الإسلاميون في
السلطة
المقدمة
طبق المسلمون عبر
تاريخهم اشكالاً مختلفة ومتعددة من الانظمة السياسية، وذلك لعدم وجود شكل واحد
موحد للنظام السياسي الاسلامي أقرته النصوص الشرعية.
فمن نظام الخلافة
الراشدة الشعبوي الطابع الى النظام الأموي الأشبه بالملكية- القيصرية الى النظام
العباسي الأقرب إلى الشاهنشاهية- الكسروية وصولاً الى النظام العثماني الذي طغى
عليه الطابع العسكري من بداياته وانتهى بالمشروطية اي الملكية المقيدة.
وفي عصرنا الحاضر ومن
قبل وصول «الربيع العربي»، كان هناك تجارب إسلامية مختلفة للوصول إلى السلطة:
-
التجربة الايرانية التي
كانت ثورة شعبية سلمية.
-
السودانية وكانت عبر
انقلاب عسكري بشراكة مدنية.
-
الجزائرية وكانت عبر
انتخابات ديوقراطية آثر العسكر إجهاضها خوفاً على «الديموقراطية» وكان ثمنها آلاف
القتلى. وهي تتشابه مع تجربة ألليندي في تشيلي التي أجهضها العسكر بقيادة بينوشية
وبدعم وتحريض أميركيين.
إلا ان تجربة إسلامية
سابقة عليها جميعاً وهي من أخطرها نقصد بها التجربة الباكستانية التي قامت على
أساس دولة صافية نوعياً تتألف من المسلمين فقط، جعلوا الإسلام فيها هوية مواطنة
فيما هو دين. وقد أدت هذه التجربة التي «تحجرت واسعاً..» (ضيقت واسعا) إلى تقوقع جزء من المسلمين الهنود على
أنفسهم. هذا التقوقع أدى إلى تقسيم المسلمين في شبه القارة الهندية الى قسمين،
واحد في الهند الحالية واخر في باكستان, التي انقسمت لاحقاً الى شرقية صار اسمها
بنغلادش وغربية هي باكستان الحالية المعرضة لخطر التشقق في اي لحظة بالرغم من انها
قوة نووية. وهذا ما اضعف الجميع، مسلمو الهند وباكستان وبنغلادش.
ان الاسلام عولمي
بطبيعته، منطقه الانفتاح، يأمر اتباعه بعدم التقوقع وبالتوسع الفكري. كما وأن
التقوقع يأخذنا الى آلية تسلسلية للانقسامات المتواصلة.
ليس هذا فحسب، بل ان
باكستان لم تستطع حتى اللحظة أن تكون دولة بالمعنى التام للكلمة وهي معرضة بشكل
دائم لاحتمالات الانهيار مما يجعلها مشروعاً فاشلا.
كذلك تأتي حركات «الربيع العربي» في سياق تجارب
غير اسلامية الطابع الا انها مسلمة الانتماء، هي تجارب الحركات القومية التي انتجت
انظمة وصلت الى درك استوجب قيام تحركات شعبية مناهضة تطلب التخلص منها لفشلها على
المستوى الداخلي. فقد أقامت انظمة استبدادية، لابد من استبدالها بانظمة تاخذ بعين الاعتبار مصالح
المواطنين وتعطيهم حقوقهم الوطنية من حق التعبير عن الراي والمشاركة بصنع القرار
الوطني والامان الاقتصادي وتامين العمل.. واما على مستوى العلاقات الخارجية، فعبر
اقامة دولة سيدة مستقلة غير خاضعة لاملاءات الدول الكبرى تضع مصالح البلاد
والمواطنين في المقدمة وتؤمن الانتماء للامة. ومن هذه الأنظمة من فشل في الاثنين
معا.
وهذا ما دفع من جديد الى
الواجهة بشعار قديم «ضد الاستبداد الداخلي
وضد الهيمنة الخارجية».
وإن حركات «الربيع العربي» لن تستطيع الوصول إلى
التغيير المنشود الا اذا اجابت على الاسئلة التي لم تستطع الاجابة عليها الانظمة
السابقة. والا فان الفشل هو نصيبها كما كان نصيب من كان قبلها.
الربيع العربي
إن كل من تتبع تحركات «الربيع العربي»، سواء في تونس أو
مصر أو سوريا، يعلم حق العلم أن الإسلاميين لم يكن لهم مشاركة فعلية في هذه
الحركات الإحتجاجية. ففي تونس, إن من أكد هذا القول هو راشد الغنوشي نفسه، قائد
حركة النهضة الإسلامية التي فازت في الإنتخابات الأخيرة. أما في مصر، فلم يشارك
الإخوان المسلمون بالتحرك الثوري إلا بعد ثلاثة أيام على بدئه، أي في الثامن
والعشرين من يناير- كانون الثاني. كما وعلينا الإشارة في هذا المجال أنهم تركوا
التحرك قبل أن يصل إلى خواتيمه. فقد انشغلوا بالمساومات مع عمر سليمان عندما كان
نائباً لمبارك. وللتاريخ نقول أن عنصر الشباب في حركة الإخوان المسلمين المصرية قد
تمرد على قيادته وتابع المشاركة مع العناصر الشبابية الأخرى في الحراك الثوري.
أما في سوريا، فالإخوان
المسلمون ليس لهم إلا وجود رمزي، وذلك ناتج عن التصفيات الجسدية التي ألحقها بهم
النظام بدءاً من أوائل الثمانينات. والدور المنوط بهم هو ذلك الذي يهيئه لهم
الحليف التركي. أما الحراك الفعلي فقد كانت تقوده التنسيقيات، وليس للإخوان
المسلمين مكان فيه. أما إبراز دور الإسلإميين فهو استثمار تشيعه السلطة لتبرز
دورها الفاعل في القضاء على الإرهاب الإسلامي، كرمى لعيون الأمريكان. وتصريح
كلنتون عندما بررت عدم تسليح المعارضة يصب في هذا الإتجاه.
إن من قاد جميع الإحتجاجات
التي اتُفق على تسميتها «الربيع العربي»، هم عنصر الشباب ومن غير الإنتماء الإسلامي. أما من
استثمر هذه الحركات فهو الإسلام السياسي.
الإسلاميون في السلطة
عندما نقرا ادبيات
الحركة الاسلامية في مصر نجد تصغيرا للموضوع الفلسطيني ولكامب ديفد ضمن البرامج السياسية.
ثم نقرا أن احد شخصيات هذه الحركة أجرى حديثاً مع احدى قنوات التلفاز الاسرائيلي
(التيار السلفي). او ان وفدا زار اميركا لتقريب صورة الاسلاميين الى العقل
الاميركي. ونسمع من السيد ابو العلا ماضي ان الاسلاميين اتفقوا على عدم التعرض
لكامب ديفد في المرحلة الراهنة. ونشهد على محاولات للتطبع والتطبيع يسبق قيام دولة
مصرية حديثة مما يشي بعدم وضوح للرؤية او عدم تطابق مع حركة الشارع المصري الذي
هاجم السفارة الاسرائيلية في القاهرة وحضر لاكثر من تظاهرة دعما للفلسطينيين في
غزة ولفلسطين وان هناك محاولات للجم هذا الحراك يجري وبشكل متواصل.
كل هذه الاعمال رجاء
الوصول الى السلطة. لذا فقد تخلوا مسبقا عن توجهاتهم التاريخية التي عبروا عنها
دائما بمقالتهم «ان شرف القدس يابى ان
يتحرر الا على ايدي المسلمين».
في مازق الكيانية..
يبدو الاخوان المسلمون
في مصر ومسلمو ليبيا ومسلمو النهضة ومسلمو المغرب وحتى مسلمي سوريا بانهم قد قبلوا
الاقطار القائمة على اساس خارطة سايكس- بيكو التي قسمت العالم العربي الذي كان
قبلها يسمى الدولة الاسلامية والعالم الاسلامي الى اجزاء متفرقة على انها اوطان.
وراحوا يرسمون الخطط لنهضة هذه الاوطان دون الاخذ بعين الاعتبار الاتجاهات
التاريخية للحركة الاسلامية والتي يعتبر اكثرهم من ورثتها الشرعيين.
فالامام حسن البنا، المرشد المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين، وبعد يوم واحد على تأسيس دولة إسرائيل واعتراف واشنطن الفورى بها، أرسل يوم
16 ايار 1948، خطاباً للرئيس الأمريكى هارى ترومان يحمل تهديداً واضحاً، وجاء فيه
إن «اعترافكم بالدولة الصهيونية إعلان حرب على العرب
والعالم الإسلامى. وإن اتباعكم لهذه السياسة الخادعة الملتوية هو انتهاك لميثاق
هيئة الأمم والحقوق الطبيعية للإنسان وحق تقرير المصير، وسيؤدى حتماً إلى إثارة عداء
دائم نحو الشعب الأمريكى، كما سيعرض مصالحه الاقتصادية للخطر ويؤذى مكانته
السياسية، فنحملكم المسئولية أمام العالم والتاريخ والشعب الأمريكى».
يومها كان في بلادنا مشروعان صاعدان يتنافسان
الاول اسلامي نهضوي والثاني عربي تحرري. وقد التقيا بشكل كامل على «النحن
والهم». فالمشروع الاسلامي كان جل همه ان يمثل المسلمين
في العالم. والمشروع العربي الذي لم يكن مشروعاً شوفينياً عنصرياً اعتبر ان البلاد
الاسلامية هي امتداد طبيعي له وهذا ما انتج علاقات قوية على سبيل المثال بين مصر
وايران ايام الملك والشاه وايام الثورة على الملك والشاه.
لقد كان حملة المشاريع الاسلامية والعروبية
ينظرون ابعد من انوفهم، فقد كانوا عرباً يمثلون مئة مليون عربي او مسلمين يمثلون
ثلاث مئة مليون مسلم. وهذا ما اعطى لهذه المشاريع قوة رغم بدائيتها. الا ان الغرب
خاف على الدوام من تماهي الشعوب ببعضها البعض، وخطط للخلاص منها معاً عبر جرها
لصراع وحشي جداً على السلطة. ثم جاءت الفرصة في حزيران 1967 لتوجيه ضربة قاصمة ضد
المشروع القومي، فأصابت الإثنين معاً، القومي والإسلامي. فأضحى مشروع التجزئة اقوى
من مشاريع الوحدة. فانهار مشروع الوحدة في مصر حجر الاساس في الشرق الاوسط ووقعت
فريسة سهلة في المحور الاميركي الغربي. فأخرجت من معادلة العرب والمسلمين وخضعت
للسياسات الاسرائيلية سواء في الاتفاقات المعقودة او في الممارسة الفعلية والتي
كان ابشع صورها الموقف المصري المنكفئ ابان العدوان على غزة. فهو يراقب القصف
الصهيوني لها ويحاصرها في الان نفسه. مستجيبا لشروط الاتفاقات المعقودة.
وعندما ينبري اسلاميو مصر اليوم سواء في حركة
الاخوان المسلمين وحزبهم العدالة والحرية او السلفيين على اختلافهم ليطمئنوا العدو
بان اتفاقات كامب دايفد لن تمس وهذا ما فعله «الشاطر» في
رسالته للعدو الصهيوني عبر اعضاء في الكونغرس الاميركي ذكرها راديو الجيش
الاسرائيلي ولم يكذبها الاخوان ولا العدالة والحرية. او كما صرح الدرديري في
زيارته التطمينية لامريكا والوفد الذي رافقه بان الاخوان سيحترمون التزامات مصر
الدولية ولن تعرض اتفاقات كامب ديفد على الاستفتاء. فاننا نقف مشدوهين امام هذا
التناقض بين موقف مؤسس الحركة وما وصل اليه ابناء الحركة اليوم خصوصا ان هذه
الحركة في 1947 كانت من اهم محركي الجهاد ضد الصهيونية قبل انشاء دولة اسرائيل
وانها حركت العالم الاسلامي بشرقه وغربه في عملية تعبئة واسعة اسست للعلاقة مع
مسلمي ايران التي شارك منها في القتال في فلسطين حركة «فدائيان
اسلام» ومؤسسها «مجتبى
نواب صفوي» ليكون القتال على ارض فلسطين خط العمادة للحركة
الاسلامية التي حملت وجها تحررياً لا يقل عن الوجه التحرري للحركة العربية الناهضة
في تلك المرحلة.
فهل اصبح اعضاء الحركة الاسلامية سياسيين بلا
سياسة؟ والا فاين السياسة في الحركة الاسلامية.
ان كتابة البرامج السياسية والادبيات الجميلة
التي تتحدث عن «بذل الجهد للوصول الى حل جذري وعادل للقضية
الفلسطينية..» يحتاج لاثباتات سياسية للناس في الممارسة
اليومية كما يحتاج الاميركيون لتطمينات من الحركة الاسلامية.
وعندما نكون على مفترق طرق، لمن علينا ان نرسل
التطمينات اولاً لامتنا وشعوبنا ام للاميركيين والغرب.. عندها يكون الواجب الذي لا
يحتمل التباسا هو ان نطمئن امتنا وشعبنا. فكيف اذا كانت مصالحنا تتناقض مع مصالح
اميركا والغرب واسرائيل؟
لقد عبر برنامج الحرية والعدالة بوضوح عن رفضه
للحاكم المستبد وحكمه الظالم الذي حول بلادنا «الى ولاية
تابعة للسياسة الغربية والصهيونية..» فكيف نرضى على انفسنا باستعادة ممارسة
الحاكم المستبد تلك وحكمه الظالم لا سيما تلك المتعلقة بفلسطين واتفاقيات كامب
ديفد؟
يضيف البرنامج «إن
الاتفاقيات والمعاهدات بين الدول لابد أن تكون مقبولة شعبياً، وهذا لا يتأتى إلا
إذا كانت هذه الاتفاقيات والمعاهدات قائمة على أساس العدل وتحقق المصالح لأطرافها،
إضافة إلى ضرورة التزام هؤلاء الأطراف بتطبيق نصوصها بأمانة ودقة، ويتيح القانون
الدولى للأطراف مراجعة الاتفاقيات والمعاهدات المعقودة بينهم فى ضوء هذه الشروط،
وهى عملية مستقرة فى المعاملات الدولية، لذلك يرى الحزب ضرورة مراجعة كثير من
الاتفاقيات التى تم إبرامها فى مختلف المجالات فى ظل نظام كان يفتقد إلى الشرعية
الشعبية بل والدستورية السليمة». ولكن ما أكده وفد الإخوان في أمريكا أن اتفاق
كامب ديفيد لن يعرض للإستفتاء، وأن الإخوان في السلطة سوف يحافظون على هذه
الإتفاقات، بالرغم من أن برنامجهم يناقض هذا التوجه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن
تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ
القرآن الكريم. سورة الصف. آية 2 و3
كما أن برنامجهم بالنسبة للقضية الفلسطينية يناقض
توجه الإمام حسن البنا. فالبرنامج يدعو إلى «بذل كافة
الجهود للوصول إلى حل جذري وعادل للقضية الفلسطينية، يضمن لجميع الفلسطينيين داخل
وخارج الأرض المحتلة حقهم في إقامة دولتهم وعاصمتها القدس». وهذا
يناقض حق الفلسطينيين في وطنهم. أي أن الإخوان يعترفون ضمناً بالكيان الصهيوني
وباغتصابه لفلسطين. من أجل ذلك لم يأت البرنامج على ذكر تحرير فلسطين ولم يأت على
ذكر المقاومة لا من قريب ولا من بعيد.
أما الإخوان السوريون فقد ذكروا تأييدهم للشعب
الفلسطيني في نفس البند الذي يدينون فيه الإرهاب ومن دون الإتيان على ذكر المقاومة
«وتعملُ على تحقيق مصالح شعبها
الإستراتيجية، وعلى استرجاع أرضها المحتلة، بكافة الوسائل المشروعة، وتدعمُ
الحقوقَ المشروعة للشعب الفلسطينيّ الشقيق».
حركة النهضة التونسية كانت أكثر تحديداً بالنسبة لموضوع فلسطين. جاء في برنامجها السياسي ما يلي «تدعم الحركة قضايا التحرر والعدل وتشجع على تحقيق السلم العالمي وتسعى إلى دفع التعاون والتكامل والوحدة وبالخصوص بين الدول العربية والإسلامية وتؤكد مركزية القضية الفلسطينية ومناهضة التطبيع». صحيح أنها لم تذكر المقاومة ولكنها أكدت على عدم التطبيع.
حركة النهضة التونسية كانت أكثر تحديداً بالنسبة لموضوع فلسطين. جاء في برنامجها السياسي ما يلي «تدعم الحركة قضايا التحرر والعدل وتشجع على تحقيق السلم العالمي وتسعى إلى دفع التعاون والتكامل والوحدة وبالخصوص بين الدول العربية والإسلامية وتؤكد مركزية القضية الفلسطينية ومناهضة التطبيع». صحيح أنها لم تذكر المقاومة ولكنها أكدت على عدم التطبيع.
ولكن ما يثير التساؤل هو موقف الحكومة المغربية
التي يقودها حزب العدالة والتنمية الإسلامي من الخطوات التطبيعية مع الكيان
الصهيوني التي تقوم به أطراف مغربية. إذ تدعي السلطة ان ليس بإمكانها القيام بأي
خطوة مضادة لهذا التطبيع.
ما تقدم يظهر أن الإسلاميين في السلطة غير جادين
في القضايا الوطنية، وسوف ينهجون نفس نهج أسلافهم الحكام الذي ثاروا عليهم.
نهج إسلاموي سلطوي مختلف
عندما ظهرت الثورة الاسلامية في ايران بقيادة
الخميني وظهر عداؤها لاميركا وقام طلابها باحتلال السفارة الاميركية، اعلن يومها
الرئيس الاميركي «جيمي كارتر» بانه سيفرض حصاراً اقتصادياً عليها. وكان
الشاه المخلوع قد قوض الزراعة والاقتصاد الرعوي خلال ثورته البيضاء (عندما دمر
البنى الزراعية التقليدية واستبدلها ببنى غيرصالحة). وقف يومها الامام الخميني
يطالب الشعب الايراني بان يزرع اي بقعة ارض موجودة تحت يده وان لم يجد فليزرع سقف
بيته الترابي. وقال ساصوم ثلاثة أيام في الأسبوع، وساكل اللحم مرة واحدة. فاضطر
الاميركي للتراجع عن توجهه فوراً لان الشعب الإيراني التزم بما ألزم به قائده
نفسه. وهكذا فشل الحصار لأن إرادة الشعب لا يمكن قهرها.
هذه الارادة القوية كان سرها ان الخميني لم يكن
ينظر الى ايران كدولة ايرانية في حدودها الجغرافية المتواضعة بل نظر الى ايران
وثورتها ككائن يعيش في بحر لجي قوامه مليار مسلم طالبهم بموقف ثوري ضد الغرب المهيمن
والشرق المتكبر. وأن الامة الاسلامية كائن ثالث لا يمكن قهره.
هكذا تاسست ايران الثورة قبل ان يتقزم مشروعها
عند الرؤى الواقعية التي حملها ورثته والتي جعلت مشروعها يهتم بالعالم الاسلامي
انما من موقع فارسي- شيعي وليس من موقع المليار مسلم.
فمشروع المليار مسلم يستحيل ان يكون مشروعاً
شيعياً بل مشروع اسلامي عابر للمذاهب ويتجاوزها، «يبتعد عن السبل ويقصد الصراط».
ان هذا التراجع هو الذي سمح لداوود اوغلو بان
يقول ان ايران دولة قوية محترمة ولكنها لا تمتلك الجاذبية وان تركيا اكثر جاذبية
منها.
الا ان الرؤية التركية الجزئية الاخرى والتي
تعتمد على محور تاريخي الترك- المذهب الحنفي والتي لا تقبل المذاهب الاخرى
الموجودة ضمن خارطتها، فقدت جاذبيتها بسرعة فائقة ما بين دخول اردوغان الى مصر بعد
الثورة وخروجه منها. وبسبب الانخراط غير
المبرر للقوات التركية في الحرب الليبية الى جانب قوى الظالم العالمي من جهة، و من
جهة اخرى لانخراطه غير المنطقي في ازمة سوريا التي اعتمدت عليها السياسة الخارجية
التركية بداية لاختراق الاسواق العربية ثم استعدتها بشكل مفاجئ.
اننا اليوم في زمن العولمة حيث الكرة الارضية
كلها اصبحت كقرية او مدينة واحدة وحيث لم يعد من المفيد الاستقواء بالقومية
والتمترس خلفها فاميركا القوة المهيمنة تحتاج الى اتفاق اكثرمن قومية لمواجهتها،
لأنها تمتلك قدرة تدمير هائلة متجبرة وظالمة. لذلك لم يفكر الصينيون القوة الثانية
على الكوكب بمواجهتها منفردين او بشكل متعجل على الرغم من انهم اكثر من مليار صيني
في بر الصين وحدها. بل راحوا يبحثون عن حلفاء ولو بشكل آني فوجدوا ضالتهم في «بريكس» ليظهروا
انهم من ضمن فريق عالمي موحد لا يوافقون على التوجهات الاميركية السياسية
والاقتصادية وبطرق سلمية غير مؤهلة للتحول عسكرية في اي اجل قريب الا اذا ما اراد
الاميركي ان يفرض حرباً على العالم بشكل متعجل وهذا الذي لا يبدو في صالحه في
الافق القريب. فهو يعاني من مشاكل اقتصادية حقيقية تحتاج لحلول لها من قبل ان يشرع
في اية حرب.
ونحن كامة عربية- اسلامية علينا ان نعتبر من
تجارب الاخرين «فالعاقل من اعتبر بنفسه.. والكيس من اعتبر بسواه». خاصة وان
الاخرين اشد قوة وبأساً منا وان طريقنا للحضور تحت الشمس محتاج لمشاريع وحدوية
وليس لمشاريع كيانية هي مهما اشتد ساعدها تظل ضعيفة وخاضعة، ومن دون حل لمشكلة
الغذاء في اوطاننا والوصول بها الى عتبة الامن الغذائي والاقتصادي التي لا يمكن
لها ان تكون حرة سيدة مستقلة.
الرؤية الإقتصادية في برامج الإخوان السياسية
من اللافت أن برنامج حركة النهضة طموح ولا يمكن
لأي كان تجاوزه، إذا كان يريد خدمة الشعب التونسي. كما وأن برنامج إخوان مصر هو
طموح أيضاً ولكن ينقصه التحديد كما تميز به البرنامج التونسي.
إن ما يمكننا التأكيد عليه انطلاقاً من تجارب
الشعوب أن من يريد تحقيق هكذا برامج لايمكنه الإعتماد على الغرب ولا يمكنه إلا
الإلتزام ببرنامج تكون غايته التطلع إلى الداخل وليس إلى الأسواق الخارجية التي
يسطر عليها الغرب الذي ينهب ثرواتنا.
فقد جاء في برنامج النهضة ما يلي «تدعيم
العلاقة مع الإتحاد الأوروبي للوصول بها إلى مرتبة الشريك المميز والعمل على تطوير
العلاقات مع كل دول الفضاء الأوروبي».
«تدعيم
علاقات الشراكة الإقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان».
«تنقية
مناخ الأعمال لحث رجال الأعمال على إدراج مؤسساتهم بالبورصة لتشجيع الإقتصاد
المبني على المشاركة في المخاطر والأرباح».
«الرفع في
نسبة مساهمة الصادرات في النمو لتصل إلى حوالي 43%».
«تسهيل
مساعدة المؤسسات على ملاءمة منتوجاتها مع متطلبات الأسواق الخارجية».
إن التزام أي بند من هذه البنود يعني إخضاع
الإقتصاد التونسي لشروط العولمة النيوليبيرالية، مما يستتبع القضاء على هذا
الإقتصاد. إن التزام مصالح الشعب التونسي تتطلب القطع مع كل مؤسسات العولمة
النيوليبيرالية التي تعمل على تجويع الناس وتجميع الأرباح في جيوب كبار
المستثمرين.
وإخوان مصر هم بنفس الإتجاه التونسي «العمل على
زيادة القدرة التنافسية للاقتصاد المصري في السوق الدولي».
«تحقيق تنوع اقتصادي لمصادر توليد الدخل القومي
حتى يصبح الاقتصاد المصري قادرًاً على مواجهة التحديات الاقتصادية الدولية وأزمات
الاقتصاد العالمي».
فالمصريين يتطلعون إلى الخارج بدل التطلع إلى
الداخل لحل مشكلة البطالة والجوع عند الشعب المصري «إدراكًا
من حزب الحرية والعدالة بأهمية التجارة الخارجية سواء بتوفيرها للسلع والخدمات
التي يحتاجها الاقتصادي المصري أو باعتبارها الطريق لتحقيق النمو الاقتصادي من
خلال عمليات التصدير للمنتجات المصرية، يرى الحزب ضرورة إعادة النظر في دور
التجارة الخارجية المصرية بما يسمح بزيادة قدرة مصر التنافسية في السوق العالمية
وزيادة نصيبها من حركة التجارة إقليميًا ودوليًا». فهم هنا يتحدثون عن متناقضات. التطلع إلى الداخل
يستدعي العمل على تنمية كل ما يحتاجه الداخل ولا يتطلع إلى الربحية. أما إن لم يكن
بد من التطلع إلى الخارج فيجب أن يكون هذا الخارج هو المحيط الإقليمي.
إن الإتجاه الذي يتحدث عنه إخوان مصر وتونس هو
ربط بلديهما بالغرب بدل من أن يكون همهم الأساسي هو كيفية التحرر من هذا الغرب،
كما قال إخوان مصر في برنامجهم.
كيف يكون الإخوان جادين في تطلعاتهم إلى
المستقبل؟
لقد أدرك إخوان تونس (النهضة) أهمية نظام القيم
في الإقتصاد، لذلك أشاروا إليه، ولكن من دون تحديد ومن دون ذكر أي من هذه القيم.
أما إخوان مصر فلم يأتوا على ذكره. علماً أن هذا الموضوع قد أثير في الأدبيات
الإسلامية، وخاصة في كتاب مالك بن نبي عن المسلم في مواجهة الإقتصاد. إن القيمة
الأولى في الإقتصاد الإسلامي هي الإنسان نفسه. وبالتالي فمن المفترض أن يكون العمل
هو على تأمين ضروريات ثم حاجات جميع أفراد المجتمع. أما الحديث عن التصدير والربح
والتجارة الخارجية والإستثمار في البورصة،
فكل ذلك يعني تلزيم إقتصاداتنا للمستثمر الغربي والتخلي عن أهم القيم في
الإقتصاد الإسلامي. وبذلك يكون الإقتصاد من دون قيم إسلامية ويأخذ هويته الحقيقية:
إقتصاد يرتبط بالغرب، إقتصاد يرتبط بالعولمة النيوليبيرالية.
ليس هذا غريباً على الحركات الإسلامية في عالمنا
العربي، فلا نجد صناعياً واحداً من الإقتصاديين الإسلاميين، بالعكس من إخوانهم
الأتراك. فأربكان أول ما اهتم بتنمية الصناعة التركية. وقد أوجد صناعة وطنية تركية
يمكن الدفاع عنها إزاء مثيلاتها الغربية. أما إخوان بلادنا فقد كانت اهتماماتهم
تجارية، لذلك نراهم مرتبطين إقتصادياً بالخارج. فمصالحهم مرتبطة بالخارج وليس
بالداخل. لذلك يتحدثون عن البورصة والتجارة الخارجية والإنتاج بقصد التصدير ولا
يخططون من أجل الإكتفاء الذاتي داخلياً.
بذلك يكونون غير جادين في تطلعاتهم إلى المستقبل.
إن التطلع إلى المستقبل يحتم على العاملين في الحقل العام، وخاصة
الإخوان المسلمين، المهيئين إلى تسلم السلطة أن يدرسوا الواقع، والحلول التي
تمكنهم من تأمين حياة حرة، آمنة لشعوبنا.
ان السعي للتشارك مع الاخرين لبس عيبا بذاته بل هو امر
طبيعي لاننا نعيش جميعا في عالم واحد, ولكننا في هذا العالم الذي يهيمن عليه
التوحش في التعاملات الذي ارست قواعده العالمية الراسمالية النيو- ليبرالية لا يمكننا
ان نكون شركاء، وليس تابعين، الا اذا اسسنا قاعدة الاقتصاد الخاصة بنا، وان افتقاد
التصور لبناء هكذا قاعدة في البرامج السياسية للحركات الموشكة على تبوؤ السلطة،
اقصد الحركات الاسلامية، ينبئ باستمرار تبعيتنا للاخرين وهذا ما يخالف قواعد السنة
النبوية، التي انتقلت باهل الجزيرة العربية من البداوة والتجارة الى المجتمع
الحضري الذي كان مثاله يثرب المدينة المنورة التي قامت دائرتها على الانتاج
الزراعي والحرفي يومها وكانت الصورة التي قرب بها النبي الى عقول اتباعه وسكان
الجزيرة العربية تقبل رؤية التقدم والتطور التي كانت سببا لدولة دامت 1400 سنة قبل
ان تذوي.
ففي عصرنا الحاضر، لا حياة إلا للكتل الكبرى: الولايات المتحدة،
الصين، الهند، روسيا مع أوروبا...إلخ والدول العربية مع محيطها الإقليمي إيران وتركيا.
فمن دون قيام هذه الكتلة لاحرية لإنساننا العربي، أو المسلم. من هنا وجب على كل
تخطيط سياسي، أو إقتصادي أن يأخذ هذه العوامل في عين الإعتبار. وهذا ما لم تقم به
أي من الحركات الإسلامية سواء في تونس، مصر، المغرب، ليبيا أو سوريا، ما يجعلنا
نستنتج، عاجلاً وليس آجلاً، أن ثورات الربيع العربي لن تنتهي إذا تسلم الإسلاميون
السلطة. بل إن التحركات سوف تستمر إلى أن ترسو على البر الذي يؤمن الإستقلال
الفعلي عن الهيمنة الغربية والخلاص من الإستبداد الداخلي. الهيمنة الغربية
والإستبداد السلطوي الداخلي اللذان يمكن أن يتجددا مع استلام الإسلاميين السلطة،
ولكن بشكل أشد إيذاءً، لأنه سيستحضر السماء لتقمع من على الأرض.
الشيخ إبراهيم الصالح- حسن ملاط
مركز الفيحاء للبحوث والتخطيط
22 نيسان 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق