بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

السبت، 23 يناير 2016

الحوار

                             الحوار
حسن ملاط
سيظل الناس مختلفين ما زالوا على وجه الأرض. وهذه الخلافات، لا بد من حلها. والحلول إما أن تكون عبر الحوار وإما بالعنف. ولكن البدء بالعنف غالباً ما يكون خاطئاً، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. من أجل ذلك، كان الحوار أو الجدال أولوية دائماً لمن أراد أن يحافظ على لحمة المجتمع. والحوار أو الجدال يكون إما بين اثنين، وإما بين دول أو أحزاب، أو بين الإنسان ونفسه. وحتى أن هناك حواراً بين رب العزة والشيطان. فما بال بعض الناس أو الأحزاب تُعلن على الملأ، إما أن تحاور نفسها أو لا تحاور من يختلف معها!
حوار رب العزة مع الشيطان
جاء في كتاب الله عز وجل، الحوار التالي: "قَالَ (الله تبارك وتعالى) مَا مَنَعَكَ (إبليس) أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ. قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ. قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ. قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ".
وفي هذا دلالة على أن الحوار مع شياطين الإنس يكون أحياناً ضرورياً. وتحديد الضرورة يعود إلى الظروف الواقعية التي تمر فيها حركة الإنسان الذي يريد التغيير لما فيه صالح الناس.
موضوع الحوار
أما موضوع الحوار، فلا يكون إلا بما يمكن الوصول عبره إلى نتيجة ما. فهناك مواضيع لا يمكن النقاش فيها، أي لا تكون موضوعاً للنقاش، مثال تخلي الإنسان عن عقيدته إكراماً لإنسان آخر. وفي حال قبول أي طرف بهكذا حوار يكون عملياً قد غير انتماءه وتموضعه ولا ضرورة عندها للحوار. فهذا يدخل عندها في نطاق الدعوة وليس الحوار بين مختلفين.
في المثال التالي، نرى بأن موضوع الحوار عندما لا يكون واقعياً ينتفي الحوار أصلاً. جاء في كتاب الله عز وجل: "وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ". (جاء في اللسان: وروى ابن شميل عن الخليل بن أحمد أنه قال: المحال الكلام لغير شيء، والمستقيم كلام لشيء). هنا موضوع الجدال هو الله تبارك وتعالى، وهذا ليس من نطاق معرفة الإنسان. لذا لا يمكن النقاش فيه. لذلك قال عز وجل: وهو شديد المحال.
من أجل ذلك، من الضرورة تحديد موضوع النقاش، والقوى التي يمكنها المشاركة، حتى يكون الحوار منتجاً.
كيفية الجدال
جاء في كتاب الله: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ".
وجاء أيضاً: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ".
القاعدة العامة للحوار هي بالتي هي أحسن، سواء كان الطرف الآخر مشركاً أو من أهل الكتاب. أما بالنسبة لأهل الكتاب على التخصيص فلا يكون إلا بالتي هي أحسن.
في الحديبية، قبل أن يحاور النبي صلى الله عليه وسلم مشركي قريش، العدو المعلن للمسلمين، بايع المسلمون النبي على القتال. جاء في كتاب الله: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ"... ثم يضيف: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا". وراح بعد ذلك إلى الحوار. جاء في السيرة المطهرة: "ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم : هات اكتب بيننا وبينك كتاباً ، فدعا الكاتب -وهوعلي بن أبي طالب - فقال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل : أما الرحمن، فما أدري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب : باسمك اللهم، ثم قال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن  البيت، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال: إني رسول الله، وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله، ثم تمت كتابة الصحيفة".
هذه التنازلات التي قدمها النبي صلى الله عليه وسلم للأعداء، لم تكن أساسية، لذلك لم يقف عندها. فهو تمكن من الوصول إلى ما يصبو إليه وهو اعتراف المشركين بكيان المسلمين المستقل عن العصبية القبلية وبحقهم بالحج إلى بيت الله الحرام حتى وإن كان بعد سنة.
هذا مع الأعداء، أما مع نصارى نجران، فلم يجهز للقتال معهم، إنما حواره معهم كان في المسجد النبوي. وعندما لم يتم الإتفاق دعاهم للمباهلة، لأنهم ليسوا أعداء. جاء في كتاب الله تبارك وتعالى: "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ". والمباهلة عملياً هي دعوة الله عز وجل لإظهار الحق من الباطل.
ولكن من دون شك، هناك مرحلة سابقة على المباهلة وهي الدعوة. جاء في كتاب الله: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ".
دعوة الآخر
هذا بالنسبة للحوار على صعيد الجماعات، جماعة المؤمنين مع جماعة الكافرين. أما بالنسبة للحوار مع الآخر الفرد، فيكون بإظهار الحجة الدامغة. ذلك أن الحوار بين شخصين ليس بحاجة إلى دراسة ميزان القوى بين الطرفين، إنما يحتاج إلى مقارعة الحجة بالحجة. جاء في الكتاب العزيز:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ". خسر الكافر الحوار لأن حجة إبراهيم عليه السلام كانت دامغة بلجوئه إلى الآيات الكونية الثابتة منذ زمن بعيد.
الحوار مع النفس
توصل إبراهيم بحواره مع نفسه وبتوفيق من الله إلى ضرورة التوجه بالعبادة إليه عز وجل. جاء في كتاب الله: " وكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ".
بعد اليقين الذي توصل إليه، أصبح مرتاحاً لحوار قومه. جاء في الكتاب الكريم: "وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ. وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ".
وهكذا نرى بأن لا حجة لأحد بعدم حوار الآخر، خاصة أن استخدام السلاح في الساحة الداخلية لا يفيد إلا العدو.
                                            23 كانون الثاني 2016
hassanmallat.blogspot.com











ليست هناك تعليقات: