مستجدات في الوضع اللبناني
حسن ملاط
منذ اندلاع ما اتُفق على تسميته "الربيع
العربي"، والذي تسابقت معظم الأطراف على تبنيه، إلى أن اندلعت الإحتجاجات في
سوريا. بعض الأطراف استخدمت كوابحها، وبدأت تدافع عن النظام الديموقراطي والممانع
والمقاوم في هذا البلد. ونتيجة هذه المواقف المتناقضة انقسمت الساحة الداخلية التي
كانت منقسمة بالأصل، إلى مؤيد للنظام ومعارض له. وتعمقت الخلافات وانعكست سلباً
على الوضع الداخلي. فكان الإنقسام عمودياً في المجتمع اللبناني بحيث لم يبق طرف
مهما صغُر إلا وقد اصطف مع أحد الأطراف. ولكن الرعاية الدولية للسلام اللبناني هي
التي منعت الإضطرابات الأمنية التي أخذت طابع البؤر هنا وهناك وهنالك. أما البؤر
التي كانت أكثر نشاطاً فهي طرابلس وعرسال.
تطور المفاوضات الأمريكية الإيرانية حول الملف النووي
تركت أثراً إيجابياً على الوضع اللبناني، خاصة بعد أن أعلن المرشد الإيراني دخوله
في الحرب ضد الإرهاب السني التي أعلنتها الإدارة الأمريكية. فقد أصبحت الخلافات
بين المؤيدين للسعودية والمؤيدين لإيران ضئيلة، بما أن هذه الدول أعلنت أنها ملتزمة
الحرب ضد التكفيريين.
وبعد التوقيع على الإتفاق المذكور، انتقلت الأوضاع خطوة
إلى الأمام، بحيث أصبح كل طرف مهتماً بترتيب أموره الخاصة. فإيران راحت تفكر
بكيفية تطوير إقتصادها بعد رفع العقوبات. كما أنها أصبحت مهتمة بالوصول إلى خاتمة
للحرب المستمرة في سوريا والتي تتطلب منها مصاريف كثيرة بسبب دعمها للنظام المنهار
إقتصادياً، عطفاً على الخسائر البشرية. أضف إلى ذلك ضعف الموارد النفطية بسبب
انخفاض الأسعار إلى أقل من النصف.
أما السعودية فقد اتجهت جنوباً لحسم الوضع في اليمن الذي
يشكل خطراً كبيراً على حدودها، كما وعلى وحدة أراضيها، بسبب الأقاليم التي سبق
واستولت عليها المملكة وضمتها إلى أراضيها. وحتى الآن لم يوافق اليمنيون على
التخلي عن هذه الأراضي.
هذه الأوضاع أجبرت الطرفين السعودي والإيراني إلى جعل
الحرب بينهما باردة ومحاولة اختزال ما يمكنهما من الساحات. الساحة اللبنانية كان
نصيبها أن تكون باردة بالنسبة للتنافس الإيراني السعودي. فالسعودية ليس بإمكانها
تأمين المصاريف لهذه الحرب. كما أن إيران يفيدها اختزال المصاريف.
هذا خارجياً، أما داخلياً فالوضع واعد أكثر من المتوقع.
ما هي العوامل التي تجعله كذلك؟
طرفا الصراع الأساسيان في الساحة اللبنانية هما حزب الله
وتيار المستقبل. الأول يمثل شيعة لبنان ويستتبع معه بعض القوى مثل المسيحيين
الشيعة أو السنة الشيعة (لا أقصد متشيعين، ولكن متشيعين سياسياً). أما المستقبل
فيمثل سنة لبنان ويستتبع معه قوى أخرى أيضاً مثل المسيحيين السنة والشيعة السنة.
لذلك يمكن التحدث عن الإنقسام العمودي. الطرف الأول يتحالف مع إيران. وتحالفه هذا
يمكن وصفه بالعضوي. أما المستقبل فيتبع السعودية. وتبني السعودية لهذا التيار يمر
باستمرار بعثرات، مما لا يسمح لنا بوصفه بالعضوي.
مشاركة حزب الله بالحرب السورية تركت آثاراً سلبية على
الحزب نفسه كما وعلى بيئته الحاضنة. فالخسائر الكبيرة بالأرواح لم تكن مقنعة
للأهالي المؤيدين للحزب رغم كل الشحن المذهبي. كما وأن الإنشغال الكبير والغير
عادي أدى إلى تباعد نسبي بين الحزب وبيئته. وهذا ما شجع على نوع من الفساد لم يكن
سائداً إبان مشاركة الأهالي مع الحزب في نشاطاته.
أما حرب القلمون السورية فكانت آثارها سلبية رغم
الإنتصارات التي حققها الحزب في هذه المنطقة. فالإنقسام المذهبي بلغ أشده وخاصة في
منطقة البقاع. وأصبح من ضمن برنامج الحزب سواء أراد أم لم يرد التصدي لهذه
الأوضاع.
وعندما أصبح هذا الواقع ملموساً، راى الحزب أن يأخذ خطوة
ذات طابع نوعي بعلاقته مع المستقبل. وما نراه الآن من ارتياح في الوضع اللبناني هو
نتيجة هذا القرار. فتشكيل الحكومة كان بقرار من الحزب وبموافقة المستقبل. وبدء
الحوار الثنائي، كان أيضاً بقرار من الحزب وبموافقة المستقبل. عندما أقول بقرار من
الحزب، ذلك أنه الطرف الذي بإمكانه أخذ القرار وتنفيذه.
لماذا استجاب المستقبل لهذه القرارات؟ ظهر ذكاء الحزب
باتخاذه قرارات يرى الجانب الخصم أن من مصلحته الموافقة عليها. فالمستقبل يمر
بأوضاع صعبة للغاية: فرئيسه خارج البلاد بشكل شبه متواصل مما يؤثر سلباً على العمل
الحزبي. أما الأمر الحاسم بالنسبة للمستقبل فهو أن الإدارة السعودية الجديدة لم
تتخذ قراراً، حتى الآن، باعتماد المستقبل كممثل حصري لها في لبنان. هذا ما جعل
الحريري يأخذ قراراته بمفرده، خاصة أنها إيجابية بالنسبة له، مما يمكن أن يجبر
السعودي مستقبلاً على اعتماده كممثل حصري له في لبنان.
وهنا، لا بد من الإشارة أن حزب الله كان له الفضل الأكبر
في اعتماد الرئيس الحريري كممثل وحيد لسنة لبنان منذ قبوله به بهذه الصفة في
محادثات الدوحة. ولا نعفي الجهات السنية المعارضة للمستقبل من هذا الأمر، لأن
معارضتها الجدية كانت دفعت الحزب، ربما، لعدم القبول حصرية الحريري في تمثيل
السنة.
إن الفصل بين عمل حزب الله في سوريا وعمله في لبنان يبدو
واضحاً للمتابعين. من أجل ذلك، نرى أكثر المتشددين في تيار المستقبل ينتقدون وجود
الحزب في سوريا بشكل حيي. كما أن الرئيس الحريري لا يترك أي موقف سلبي من جماعته
ضد الحزب يمر مرور الكرام، إنما يسارع إلى تصحيحه. وهذا ما حصل عندما أخطأ المشنوق
بالتهديد بوقف الحوار الثنائي. فكانت مسارعة الجسر إلى التأكيد أنه سيحضر الحوار
وكذلك فعل الرئيس الحريري.
نستنتج أن الوضع اللبناني سيستمر ممسوكاً جيداً من طرفي
الصراع اللذين يريان أن المصلحة تقتضي التحضير للمرحلة المقبلة من التسويات على
الصعيد الإقليمي بأقل خسائر بالنسبة لهما. والظاهر أن هذا القرار داخلي وليس بإيعاز
من أطراف خارجية. لذلك فإمكانيته على الصمود تكون مرجحة!
19 تشرين الثاني 2015
hassanmallat.blogspot.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق