المشهد
الدولي الحالي
حسن ملاط
الميزة
الأولى للمشهد الدولي الحالي هي الإندفاعة الروسية خارج نطاقها الإقليمي. بدأ
الرئيس بوتين عند تسلمه الحكم بالوكالة بترميم وضع روسيا المزري الذي أوصلها إليه
الرئيس بوريس يلتسين. وكانت البداية من الشيشان المتمردة التي أرادت الإنفصال عن
الإتحاد الروسي. شن بوتين الحرب عليها و اعلن في 6 شباط 2000 ان «عملية تحرير غروزني انتهت» في الوقت الذي
شددت فيه القوات الروسية قبضتها على العاصمة الشيشانية.
بعد
استتباب الأمن في نطاق الإتحاد الروسي، وجه الرئيس الروسي القوي نظره إلى نطاقه
الجغرافي حتى يجعله آمناً. جورجيا تطاولت على المصالح الروسية بمحاولتها الدخول
إلى الحلف الأطلسي، بعد أن افتعلت العداء مع روسيا. وقام الرئيس الجورجي بشن الحرب
على أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الجمهوريتين الجورجيتين المرتبطتين بروسيا واللتان
تقعان على حدودها، وذلك في 2008. تدخل الجيش الروسي وحسم الأمر بسرعة كبيرة وأعلنت
روسيا اعترافها باستقلال أوسيتيا الجنوبية. وكذلك بالنسبة لأبخازيا.
وفي نطاق
تدعيم حكمه، شن الرئيس بوتين الحرب على أوكرانيا التي عزلت الرئيس الموالي لموسكو
واتجهت غرباً. فأعلن ضم القرم الذي كان يعتبر جزءاً من أوكرانيا. أما المناطق
الشرقية المحاذية لروسيا والناطقة بالروسية فقد أعلنت استقلالها عن أوكرانيا تحت
اسم جمهورية دونيتسك والثانية
تحت اسم جمهورية لوغانسك. وقد تم ذلك في 2014.
خلفت
الحرب الأوكرانية نتائج سيئة على روسيا لأن الغرب أتخذ عقوبات اقتصادية مؤذية بحقها
لأنها لم تنسحب من أوكرانيا. وقد ارتفع سعر صرف الروبل الروسي من 34 للدولار إلى
65حالياً، وهربت رؤوس أموال ضخمة من روسيا قدرها الخبراء ما بين 100 و200مليار
دولار.
هذه
الإجراءات الغربية أتت غداة صرف روسيا حوالي 50مليار دولار على الألعاب الأولمبية
الشتوية التي أجرتها في سوتشي، جنوب روسيا، والتي ساهمت أمريكا بتأمين الحماية
الأمنية لها بسبب الإعتداء الإرهابي على محطة القطارات الروسية.
هذه
الحروب التي خاضها بوتين أدت إلى رفع شعبيته بشكل كبير (85%). فقد أحيت الشعور
القومي عند الروس وأشعرتهم بتميزهم في محيطهم الجغرافي. ولكن الأزمة الإقتصادية
التي خلفتها هذه الحروب، مضافاً إليها العقوبات الإقتصادية وانخفاض سعر النفط إلى
ما دون النصف والغاز أيضاً ضاعفا من حجم المأساة. وقد أعلن رئيس الوزراء الروسي أن
روسيا لا يمكنها أن تستمر إذا لم تُصلح إقتصادها في مؤتمر إقتصادي عُقد في سوتشي
تزامناً مع بدء الحرب الروسية على سوريا. كما وأعلن أن مصاريف الحرب يتم تأمينها
من ميزانية وزارة الدفاع، وأنها تكفي لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر.
هذه
العقبات لم تحل دون ارتفاع التأييد لبوتين إلى 90% من الشعب الروسي. ولكنها تزامنت
مع ظواهر معبرة، نذكر منها:
·
إعلان الرئيس الروسي أنه يدافع عن روسيا في سوريا لوجود المقاتلين
القوقاز في سوريا حالياً وأنهم سيعودون مدربين لخوض المعركة ضد روسيا بعد فراغهم
من سوريا.
·
امتناع العديد من الجنود الروس عن الذهاب إلى سوريا، حيث أن القانون
يسمح لهم بذلك. هذا ما اضطر الإدارة الروسية إلى تجنيد المرتزقة وبأجور مرتفعة
وخاصة في شرق أوكرانيا الناطق بالروسية.
·
اضطرار بوتين إلى تسعير الشعور الديني عند الأغلبية الأورثوذكسية
بإعلانه أنه بعد سنوات قليلة سيصبح مقابل كل جنديين روس مسيحيين ثالث مسلم. كما
وأنه أعلن أن تعداد الشعب الروسي ينخفض حيث أصبح الآن 143 مليوناً. وأضاف بأن عدد
المسيحيين ينخفض، وبالمقابل عدد المسلمين يرتفع. هذا ما دفع الكنيسة الروسية إلى
الدخول إلى جوقة التحريض الطائفي من خلال إعلان البطرك الروسي أن حرب روسيا في
سوريا هي مقدسة لأنها تدافع عن القيم الأورثوذكسية.
المشاركة
في الحرب السورية هو القرار الأخطر الذي أخذه الرئيس بوتين. فسوريا هي خارج النطاق
الاستراتيجي التقليدي لروسيا. ولكن، وبما أن الشعار الذي رفعه بوتين للحرب في
سوريا هو نفس الشعار الذي تقاتل تحته الإدارة الأمريكية، رأينا هذه الأخيرة تسارع
إلى الإعلان أنها تحترم المصالح الاستراتيجية لروسيا في سوريا. هذا الإعلان هو
بمثابة تأكيد لموافقتها وتأييدها للتدخل الروسي، حتى وإن لم يكن تحت راية التحالف
الدولي التي تقوده الولايات المتحدة. ولكن رغم ذلك أعلنت الولايات المتحدة أنها
ستبعث بعدد من جنودها إلى سوريا الذي يمكن تفسيره بمثابة وضع خطوط حمرلا يحق
للروسي تجاوزها.
كما أن
الروس نسقوا تحركهم السوري مع حلفاء الولايات المتحدة كالأردن والكيان الصهيوني.
فقد كان التنسيق مع الأخيرعلى أعلى المستويات اللوجيستيكية. كما وأن إعلان روسيا
أنها جاءت إلى سوريا لحماية الأقليات الدينية والإتنية يأتي ضمن الإتجاه الأمريكي
الذي يدعم الأكراد رغم ما يشكل هذا الدعم من توتر في علاقتها مع الإدارة التركية.
بقي
موضوع المدة التي سيستغرقها هذا التدخل. فالمدة هي الفزاعة التي تحملها الإدارة
الأمريكية من أجل الضغط على روسيا في حال تجاوزت الحدود المفترضة. هذا لا يعني أن
روسيا سوف تخضع، ولكنه يعني حساسية الموقف الذي تعمل ضمنه القوات الروسية.
كان
إعلان فيينا لحل المأساة السورية بموافقة جميع الأطراف المشاركة في هذا اللقاء.
ولكن الرئيس السوري أعلن ثوابت تتناقض مع ما توصل إليه المؤتمرون. ومن المؤكد أن
الرئيس السوري لا ينطق من دون التشاور مع الروس. فهو قد أعلن أن التقدم الذي أحرزه
كان بفضل الطلعات الجوية الروسية. وكان لافتاً عدم ذكره الدعم الإيراني وقوات حزب
الله لقواته. حتى أنه لم يشكر دعمهم الغير مسبوق له!
هذا
الموقف يمكن أن يعطي اتجاهين متناقضين: الإتجاه الأول هو إيعاز من إيران لخربطة
توافق فيينا لأن اتجاه سيره لا يناسب المصالح الإيرانية التي دفعت الكثير من أجلها
في سوريا. فالإتفاق على الشكل المطروح في فيينا سيهمش الدور الإيراني. أما الإتجاه
الثاني، فهو أن يكون هذا الموقف بإيحاء من روسيا للضغط على الأطراف الأخرى لمحاولة
الحصول على أكبر كمية من المكاسب نتيجة تدخلها العسكري في سوريا.
أما
الإجتماع الذي عُقد بين السيد الخامنائي والرئيس بوتين فقد جاءت الرواية الرسمية
تؤكد على الثوابت السابقة بأن الشعب السوري هو الذي يقرر مستقبله، ولكن ليس
بالإتجاه الذي تحدث به الرئيس السوري.
نخلص إلى
القول أنه ليس أمام الرئيس الروسي خيار إلا الإنتصار في سوريا. فهذا يجعله في موقف
تفاوضي قوي أمام الغرب للوصول إلى إلغاء العقوبات الإقتصادية المفروضة على بلاده
والتي جددها الغرب لمدة ستة أشهر إضافية. وهذا يتطلب بالإضافة إلى الإنتصار على
الإرهاب المتوافق عليه، إمساك الورقة التفاوضية للسلطة السورية، مضافاً إليها
مقدرته على التفاوض مع المعارضة السورية التي سيتم التوافق عليها في السعودية
منتصف الشهر المقبل.
أما
الخيار الآخر فهو الغوص بوحول الأزمة السورية التي من المرجح أن توصل روسيا إلى
أزمة إقتصادية خانقة.
أما
الميزة الثانية للوضع الدولي الراهن، فهي وصول الإرهاب إلى قلب أوروبا. لم يكتف
الإرهابيون بإسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء (حسب الرواية الأمريكية والروسية
والداعشية/الدولة الإسلامية)، والتي خلفت 224 قتيلاً، جميعهم من الروس، بل امتد
إرهابهم إلى قلب العاصمة الفرنسية باريس، حيث سقط 130 قتيل حسب الرواية الرسمية
والكثير من الجرحى.
الذين
قاموا بهذه العملية الإرهابية والإعتداء على المجلة الساقطة شارلي إيبدو كانوا
فرنسيي المولد والتربية أو من بلجيكا. ولكن السلطات الفرنسية والبلجيكية قررت
القيام بعمليات مداهمة واعتقال على الشبهة مثل أكثر الأنظمة شمولية في العالم. إلى
جانب ذلك قرر الرئيس الفرنسي المشاركة الفعالة في الإغارة على الشعب السوري
والإرهابيين حسب زعمه، وأرسل حاملة الطائرات شارل ديغول إلى البحر المتوسط حيث
باشرت عمليات الإغارة في العراق وسوريا.
هل هذه
القرارات صائبة وخاصة بعد تكرار الإحتجاجات التي يقوم بها سكان الأحياء والضواحي
المهملة في المدن الأوروبية والفرنسية بشكل خاص؟ لماذا الإصرار على عدم اعتبار
الفرنسيين من أصل مغاربي وكأنهم غير فرنسيين حتى وإن كانوا من الجيل الثالث،
وأكثرية هؤلاء الساحقة لا يعرفون اللغة العربية ولا يعرفون بلاد جدودهم الأصلية؟
الأزمات
التي أوجدتها العولمة النيوليبيرالية، وأهمها فقدان الهوية القومية والوطنية،
افتقاد رأس المال لهوية وطنية، التعويض عن الكمية المفترضة للربح بعد الأزمات التي
مرت بها دول العالم الأول، كل هذا دفع المسؤولين إلى أن يمدوا أيديهم إلى المكاسب
التي كانت الطبقة العاملة قد حققتها عبر السنين وأهمها الضمان الإجتماعي والصحي
كما يحصل اليوم في اليونان وفي الولايات المتحدة (عدم إقرار أوباما كير)، ورفع سن
التقاعد في فرنسا من 60 إلى 64 سنة...إلخ. أن يضيفوا إلى هذه "الأعباء"
عبء تأمين حياة مستقرة في الأحياء الشعبية، يبدو أن هذا مستحيل. فلا بأس من
استبدال ذلك بحروب تشغل الآلة العسكرية فتحصل الطبقة الناهبة على أكثر من استثمار
في دماء الأوروبيين والسوريين أيضاً.
الحكومة
الفرنسية لا تريد أن تجد الحلول للمهمشين، لذلك هي تشغلهم عند الإستخبارات كما كان
يفعل المعلم الأكبر نابوليون. ويعيشون على المال الملوث. اليس مما يسترعي الإنتباه
أن جميع من قام بالعمليات لديهم ملفات أمنية عند السلطات المختصة؟ من أجل ذلك رأت
السلطات المختصة أن تستغل هذه الحوادث للوصول إلى ترتيبات جديدة لكيفية الحياة في
بلادها. منها على سبيل المثال:
·
تشديد القبضة الأمنية على الجميع وخاصة ذوي الأصول الغير أوروبية
والمسلمون منهم بصورة شبه حصرية.
·
مصادرة كم لا بأس به من الحريات الديموقراطية بحجة حفظ الأمن. ولا
ننسى أن مؤتمر المناخ على الأبواب.
·
من الممكن أن تطال هذه الإجراءات فضاء شينغن وهو التطور الأهم بأوربة
الدول الأوروبية.
·
وبما أن أوروبا لا يمكنها الإستغناء عن اليد العاملة الأجنبية، فمن
الممكن أن تُستغل هذه الحمى الأمنية في إعادة استعباد الطبقة العاملة، وخاصة
المهاجرة منها (الكفيل على سبيل المثال).
·
وحتى لا نسير في اتجاه واحد، أليس من الممكن خلق توافق جديد بين
أوروبا وروسيا على أن تكون الأخيرة خزان الطاقة والقبضة العسكرية للإتحاد
الأوروبي!
وحتى
ننهي، نقول بأن المشهد الدولي الحالي يبدو وكأن أمريكا تتفرج على أوروبا المضطربة
لأسبابها الخاصة وبسبب الإضطراب على حدودها الجنوبية. أوروبا، بما فيها روسيا لا
يمكنها إيجاد حلول لهذه المشاكل لوحدها، حتى مع الضعف الأميركي الحالي. وكأن ضعف
المركز يؤدي بشكل أو بآخر إلى ضعف الأطراف!
23 تشرين الثاني 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق