حسن ملاط
لا نريد تتبع النصائح التي
أسداها الكثير من الكتاب الصحافيين العرب والأجانب للإدارة الأمريكية في معالجتها
للأحداث التي تجري في إقليمنا. فهذه المهمة مستحيلة! لقد بين الرئيس أوباما عقيدته
في قيادة الولايات المتحدة بشكل مفصل في حديثه مع مجلة أتلانتيك، وبين أن جميع
القرارات التي اتخذها في جميع بقاع الأرض كانت تتوافق مع رؤيته. وبالرغم من ذلك،
لا يزال الكثير من الكتاب يقولون بأن أوباما غير حاسم في قراراته!
نحن نرى بأن ما تقوم به
الإدارة الأمريكية يستجيب بشكل فعلي لسياستها في منطقتنا.
إن الثابتة الأولى في
السياسة الأمريكية هي حماية الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين. وحماية هذا
الكيان يتطلب مساعدته مادياً، وعليه فقد رفعت المساعدة السنوية من ثلاثة مليارات
دولاراً بمقدار 800مليون دولاراً سنوياً. وهي ساهمت بحض الدول العربية، وخاصة
الخليجية منها، على تطبيع علاقاتها مع هذا الكيان. أما الأهم الذي فعلته الولايات
المتحدة فهو إخواء الدول العربية من تماسكها الداخلي، بحيث تصبح هذه الدول فاقدة
لأية فعالية.
ليس هذا فحسب، بل إنها تريد
منع قيام أي تكتل لا تتطابق سياسته مع سياستها. والمؤشرات على هذه السياسة بدت
واضحة في تصريحها الأخير عن الوجود العسكري التركي في الأراضي العراقية: "قال مسؤول في الخارجية
الأميركية لـ «الحياة»، إن القوات التركية الموجودة قرب الموصل «ليست جزءاً من
التحالف الدولي». ودعا «كل جيران العراق إلى احترام سيادته ووحدة أراضيه»، كما دعا
بغداد وأنقرة إلى الحوار «للوصول إلى حل سريع لهذه المسألة والتركيز على عدوهما
المشترك داعش، فعلى جميع الأطراف التنسيق بشكل وثيق لتوحيد الجهود في المعركة".
وشددت وزارة الخارجية الأميركية في بيان، على أن «على كل القوات الدولية التنسيق
مع الحكومة، برعاية التحالف». وقال الناطق باسم وزارة الدفاع (البنتاغون) جيف
ديفيس، إن «العراق دولة ذات سيادة، وأي قوات على الأرض يجب أن تأخذ موافقة حكومته".
ما هي دلالات هذا البيان؟
علينا التذكير أولاً بأن
تركيا هي عضو أساسي في حلف الناتو. كما وأنها حليفة موثوقة للولايات المتحدة، وأن
دخول قواتها إلى سورية حظي بتغطية أمريكية، علماً أنه كان مستحيلاً من دون التنسيق
مع القيادة الروسية. كما ولا بد من التذكير أيضاً أن حرب تركيا مع داعش أدت إلى
اعتبارها من قبل الإدارة الأمريكية أنها من ضمن التحالف، بالرغم من تناقض موقفيهما
من قوات الحماية الكردية التي تعتبرها تركيا إرهابية مثل البي كا كا، في حين
تعتبرها أمريكا حليفة وتسلحها وترعاها أيضاً.
من المعروف أنه منذ أكثر من
سنة كانت القوات التركية في بعشيقة وتقوم بعملية تدريب للقوات الكردية من
البيشمركة وبتدريب بعض الأطراف العراقية "السنية". عندما أرادت تركيا
زيادة عدد هذه القوات، عندما طُرحت مسألة تحرير الموصل بصورة جدية، اعترض العبادي
على هذا الموضوع وطلب انسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية. لم تُعلن يومها
الإدارة الأمريكية أن القوات التركية ليست من ضمن التحالف الدولي الذي يحارب داعش.
ولكن العكس هو الصحيح، فعندما كانت تُعلن القوات الموالية لإيران أن تركيا حليفة
لداعش، كانت الإدارة الأمريكية تنفي ذلك. ما الذي استُجد حتى أعلنت أمريكا أن
تركيا خارج التحالف وأن عليها أخذ إذن السلطات العراقية في حال تريد الإحتفاظ
بقواتها في "بعشيقة" أو المشاركة بعملية تحرير الموصل؟
1- عند فشل المحاولة الإنقلابية في
تركيا، تبين أن القوات العسكرية المشاركة في هذه المحاولة تنتمي إلى الألوية
الثلاثة التي تتدرب مع الجيش الأمريكي.
2-
لم يتصل أي مسؤول من الإدارة الأمريكية بالقيادة التركية مستنكراً هذه المحاولة
الإنقلابية.
3-
كان الرئيس بوتين هو أول المتصلين بأردوغان مهنئاً إياه بالسلامة لأن الإنقلابيين
حاولوا قتله ولم ينجحوا بذلك. وكان الإتصال الثاني من الرئيس الإيراني. هذا مع
العلم أن التوتر هو الذي كان يسود العلاقات السياسية بين كل من روسيا وإيران من جهة
وتركيا من جهة ثانية بسبب الموقف من سورية.
4-
شنت الإدارة الأمريكية وصحفها إلى جانب حلفائها الغربيين حملة مركزة على السلطات
التركية بسبب حملة التطهير التي قامت بها الأخيرة ضد الإنقلابيين. كما أن أمريكا
رفضت تسليم غولن المتهم الرئيس من قبل تركيا بالمحاولة الإنقلابية، والموجود في
الولايات المتحدة الأمريكية.
5-
جاهرت تركيا باتهامها للإدارة الأمريكية بالضلوع بالمحاولة الإنقلابية، بشكل أو
بآخر، وبادرت فوراً إلى تحسين علاقاتها مع روسيا وإيران بشكل لافت. فقد عادت
العلاقات الإقتصادية المقطوعة بين روسيا وتركيا إلى سابق عهدها، وتم التوقيع على
البدء بتنفيذ مد أنابيب الغاز في البحر الأسود...إلخ وزار أردوغان بوتين ورد
الأخير الزيارة. أما على الصعيد الإيراني فقد زار ظريف، وزير الخارجية الإيراني،
تركيا ثلاث مرات خلال شهر واحد...
علينا
النظر إلى تصريح الخارجية الأمريكية من ضمن هذه المعطيات جميعها. ليس هذا فحسب، بل
علينا أن نُضيف أيضاً، أن الكلام عن تحالف أو تفاهم وتنسيق بين روسيا وتركيا
وإيران كان ولا يزال جدياً.
أ- دخلت القوات التركية سورية بعد تفاهم
مع روسيا وإيران. فهذان الطرفان اللذان يشاركان بنشاط في الحرب الدائرة في سورية
لم يتفوها بكلمة عن التدخل التركي، علماً أنه كان ممنوعاً على الطيران التركي
التحليق في الأجواء السورية.
ب-
ما
أن أعلنت السلطات العراقية موقفها من الوجود العسكري التركي وصمت الطرف الإيراني،
حتى سارعت المملكة العربية السعودية إلى تلقف الموضوع وفتح طريقاً واسعاً للعلاقات
البينية الخليجية التركية. وهذه هي التطورات التي حصلت خلال فترة وجيزة جداً:
1-
اعتبر مجلس التعاون
الخليجي، منظمة "فتح الله غولن"، الضالعة في محاولة الانقلاب الفاشلة
بتركيا منتصف يوليو/تموز الماضي، "منظمة إرهابية".
3-
استقبل
العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وزيري الخارجية والاقتصاد
التركيين مولود جاويش أوغلو، ونهاد زيبكجي، على هامش زيارة يقومان بها للرياض.
وقالت وكالة الأنباء السعودية (واس)
إن اللقاء جرى في مكتب العاهل السعودي بقصر اليمامة في العاصمة الرياض،
و"استعرض العلاقات الثنائية، وآفاق التعاون بين البلدين الشقيقين في مختلف
المجالات".
هذا على صعيد العلاقات التركية الخليجية. أما
على صعيد العلاقات التركية مع الكيان الصهيوني، فقد قال وزير طاقة الكيان
الصهيوني "يوفال ستينيتز"، إن الأخيرة تفكر في نقل الغاز الطبيعي إلى
القارة الأوروبية عبر تركيا.
كما وأن الكيان الصهيوني، مساهمة منه بتخفيف
الحرج عن إردوغان، فقد بحث وزبر الطاقة والموارد الطبيعية التركي، براءات
ألبيرق، مع نظيره الإسرائيلي، يوفال ستينيتز، سبل توفير الكهرباء للفلسطينيين، بما
في ذلك محطتي الطاقة الكهربائية في جنين وغزة.
كيف يمكن الربط بين جميع هذه المعطيات؟
بعد مرور أشهر على المحاولة الإنقلابية، لا تزال أنقرة
تُصعد ضد الولايات المتحدة لعدم تسليمها غولن من أجل محاكمته. فقد قال المتحدث
باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين إن المسؤولين الأمريكيين لم يدركوا على ما
يبدو جدية طلب تركيا تسليم رجل الدين فتح الله كولن الذي تنحي أنقرة باللائمة عليه
في تدبير انقلاب فاشل في يوليو تموز. وهذا يعني أن الخط التي تمشي فيه تركيا بتوثيق علاقاتها مع روسيا
وإيران لا زال مستمراً. فما كان من الإدارة الأمريكية إلا أن زرعت إسفيناً في هذه
العلاقات بتأييدها إيران على تركيا في المسألة العراقية، باعتبارها التدخل التركي
غير قانوني. وسكوت إيران على التصريح الأمريكي يعني القبول بمضمونه. وبما أن
الموصل الذي تملك حدوداً مشتركة مع تركيا، والتي تضم الجالية الأكبر من أصول تركية
كما وأن أكثريتها "سنية" وليست "شيعية"، يجعل تراجع تركيا عن
التدخل مسنحيلاً. وإذا كانت إيران بصراعها مع السعودية تحت العنوان المذهبي يجعل
تأييدها لتركيا شبه مستحيل، تكون أمريكا قد تمكنت من منع تطور العلاقات السياسية
بين إيران وتركيا. علماً أن إيران بإمكانها السكوت عن التدخل التركي في الموصل كما
سكتت تركيا عن التغييرات الديموغرافية التي قامت بها إيران في ديالى العراقية
المحاذية لحدودها من تهجير لسنة هذه المحافظة واستبدال سكانها بسكان شيعة من أصول
إيرانية وأفغانية وغيرها.
إن انفتاح الدول الخليجية على تركيا، وكذلك الكيان
الصهيوني فيه إغواء لتركيا بعدم الإنخراط بمحور إيراني روسي بعيداً عن أمريكا،
الحليف التاريخي، لما لهذا الإنفتاح من تحقيق لمصالح إقتصادية واعدة. هذا، بالرغم
من تأكيد الرئيس التركي على عدم وجود أطماع تركية في الأراضي العراقية. أكد
أردوغان على أن "تركيا ليست لديها مطامع ولا في شبر واحد من أراضي
وسيادة غيرها، ولا نملك هدفا غير حماية أراضينا وسلامة المسلمين في
المنطقة".... "لا يمكن أن نبقى متفرجين حيال ما يحدث في العراق،
ولا يمكن أن نصم آذاننا لدعوات أشقائنا هناك". هذا النداء يدل على مدى حراجة
الموقف التركي إزاء الأقلية التركمانية في الموصل وكذلك الأكثرية السنية، بعد ما
حصل في صلاح الدين والأنبار على أيدي الميليشيات العراقية التابعة لإيران. ولكن
العبادي لم يرد أن يستمع بسبب تأييد الإدارة الأمريكية لمواقفه وسكوت إيران لما في
موقفه دعم لمصالحها الآنية وليس الاستراتيجية. بدوره وصف المكتب الإعلامي للعبادي
تصريحات أردوغان، "بغير المسؤولة"، معتبرا أن الحديث مع الجانب
التركي "لم يعد مجديا".
ما تقدم يبين أن الإدارة الأمريكية بصدد جر المنطقة إلى مزيد من
التفتيت وإلى منع قيام أي تكتل يملك إمكانية الدفاع عن مصالحه، برشوة هنا أو
بإغواء هناك. وارتباط مصالح جميع الأطراف مع أمريكا بوصفها قائدة العولمة
النيوليبيرالية يجعل مقاومتهم لإملاءاتها ضعيفة. إضافة إلى الإستنزاف الذي يصيب
جميع الأطراف بسبب انخراطهم في الحروب الدائرة سواء في العراق أو سورية أو اليمن.
14
تشرين الأول 2016
هناك تعليقان (2):
تحليل دقيق وواضح
تحليل دقيق وواضح
إرسال تعليق