للاسرائيلي من غير بدل. فهل على المقاومة أن تنتظر قدرها. الأولوية هي لامكان استمرار المقاومة وليس لاستقرار الحكومة اللبنانية. هذا ما رأته المقاومة. وقد حذرت الحكومة مراراً لخطورة قرارها. ولم تستجب هذه الحكومة. لذلك قامت بتحركها في السابع من أيار.
أما رأيي بهذا التحرك فهو ما يلي: قرار الحكومة كان خاطئاً وقد تراجعت الحكومة عنه. أما السابع من أيار لم يكن يوماً مجيداً للمقاومة بالرغم من قول السيد حسن أنه يوم مجيد. ان السابع من أيار قد أدى الى تسعير الشعور المذهبي وقد كان له آثار سلبية على المقاومة، لذلك لم يكن مجيداً. ان الطائفة السنية يجب أن تظل كما كانت دائماً الى جانب المقاومة. وعلى المقاومة أن تقوم بالمستحيل من أجل ذلك. هذا ما أراه. ولكن الكتابة ضد المقاومة هو خدمة مجانية للعدو (أنا لا أتهم الطاهر ابراهيم). ان التموضع الى جانب المقاومة يجعل النقد بناءً، وليس تخريبياً.
اليوم هو عيد المقاومة والتحرير 25 أيار 2009 حسن ملاط
بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية
حسن ملاط
- فكر وتربية
- القلمون, طرابلس, Lebanon
- كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.
الثلاثاء، 26 مايو 2009
الأحد، 10 مايو 2009
الجزء الثاني من "نظرية اقتصادية اسلامية
كيف يمكن صياغة نظام اقتصادي انطلاقاً من القيم الاسلامية؟ - حسن ملاط
2009-05-09
خاص لمركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية
المقدمة
الدين هو معطىً الهي لتحقيق سعادة الانسان في الدنيا والآخرة. وحيث أن هناك جانبين أحدهما دنيوي والثاني أخروي، فهذا يعني أن علاقةًً ما تربط الجانبين فيما بينهما. وهي أن الدنيا هي الطريق التي توصلنا الى الآخرة، اما الى الجنة واما الى العذاب الأبدي والعياذ بالله. وهي تحمل معنىً آخر، أن المجتمع الاسلامي يعمل على تأمين السعادة لجميع من يعيش في كنفه بصرف النظر عن ايمان المرء أوكفره، "كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا"(الاسراء20 ).
ان وعينا لما جاء به النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من تحطيم للعلاقات الشركية التي كانت قائمةً في الجزيرة العربية هو الأساس في بناء النظام الاسلامي. وهذا النظام يتضمن في تفاصيله الاقتصادي والتربوي والاجتماعي والسياسي والقيمي. وانطلاقنا من هذه النقطة هو الذي يحدد انتماءنا وتموضعنا (على ما جاء في دراستنا حول "الانتماء والتموضع"). وهذا ما جعل الأستاذ مالك بن نبي يتحدث عن مجتمع "ما بعد الموحدين" أي ما بعد المجتمع الراشدي، المجتمع على نهج النبوة. وهذا ما جعل أستاذنا يمأسس من جديد، وهو محق. وهذا يستدعي من كل من يريد أن يبني مجتمعاً اسلامياً على نهج النبوة أن يعيد الدرس والبحث والدراسة، على نهج الذين درسوا مبتغين وجه الله تبارك وتعالى، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، محمد اقبال ومالك بن نبي وغيرهم. وهذا لايعني تبني جميع المقولات التي جاءوا بها، انما يعني أن ندرس كما درسوا ونستفيد من اسهاماتهم وهي مهمة جدا.
اقامة المجتمع الاسلامي هو أصل من أصول هذا الدين الحنيف. والسياسة هي أصل من أصول علم التوحيد. يقول تبارك وتعالى: "ان الحكم الا لله، أمر ألا تعبدوا الا اياه..." (يوسف 40 ). وهذا يستتبع أن يكون للمؤمن نظرة شاملة للكون والحياة؛ ومنها القضايا الاقتصادية والاجتماعية: التقنية، تزايد عدد السكان، نقص المواد الغذائية... يقول عز وجل: "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ... (آل عمران 191 ). وهذا ما جعل سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يرفض تقسيم سواد العراق على المقاتلين ولكن تركه لانتاج الغذاء للمجتمع.
والايمان باقامة المجتمع الاسلامي، طاعةً لله وفي سبيله، ليس نوعاً من الترف الفكري، انما حاجة تقتضيها الظروف الواقعية للمجتمعات القائمة. وهو أيضاً حاجة حضارية يتطلبها نظام الحياة الذي يحكم تطور هذه المجتمعات، عنيت السنن الالهية لتطور هذه المجتمعات وتغييرها بالاتجاه الذي يحقق سعادة الانسان في الدنيا (لمن أراد الدنيا) والآخرة (لمن أراد الاثنتين).
والتغيير لا يكون حسب رؤيتنا بالطرق الانقلابية التي تختصر الناس وتزعم انها تغير المجتمع كرمى لعيونهم لتقيم أحد الأنواع من الديكتاتوريات العسكرية. ولكن التغيير يتم بالناس أنفسهم الذين لا يغيرهم الله عز وجل حتى يغيروا ما بأنفسهم. ان التغيير يتطلب أناساً من نوعيات معينة، من مواصفات محددة. ولذلك قال تبارك وتعالى: "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(الرعد 11 )، أي ليس بطريقة الانقلاب العسكري أو غيره من الانقلابات. ان من يغير هو الذي يؤمن بضرورة التغيير(يغير ما بنفسه) ويعمل على هذا التغيير.
أولا: التغيير يتطلب وجود نظرية تغييرية يستنير بها من يريد أن يعمل على التغيير. بصيغة أخرى، هناك ضرورة لوجود مشروع سياسي يحول النظرية الى اجراءات عملية. وهذا المشروع لا يكون سرياً لأنه مشروع مجتمع وليس مشروع انقلاب. وحيث أنه اسلامي الانتماء فهذا يعني أن منطلقه سيكون المكان الذي يجمع المؤمنين. يقول عز وجل: "انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" (التوبة 18 ). والذين يريدون التغيير يتمتعون بمواصفات خاصة، يقول ذو العزة: "ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون" (آل عمران 104 ). ويقول سبحانه وتعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..." (آل عمران 110 ).
ثانيا: الانسان الخليفة (الذي استخلفه الله: "اني جاعل في الأرض خليفة" البقرة 30) هو الأصل واليه يعود كل شيء. فالنظام السياسي أو الاقتصادي ... يجب أن يكون لخدمة هذا الانسان الخليفة. من هنا فان تقييم ربحية المشروع الاقتصادي تكون بمدى تحقيقها لمصلحة الانسان. فاذا كانت زراعة التبغ، على سبيل المثال، تحقق أرباحاً خياليةً، لا نزرع التبغ انما نزرع القمح، لأن القمح ضرورة للانسان، والتبغ ليس كذلك. ( على سبيل التذكير فقط، مصر استبدلت زراعة القمح بزراعة القطن وكانت النتيجة أن وقع العديد من القتلى بفضل التزاحم أمام الأفران لندرة الخبز في مصر "أم الدنيا". أين الأرباح التي حققتها مصر أو الانسان المصري من زراعة القطن والاستغناء عن زراعة القمح).
اذا ذهبنا الى أن الانسان مستخلف على هذه الأرض لعمارتها، يصبح لزاماً علينا التفكير بكيفية تأمين ديمومة هذا الانسان على هذه الأرض للقيام بالمهام المفروضة عليه من قبل خالق هذا الكون. يقول سبحانه وتعالى: "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون..."(الذاريات56 ) ومعيار المفاضلة بين الناس هو التقوى "ان أكرمكم عند الله أتقاكم"(الحجرات 13 ) و"لا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى". الله تبارك وتعالى جعل من وجود الانسان على هذه الأرض وجوداً رسالياً، من هنا أولوية هذا الانسان كانسان وليس كفرد. لذلك نقول بأن أي نظام يجب أن يخدم وجود هذا الانسان.
والانسان الرسالي تكون تربيته ذات مواصفات خاصة، فهي تقوم على تعلم القرآن والسنة، من دون نسيان القراءة والكتابة والحساب، مترافقاً مع تعلم مهنة حتى يكون مرتبطاً برزقه بالخالق عز وجل. كان نبي الله داوود يأكل من عمل يده. ما تقدم لا يعني أن ليس من مكان للعلوم النظرية بل يعني أن هذه العلوم تكون من اختصاص الطلاب الأكثر ذكاءً وامتيازاً. نقول هذا الكلام بسبب من سفر العديد من الطلاب الغير مؤهلين لمتابعة مثل هذه الدروس في الخارج وتتكلف عليهم الأمة الكثير من المصاريف الغير ضرورية لأنها تذهب هدراً.
وهكذا تكون التربية والتعليم من جهة والعنصر البشري من جهة أخرى محورين متلازمين: القرآن والسنة يضاف اليها العلوم الضرورية مع تعلم مهنة. ان نظرةً متأنيةً الى واقع المدرسة في بلادنا، ودراسة نسبة التسرب منها يجعلنا نؤكد على ما ذهبنا اليه. فالتسرب يعني نزول عدد من المؤهلين الى سوق العمل بشكل لا يضطر الأمة الى خسارة عدة سنوات لتأهيل المتسربين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يكمل الطلاب المتميزين علومهم النظرية للوصول الى الاختصاصات التي تحتاجها الأمة. وبذلك يكون الاستثمار في الانسان، من وجهة نظر اقتصادية مربحاً، وكذلك من وجهة النظر السياسية.
أما معيار الصحة الاقتصادية في المجتمع الذي يتبنى الاسلام كمنار للتخطيط والعمل فيكون رصد المنتَج، وان كان هذا المنتج يلبي حاجة المنتجين وحاجة المجتمع. فالندرة والعرض والطلب ليست جميعها هي من يلعب الدور الرئيسي بادارة الدورة الاقتصادية في المجتمع الاسلامي، انما تأمين ما يتقوى به الانسان لعبادة الله عز وجل ... الى أن نصل الى توفير جميع ما يؤمن سعادة الفرد والمجتمع بالشكل الذي يرضيه.
البداية تكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزرعون ما لا تأكلون ولا تبنون ما لا تسكنون" الى أن نصل الى المجتمع الذي يؤمن جميع متطلبات أفراده، كما حصل مع أحد الخلفاء عندما لم يجد من يوزع عليه الزكاة. أو كما قال تبارك وتعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةًً يوم القيامة؛ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون" (الأعراف 32 ).
ثالثا: العصر: سلامة التخطيط تستدعي معرفة صفات العصر الذي نعيش فيه.
أ – صفات هذا العصر: ان أهم الصفات المميزة لهذا العصر هي على التوالي:
1 – الآحادية القطبية: لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية حتى اللحظة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم. نحن لا ننكر الضربات التي تلقتها خلال السنوات المنصرمة والوقت الراهن وهي عدم تمكنها من تحقيق نصر في العراق وكذلك في أفغانستان يضاف اليها الأزمة المالية والاقتصادية التي تتخبط فيها بالرغم من مد يد المساعدة لها من مختلف توابعها. هناك محاولات تقوم بها ما يسمى دول الاتحاد الأوروبي ولكن حتى الآن لم يتمكن من تمييز نفسه عن أمريكا. ان ربط الاقتصاد العالمي بالاقتصاد الأمريكي أجبر جميع دول العالم على الدفاع عن هذا الاقتصاد المترنح. ولايضاح هذه النقطة نسوق المثال التالي الذي يمكن القياس عليه: صرح وزير المالية (أو الاقتصاد) الصيني أنه يجب ايجاد معيار للنقد غير الدولار. ثم أردف قائلاً أنه في حال تم استبدال الدولار بنقد آخر فهذا سوف يؤثر سلباً على الدولار مما يؤدي الى خسارة الصين للأصول المالية الموظفة في الخزينة الأمريكية وهي 1,4 تريليون دولار. لذلك لم يجد الصينيون بداً من دعم الاقتصاد الأمريكي مع العلم ان دعمهم للاقتصاد الأمريكي لا يحقق لهم أي نوع من الربح على حد قول الوزير الصيني، وهذا صحيح، انما يحافظ على قيمة الأصول. أما عن قمة العشرين فمن المفترض أن يتم التحدث عنها بدراسة خاصة ولكن دعونا نقول على سبيل الاشارة أن 40 % من المال الذي خصصته هذه الدول سوف يذهب الى الخزانة الأمريكية والتي تحوله بدورها الى المصارف المتعثرة ولا توظفه في الاقتصاد الحقيقي. نضيف أن جميع الأموال التي تم اقرارها للدول الفقيرة لم يصل منها شيء لهذه الدول على حد قول رئيس البنك الدولي. فأين التغير، أو أين التصور الاقتصادي الجديد؟ ثورة ميركل وساركوزي هي أشبه ما تكون "عاصفة في فنجان". ان التفكير الاقتصادي، حتى من وجهة رأسمالية، تتطلب تموضعاً خارج السياق الاستهلاكي الأمريكي حتى يمكن تطويره أي تطوير الاقتصاد الرأسمالي، وهذا ما فعله "كينز" فقد استبدل الأولويات بأولويات أخرى. هل فعلت قمة العشرين الشيء نفسه الذي فعله "كينز" في أزمة 1929. الجواب كلا.
2 - العولمة: اذا اردنا أن نلخص مفهومنا للعولمة الليبرالية الأمريكية بجملة واحدة نقول: أن يرى الانسان الكون والحياة من خلال منظار أمريكي. ولحسن الحظ أن ال"فاست فود" لمّا يغز جميع مجتمعاتنا. أي أن تحررنا من الهيمنة الأمريكية لا زال ممكناً بأقل قدر من الخسائر.
لقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من السيطرة على العالم اقتصادياً وعسكرياً، ولكن لمّا تتمكن أمريكا من تعميم فكرها وثقافتها؛ وهذا الوحيد الايجابي في عصرنا الحاضر. أسميه ايجابياً لأن التحرر من العولمة الليبرالية لن يكلفنا الكثير، هذا استناداً الى الحقيقة المطلقة "أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد 11 ). فلله الحمد أن فكرنا لم يفسد بشكل مطلق حتى الآن. ولكن ما تقدم لا يعني أننا لا نتبنى بعض المفاهيم المفسدة للحياة والتي استوردناها من الولايات المتحدة، وأهمها التركيز على ال"أنا" وليس على ال"نحن" وهذه أهم ميزة للمجتمع الاستهلاكي. والجدير ذكره أن "اسلامنا" لعب دوراً مركزياً في حمايتنا وهذا ما دفع الرئيس الأمريكي السابق (بوش الابن) التركيز الجدي على ضرورة تغيير مناهج التعليم والتي تركز على التعليم الديني.
3 – تزايد عدد السكان: هذه الصفة ملازمة للمجتمعات المتخلفة والفقيرة. وحيث أن الفقر يتركز بشكل كبير في الريف لأسباب عديدة وأهمها على الاطلاق هو عدم دعم الزراعة. فالزراعة في جميع البلاد لا تعطي مردوداً يكفي لاعالة من يعمل فيها. لذلك نرى الحكومات في الاتحاد الأوروبي و اليابان وفي الولايات المتحدة تدعم المزارعين بشكل لافت وتمنع الدول الفقيرة من دعم زراعتها. ونتيجةً لفقر الريف نرى الهجرة الداخلية من الريف الى المدينة حيث تتشكل مدن الصفيح أو ضواحي الذل. وهناك نتيجة ثانية وهي النقص في المواد الغذائية وخاصةً في الدول الفقيرة التي تهجر أبناءها من الريف الى المدينة. وعليه تهمل الأرض وتبور.
4 – التقنية: قام المفهوم التأسيسي للتقنية على تأمين الراحة للانسان وتسهيل الحياة. ولكن الايديولوجية الرأسمالية جعلت من هذا المفهوم خادماً لمراكمة الأرباح ومضاعفتها لمن يسيطرون على هذه التقنية. فبدلاً من أن تكون هذه التقنية خادمة ل"لانسان" أصبحت في الجهة المعادية لهذا "الانسان". هذا اذا لم نعرج على موضوع سوء استخدام ما حصلته الدول المتخلفة من التقنية عن طريق الاستيراد. ففي حديث اذاعي للعالم "فاروق الباز" الذي يعمل في وكالة الفضاء الأمريكية قال{ أن الدول المتقدمة تستخدم الأقمار الصناعية لتلبية حاجات معينة تفيدها في تطوير نفسها، بينما القمر الصناعي العربي "أرابسات" كان من أجل الأقنية الفضائية ونقل الأفلام (والعياذ بالله) والمباريات الرياضية والتلفون المحمولٍٍ} الخ من التفاهات التي تتناسب مع فكر حكامنا النير!
5 – استيراد التقنية الجاهزة: ان استيرادنا للتقنية الجاهزة يجعل منها ابناً غير شرعي لنا لذلك لا نجد دافعاً قوياً لحمايتها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية فتعاملنا مع التقنية لا يؤهلنا الى اكتساب نفسية وتقاليد المنتج لهذه التقنية. أضيف الى ما تقدم أن أي خلاف مع المورد لهذه التقنية يجعل من جميع أجهزتها كماً مهملاً مكانه القمامة. و لنتذكر ترسانة أسلحة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وكذلك ترسانة الشاه الايراني التي لم تفد الثورة الاسلامية بشيء لأن الولايات المتحدة قد منعت عن ايران قطع الغيار. واذا أردتم تحدثوا عن الأسلحة التي تستوردها الدول الخليجية والتي لم تتعلم من تجربة صدام والشاه. والعامل الأهم بالنسبة للتقنية أن هناك رابطاً سرياً يصل التقنية بصانعها فتجعلها لا تخدم بأمانة سواه. ولا أجد تفسيراً لهذا العامل الا الملاحظة التي تجعل هذه التقنية خادمة لمنتجها، حتى في استعمار الآخرين!
ان الدول المنتجة للتقنيات الحديثة تجعل منها عاملاً للسيطرة على البلاد التي لا تنتجها. وهذا هو العامل الأساسي الذي يجعل الدول الست تتكالب من أجل منع ايران من الانفتاح على انتاج التقنية النووية وهي مستعدة لتأمين التقنية الجاهزة لها. والأمر نفسه ينطبق على كوريا الشمالية. فدول العالم الثالث ممنوع عليها أن تتشبه بالدول المتقدمة ذات الارث الاستعماري.
نستنتج فنقول أن استيراد التقنية الجاهزة سوف يسبب لنا نتائج كارثية. ان انتاج التقنية يجب أن يكون تلبيةً لحاجة، والحاجة أم الاختراع كما يقول المثل ومن يحتاج النار يمسكها بيديه.
ب – الرد الاسلامي: كيف نتعامل مع ما سبق من وجهة مفهومية اسلامية؟
1 – الايمان أن العمل هو الأساس في ممارسة الانسان وأن الرزق من عند الله. أي بصيغة أخرى على الانسان أن يعمل وهو موقن بأن الله سوف يرزقه. طلب منا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله و"نحن موقنون بالاجابة". كما وأضيف أنني أصدق الرواية التي رويت أن الطائرات الأميركية اصطدمت ببعضها البعض عندما جاءت لتغزوا ايران لأن الامام الخميني كان يتضرع الى الله من أجل نصر ايران الثورة الاسلامية، كما وأنني مؤمن أن النصر الذي حققته المقاومة الاسلامية على العدو الاسرائيلي في تموز هو نصر الهي بقدر ما هو نصر انساني "وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى"(الأنفال 17 ). وأصدق أيضاً قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما نبه سارية الى الجبل عن بعد مئات الكيلومترات وأصدق أن سارية قد سمعه. وأضيف الى كل ما تقدم أنني مؤمن أن المعجزات لا تكون الا على أيدي الأنبياء، وأن الخميني ونصر الله وسيدنا عمر ليسوا أنبياء، انما دعوا الله وهم موقنون بالاجابة.
وعليه نقول ان تأمين الرزق يستدعي العمل، ولا يستدعي الا العمل. دعونا نتذكر قصة سيدنا عمر بن الخطاب مع "المتوكلين" عندما طلب منهم ان يعملوا ويطلبوا من الله تبارك وتعالى أن يرزقهم، لا أن يجلسوا في المسجد ويطلبوا الرزق.
2 – التقنية لا تكون الا لصالح الانسان أو لا تكون. فمحور الوجود على هذه الأرض هو الانسان ويكون العمل لتحقيق مصالح هذا الانسان. أو بصيغة أخرى، علينا بناء القاعدة المادية التي تؤمن لهذا الانسان امكانية عبادة الله. من هنا لا تكون هذه التقنية الا تلبيةً لحاجة فعلية وتتطور مع تطور حاجات الانسان. وهذا هو التطور الطبيعي لانتاج التقنية. لا يظنن أحد أننا سوف نعدم جميع أجهزة الكومبيوتر التي نملكها، ولكن يعني أنه علينا العمل لانتاج الكومبيوتر حتى لا تتحول أجهزتنا الى خردة اذا اختلفنا مع الدول التي تبيعنا هذه الأجهزة. وعامل آخر لا يقل أهمية عن العامل الذي سبق هو أن عبادة الله تستدعي من العبد أن يتمتع بحريته وأن لا يكون مرهوناً لأي كان "فتمام حرية الانسان هو بكمال عبوديته لله" عز وجل.
3 – هل ما تقدم يعني أن استيراد التقنية لا يجوز مطلقاً. كلا، انما يعني أنه لا نستورد من التقنية الا ما نحتاجه ولا امكانية لانتاجه. أو بصيغة أخرى لا نستورد الا عند الضرورة القصوى.
4 – في ظل العولمة، هل يمكن للكيانات الصغيرة أن تعيش مستقلةً؟ منذ أواسط القرن الماضي نظر الجنرال شارل ديغول الى واقع فرنسا والدول الأوروبية الأخرى فوجد أن هذه الدول لا يمكنها أن تخرج من ظل الهيمنة الأمريكية الا اذا اتحدت فيما بينها. وعمل مع العدو السابق (ألمانيا) من أجل بناء ما سمي يومها "السوق الأوروربية المشتركة" الذي تطور الى أن أصبح "الاتحاد الأوروبي". وبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي يعتبر رابع اقتصاد في العالم لم يتمكن حتى الآن من التحرر من التبعية للسيد الأمريكي اقتصادياً وعسكرياً. فما بالكم في دولنا العربية؟
فلسطين المغتصب حوالي ثلاثة أرباعها ينقسم ربعها الباقي تحت الاحتلال الى كيانين متخاصمين، وأحد هذين الكيانين يفرض على الكيان الآخر التبعية للعدو حتى يقبل بمصالحته. والعراق الذي يتمتع بالاحتلال الأمريكي ينقسم هو الآخر الى ثلاثة كيانات متخاصمة. سوريا ولبنان احتفلوا مؤخراً بقدسية سايكس وبيكو. واتفقت الدول العربية على اقامة سوق مشتركة لا يمكن ان تقوم لأن جميع هذه الدول متخاصمة. فكيف لنا أن نتحرر في ظل عصر لا يمكن الا للكتل أن تعيش بشكل مستقل نسبياً. كما وأن الانتماء الى الله عز وجل يستدعي قيام كتلة عربية أو اسلامية. ومن مواصفات هذه الكتلة ان تكون مكتفيةً ذاتياً، أي كتلة مقفلة على الخارج ومنفتحة داخلياً.
رابعا: صفات الاقتصاد الاسلامي: لقد سبق لنا القول أن كل نظام اقتصادي هو نظام معياري، أي نظام قيم. والنظام الاسلامي لا يخرج عن هذه الحقيقة، لذلك فهو يحمل الصفات التي تميز المسلم. فقد مر معنا أن المسلم عندما يدعو الله عز وجل يكون مطمئناً لاستجابة الله لدعائه لأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أمرنا أن ندعوا الله ونحن موقنون بالاجابة.
أ – فالصفة الأولى هو أن الانسان الخليفة (الذي استخلفه الله على هذه الأرض) يكون مطمئناً أن الله سيساعده. يقول رب العزة: "الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"(الأنعام 82 ). ( الطمأنينة تعني الأمن).
ب – الانسان الخليفة يعلم أن الله تبارك وتعالى قد سخر له ما في الكون لخدمته.
يقول تبارك وتعالى: "قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال. الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه، وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها. ان الانسان لظلوم كفار. (ابراهيم 31 -32 -33 -34 ).
ويقول سبحانه وتعالى: "الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. (الجاثية 12 – 13 ).
ج – الخليفة يهتم بالدوائر التالية: التجارة الفردية والجماعية، التجارة الخارجية والداخلية وأخيراً دائرة الرزق المال والربح. المراقب لهذه الدوائر يلاحظ أنها دوائر تناقضية؛ فالتجارة الفردية والجماعية، أي القطاع الخاص والقطاع العام، ويكون تنافسهما في الميدان الذي يحدده الخليفة الحاكم. أي بصيغة أخرى، لا بأس من منافسة القطاع الخاص للقطاع العام بتأمين حاجات المجتمع. والدائرة الثانية تحكمها نفس القوانين، يضاف اليها المسلمة التالية التي تمنع منافسة المنتجات الخارجية للمنتجات الداخلية؛ فميدان التجارة الخارجية محدد بتأمين الحاجات الضرورية للسوق الداخلية، وليس لتأمين الربح للتجار. أما الدائرة الأخيرة وهي الأهم. فمن خلال هذه الدائرة يمكن معرفة حالة المجتمع، فكلما كبرت دائرة الرزق على دائرة المال فهذا يعني ان المجتمع لم يتمكن بعد من تأمين جميع حاجياته وبشكل مريح. وتوسع دائرة المال يدل على أن المجتمع يتجه نحو الكماليات لأن الضرورات قد تأمنت لجميع أفراد المجتمع. وفي هذه الحالة نصل الى الرفاهية. أما دائرة الربح فالخليفة الحاكم هو الذي يحدد هامش الربح (لا تظلمون ولا تظلمون). والرزق من وجهة نظرنا هو ما يُتقوى به الانسان على عبادة الله. وبعبارة أخرى دائرة الرزق هي تأمين جميع الضرورات: مأكل، ملبس، مسكن، العلم والعمل....
النظرية التي تحكم التصور لنظام اقتصادي اسلامي:
أولا: التوحيد – العدل
نحن نعتقد أن الايمان بالتوحيد والالتزام به يتجلى عدلاً على الصعيد الاجتماعي.
أ – التوحيد هو الايمان بوحدانية الخالق عز وجل. وهذا الايمان يستتبع:
* - أن يكون الانسان موحَّدا. والموحَّد هو نقيض "فيه شركاء متشاكسون". يقول جل جلاله: "ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل، هل يستويان مثلاً. الحمد لله. بل أكثرهم لا يعلمون" (الزمر 29).
* - أن يكون موحداً سياسياً (لا ينتمي الى الطواغيت). طاعة الخالق تستدعي أن يكون الموحِّد على طرفي نقيض مع الذين يدعون الى غير الله. مؤمن وحليف أمريكا أو اسرائيل، هذه معادلة مستحيلة.
* - أن يكون موحَّداً اقتصادياً. "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". وهذا يستتبع منع الاستغلال والتبعية.
* - أن يكون موحَّداً اجتماعياً. اتباع ما جاء به الدين الحنيف في العلاقات الاجتماعية، وخاصة في علاقته مع الوالدين والزوجة.
ما تقدم هو الممارسة التوحيدية.
ب – العدل وهو تطبيق التوحيد على الأرض. الاقرار ب"لا اله الا الله" كخليفة – حاكم يفرض اقامة مجتمع العدل. يقول عز وعلا: "وأمرت لأعدل بينكم" (الشورى 15).
ج – العلاقة بين التوحيد – العدل:
1 – لا يقوم التوحيد الا بظل العدل،سياسياً، اجتماعياً واقتصادياً.
2 – الايمان بأنه لايقوم عدل الا في ظل التوحيد.
د – ما تقدم يفرض على الدول العربية أن تكون كتلة، حتى لا تكون مرهونةً برزقها لأي طاغوت.
ثانيا: مفهوم الخلافة- العمارة
نحن كمؤمنين علينا الايمان بأننا لم نخلق عبثا. وهذا الايمان يستدعي أن الانسان يحمل رسالة معينة عليه القيام بها. أما المؤمن فالرسالة التي يحملها هي تلك التي كُلف بها منذ وجوده: "اني جاعل في الأرض خليفة"، "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون".
الانسان مخلوق لعمارة الأرض. يقول تبارك وتعالى:... "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا اليه..." (هود 61). فالمهمة الأولى المطروحة على عاتقنا كخلفاء هو عمارة الأرض. فالانسان الخليفة هو الخليفة الحاكم من جهة وجميع الناس من جهة ثانية. والاستخلاف ليس له علاقة بالايمان؛ فالانسان مُستخلف مؤمنا كان أم كافرا. والانسان عُرضت عليه الرسالة فاما أن يؤمن بها فيكون مآله الى الجنة أو يكفر فيكون مصيره العذاب المقيم. وعمارة الأرض يقوم بها كل من يعيش على هذه الأرض. وميزة المؤمن هو قيامه بهذه المهمة طاعة لله وفي سبيله. وأما الآخر، يبين ربنا تبارك وتعالى هذا الأمر: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا" (الاسراء 16).
نحدد فنقول: العمارة هي العبادة التي يمارسها الخليفة طاعة لله في استعمار الأرض والكون. والعمارة لا تأخذ شكلا معينا، انما يمكن أن يتغير شكلها تبعا للظروف العيانية أو اللحظة التاريخية.
وعلينا الايمان أن العلاقة بين الخلافة والعمارة شرطية. أي علينا أن نؤمن أنه لا خلافة من دون عمارة، والا فما هو عمل الخليفة في هذه الأرض. كما وأنه لا عمارة من دون خلافة، أي وجود الأولى شرط لوجود الأخرى.
فالعمارة هي تكليف شرعي ومهمة دينية يقوم بها الخليفة. وقراءة هذه الآيات الكريمات توضح ما ذهبنا اليه:
" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا؛ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" (النور 55).
"وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم..." (الأنعام 165).
"ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا؛ كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" (يونس 13 – 14).
"وربك الغني ذو الرحمة، ان يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين"(الأنعام 133 ).
ثالثا: مفهوم الرزق – المال
الرزق هو ما يعتاش به الانسان من ملبس ومأكل ومسكن وعلم وعمل؛ وقد توافقنا على تسمية هذه الضرورات الحياتية بالضرورات الخمس. والرزق هو أسبق الى الوجود من المال. فاذا عدنا الى الوراء لن نجد من يبني البيوت حتى يبيعها، أو من يجمع القمح للمتاجرة فيه. ونحن نعلم أن المال ما هو الا الرزق المحترز. والمال لم يصبح له وجود مستقل الا في وقت متأخر من تاريخ الانسانية. ذلك أنه من المستحيل أن يعمل الانسان في التجارة قبل تأمين الحاجيات الضرورية لاستمراره في الحياة. من هنا ما ذهبنا اليه أن الرزق والمال هما مرتبطان كل منهما بالآخر. وهذه الوحدة تناقضية بمعنى أن دائرة كل منهما تكبر على حساب الأخرى.
ان ما يحدد عظم دائرة على أخرى هو الحال الواقعية للمجتمع. فالمجتمع الذي تأمنت جميع حاجياته، لا يمنعه شيء من الانتاج بقصد جمع الأموال، وبذلك نقول بأن دائرة المال هي الدائرة الكبرى. ولكن في جميع المجتمعات يبدأ العمل بدائرة الرزق الى ان يصل الى دائرة المال.
ومصادر المال في المجتمع الاسلامي هي الزكاة والصدقات والعفو وحالات المصادرة الثلاث: الكوارث الطبيعية، الحروب والمجاعة. ففي هذه الحالات يحق للخليفة الحاكم ان يصادر أموال العامة.
والمال هو عصب الاقتصاد، لذلك نرى الاقتصاديون يتحدثون عن التراكم الأولي لرأس المال وكيف يتم. فوجود هذا الرأس مال المتراكم هو شرط لبناء اقتصاد اجتماعي.
2009-05-09
خاص لمركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية
المقدمة
الدين هو معطىً الهي لتحقيق سعادة الانسان في الدنيا والآخرة. وحيث أن هناك جانبين أحدهما دنيوي والثاني أخروي، فهذا يعني أن علاقةًً ما تربط الجانبين فيما بينهما. وهي أن الدنيا هي الطريق التي توصلنا الى الآخرة، اما الى الجنة واما الى العذاب الأبدي والعياذ بالله. وهي تحمل معنىً آخر، أن المجتمع الاسلامي يعمل على تأمين السعادة لجميع من يعيش في كنفه بصرف النظر عن ايمان المرء أوكفره، "كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا"(الاسراء20 ).
ان وعينا لما جاء به النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من تحطيم للعلاقات الشركية التي كانت قائمةً في الجزيرة العربية هو الأساس في بناء النظام الاسلامي. وهذا النظام يتضمن في تفاصيله الاقتصادي والتربوي والاجتماعي والسياسي والقيمي. وانطلاقنا من هذه النقطة هو الذي يحدد انتماءنا وتموضعنا (على ما جاء في دراستنا حول "الانتماء والتموضع"). وهذا ما جعل الأستاذ مالك بن نبي يتحدث عن مجتمع "ما بعد الموحدين" أي ما بعد المجتمع الراشدي، المجتمع على نهج النبوة. وهذا ما جعل أستاذنا يمأسس من جديد، وهو محق. وهذا يستدعي من كل من يريد أن يبني مجتمعاً اسلامياً على نهج النبوة أن يعيد الدرس والبحث والدراسة، على نهج الذين درسوا مبتغين وجه الله تبارك وتعالى، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، محمد اقبال ومالك بن نبي وغيرهم. وهذا لايعني تبني جميع المقولات التي جاءوا بها، انما يعني أن ندرس كما درسوا ونستفيد من اسهاماتهم وهي مهمة جدا.
اقامة المجتمع الاسلامي هو أصل من أصول هذا الدين الحنيف. والسياسة هي أصل من أصول علم التوحيد. يقول تبارك وتعالى: "ان الحكم الا لله، أمر ألا تعبدوا الا اياه..." (يوسف 40 ). وهذا يستتبع أن يكون للمؤمن نظرة شاملة للكون والحياة؛ ومنها القضايا الاقتصادية والاجتماعية: التقنية، تزايد عدد السكان، نقص المواد الغذائية... يقول عز وجل: "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ... (آل عمران 191 ). وهذا ما جعل سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يرفض تقسيم سواد العراق على المقاتلين ولكن تركه لانتاج الغذاء للمجتمع.
والايمان باقامة المجتمع الاسلامي، طاعةً لله وفي سبيله، ليس نوعاً من الترف الفكري، انما حاجة تقتضيها الظروف الواقعية للمجتمعات القائمة. وهو أيضاً حاجة حضارية يتطلبها نظام الحياة الذي يحكم تطور هذه المجتمعات، عنيت السنن الالهية لتطور هذه المجتمعات وتغييرها بالاتجاه الذي يحقق سعادة الانسان في الدنيا (لمن أراد الدنيا) والآخرة (لمن أراد الاثنتين).
والتغيير لا يكون حسب رؤيتنا بالطرق الانقلابية التي تختصر الناس وتزعم انها تغير المجتمع كرمى لعيونهم لتقيم أحد الأنواع من الديكتاتوريات العسكرية. ولكن التغيير يتم بالناس أنفسهم الذين لا يغيرهم الله عز وجل حتى يغيروا ما بأنفسهم. ان التغيير يتطلب أناساً من نوعيات معينة، من مواصفات محددة. ولذلك قال تبارك وتعالى: "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(الرعد 11 )، أي ليس بطريقة الانقلاب العسكري أو غيره من الانقلابات. ان من يغير هو الذي يؤمن بضرورة التغيير(يغير ما بنفسه) ويعمل على هذا التغيير.
أولا: التغيير يتطلب وجود نظرية تغييرية يستنير بها من يريد أن يعمل على التغيير. بصيغة أخرى، هناك ضرورة لوجود مشروع سياسي يحول النظرية الى اجراءات عملية. وهذا المشروع لا يكون سرياً لأنه مشروع مجتمع وليس مشروع انقلاب. وحيث أنه اسلامي الانتماء فهذا يعني أن منطلقه سيكون المكان الذي يجمع المؤمنين. يقول عز وجل: "انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" (التوبة 18 ). والذين يريدون التغيير يتمتعون بمواصفات خاصة، يقول ذو العزة: "ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون" (آل عمران 104 ). ويقول سبحانه وتعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..." (آل عمران 110 ).
ثانيا: الانسان الخليفة (الذي استخلفه الله: "اني جاعل في الأرض خليفة" البقرة 30) هو الأصل واليه يعود كل شيء. فالنظام السياسي أو الاقتصادي ... يجب أن يكون لخدمة هذا الانسان الخليفة. من هنا فان تقييم ربحية المشروع الاقتصادي تكون بمدى تحقيقها لمصلحة الانسان. فاذا كانت زراعة التبغ، على سبيل المثال، تحقق أرباحاً خياليةً، لا نزرع التبغ انما نزرع القمح، لأن القمح ضرورة للانسان، والتبغ ليس كذلك. ( على سبيل التذكير فقط، مصر استبدلت زراعة القمح بزراعة القطن وكانت النتيجة أن وقع العديد من القتلى بفضل التزاحم أمام الأفران لندرة الخبز في مصر "أم الدنيا". أين الأرباح التي حققتها مصر أو الانسان المصري من زراعة القطن والاستغناء عن زراعة القمح).
اذا ذهبنا الى أن الانسان مستخلف على هذه الأرض لعمارتها، يصبح لزاماً علينا التفكير بكيفية تأمين ديمومة هذا الانسان على هذه الأرض للقيام بالمهام المفروضة عليه من قبل خالق هذا الكون. يقول سبحانه وتعالى: "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون..."(الذاريات56 ) ومعيار المفاضلة بين الناس هو التقوى "ان أكرمكم عند الله أتقاكم"(الحجرات 13 ) و"لا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى". الله تبارك وتعالى جعل من وجود الانسان على هذه الأرض وجوداً رسالياً، من هنا أولوية هذا الانسان كانسان وليس كفرد. لذلك نقول بأن أي نظام يجب أن يخدم وجود هذا الانسان.
والانسان الرسالي تكون تربيته ذات مواصفات خاصة، فهي تقوم على تعلم القرآن والسنة، من دون نسيان القراءة والكتابة والحساب، مترافقاً مع تعلم مهنة حتى يكون مرتبطاً برزقه بالخالق عز وجل. كان نبي الله داوود يأكل من عمل يده. ما تقدم لا يعني أن ليس من مكان للعلوم النظرية بل يعني أن هذه العلوم تكون من اختصاص الطلاب الأكثر ذكاءً وامتيازاً. نقول هذا الكلام بسبب من سفر العديد من الطلاب الغير مؤهلين لمتابعة مثل هذه الدروس في الخارج وتتكلف عليهم الأمة الكثير من المصاريف الغير ضرورية لأنها تذهب هدراً.
وهكذا تكون التربية والتعليم من جهة والعنصر البشري من جهة أخرى محورين متلازمين: القرآن والسنة يضاف اليها العلوم الضرورية مع تعلم مهنة. ان نظرةً متأنيةً الى واقع المدرسة في بلادنا، ودراسة نسبة التسرب منها يجعلنا نؤكد على ما ذهبنا اليه. فالتسرب يعني نزول عدد من المؤهلين الى سوق العمل بشكل لا يضطر الأمة الى خسارة عدة سنوات لتأهيل المتسربين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يكمل الطلاب المتميزين علومهم النظرية للوصول الى الاختصاصات التي تحتاجها الأمة. وبذلك يكون الاستثمار في الانسان، من وجهة نظر اقتصادية مربحاً، وكذلك من وجهة النظر السياسية.
أما معيار الصحة الاقتصادية في المجتمع الذي يتبنى الاسلام كمنار للتخطيط والعمل فيكون رصد المنتَج، وان كان هذا المنتج يلبي حاجة المنتجين وحاجة المجتمع. فالندرة والعرض والطلب ليست جميعها هي من يلعب الدور الرئيسي بادارة الدورة الاقتصادية في المجتمع الاسلامي، انما تأمين ما يتقوى به الانسان لعبادة الله عز وجل ... الى أن نصل الى توفير جميع ما يؤمن سعادة الفرد والمجتمع بالشكل الذي يرضيه.
البداية تكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزرعون ما لا تأكلون ولا تبنون ما لا تسكنون" الى أن نصل الى المجتمع الذي يؤمن جميع متطلبات أفراده، كما حصل مع أحد الخلفاء عندما لم يجد من يوزع عليه الزكاة. أو كما قال تبارك وتعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةًً يوم القيامة؛ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون" (الأعراف 32 ).
ثالثا: العصر: سلامة التخطيط تستدعي معرفة صفات العصر الذي نعيش فيه.
أ – صفات هذا العصر: ان أهم الصفات المميزة لهذا العصر هي على التوالي:
1 – الآحادية القطبية: لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية حتى اللحظة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم. نحن لا ننكر الضربات التي تلقتها خلال السنوات المنصرمة والوقت الراهن وهي عدم تمكنها من تحقيق نصر في العراق وكذلك في أفغانستان يضاف اليها الأزمة المالية والاقتصادية التي تتخبط فيها بالرغم من مد يد المساعدة لها من مختلف توابعها. هناك محاولات تقوم بها ما يسمى دول الاتحاد الأوروبي ولكن حتى الآن لم يتمكن من تمييز نفسه عن أمريكا. ان ربط الاقتصاد العالمي بالاقتصاد الأمريكي أجبر جميع دول العالم على الدفاع عن هذا الاقتصاد المترنح. ولايضاح هذه النقطة نسوق المثال التالي الذي يمكن القياس عليه: صرح وزير المالية (أو الاقتصاد) الصيني أنه يجب ايجاد معيار للنقد غير الدولار. ثم أردف قائلاً أنه في حال تم استبدال الدولار بنقد آخر فهذا سوف يؤثر سلباً على الدولار مما يؤدي الى خسارة الصين للأصول المالية الموظفة في الخزينة الأمريكية وهي 1,4 تريليون دولار. لذلك لم يجد الصينيون بداً من دعم الاقتصاد الأمريكي مع العلم ان دعمهم للاقتصاد الأمريكي لا يحقق لهم أي نوع من الربح على حد قول الوزير الصيني، وهذا صحيح، انما يحافظ على قيمة الأصول. أما عن قمة العشرين فمن المفترض أن يتم التحدث عنها بدراسة خاصة ولكن دعونا نقول على سبيل الاشارة أن 40 % من المال الذي خصصته هذه الدول سوف يذهب الى الخزانة الأمريكية والتي تحوله بدورها الى المصارف المتعثرة ولا توظفه في الاقتصاد الحقيقي. نضيف أن جميع الأموال التي تم اقرارها للدول الفقيرة لم يصل منها شيء لهذه الدول على حد قول رئيس البنك الدولي. فأين التغير، أو أين التصور الاقتصادي الجديد؟ ثورة ميركل وساركوزي هي أشبه ما تكون "عاصفة في فنجان". ان التفكير الاقتصادي، حتى من وجهة رأسمالية، تتطلب تموضعاً خارج السياق الاستهلاكي الأمريكي حتى يمكن تطويره أي تطوير الاقتصاد الرأسمالي، وهذا ما فعله "كينز" فقد استبدل الأولويات بأولويات أخرى. هل فعلت قمة العشرين الشيء نفسه الذي فعله "كينز" في أزمة 1929. الجواب كلا.
2 - العولمة: اذا اردنا أن نلخص مفهومنا للعولمة الليبرالية الأمريكية بجملة واحدة نقول: أن يرى الانسان الكون والحياة من خلال منظار أمريكي. ولحسن الحظ أن ال"فاست فود" لمّا يغز جميع مجتمعاتنا. أي أن تحررنا من الهيمنة الأمريكية لا زال ممكناً بأقل قدر من الخسائر.
لقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من السيطرة على العالم اقتصادياً وعسكرياً، ولكن لمّا تتمكن أمريكا من تعميم فكرها وثقافتها؛ وهذا الوحيد الايجابي في عصرنا الحاضر. أسميه ايجابياً لأن التحرر من العولمة الليبرالية لن يكلفنا الكثير، هذا استناداً الى الحقيقة المطلقة "أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد 11 ). فلله الحمد أن فكرنا لم يفسد بشكل مطلق حتى الآن. ولكن ما تقدم لا يعني أننا لا نتبنى بعض المفاهيم المفسدة للحياة والتي استوردناها من الولايات المتحدة، وأهمها التركيز على ال"أنا" وليس على ال"نحن" وهذه أهم ميزة للمجتمع الاستهلاكي. والجدير ذكره أن "اسلامنا" لعب دوراً مركزياً في حمايتنا وهذا ما دفع الرئيس الأمريكي السابق (بوش الابن) التركيز الجدي على ضرورة تغيير مناهج التعليم والتي تركز على التعليم الديني.
3 – تزايد عدد السكان: هذه الصفة ملازمة للمجتمعات المتخلفة والفقيرة. وحيث أن الفقر يتركز بشكل كبير في الريف لأسباب عديدة وأهمها على الاطلاق هو عدم دعم الزراعة. فالزراعة في جميع البلاد لا تعطي مردوداً يكفي لاعالة من يعمل فيها. لذلك نرى الحكومات في الاتحاد الأوروبي و اليابان وفي الولايات المتحدة تدعم المزارعين بشكل لافت وتمنع الدول الفقيرة من دعم زراعتها. ونتيجةً لفقر الريف نرى الهجرة الداخلية من الريف الى المدينة حيث تتشكل مدن الصفيح أو ضواحي الذل. وهناك نتيجة ثانية وهي النقص في المواد الغذائية وخاصةً في الدول الفقيرة التي تهجر أبناءها من الريف الى المدينة. وعليه تهمل الأرض وتبور.
4 – التقنية: قام المفهوم التأسيسي للتقنية على تأمين الراحة للانسان وتسهيل الحياة. ولكن الايديولوجية الرأسمالية جعلت من هذا المفهوم خادماً لمراكمة الأرباح ومضاعفتها لمن يسيطرون على هذه التقنية. فبدلاً من أن تكون هذه التقنية خادمة ل"لانسان" أصبحت في الجهة المعادية لهذا "الانسان". هذا اذا لم نعرج على موضوع سوء استخدام ما حصلته الدول المتخلفة من التقنية عن طريق الاستيراد. ففي حديث اذاعي للعالم "فاروق الباز" الذي يعمل في وكالة الفضاء الأمريكية قال{ أن الدول المتقدمة تستخدم الأقمار الصناعية لتلبية حاجات معينة تفيدها في تطوير نفسها، بينما القمر الصناعي العربي "أرابسات" كان من أجل الأقنية الفضائية ونقل الأفلام (والعياذ بالله) والمباريات الرياضية والتلفون المحمولٍٍ} الخ من التفاهات التي تتناسب مع فكر حكامنا النير!
5 – استيراد التقنية الجاهزة: ان استيرادنا للتقنية الجاهزة يجعل منها ابناً غير شرعي لنا لذلك لا نجد دافعاً قوياً لحمايتها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية فتعاملنا مع التقنية لا يؤهلنا الى اكتساب نفسية وتقاليد المنتج لهذه التقنية. أضيف الى ما تقدم أن أي خلاف مع المورد لهذه التقنية يجعل من جميع أجهزتها كماً مهملاً مكانه القمامة. و لنتذكر ترسانة أسلحة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وكذلك ترسانة الشاه الايراني التي لم تفد الثورة الاسلامية بشيء لأن الولايات المتحدة قد منعت عن ايران قطع الغيار. واذا أردتم تحدثوا عن الأسلحة التي تستوردها الدول الخليجية والتي لم تتعلم من تجربة صدام والشاه. والعامل الأهم بالنسبة للتقنية أن هناك رابطاً سرياً يصل التقنية بصانعها فتجعلها لا تخدم بأمانة سواه. ولا أجد تفسيراً لهذا العامل الا الملاحظة التي تجعل هذه التقنية خادمة لمنتجها، حتى في استعمار الآخرين!
ان الدول المنتجة للتقنيات الحديثة تجعل منها عاملاً للسيطرة على البلاد التي لا تنتجها. وهذا هو العامل الأساسي الذي يجعل الدول الست تتكالب من أجل منع ايران من الانفتاح على انتاج التقنية النووية وهي مستعدة لتأمين التقنية الجاهزة لها. والأمر نفسه ينطبق على كوريا الشمالية. فدول العالم الثالث ممنوع عليها أن تتشبه بالدول المتقدمة ذات الارث الاستعماري.
نستنتج فنقول أن استيراد التقنية الجاهزة سوف يسبب لنا نتائج كارثية. ان انتاج التقنية يجب أن يكون تلبيةً لحاجة، والحاجة أم الاختراع كما يقول المثل ومن يحتاج النار يمسكها بيديه.
ب – الرد الاسلامي: كيف نتعامل مع ما سبق من وجهة مفهومية اسلامية؟
1 – الايمان أن العمل هو الأساس في ممارسة الانسان وأن الرزق من عند الله. أي بصيغة أخرى على الانسان أن يعمل وهو موقن بأن الله سوف يرزقه. طلب منا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله و"نحن موقنون بالاجابة". كما وأضيف أنني أصدق الرواية التي رويت أن الطائرات الأميركية اصطدمت ببعضها البعض عندما جاءت لتغزوا ايران لأن الامام الخميني كان يتضرع الى الله من أجل نصر ايران الثورة الاسلامية، كما وأنني مؤمن أن النصر الذي حققته المقاومة الاسلامية على العدو الاسرائيلي في تموز هو نصر الهي بقدر ما هو نصر انساني "وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى"(الأنفال 17 ). وأصدق أيضاً قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما نبه سارية الى الجبل عن بعد مئات الكيلومترات وأصدق أن سارية قد سمعه. وأضيف الى كل ما تقدم أنني مؤمن أن المعجزات لا تكون الا على أيدي الأنبياء، وأن الخميني ونصر الله وسيدنا عمر ليسوا أنبياء، انما دعوا الله وهم موقنون بالاجابة.
وعليه نقول ان تأمين الرزق يستدعي العمل، ولا يستدعي الا العمل. دعونا نتذكر قصة سيدنا عمر بن الخطاب مع "المتوكلين" عندما طلب منهم ان يعملوا ويطلبوا من الله تبارك وتعالى أن يرزقهم، لا أن يجلسوا في المسجد ويطلبوا الرزق.
2 – التقنية لا تكون الا لصالح الانسان أو لا تكون. فمحور الوجود على هذه الأرض هو الانسان ويكون العمل لتحقيق مصالح هذا الانسان. أو بصيغة أخرى، علينا بناء القاعدة المادية التي تؤمن لهذا الانسان امكانية عبادة الله. من هنا لا تكون هذه التقنية الا تلبيةً لحاجة فعلية وتتطور مع تطور حاجات الانسان. وهذا هو التطور الطبيعي لانتاج التقنية. لا يظنن أحد أننا سوف نعدم جميع أجهزة الكومبيوتر التي نملكها، ولكن يعني أنه علينا العمل لانتاج الكومبيوتر حتى لا تتحول أجهزتنا الى خردة اذا اختلفنا مع الدول التي تبيعنا هذه الأجهزة. وعامل آخر لا يقل أهمية عن العامل الذي سبق هو أن عبادة الله تستدعي من العبد أن يتمتع بحريته وأن لا يكون مرهوناً لأي كان "فتمام حرية الانسان هو بكمال عبوديته لله" عز وجل.
3 – هل ما تقدم يعني أن استيراد التقنية لا يجوز مطلقاً. كلا، انما يعني أنه لا نستورد من التقنية الا ما نحتاجه ولا امكانية لانتاجه. أو بصيغة أخرى لا نستورد الا عند الضرورة القصوى.
4 – في ظل العولمة، هل يمكن للكيانات الصغيرة أن تعيش مستقلةً؟ منذ أواسط القرن الماضي نظر الجنرال شارل ديغول الى واقع فرنسا والدول الأوروبية الأخرى فوجد أن هذه الدول لا يمكنها أن تخرج من ظل الهيمنة الأمريكية الا اذا اتحدت فيما بينها. وعمل مع العدو السابق (ألمانيا) من أجل بناء ما سمي يومها "السوق الأوروربية المشتركة" الذي تطور الى أن أصبح "الاتحاد الأوروبي". وبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي يعتبر رابع اقتصاد في العالم لم يتمكن حتى الآن من التحرر من التبعية للسيد الأمريكي اقتصادياً وعسكرياً. فما بالكم في دولنا العربية؟
فلسطين المغتصب حوالي ثلاثة أرباعها ينقسم ربعها الباقي تحت الاحتلال الى كيانين متخاصمين، وأحد هذين الكيانين يفرض على الكيان الآخر التبعية للعدو حتى يقبل بمصالحته. والعراق الذي يتمتع بالاحتلال الأمريكي ينقسم هو الآخر الى ثلاثة كيانات متخاصمة. سوريا ولبنان احتفلوا مؤخراً بقدسية سايكس وبيكو. واتفقت الدول العربية على اقامة سوق مشتركة لا يمكن ان تقوم لأن جميع هذه الدول متخاصمة. فكيف لنا أن نتحرر في ظل عصر لا يمكن الا للكتل أن تعيش بشكل مستقل نسبياً. كما وأن الانتماء الى الله عز وجل يستدعي قيام كتلة عربية أو اسلامية. ومن مواصفات هذه الكتلة ان تكون مكتفيةً ذاتياً، أي كتلة مقفلة على الخارج ومنفتحة داخلياً.
رابعا: صفات الاقتصاد الاسلامي: لقد سبق لنا القول أن كل نظام اقتصادي هو نظام معياري، أي نظام قيم. والنظام الاسلامي لا يخرج عن هذه الحقيقة، لذلك فهو يحمل الصفات التي تميز المسلم. فقد مر معنا أن المسلم عندما يدعو الله عز وجل يكون مطمئناً لاستجابة الله لدعائه لأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أمرنا أن ندعوا الله ونحن موقنون بالاجابة.
أ – فالصفة الأولى هو أن الانسان الخليفة (الذي استخلفه الله على هذه الأرض) يكون مطمئناً أن الله سيساعده. يقول رب العزة: "الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"(الأنعام 82 ). ( الطمأنينة تعني الأمن).
ب – الانسان الخليفة يعلم أن الله تبارك وتعالى قد سخر له ما في الكون لخدمته.
يقول تبارك وتعالى: "قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال. الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه، وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها. ان الانسان لظلوم كفار. (ابراهيم 31 -32 -33 -34 ).
ويقول سبحانه وتعالى: "الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. (الجاثية 12 – 13 ).
ج – الخليفة يهتم بالدوائر التالية: التجارة الفردية والجماعية، التجارة الخارجية والداخلية وأخيراً دائرة الرزق المال والربح. المراقب لهذه الدوائر يلاحظ أنها دوائر تناقضية؛ فالتجارة الفردية والجماعية، أي القطاع الخاص والقطاع العام، ويكون تنافسهما في الميدان الذي يحدده الخليفة الحاكم. أي بصيغة أخرى، لا بأس من منافسة القطاع الخاص للقطاع العام بتأمين حاجات المجتمع. والدائرة الثانية تحكمها نفس القوانين، يضاف اليها المسلمة التالية التي تمنع منافسة المنتجات الخارجية للمنتجات الداخلية؛ فميدان التجارة الخارجية محدد بتأمين الحاجات الضرورية للسوق الداخلية، وليس لتأمين الربح للتجار. أما الدائرة الأخيرة وهي الأهم. فمن خلال هذه الدائرة يمكن معرفة حالة المجتمع، فكلما كبرت دائرة الرزق على دائرة المال فهذا يعني ان المجتمع لم يتمكن بعد من تأمين جميع حاجياته وبشكل مريح. وتوسع دائرة المال يدل على أن المجتمع يتجه نحو الكماليات لأن الضرورات قد تأمنت لجميع أفراد المجتمع. وفي هذه الحالة نصل الى الرفاهية. أما دائرة الربح فالخليفة الحاكم هو الذي يحدد هامش الربح (لا تظلمون ولا تظلمون). والرزق من وجهة نظرنا هو ما يُتقوى به الانسان على عبادة الله. وبعبارة أخرى دائرة الرزق هي تأمين جميع الضرورات: مأكل، ملبس، مسكن، العلم والعمل....
النظرية التي تحكم التصور لنظام اقتصادي اسلامي:
أولا: التوحيد – العدل
نحن نعتقد أن الايمان بالتوحيد والالتزام به يتجلى عدلاً على الصعيد الاجتماعي.
أ – التوحيد هو الايمان بوحدانية الخالق عز وجل. وهذا الايمان يستتبع:
* - أن يكون الانسان موحَّدا. والموحَّد هو نقيض "فيه شركاء متشاكسون". يقول جل جلاله: "ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل، هل يستويان مثلاً. الحمد لله. بل أكثرهم لا يعلمون" (الزمر 29).
* - أن يكون موحداً سياسياً (لا ينتمي الى الطواغيت). طاعة الخالق تستدعي أن يكون الموحِّد على طرفي نقيض مع الذين يدعون الى غير الله. مؤمن وحليف أمريكا أو اسرائيل، هذه معادلة مستحيلة.
* - أن يكون موحَّداً اقتصادياً. "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". وهذا يستتبع منع الاستغلال والتبعية.
* - أن يكون موحَّداً اجتماعياً. اتباع ما جاء به الدين الحنيف في العلاقات الاجتماعية، وخاصة في علاقته مع الوالدين والزوجة.
ما تقدم هو الممارسة التوحيدية.
ب – العدل وهو تطبيق التوحيد على الأرض. الاقرار ب"لا اله الا الله" كخليفة – حاكم يفرض اقامة مجتمع العدل. يقول عز وعلا: "وأمرت لأعدل بينكم" (الشورى 15).
ج – العلاقة بين التوحيد – العدل:
1 – لا يقوم التوحيد الا بظل العدل،سياسياً، اجتماعياً واقتصادياً.
2 – الايمان بأنه لايقوم عدل الا في ظل التوحيد.
د – ما تقدم يفرض على الدول العربية أن تكون كتلة، حتى لا تكون مرهونةً برزقها لأي طاغوت.
ثانيا: مفهوم الخلافة- العمارة
نحن كمؤمنين علينا الايمان بأننا لم نخلق عبثا. وهذا الايمان يستدعي أن الانسان يحمل رسالة معينة عليه القيام بها. أما المؤمن فالرسالة التي يحملها هي تلك التي كُلف بها منذ وجوده: "اني جاعل في الأرض خليفة"، "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون".
الانسان مخلوق لعمارة الأرض. يقول تبارك وتعالى:... "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا اليه..." (هود 61). فالمهمة الأولى المطروحة على عاتقنا كخلفاء هو عمارة الأرض. فالانسان الخليفة هو الخليفة الحاكم من جهة وجميع الناس من جهة ثانية. والاستخلاف ليس له علاقة بالايمان؛ فالانسان مُستخلف مؤمنا كان أم كافرا. والانسان عُرضت عليه الرسالة فاما أن يؤمن بها فيكون مآله الى الجنة أو يكفر فيكون مصيره العذاب المقيم. وعمارة الأرض يقوم بها كل من يعيش على هذه الأرض. وميزة المؤمن هو قيامه بهذه المهمة طاعة لله وفي سبيله. وأما الآخر، يبين ربنا تبارك وتعالى هذا الأمر: "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا" (الاسراء 16).
نحدد فنقول: العمارة هي العبادة التي يمارسها الخليفة طاعة لله في استعمار الأرض والكون. والعمارة لا تأخذ شكلا معينا، انما يمكن أن يتغير شكلها تبعا للظروف العيانية أو اللحظة التاريخية.
وعلينا الايمان أن العلاقة بين الخلافة والعمارة شرطية. أي علينا أن نؤمن أنه لا خلافة من دون عمارة، والا فما هو عمل الخليفة في هذه الأرض. كما وأنه لا عمارة من دون خلافة، أي وجود الأولى شرط لوجود الأخرى.
فالعمارة هي تكليف شرعي ومهمة دينية يقوم بها الخليفة. وقراءة هذه الآيات الكريمات توضح ما ذهبنا اليه:
" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا؛ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" (النور 55).
"وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم..." (الأنعام 165).
"ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا؛ كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" (يونس 13 – 14).
"وربك الغني ذو الرحمة، ان يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين"(الأنعام 133 ).
ثالثا: مفهوم الرزق – المال
الرزق هو ما يعتاش به الانسان من ملبس ومأكل ومسكن وعلم وعمل؛ وقد توافقنا على تسمية هذه الضرورات الحياتية بالضرورات الخمس. والرزق هو أسبق الى الوجود من المال. فاذا عدنا الى الوراء لن نجد من يبني البيوت حتى يبيعها، أو من يجمع القمح للمتاجرة فيه. ونحن نعلم أن المال ما هو الا الرزق المحترز. والمال لم يصبح له وجود مستقل الا في وقت متأخر من تاريخ الانسانية. ذلك أنه من المستحيل أن يعمل الانسان في التجارة قبل تأمين الحاجيات الضرورية لاستمراره في الحياة. من هنا ما ذهبنا اليه أن الرزق والمال هما مرتبطان كل منهما بالآخر. وهذه الوحدة تناقضية بمعنى أن دائرة كل منهما تكبر على حساب الأخرى.
ان ما يحدد عظم دائرة على أخرى هو الحال الواقعية للمجتمع. فالمجتمع الذي تأمنت جميع حاجياته، لا يمنعه شيء من الانتاج بقصد جمع الأموال، وبذلك نقول بأن دائرة المال هي الدائرة الكبرى. ولكن في جميع المجتمعات يبدأ العمل بدائرة الرزق الى ان يصل الى دائرة المال.
ومصادر المال في المجتمع الاسلامي هي الزكاة والصدقات والعفو وحالات المصادرة الثلاث: الكوارث الطبيعية، الحروب والمجاعة. ففي هذه الحالات يحق للخليفة الحاكم ان يصادر أموال العامة.
والمال هو عصب الاقتصاد، لذلك نرى الاقتصاديون يتحدثون عن التراكم الأولي لرأس المال وكيف يتم. فوجود هذا الرأس مال المتراكم هو شرط لبناء اقتصاد اجتماعي.
الأربعاء، 6 مايو 2009
العلاقة مع الغرب
العلاقة مع الغرب هل هي اشكالية؟
ما أن تقرأ عنوان المقالة عند بعض الكتاب حتى تعلم الى من ينتمون؛ والدكتور أحمد الفراك لا يشذ عن القاعدة. انه يطرح اشكالية العلاقة مع الغرب في مقالتين على موقع مالك بن نبي الالكتروني، انه يطرحها كاشكالية حتى تكون عنصر تشويق للقارىء، وليس لأنها اشكالية. فهناك العديد من المقالات التي كتبها أولئك المنتمون الى مايسمى بتيار "الوسطية" والذين يطرحون نفس "الاشكالية" والذين يجيبون نفس الاجابات التي ساقها الدكتور أحمد الفراك. كان بامكان الكاتب العزيز أن ينصحنا بفتح الصفحة الالكترونية لل"وسطية" وسنجد نفس الكلام الذي جهد نفسه لكتابته، جزاه الله عنا كل خير.
والمتعب في المقالات المشابهة هي أن الكاتب يعرف جواب الأسئلة قبل أن يطرحها، فلماذا يطرحها اذن. ان الكتابة الذرائعية تنزع عن الكتابة الصفة التحليلية، فتصبح المقالة أشبه ما تكون بالدعاية الحزبية، وهي للأسف ممجوجة. ولكن، وانطلاقاً من احترامنا للكاتب سوف نناقش بعض الأطروحات، وان كان سبق لنا مناقشة ما يشبهها.
1 – الغرب، سوف أبدأ بما قاله كارل ماركس عندما نزل في لندن، حيث قال "هنا تعيش أمتان". والغرب، يا أعزائي هو غربان: غرب الحكام وغرب المحكومين. وبغية التلفيق يقوم كتاب ما يسمى ب"تيار الوسطية" بالحديث عن الغرب ككتلة متجانسة (مع أنهم يقولون بأن الغرب ليس متجانساً). عندما قامت الادارة الأمريكية والادارة البريطانية بغزو العراق، خرجت مظاهرة مليونية في بريطانيا تعترض على قرار حكامها المشاركة في غزو هذه الدولة الاسلامية المظلوم شعبها من حكامه ثانيا ومن الغزاة أولا. هل بريطانيا التي تظاهرت ضد حكامها هي التي سوف نقيم العلاقة معها أم بريطانيا التي غزت العراق؟ نرجو الدكتور العزيز أن يجيبنا على هذا السؤال.
2 – وبعد استعراض تاريخي وسوسيولوجي للدول الاسلامية التي تعاقبت على الحكم وكذلك بالنسبة للغرب يصل الى القول: " الحاجة ماسة إذن إلى ما يمكن تسميته ب “علم علاقة المسلمين بالغرب” تؤكدها حاجة الغرب إلى الخروج من كونية الأزمة التي صنعها بيديه والأساطير المؤسسة لعقله الجمعي، وبالتالي حاجته إلى فهم قيم القرآن باعتباره “كتاب كوني معجز صادر عن مصدر متعال متجاوز يعرف كيف يقضي على الأساطير العرقية والعنصرية التي شادت بناءها أساطير علوم الإناسة واللغويات وأصل الأنواع وما بني عليها ليعيد للإنسانية إيمانها بخالقها ثم بوحدتها الإنسانية، ووحدة الكون الذي تعيش عليه، وإعادة بناء العلاقات الطبيعية بين هذه كلها”.
أعتقد أن العلاقة مع الآخر تنطبق على الغرب وغيره. والغرب ليس له الا ميزة واحدة عن غيره من السلطات الأخرى. هذه الميزة هو أنه علينا معاداة الادارة الأمريكية وحلفاءها لأنها تحتل الأرض العراقية الاسلامية والأرض الأفغانية الاسلامية وتمد اسرائيل بجميع أنواع الأسلحة لتحافظ على احتلالها للأرض الفلسطينية الاسلامية وتشريد أهلها.
أما الادارات الغربية التي "شادت بناء أساطير علوم الاناسة واللغويات وأصل الأنواع"، لم تقم بهذا العمل الا من أجل بناء "أخلاقي" أو "وجداني" يبرر لها أمام محكوميها القيام بالمجازر التي قامت بها عندما احتلت أراضي الشعوب الأخرى. فابادة الهنود الحمر من قبل الادارة الأمريكية هي لأنهم متوحشون (بزعمهم)، فمن المؤكد أنكم جميعاً رأيتم أفلام الغرب الأمريكي التي تستمر حتى الآن باقناع الشعب الأمريكي والشعوب الأخرى بأن ابادتها للهنود الحمر كانت مبررة "أخلاقيا". والعلوم التي ذكرها الكاتب كانت مهمتها البرهان أن هذه الشعوب همجية وغير قابلة للحضارة لذلك لا بأس من ابادتها ان لم تكن ابادتها واجبة. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، نشير بأن القنابل الفوسفورية التي استعملها الصهاينة في غزة هي من انتاج أمريكي وكان حقل التجارب لقياس فعاليتها (الأسلحة) الشعب العربي المسلم في غزة.
والفرنسيون الذين استعمروا الشعب المغربي من أجل نقله الى مصاف الشعوب المتحضرة، لم يكونوا أقل وحشية من الأمريكان، فالأمريكان هم انتاج أوروبي. وقع ماية ألف قتيل عندما قام الشعب الجزائري بمظاهرة سلمية ضد الاستعمار الفرنسي. فقد رأى المستعمرون (الحضاريون) الفرنسيون أن الطريق المثلى لنقل الجزائريين من الوحشية الى الحضارة هي القضاء عليهم. وعند انسحاب الفرنسيين من الجزائر، لم يقبلوا الاعتراف بفرنسية الفرنسيين الذين خُلقوا في الجزائر لأنهم "تلوثوا" من الجزائريين، وقصة "الغريب" للكاتب "ألبير كامو"الحائز جائزة نوبل للآداب تتحدث عن هذا الموضوع، وكاتبنا العزيز يعرف هذه المواضيع حق المعرفة.
ان من يريد أن يتجاوز عن أخطاء المخطئين، يتجاوز عن أخطاء الناس العاديين وليس عن من يمثلوا الاستعمار بجميع تفاصيله، أعني ساركوزي وادارته والادارة الأمريكية وحلفاءهم.
وحسنا فعلت عزيزي الدكتور، باعتبارك تاريخ الحادي عشر من أيلول محطة أساسية بنى الغرب عليها وحدته. ما هي المحطات الموجودة في تاريخ أمتنا وتستدعي وحدتها؟ هل نعددها؟ أو أن هذه الوحدة ليست من همومنا. فهمومنا هي كيف نحافظ على استغلال الغرب لخيراتنا من غير أن نسبب له أي ازعاج؟ أليس كذلك؟
بعد صلح الحديبية، جاء أبو بصير رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأشهر اسلامه، ولكن كفار قريش لم يقبلوا لأن الاتفاق كان قد وُقِّع وهو ينص على أن على أبي بصير أن يأخذ اذنا من وليه حتى يلتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقبِل النبي بمرافعة كفار قريش. وهام أبو بصير في الصحراء ينتظر قوافل قريش ويهاجمها. لقد أتعبت ممارسات أبي بصير قريش وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعرف ذلك. لم يستنكر أفعال أبي بصير كرمى لعيون قريش، ولم يتبنها. فأبو بصير لم يطلب اذن النبي صلى الله عليه وسلم. بالله عليك لماذا على الدول العربية والاسلامية الاعتذار والتكفير عن ضرب القاعدة لأبراج نيويورك؟ لقد قام الأمريكان بالعديد من المجازر في الصومال وأفغانستان والعراق، ولم يعتبرها "الوسطيون" محطات لتوحيد الأمة. وهذه اسرائيل تقوم بتهويد القدس على قدم وساق وتهدم البيوت وتشرد من تبقى من المقدسيين، ولم نسمع صراخ الوسطيين الذين يصرخون منذ أيلول الألفين من دون تعب. هل الأمريكي من جنس أحسن من الصومالي أو الفلسطيني أو العراقي حتى يغير التاريخ. الانساني يستنكر كل عمل لا يتوافق مع ما جاء به الدين الحنيف. النبي صلى الله عليه وسلم حدد المفاضلة بالتقوى وليس بالجنس. مقالتك يا حضرة الدكتور لم تذكر فيها أي تاريخ يعنينا كمسلمين. هل أنت محامي دفاع عن مضطهدي شعبنا؟ بالطبع أنا لا أتهمك، ولكن ما أريده من حضرتك التنبه الى أن القضايا الانسانية تهمنا نحن أولا. هل تذكر اغتصاب فلسطين قبل الحادي عشر من سبتمبر وغوانتنامو وأبوغريب بعد هذا التاريخ؟ ولا بأس من السؤال ان كان هجوم أيلول يُعتبر مبرراً لاحتلال أفغانستان والعراق. وهل نؤمن نحن بالمسؤلية الجماعية كما يفعل الأمريكان بتحميل كل الشعب الأفغاني مسؤولية وجود عدد زهيد من مقاتلي القاعدة على الأرض الأفغانية.
3 – يقول الدكتور: " الفكر الإسلامي اليوم باعتباره فكراً مستمداً من رسالة نبوية خاتمة تحمل قيماً إنسانيةً رحيمةً بالإنسان ورفيقةً به مُطالب بالقطع مع تلك المعارك الماضية التي خاض فيها القدامى، والقطع مع العقل التقليدي الصِدامي الذي يشكل عقبة في وجه أية نهضة جديدة للأمة الإسلامية، والتأسيس لمنهج قرآني تجديدي يوسع دائرة المشترك ويؤدي إلى “إبرام عقد اجتماعي دولي” على حد تعبير د.عبد الوهاب المسيري رحمه الله، يتم بمقتضاه تنظيم العلاقة بين المسلمين والغرب على أساس من الاحترام المتبادل والحرية والعدل والتعايش".
هل الرحمة تعني التخلي عن الحقوق لمغتصبيها؟ فالاسلام لا يقبل من المسلم الا أن يكون مثال الانسان، لذلك يطلب منه أن يكون عدلا. والانسان العدل هو الذي يعطي كل ذي حق حقه ولايظلم أحدا. لذلك تراه يقاتل حتى يسترد حقه. والعقل الصدامي هو الذي يوظف قوته في غير المكان المخصص لها. فالفلسطيني الذي لا يقاتل لاسترداد أرضه يكون قد فرط في حقوق الله عز وجل. وفي نفس الوقت لا يكون صدامياً اذا قاتل مغتصبي أرضه انما يقوم بالواجب الذي يفرضه عليه دين الرحمة.
4 - ثم يناقش الكاتب بعض الأطروحات التي حسب زعمي لا تزيد في توضيح الاشكالية انما تخدم تعمية الموضوع بقصد التلفيق. ثم يصل الى الاستشهاد التالي: " قال الله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} سورة آل عمران، الآية:63. فهذا هو الدين المشترك الذي يضع الأسس الكلية الجامعة التي من شأنها أن تقيم في الإنسان إنسانيته على أتم وجه. فأهل الكتاب دون غيرهم من أهل الأهواء والملل والنحل يشتركون مع المسلمين في مراعاة الكليات الخمس، والسعي إلى تحقيقها والعمل على حفظها. وهذا القدر يشكل أساساً ومرجعاً للاحتكام عند محاورة أهل الكتاب. وهو ما يغيب عند محاورة الطوائف الأخرى . لذا وجب التمييز بين أهل الكتاب وغيرهم، لأنهم أهل كتاب ونبوة".
بالطبع المقصود بأهل الكتاب في الخطاب القرآني ليس من قصدهم كاتبنا العزيز. ان أهل الكتاب الذين جادلهم نبينا صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من الذين يحتلون فلسطين والعراق وأفغانستان، انما كانوا من أهل الكتاب الذين يعيشون بوئام مع المسلمين، لذلك جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحتى يتطابق وضع "الغرب" مع النص القرآني، ما على الوسطيين الا أن يقنعوا أهل الكتاب من اليهود بترك فلسطين لأهلها؛ واقناع أهل الكتاب من الأمريكان وأتباعهم بترك العراق وأفغانستان حتى نتمكن من أن نكون واياهم سواءً أمام الكلمة السواء التي دعانا اليها رب العزة.
5 - ثم ينتقل الكاتب الى ما دخل من تصحيف وتحريف على التوراة والانجيل وكأن احتلال أراضي العراق وأفغانستان وفلسطين بحاجة للتوراة أو الانجيل. الى أن يصل الى القول: " الإسلام رحمة كونية تستوعب البشرية كاملة على اختلاف العقول والأماكن والأزمان لذلك وجب على المسلمين علماء ومفكرين ودعاة أن يبدعوا وسائل جديدة في توصيل روح القرآن إلى الغرب، وهذا رأس الجهاد مع الغرب وليس العنف عليه. القرآن يسعى لبناء أمة وليس لبناء مجرد دويلة. الهدف القرآني والهدف النبوي بناء أمة “جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا”، ومن أجل ذلك كاتَبَ النبي صلى الله عليه وسلم الملوك والحكام يدعوهم للإسلام والتعايش، يَعرض عليهم دين الله الخالد وليس دين الأقلية المستضعفة.
والإسلام دين الوسطية {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} ، والوسطية رفعة وقوة، قال الإمام علي كرم الله وجهه: “عليكم بالنمط الأوسط يرجع إليه الغالي ويلحق به التالي”، فلا إفراط ولا تفريط، لا قعود ولا تسيب، لا جمود ولا تغريب ولا انغلاق ولا تبعية…".
صحيح أن الاسلام رحمة كونية جاء لبناء أمة من أفراد مؤمنين وبواسطتهم. أما الملوك الذين كاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا محتلي أراضي المسلمين والا لكان الى قتالهم أكثر اجتهاداً منا بقتال أعداء الأمة. والأمة الوسط هي التي لا تتخلى عن حقوقها بل تقاتل من أجل استردادها. ورضي الله عن الامام علي عندما قال قولته التي خلدها التاريخ "كلام حق يراد بها باطل". نحن لا نريد أن نستبدل ديننا الحنيف بالوسطية التي تريدنا أن نستسلم لأعدائنا بحجة الارهاب أو غيرها من مفردات قاموس الأمريكان والوسطيين.
6 - ثم يصل بنا الكاتب الى القول:" إن تجديد الدين اليوم لا بد أن يمر عبر تجديد آليات قراءة النص ومنه تجديد آليات التعامل مع إشكالية علاقة المسلمين مع الغرب، فمادام التجديد عملية متجددة فلم لا تكون العلاقة مع الغرب أيضاً متجددة بمفاهيمها وقضاياها وإشكالاتها وأسئلتها وأجوبتها. في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داوود وغيره عن أبي هريرة: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجّدد لها دينه” وفي رواية: “من يجّدد لها أمر دينها”، فالتجديد من صميم الدين ومرتبط بطبيعته. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “يوجب علينا أن نجتهد لعصرنا ..وأن نفكر بعقولنا لتنظيم حياتنا… وأن نراعي زماننا وبيئتنا وأحوال عيشنا إذا أفتينا أو قضينا أو بحثنا أو تعاملنا مع أنفسنا أو مع الآخرين،… وأن نقتبس من غيرنا ما ينفعنا…وأن نبتكر في أمور دنيانا كما ابتكروا”
بالعودة الصادقة المخلصة التامة إلى القرآن المكنون قوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. يمكن أن تبدأ مسيرة الأمة الإسلامية الكبرى وانطلاقتها الشاملة لتأسيس “البديل الحضاري الإسلامي العالمي” القائم على الهدى والحق، فالقرآن بخصائصه باستطاعته الهيمنة على سائر المناهج المطروحة في عالم اليوم، وبإمكانه إعادة صياغتها ضمن منهاجه الكوني، وذلك من خلال التوصل إلى منهجية معرفية قرآنية، منهجية قائمة على قراءة تستوعب مشكلات الوجود الإنساني وأزماته الفكرية والحضارية".
أنا أوافق على ما جاء به دكتورنا العزيز شرط تخليه عن اشكالية العلاقة مع الغرب لأن هذه الاشكالية قد وضعها جورج و. بوش عندما طلب من الملوك والأمراء والرؤساء التصدي الى تغيير المناهج التربوية بعد محطة أيلول التي قُتل فيها عدد من الأمريكان. ووجد الحكام أنفسهم مجبرين على طاعة السيد، ولكن نحن (الشعوب) لسنا مجبرين، فنحن لا نخسر عروشنا، انما نخسر قيودنا. وقام الملك الأردني عبد الله الثاني باستبدال الاسلام بتيار الوسطية، وجند له أصحاب الأقلام من حملة الشهادات العالية والذين لا ينتمون الى شعوبهم، بل ينتمون الى ملوكهم. وتموضع هؤلاء مع الحكام في صف الأمريكان. وكان تيار الوسطية الذي أشهد له بالنشاط والحيوية. وأصبحت العلاقة مع الغرب هي الصفة المميزة لهذا التيار، وكأن لا هم لشعوبنا الا كيف يتعاملون مع الغرب. أين التنمية، أين التحرر، أين التربية أين...؟
أما التجديد في الفكر الاسلامي فانه يبدأ مع "محمد اقبال" و "مالك بن نبي". هذان الشخصيتان اللذان تمكنا من تَمثُّل ثقافة الغرب من دون اعجاب أو شعور بالدونية. ودرسوا تجربة الغرب ووضعوا خطة عمل للمسلم حتى يعود لاسلامه حتى يتمكن من التحرر وبناء الأمة. لم نر عند اقبال اشكالية العلاقة مع الغرب كمحرك للتاريخ كما يريدها تيار الوسطية. وبن نبي لم يعتبر الغرب مسؤولاً عن تخلفنا، انما اعتبر المرض فينا نحن كشعوب عندها قابلية للاستعمار. فالاشكالية كانت كيفية تخلصنا من تخلفنا. لذلك تحدث عن مشكلات الحضارة ومشكلة الثقافة...
7 - ثم يبدأ دكتورنا بالنصح فيقول: "لا ينبغي أن يعول الفكر الإسلامي المعاصر على التفكير السياسي اللحظي الذي يلفه الحريق اليومي للأحداث، مثلما لا ينبغي أن يعول على اجتهادات السابقين المظروفة بظروفهم والمقيدة بمعرفتهم واجتهادهم. والتي لا تكاد تجاوز النظر التقليدية التي تُقسم العالم إلى دار إسلام ودار حرب".
أوافق شرط أن يقبل الغرب الذي يتحدث عنه كاتبنا بالتخلي عن ممارساته التي تجبرنا على الاهتمام بالحدث اليومي. ونحن لا نبني موقفنا من العولمة الليبرالية تبعاً للحدث اليومي، ولكن تبعاً للممارسة الاستكبارية التي تميز الغرب المتسلط، منذ لعب دور القائد لهذه العولمة. نحن نتمنى الراحة و لكن الغرب لا يسمح لنا أن نعيش الا كعبيد، ونحن لا نقبل أن نكون عبيداً الا لله لأننا موحِّدون.
8 - يقول دكتورنا العزيز: " الغرب اليوم غالب بتقنيته وتقانته وعلومه واقتصاده وقوته العسكرية ونفوذه السياسي والثقافي والإعلامي، يهجم علينا بمفاهيمه وقضاياه مثلما يغرقنا بسلعه المختلفة، ويفرض علينا التبعية والانقياد. لكن القرأن يخاطب فيه الإنسان من حيث هو مخلوق مستخلف ومسؤول. فكيف نقنعه بهذه الرسالة ؟ بل كيف نحاوره حوارا نديا يلغي الفروق المادية من أجل التفاهم. أفلا يوجد من حل سوى رفضه كُلية أو تلقفُه كما هو؟ أليس لنا من خيار سوى الالتحاق “الممسوخ” بالغرب أو التدثر بذاتية عاجزة؟".
الغرب يهجم علينا بصواريخه المدمرة وليس بمفاهيمه، ويملك ترسانة من الأسلحة يجربها باللحم الحي لشعوبنا. أما من حيث محاورته فهي ممكنة باحدى الطرق التالية:
1 – حرب شعبية تنتهي بعد تحرير أفغانستان والعراق وفلسطين.
2 – انتاج أسلحة متفوقة على أسلحته ومحاورته ونحن نقف على هذه الترسانة التي لا يمكنه مجابهتها.
3 – تخليه عن احتلاله لبلادنا ومحاورتنا.
ما تقدم يبين أن هناك امكانية للعيش بسلام مع الغرب هذا اذا اراد ذلك.
9 - ثم ينتقل الكاتب الى القول أننا متفوقون على العولمة لأننا نملك رابطة الدين بشهادة هنتنغتون، ومع ذلك لا تزال فلسطين مغتصبة. ثم يصل الى الجوهري فيقول: " نحتاج اليوم إلى منهاج قرآني يمكننا من إدراك النص، وإدراك الواقع، وإدراك كيفية إنزال هذا النص على الواقع…حتى نؤسس لرؤية عالمية تجمع بين الرحمة والحكمة، وبين الاختلاف والتسامح، وبين التعدد والتعاون، نحتاج إلى منهاج تغييري كُلي يعالج إشكالاتنا التاريخية الموروثة بنظرة تجديدية نقدية تمحيصية فحصية، مثلما يعالج إشكالاتنا المعاصرة الموجودة، يجمع بين ما أثله العقل المسلم من قواعد بعد عرضها على القرآن. منهاج مؤيد بالنص المطلق باعتباره النص الهادي المرشد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا بالتاريخ المقيد بفهم الناس وظروفهم وتأويلهم وثقافتهم، منهاج جامع بين الغيب والشهادة، وبين العلم والعمل، وبين الحل الفردي والحل الجماعي، وبين العاجل والآجل، وبين حل الأنفس وحل الأكوان. منهاج يعكس عالمية الإسلام وشموليته وربانيته ووسطيته وواقعيته وإنسانيته".
مع الموافقة ولكن باضافة أن فهم النص القرآني يستدعي حده بالسنة النبوية الشريفة أو بأحداث السيرة التي تساعدنا على معرفة الكيفية التي تعامل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع النص القرآني، والا ما معنى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر".
واضافة أخرى، وهي أن القرآن الكريم هو الذي يحثنا ويدفعنا الى الاتعاظ بالتاريخ. لذا لا يمكننا لفهم الحاضر الا معرفة الماضي والاتعاظ به. وهناك العديد من الآيات الكريمة التي تبدأ بصيغة "أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كانت ....
أختم فأقول أن أحداث أيلول في أمريكا لا يتحمل المسلمون وزرها. انما على الغرب أن يدرس لماذا هو مكروه من كل الناس من دون استثناء. واذا كان تعامل الغرب معنا تعاملاً لا تقره شرائع الغرب نفسه، فلماذا علينا نحن أن ندرس اشكالية اضطهاد الغرب لنا، وهي اشكالية غربية، وسوف تؤدي بنا الى ضرورة التحضير لمجابهته. ان العقاب الجماعي هو نوع من الممارسة البربرية (ضد حضارية) ويمارسها الغرب ضد شعوبنا علماً أنه هو من علمنا أن هذه الممارسة ممجوجة ومرفوضة. فبدلاً من تبريرنا للغرب جرائمه ضد شعوبنا بحجة الارهاب، فلندرس المنهاج الرباني، كما يريد الدكتور، الذي يساعدنا على الانتقال من الاستعباد الى الحرية. عندها يمكننا التعامل مع الغرب بالندية المطلوبة عند تعاون المجتمعات فيما بينها.
حسن ملاط
ما أن تقرأ عنوان المقالة عند بعض الكتاب حتى تعلم الى من ينتمون؛ والدكتور أحمد الفراك لا يشذ عن القاعدة. انه يطرح اشكالية العلاقة مع الغرب في مقالتين على موقع مالك بن نبي الالكتروني، انه يطرحها كاشكالية حتى تكون عنصر تشويق للقارىء، وليس لأنها اشكالية. فهناك العديد من المقالات التي كتبها أولئك المنتمون الى مايسمى بتيار "الوسطية" والذين يطرحون نفس "الاشكالية" والذين يجيبون نفس الاجابات التي ساقها الدكتور أحمد الفراك. كان بامكان الكاتب العزيز أن ينصحنا بفتح الصفحة الالكترونية لل"وسطية" وسنجد نفس الكلام الذي جهد نفسه لكتابته، جزاه الله عنا كل خير.
والمتعب في المقالات المشابهة هي أن الكاتب يعرف جواب الأسئلة قبل أن يطرحها، فلماذا يطرحها اذن. ان الكتابة الذرائعية تنزع عن الكتابة الصفة التحليلية، فتصبح المقالة أشبه ما تكون بالدعاية الحزبية، وهي للأسف ممجوجة. ولكن، وانطلاقاً من احترامنا للكاتب سوف نناقش بعض الأطروحات، وان كان سبق لنا مناقشة ما يشبهها.
1 – الغرب، سوف أبدأ بما قاله كارل ماركس عندما نزل في لندن، حيث قال "هنا تعيش أمتان". والغرب، يا أعزائي هو غربان: غرب الحكام وغرب المحكومين. وبغية التلفيق يقوم كتاب ما يسمى ب"تيار الوسطية" بالحديث عن الغرب ككتلة متجانسة (مع أنهم يقولون بأن الغرب ليس متجانساً). عندما قامت الادارة الأمريكية والادارة البريطانية بغزو العراق، خرجت مظاهرة مليونية في بريطانيا تعترض على قرار حكامها المشاركة في غزو هذه الدولة الاسلامية المظلوم شعبها من حكامه ثانيا ومن الغزاة أولا. هل بريطانيا التي تظاهرت ضد حكامها هي التي سوف نقيم العلاقة معها أم بريطانيا التي غزت العراق؟ نرجو الدكتور العزيز أن يجيبنا على هذا السؤال.
2 – وبعد استعراض تاريخي وسوسيولوجي للدول الاسلامية التي تعاقبت على الحكم وكذلك بالنسبة للغرب يصل الى القول: " الحاجة ماسة إذن إلى ما يمكن تسميته ب “علم علاقة المسلمين بالغرب” تؤكدها حاجة الغرب إلى الخروج من كونية الأزمة التي صنعها بيديه والأساطير المؤسسة لعقله الجمعي، وبالتالي حاجته إلى فهم قيم القرآن باعتباره “كتاب كوني معجز صادر عن مصدر متعال متجاوز يعرف كيف يقضي على الأساطير العرقية والعنصرية التي شادت بناءها أساطير علوم الإناسة واللغويات وأصل الأنواع وما بني عليها ليعيد للإنسانية إيمانها بخالقها ثم بوحدتها الإنسانية، ووحدة الكون الذي تعيش عليه، وإعادة بناء العلاقات الطبيعية بين هذه كلها”.
أعتقد أن العلاقة مع الآخر تنطبق على الغرب وغيره. والغرب ليس له الا ميزة واحدة عن غيره من السلطات الأخرى. هذه الميزة هو أنه علينا معاداة الادارة الأمريكية وحلفاءها لأنها تحتل الأرض العراقية الاسلامية والأرض الأفغانية الاسلامية وتمد اسرائيل بجميع أنواع الأسلحة لتحافظ على احتلالها للأرض الفلسطينية الاسلامية وتشريد أهلها.
أما الادارات الغربية التي "شادت بناء أساطير علوم الاناسة واللغويات وأصل الأنواع"، لم تقم بهذا العمل الا من أجل بناء "أخلاقي" أو "وجداني" يبرر لها أمام محكوميها القيام بالمجازر التي قامت بها عندما احتلت أراضي الشعوب الأخرى. فابادة الهنود الحمر من قبل الادارة الأمريكية هي لأنهم متوحشون (بزعمهم)، فمن المؤكد أنكم جميعاً رأيتم أفلام الغرب الأمريكي التي تستمر حتى الآن باقناع الشعب الأمريكي والشعوب الأخرى بأن ابادتها للهنود الحمر كانت مبررة "أخلاقيا". والعلوم التي ذكرها الكاتب كانت مهمتها البرهان أن هذه الشعوب همجية وغير قابلة للحضارة لذلك لا بأس من ابادتها ان لم تكن ابادتها واجبة. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، نشير بأن القنابل الفوسفورية التي استعملها الصهاينة في غزة هي من انتاج أمريكي وكان حقل التجارب لقياس فعاليتها (الأسلحة) الشعب العربي المسلم في غزة.
والفرنسيون الذين استعمروا الشعب المغربي من أجل نقله الى مصاف الشعوب المتحضرة، لم يكونوا أقل وحشية من الأمريكان، فالأمريكان هم انتاج أوروبي. وقع ماية ألف قتيل عندما قام الشعب الجزائري بمظاهرة سلمية ضد الاستعمار الفرنسي. فقد رأى المستعمرون (الحضاريون) الفرنسيون أن الطريق المثلى لنقل الجزائريين من الوحشية الى الحضارة هي القضاء عليهم. وعند انسحاب الفرنسيين من الجزائر، لم يقبلوا الاعتراف بفرنسية الفرنسيين الذين خُلقوا في الجزائر لأنهم "تلوثوا" من الجزائريين، وقصة "الغريب" للكاتب "ألبير كامو"الحائز جائزة نوبل للآداب تتحدث عن هذا الموضوع، وكاتبنا العزيز يعرف هذه المواضيع حق المعرفة.
ان من يريد أن يتجاوز عن أخطاء المخطئين، يتجاوز عن أخطاء الناس العاديين وليس عن من يمثلوا الاستعمار بجميع تفاصيله، أعني ساركوزي وادارته والادارة الأمريكية وحلفاءهم.
وحسنا فعلت عزيزي الدكتور، باعتبارك تاريخ الحادي عشر من أيلول محطة أساسية بنى الغرب عليها وحدته. ما هي المحطات الموجودة في تاريخ أمتنا وتستدعي وحدتها؟ هل نعددها؟ أو أن هذه الوحدة ليست من همومنا. فهمومنا هي كيف نحافظ على استغلال الغرب لخيراتنا من غير أن نسبب له أي ازعاج؟ أليس كذلك؟
بعد صلح الحديبية، جاء أبو بصير رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأشهر اسلامه، ولكن كفار قريش لم يقبلوا لأن الاتفاق كان قد وُقِّع وهو ينص على أن على أبي بصير أن يأخذ اذنا من وليه حتى يلتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقبِل النبي بمرافعة كفار قريش. وهام أبو بصير في الصحراء ينتظر قوافل قريش ويهاجمها. لقد أتعبت ممارسات أبي بصير قريش وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعرف ذلك. لم يستنكر أفعال أبي بصير كرمى لعيون قريش، ولم يتبنها. فأبو بصير لم يطلب اذن النبي صلى الله عليه وسلم. بالله عليك لماذا على الدول العربية والاسلامية الاعتذار والتكفير عن ضرب القاعدة لأبراج نيويورك؟ لقد قام الأمريكان بالعديد من المجازر في الصومال وأفغانستان والعراق، ولم يعتبرها "الوسطيون" محطات لتوحيد الأمة. وهذه اسرائيل تقوم بتهويد القدس على قدم وساق وتهدم البيوت وتشرد من تبقى من المقدسيين، ولم نسمع صراخ الوسطيين الذين يصرخون منذ أيلول الألفين من دون تعب. هل الأمريكي من جنس أحسن من الصومالي أو الفلسطيني أو العراقي حتى يغير التاريخ. الانساني يستنكر كل عمل لا يتوافق مع ما جاء به الدين الحنيف. النبي صلى الله عليه وسلم حدد المفاضلة بالتقوى وليس بالجنس. مقالتك يا حضرة الدكتور لم تذكر فيها أي تاريخ يعنينا كمسلمين. هل أنت محامي دفاع عن مضطهدي شعبنا؟ بالطبع أنا لا أتهمك، ولكن ما أريده من حضرتك التنبه الى أن القضايا الانسانية تهمنا نحن أولا. هل تذكر اغتصاب فلسطين قبل الحادي عشر من سبتمبر وغوانتنامو وأبوغريب بعد هذا التاريخ؟ ولا بأس من السؤال ان كان هجوم أيلول يُعتبر مبرراً لاحتلال أفغانستان والعراق. وهل نؤمن نحن بالمسؤلية الجماعية كما يفعل الأمريكان بتحميل كل الشعب الأفغاني مسؤولية وجود عدد زهيد من مقاتلي القاعدة على الأرض الأفغانية.
3 – يقول الدكتور: " الفكر الإسلامي اليوم باعتباره فكراً مستمداً من رسالة نبوية خاتمة تحمل قيماً إنسانيةً رحيمةً بالإنسان ورفيقةً به مُطالب بالقطع مع تلك المعارك الماضية التي خاض فيها القدامى، والقطع مع العقل التقليدي الصِدامي الذي يشكل عقبة في وجه أية نهضة جديدة للأمة الإسلامية، والتأسيس لمنهج قرآني تجديدي يوسع دائرة المشترك ويؤدي إلى “إبرام عقد اجتماعي دولي” على حد تعبير د.عبد الوهاب المسيري رحمه الله، يتم بمقتضاه تنظيم العلاقة بين المسلمين والغرب على أساس من الاحترام المتبادل والحرية والعدل والتعايش".
هل الرحمة تعني التخلي عن الحقوق لمغتصبيها؟ فالاسلام لا يقبل من المسلم الا أن يكون مثال الانسان، لذلك يطلب منه أن يكون عدلا. والانسان العدل هو الذي يعطي كل ذي حق حقه ولايظلم أحدا. لذلك تراه يقاتل حتى يسترد حقه. والعقل الصدامي هو الذي يوظف قوته في غير المكان المخصص لها. فالفلسطيني الذي لا يقاتل لاسترداد أرضه يكون قد فرط في حقوق الله عز وجل. وفي نفس الوقت لا يكون صدامياً اذا قاتل مغتصبي أرضه انما يقوم بالواجب الذي يفرضه عليه دين الرحمة.
4 - ثم يناقش الكاتب بعض الأطروحات التي حسب زعمي لا تزيد في توضيح الاشكالية انما تخدم تعمية الموضوع بقصد التلفيق. ثم يصل الى الاستشهاد التالي: " قال الله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} سورة آل عمران، الآية:63. فهذا هو الدين المشترك الذي يضع الأسس الكلية الجامعة التي من شأنها أن تقيم في الإنسان إنسانيته على أتم وجه. فأهل الكتاب دون غيرهم من أهل الأهواء والملل والنحل يشتركون مع المسلمين في مراعاة الكليات الخمس، والسعي إلى تحقيقها والعمل على حفظها. وهذا القدر يشكل أساساً ومرجعاً للاحتكام عند محاورة أهل الكتاب. وهو ما يغيب عند محاورة الطوائف الأخرى . لذا وجب التمييز بين أهل الكتاب وغيرهم، لأنهم أهل كتاب ونبوة".
بالطبع المقصود بأهل الكتاب في الخطاب القرآني ليس من قصدهم كاتبنا العزيز. ان أهل الكتاب الذين جادلهم نبينا صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من الذين يحتلون فلسطين والعراق وأفغانستان، انما كانوا من أهل الكتاب الذين يعيشون بوئام مع المسلمين، لذلك جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحتى يتطابق وضع "الغرب" مع النص القرآني، ما على الوسطيين الا أن يقنعوا أهل الكتاب من اليهود بترك فلسطين لأهلها؛ واقناع أهل الكتاب من الأمريكان وأتباعهم بترك العراق وأفغانستان حتى نتمكن من أن نكون واياهم سواءً أمام الكلمة السواء التي دعانا اليها رب العزة.
5 - ثم ينتقل الكاتب الى ما دخل من تصحيف وتحريف على التوراة والانجيل وكأن احتلال أراضي العراق وأفغانستان وفلسطين بحاجة للتوراة أو الانجيل. الى أن يصل الى القول: " الإسلام رحمة كونية تستوعب البشرية كاملة على اختلاف العقول والأماكن والأزمان لذلك وجب على المسلمين علماء ومفكرين ودعاة أن يبدعوا وسائل جديدة في توصيل روح القرآن إلى الغرب، وهذا رأس الجهاد مع الغرب وليس العنف عليه. القرآن يسعى لبناء أمة وليس لبناء مجرد دويلة. الهدف القرآني والهدف النبوي بناء أمة “جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا”، ومن أجل ذلك كاتَبَ النبي صلى الله عليه وسلم الملوك والحكام يدعوهم للإسلام والتعايش، يَعرض عليهم دين الله الخالد وليس دين الأقلية المستضعفة.
والإسلام دين الوسطية {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} ، والوسطية رفعة وقوة، قال الإمام علي كرم الله وجهه: “عليكم بالنمط الأوسط يرجع إليه الغالي ويلحق به التالي”، فلا إفراط ولا تفريط، لا قعود ولا تسيب، لا جمود ولا تغريب ولا انغلاق ولا تبعية…".
صحيح أن الاسلام رحمة كونية جاء لبناء أمة من أفراد مؤمنين وبواسطتهم. أما الملوك الذين كاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا محتلي أراضي المسلمين والا لكان الى قتالهم أكثر اجتهاداً منا بقتال أعداء الأمة. والأمة الوسط هي التي لا تتخلى عن حقوقها بل تقاتل من أجل استردادها. ورضي الله عن الامام علي عندما قال قولته التي خلدها التاريخ "كلام حق يراد بها باطل". نحن لا نريد أن نستبدل ديننا الحنيف بالوسطية التي تريدنا أن نستسلم لأعدائنا بحجة الارهاب أو غيرها من مفردات قاموس الأمريكان والوسطيين.
6 - ثم يصل بنا الكاتب الى القول:" إن تجديد الدين اليوم لا بد أن يمر عبر تجديد آليات قراءة النص ومنه تجديد آليات التعامل مع إشكالية علاقة المسلمين مع الغرب، فمادام التجديد عملية متجددة فلم لا تكون العلاقة مع الغرب أيضاً متجددة بمفاهيمها وقضاياها وإشكالاتها وأسئلتها وأجوبتها. في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داوود وغيره عن أبي هريرة: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجّدد لها دينه” وفي رواية: “من يجّدد لها أمر دينها”، فالتجديد من صميم الدين ومرتبط بطبيعته. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “يوجب علينا أن نجتهد لعصرنا ..وأن نفكر بعقولنا لتنظيم حياتنا… وأن نراعي زماننا وبيئتنا وأحوال عيشنا إذا أفتينا أو قضينا أو بحثنا أو تعاملنا مع أنفسنا أو مع الآخرين،… وأن نقتبس من غيرنا ما ينفعنا…وأن نبتكر في أمور دنيانا كما ابتكروا”
بالعودة الصادقة المخلصة التامة إلى القرآن المكنون قوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. يمكن أن تبدأ مسيرة الأمة الإسلامية الكبرى وانطلاقتها الشاملة لتأسيس “البديل الحضاري الإسلامي العالمي” القائم على الهدى والحق، فالقرآن بخصائصه باستطاعته الهيمنة على سائر المناهج المطروحة في عالم اليوم، وبإمكانه إعادة صياغتها ضمن منهاجه الكوني، وذلك من خلال التوصل إلى منهجية معرفية قرآنية، منهجية قائمة على قراءة تستوعب مشكلات الوجود الإنساني وأزماته الفكرية والحضارية".
أنا أوافق على ما جاء به دكتورنا العزيز شرط تخليه عن اشكالية العلاقة مع الغرب لأن هذه الاشكالية قد وضعها جورج و. بوش عندما طلب من الملوك والأمراء والرؤساء التصدي الى تغيير المناهج التربوية بعد محطة أيلول التي قُتل فيها عدد من الأمريكان. ووجد الحكام أنفسهم مجبرين على طاعة السيد، ولكن نحن (الشعوب) لسنا مجبرين، فنحن لا نخسر عروشنا، انما نخسر قيودنا. وقام الملك الأردني عبد الله الثاني باستبدال الاسلام بتيار الوسطية، وجند له أصحاب الأقلام من حملة الشهادات العالية والذين لا ينتمون الى شعوبهم، بل ينتمون الى ملوكهم. وتموضع هؤلاء مع الحكام في صف الأمريكان. وكان تيار الوسطية الذي أشهد له بالنشاط والحيوية. وأصبحت العلاقة مع الغرب هي الصفة المميزة لهذا التيار، وكأن لا هم لشعوبنا الا كيف يتعاملون مع الغرب. أين التنمية، أين التحرر، أين التربية أين...؟
أما التجديد في الفكر الاسلامي فانه يبدأ مع "محمد اقبال" و "مالك بن نبي". هذان الشخصيتان اللذان تمكنا من تَمثُّل ثقافة الغرب من دون اعجاب أو شعور بالدونية. ودرسوا تجربة الغرب ووضعوا خطة عمل للمسلم حتى يعود لاسلامه حتى يتمكن من التحرر وبناء الأمة. لم نر عند اقبال اشكالية العلاقة مع الغرب كمحرك للتاريخ كما يريدها تيار الوسطية. وبن نبي لم يعتبر الغرب مسؤولاً عن تخلفنا، انما اعتبر المرض فينا نحن كشعوب عندها قابلية للاستعمار. فالاشكالية كانت كيفية تخلصنا من تخلفنا. لذلك تحدث عن مشكلات الحضارة ومشكلة الثقافة...
7 - ثم يبدأ دكتورنا بالنصح فيقول: "لا ينبغي أن يعول الفكر الإسلامي المعاصر على التفكير السياسي اللحظي الذي يلفه الحريق اليومي للأحداث، مثلما لا ينبغي أن يعول على اجتهادات السابقين المظروفة بظروفهم والمقيدة بمعرفتهم واجتهادهم. والتي لا تكاد تجاوز النظر التقليدية التي تُقسم العالم إلى دار إسلام ودار حرب".
أوافق شرط أن يقبل الغرب الذي يتحدث عنه كاتبنا بالتخلي عن ممارساته التي تجبرنا على الاهتمام بالحدث اليومي. ونحن لا نبني موقفنا من العولمة الليبرالية تبعاً للحدث اليومي، ولكن تبعاً للممارسة الاستكبارية التي تميز الغرب المتسلط، منذ لعب دور القائد لهذه العولمة. نحن نتمنى الراحة و لكن الغرب لا يسمح لنا أن نعيش الا كعبيد، ونحن لا نقبل أن نكون عبيداً الا لله لأننا موحِّدون.
8 - يقول دكتورنا العزيز: " الغرب اليوم غالب بتقنيته وتقانته وعلومه واقتصاده وقوته العسكرية ونفوذه السياسي والثقافي والإعلامي، يهجم علينا بمفاهيمه وقضاياه مثلما يغرقنا بسلعه المختلفة، ويفرض علينا التبعية والانقياد. لكن القرأن يخاطب فيه الإنسان من حيث هو مخلوق مستخلف ومسؤول. فكيف نقنعه بهذه الرسالة ؟ بل كيف نحاوره حوارا نديا يلغي الفروق المادية من أجل التفاهم. أفلا يوجد من حل سوى رفضه كُلية أو تلقفُه كما هو؟ أليس لنا من خيار سوى الالتحاق “الممسوخ” بالغرب أو التدثر بذاتية عاجزة؟".
الغرب يهجم علينا بصواريخه المدمرة وليس بمفاهيمه، ويملك ترسانة من الأسلحة يجربها باللحم الحي لشعوبنا. أما من حيث محاورته فهي ممكنة باحدى الطرق التالية:
1 – حرب شعبية تنتهي بعد تحرير أفغانستان والعراق وفلسطين.
2 – انتاج أسلحة متفوقة على أسلحته ومحاورته ونحن نقف على هذه الترسانة التي لا يمكنه مجابهتها.
3 – تخليه عن احتلاله لبلادنا ومحاورتنا.
ما تقدم يبين أن هناك امكانية للعيش بسلام مع الغرب هذا اذا اراد ذلك.
9 - ثم ينتقل الكاتب الى القول أننا متفوقون على العولمة لأننا نملك رابطة الدين بشهادة هنتنغتون، ومع ذلك لا تزال فلسطين مغتصبة. ثم يصل الى الجوهري فيقول: " نحتاج اليوم إلى منهاج قرآني يمكننا من إدراك النص، وإدراك الواقع، وإدراك كيفية إنزال هذا النص على الواقع…حتى نؤسس لرؤية عالمية تجمع بين الرحمة والحكمة، وبين الاختلاف والتسامح، وبين التعدد والتعاون، نحتاج إلى منهاج تغييري كُلي يعالج إشكالاتنا التاريخية الموروثة بنظرة تجديدية نقدية تمحيصية فحصية، مثلما يعالج إشكالاتنا المعاصرة الموجودة، يجمع بين ما أثله العقل المسلم من قواعد بعد عرضها على القرآن. منهاج مؤيد بالنص المطلق باعتباره النص الهادي المرشد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا بالتاريخ المقيد بفهم الناس وظروفهم وتأويلهم وثقافتهم، منهاج جامع بين الغيب والشهادة، وبين العلم والعمل، وبين الحل الفردي والحل الجماعي، وبين العاجل والآجل، وبين حل الأنفس وحل الأكوان. منهاج يعكس عالمية الإسلام وشموليته وربانيته ووسطيته وواقعيته وإنسانيته".
مع الموافقة ولكن باضافة أن فهم النص القرآني يستدعي حده بالسنة النبوية الشريفة أو بأحداث السيرة التي تساعدنا على معرفة الكيفية التي تعامل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع النص القرآني، والا ما معنى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر".
واضافة أخرى، وهي أن القرآن الكريم هو الذي يحثنا ويدفعنا الى الاتعاظ بالتاريخ. لذا لا يمكننا لفهم الحاضر الا معرفة الماضي والاتعاظ به. وهناك العديد من الآيات الكريمة التي تبدأ بصيغة "أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كانت ....
أختم فأقول أن أحداث أيلول في أمريكا لا يتحمل المسلمون وزرها. انما على الغرب أن يدرس لماذا هو مكروه من كل الناس من دون استثناء. واذا كان تعامل الغرب معنا تعاملاً لا تقره شرائع الغرب نفسه، فلماذا علينا نحن أن ندرس اشكالية اضطهاد الغرب لنا، وهي اشكالية غربية، وسوف تؤدي بنا الى ضرورة التحضير لمجابهته. ان العقاب الجماعي هو نوع من الممارسة البربرية (ضد حضارية) ويمارسها الغرب ضد شعوبنا علماً أنه هو من علمنا أن هذه الممارسة ممجوجة ومرفوضة. فبدلاً من تبريرنا للغرب جرائمه ضد شعوبنا بحجة الارهاب، فلندرس المنهاج الرباني، كما يريد الدكتور، الذي يساعدنا على الانتقال من الاستعباد الى الحرية. عندها يمكننا التعامل مع الغرب بالندية المطلوبة عند تعاون المجتمعات فيما بينها.
حسن ملاط
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)