رأسمالية القرن الواحد والعشرين
لم تمر فترة من التاريخ لم يدفع فيها الإنسان ضريبة تطوره من تشكيلة أدنى إلى تشكيلة إجتماعية أعلى بالمفهوم التاريخي. فالضريبة التي دفعها الأوروبيون نتيجة انتقالهم من الإقطاع إلى المجتمع البورجوازي كانت تخريب الأراضي الزراعية وانتقال مئات الآلاف من الفلاحين إلى المدن حيث تعرضوا للإذلال والعوز. أما في بريطانيا فقد تعرض جزء غير بسيط منهم للتصفية الجسدية.
أما استقرار النظام الجديد فقد دفعت ضريبته الطبقة العاملة بالدرجة الأولى، حيث كان يوم العمل حوالي ست عشرة ساعة في اليوم. ثم كانت النضالات العمالية والتضحيات التي أجبرت الطبقة الرأسمالية الأوروبية على التنازل عن جزء من حقوق الطبقة العاملة. أما ما جعل الرأسمالي يتنازل للعامل الأوروبي هو الكمية الكبيرة التي كان ينهبها من العالم الثالث، بحيث يصبح تأثير التقديمات على أرباحه غير ذي بال.
هذه أوضاع الرأسمالية في القرن العشرين. فهي تجعل الإنسان يعتقد وكأنه يعيش مجتمع الرفاه، وخاصة في الدول الأوروبية ما قبل الأزمة الحالية. أما الذين تعرضوا للظلم أكثر من غيرهم فهم الأطفال والنساء، حيث كان يوم عملهم يتجاوز يوم العمل بالنسبة للرجال وبأجر أقل.
ولكن نضالات الطبقة العاملة في القرن التاسع عشر وردحاً من القرن العشرين أدى إلى إجبار الطبقة الرأسمالية إلى التنازل أمام إصرار العمال وتضامنهم وتضحياتهم، حيث أدى ذلك إلى حصول العمال على الكثير من المكاسب: تحديد يوم العمل بثماني ساعات أو أقل، ضمانات صحية وإجتماعية، بطالة...إلخ. ومن الجدير ذكره أن العامل الأمريكي لا يحصل على نفس التقديمات التي يتمتع بها العامل الأوروبي.
فهل استمر الإستقرار على ما هو عليه؟
إن القيم الرأسمالية تقوم على مضاعفة الربح وضرورة النهب، نعني مد اليد على جيبة الغير. هذه أخلاقية المجتمع الإستهلاكي الذي نعيش في كنفه نتيجة تطور الرأسمالية إلى ما يسمى العولمة النيوليبيرالية في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحالي.
فما هي أهم ملامح هذا التطور؟ نؤكد على النهب من غير أي قيم أخلاقية، القيم المتعارف عليها. وهذا ما أدى إلى أزمة 2008. ومن الجدير ذكره أنه لم ينكر أحد أن النهب والسرقة هي أسباب الأزمة.
ومن ملامح هذا التطور هو كيفية حل الأزمات. فالأزمة أدت إلى إفقار الناس. أما كيفية حل الأزمة هو بتقديم يد المعونة إلى النهابين وليس إلى الذين تعرضوا للجوع والطرد من منازلهم. فقد قدمت أمريكا وأوروبا مئات المليارات من الدولارات إلى أصحاب البنوك التي نهبت الناس. أما ما فعلته بالعمال والمستخدمين فكان أن بدأت بنزع التقديمات الإجتماعية التي حصلوا عليها بتضحيات ملايين العمال بأنفسهم. وأصبح الوضع على الشكل التالي:
جاء في جريدة "الباييس" الإسبانية، بتاريخ الأول من شباط ،2012 بقلم الكاتبة "ماريا أنتونيا سانشيز فالييو": إن ارتفاع معدل البطالة يهدد بدفع نحو ربع الأوروبيين من أولئك الذين يعسشون بمستوى لابأس به، بالإستبعاد الإجتماعي. وهذا ما يوجب النضال ضد الفقر في الإتحاد الأوروبي.
أضافت:"إليكم ضحايا الأزمة: شرائح المجتمع اللائي كن منذ وقت قليل يشكلون جزءاً من الطبقة المتوسطة، أصبحن الآن من الفقراء الجدد".
"في 2007 كان 85 مليون من الأوروبيين (17%من الشعوب الأوريبية) يعيشون تحت خط الفقرالنسبي. من بين الدول المعنية، نجد اليونان واسبانيا وإيرلندا؛ ولكن أيضاً فرنسا وألمانيا والنمسا يقول مندوب كاريتاس أوروبا".
"الفقراء يفتقرون والمطاعم الشعبية المجانية تستقطب أناس لم يفكروا يوماً الوصول إلى هذا المستوى. إن أرقام الفقر ازدادت بشكل لافت عند الأطفال (طفل من أربعة أطفال إسبان يواجه الفقر) ونفس النسبة عند المهاجرين والشباب. هذا ما قاله "بول ماري كلوز"، عالم اجتماع في المجلس الأعلى للبحوث العلمية".
"في اسبانيا كما في اليونان والبرتغال وإيطاليا، تفاقم الفقر، بل يمكن القول أنه تعمم ويستهدف مجموعات خاصة".
"في إيسلندا تزايد الفقر بشكل لافت وخاصة عند الشباب" أضاف العالم نفسه.
"الأولاد والمسنون، النساء والمهاجرون هم تقليدياً المجموعات المهددون بالفقر. كما وأن العمر والجنس وكذلك الإتنية هي من العوامل الهامة بالفقر".
جاء في جريدة "غازيتا ويبورشا":"إن عدد الأوروبيين من غير وظيفة قد ازداد بحوالي مليون خلال السنة الأخيرة حتى وصل إلى 24 مليون إنسان. في منطقة الأورو، وصلت البطالة إلى حدود 10,4%".
"الوضع هو أكثر صعوبة في جنوب أوروبا، خاصة في اسبانيا واليونان حيث يوجد شاب من اثنين من دون وظيفة، وحيث شروط السوق كارثية". "الهوة بين الشمال الذي يعيش برخاء والجنوب المأزوم لاتفتأ تزداد. أما إذا نظرت إلى سوق العمل فأنت في عالمين مختلفين".
جاء في جريدة "ليبيراسيون" الفرنسية بتاريخ 1 شباط 2012، وبقلم "ماريا مالاغارديس" :" بينما تتتابع مباحثات شطب الديون اليونانية، تقوم مختارية أثينا بتقديم وجبتبن مجانيتين يومياً للعمال المعتبرين "ضحايا مخطط التقشف" ومهددين بالمجاعة. الوضع الذي لا يتردد بعض اليونانيين من تشبيهه بأيام الإحتلال النازي". "كم عددهم؟ مئة؟ أكثر بكثير؟" "في المساء يتضاعف العدد مرتين أو ثلاث مرات". "كما وترى جماعات من المواطنين لم يتعودوا حتى الآن على إستعطاء الغذاء". "الأكثرية منهم يرفضون التحدث للصحافة. إنهم يستحيون، يقول أحدهم الذي وجد نفسه من دون عمل بعد عشرين سنة من العمل في شركة تأمين. ففي اليونان يقبض العاطل عن العمل مدة سنة فقط".
"إن مخطط التقشف يصيب حسب الأولوية الأجراء والمتقاعدين، الذين يروا دخولهم تتناقص، أو بالأحرى تختفي، عندما تتضاعف الضرائب بشكل غير اعتيادي. والنتيجة أن من لايملكون منزلاً ثابتاً تضاعف خلال سنتين حتى وصل إلى 25%، والجوع أصبح الشغل اليومي لبعضهم".
يقول أحد الأطباء المجانيين: "لقد اضطربت عندما عاينت عشرات من الأطفال الذين لم يتذوقوا طعاماً في الصباح". ويضيف: أنه كان يعاين أناس من الطبقة الوسطى الذين خسروا تقديماتهم الإجتماعية، كما وأنه كان يوزع الطعام عليهم كما في العالم الثالث".
" إن عودة الجوع هي بسب إملاءات بروكسيل (مركز الإتحاد الأوروبي) أو بالأحرى برلين. كل ثلاثة أشهر يهددونا بانهيار مفاجىء، ويأمروننا بخنق الفقراء أكثر وأكثر. أما الأموال الموعودة فهي تذهب إلى أصحاب رؤوس الأموال". "نحن نعيش تحت ديكتاتورية اقتصادية. واليونان هي المختبر الذي يقيس قدرة الشعب على التحمل. وبعد اليونان يأتي دور الدول الأوروبية الأخرى. لا طبقة وسطى بعد الآن".
وجاء في صحف 7 شباط 2012 أن اليونا نيين أضربوا وتظاهروا. " وتحت لافتات تقول "لا لصرف موظفي القطاع العام" و"لا لخفض الحد الادنى للاجور" و"لا لتقليص رواتب التقاعد الاضافية" واصل المتظاهرون احتجاجهم على الاصلاحات التي طلبها الدائنون الثلاثة وهم منطقة اليورو والبنك المركزي الاوروبي وصندوق النقد الدولي".
"فمقابل تعهد اليونان بتطبيق تلك الاجراءات اكد هؤلاء استعدادهم لتقديم قرض ثان بقيمة 130 مليار يورو على الاقل بعد 110 مليارات منحت في ايار/مايو 2010."
جاء في جريدة "الحياة" اللندنية، بتاريخ 3 شباط 2012 : "بلغ معدل البطالة في إسبانيا أعلى مستوى له منذ 16 سنة، إذ خسر 4.6 مليون شخص وظائفهم. وأفاد موقع «تيبيكلي سبانيش» الأسباني، بأن «عدد العاطلين من العمل ارتفع بنسبة 4 في المئة في كانون الثاني (يناير) الماضي مقارنة بالشهر السابق».
وقدّر عدد الذين خسروا وظائفهم بـ177 ألفاً و470، وسُجلت الزيادة الأكبر في أوساط من هم في سن 25 من العمر وما فوق والعاملين في قطاع الخدمات في كل المناطق الأسبانية.
وأظهرت الأرقام التي وزّعتها وزارة العمل والضمان الاجتماعي، أن في أسبانيا «4 ملايين و599 ألف و829 عاطلاً من العمل».
يقول إد ميليباند، نائب بريطاني عمالي: وحري بنا ألا نغفل أسباب أزمة تعثر النمو وأزمة الدين العام في السعي الى ارساء الاقتصاد على أسس أمتن. والولايات المتحدة وبريطانيا تعثرتا جراء المغالاة في ربط الاقتصاد بالقطاع المالي وأرباحه الزائفة. وتدهورت ظروف عيش شطر راجح من الناس واحتكر 1 في المئة (من الشعب) الارباح. فالنموذج الرأسمالي حضّ على اتخاذ قرارات قصيرة الأمد تتجه الى جني أرباح فصلية عوض الاستقرار البعيد الأمد، وغلّب كفة امتيازات المصارف العملاقة وأقطاب الميديا على المصلحة العامة".(الحياة 1 شباط 2012)
ويضيف ميليباند: "وأوباما محق في قوله أن دفع البليونير نسبة من الضرائب توازي النسبة التي تدفعها السكرتيرة العاملة لديه لا يجافي المنطق. وتغيير قواعد الرأسمالية يفترض تغيير ما ينتظره المواطنون من السياسة. وليست القضية مناسبة رأسمالية القرن العشرين مجتمع القرن الواحد والعشرين أم لا. فالتحدي الفعلي هو إمكان تصدي السياسات لعيوب النموذج الاقتصادي ومشكلاته".
من الطبيعي أننا لانوافق أوباما على الحل ولكن إيرادنا لهذا المثل هو فقط لإظهار مدى الشعور بالمسؤولية عند الحكام الرأسماليين حيث يرون الناس تموت جوعاً وهذا لا يهمها بشيء لأن قيم الرأسمالية تقوم على تأمين الأرباح وتكديسها.
وهناك ميزة لرأسمالية القرن الواحد والعشرين، وهي تراجع الديموقراطية التي يرفع شعارها الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. فنتيجة الأزمة التي سببتها هذه الرأسمالية لليونان، أجبرت الدول الدائنة اليونان على تغيير حكومي. واللافت أن رئيس الحكومة الحالي لوكاس باباديموس لا ينتمي لا للبرلمان ولا للأكثرية البرلمانية. كما أنه لم يأت تبعاً لاستفتاء شعبي، إنما أنزل بالباراشوت اللاديموقراطي ليكون رئيساً للوزراء، رضي من رضي وأبى من أبى.
وهذه الظاهرة ليست فريدة، إنما تكررت في إيطاليا، ثالث إقتصاد أوروبي، حيث نزل ماريو مونتي بالباراشوت أيضاً كرئيس لوزراء إيطاليا من غير أن يكون منتم للأكثرية البرلمانية أو حتى للبرلمان.
الجميع، أو على الأصح، جميع الديموقراطيين يقبلون بديكتاتورية رأسالمال. وربما لجهلنا لا نعرف أن ديكتاتورية رأسالمال هي الوجه الآخر للديموقراطية الغربية.
أما في عالمنا فما هو تأثير رأسمالية القرن الواحد والعشرين، نعني العولمة النيو ليبيرالية؟ فهي تعمل على محافظة بلادنا على الإقتصاد الريعي حتى تؤمن النهب بطرق مختلفة. فالفائض يوظف في الخزينة الأمريكية أو الخزائن الأوروبية، عوضاً من ادخاره للأجيال القادمة التي لن تعيش في ظل إنتاج النفط. والفائض الآخر يوظف في شراء الأسلحة من أجل قتل شعوبها أو رميها في القمامة. أما الإقتصاد الحقيقي فلا مكان له في أذهان حكام منطقتنا.
إن البناء للمستقبل يتطلب الإنفتاح على المحيط الأكثر تطوراً، نعني تركيا وإيران. ففي تركيا هناك إقتصاد زراعي وصناعي وفي إيران صناعة أسلحة متقدمة وتقنية متقدمة لا تعتمد على الخارج، وهذا ما يؤمن الإستقلالية. إن التخطيط الإقتصادي الذي يغطي سوقاً تعد عدة مئات من الملايين هو الذي يعطي مردودية إقتصادية... ومن الجدير ذكره أن ما نصبو إليه يتطلب نضالات جماهيرية لاتفتر...
3 شباط 2012 حسن ملاط