تقديم
بدأت تتضح الصورة حول الانسحاب الأمريكي من سورية. الانسحاب الذي فسرته بعض
الأطراف التي دفعت غالياً ثمن تدخلها في هذا البلد من دون أن تعرف ما الذي ستجنيه
نتيجة لهذاالتدخل.
وهل صحيح أن الانسحاب المحتمل جاء نتيجة عزوف الادارة الأمريكية عن التدخل
في سورية؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
دعونا نعود إلى الصورة الحقيقية لهذا القرار الذي سيتم "بتمهل"،
حسب ما أدلى به الرئيس الأمريكي.
في البداية، أعلنت الادارة الأمريكية بوضوح أن تدخلها في سورية هو للآطاحة
بالحكومة القائمة الداعمة للإرهاب والحليفة لإيران. كما أن هذه الادارة قدمت بعض
المساعدات الغير نوعية لبعض المنظمات التي كانت تقاتل النظام السوري والقوى
الحليفة له.
بعد وصول القوى المؤيدة للنظام إلى طريق مسدود في قتالها مع المجموعات
المعادية، طلبت إيران من الرئيس الروسي التدخل لدعم النظام من الانهيار.
الروسي لبى النداء مرفقاً بوضع شروط تنتقص من سيادة الدولة السورية على
أراضيها. من هذه الشروط إقامة قاعدة جوية في حميميم لا يحق للجانب السوري الدخول
إليها أو تفتيش ما يدخل إليها أو يخرج منها. كما ولا يحق للجانب السوري معرفة أي
شيء عما يجري داخل القاعدة.
وإلى جانب هذه القاعدة كانت قاعدة طرطوس البحرية. وأهم ما في الاتفاقية،
أنه لا يحق لأي جانب بمفرده إلغاء هذه المعاهدة كما وأنه في حال الاتفاق على
انسحاب القوات الروسية تكون مدة الانسحاب سنة واحدة. ومدة الاتفاقية 40 سنة قابلة
للتجديد.
ليس هذا فحسب، بل إن الجانب الروسي قد وقع اتفاقات اقتصادية مع الجانب
السوري تتعلق باستخراج النفط والغاز وخاصة من البحر الذي لا يشاركه أي طرف في التنقيب
أو الاستخراج. هذا إلى جانب اتفاقات أخرى.
ومن الجدير ذكره أن الجانب الأمريكي لم ينتقد هذه الاتفاقيات ولم يُعلق
عليها بشكل سلبي. وعندما سُئل بريجنسكي عن التواجد الروسي في سورية أبدى عدم
اهتمامه بالموضوع، وأضاف أن بإمكان القوات الأمريكية طرد الروس من المنطقة ولكن
هذا الأمر لا يعنيهم.
أما الإدارة الأمريكية فقد بعثت بخمسين جندياً (مسمار جحا) إلى المنطقة
الشرقية حيث يوجد النفط لتراقب تحركات القوى التي تسميها ارهابية. كما أنها كانت
ترعى القوات الكردية، بالرغم من اعتراض حليفتها تركيا.
بعد تقدم القوات الروسية وقوات النظام، أصبح المطلب الأمريكي منع إيران من
التمدد وإيجاد طريق آمن يمتد من إيران حتى لبنان من أجل نقل السلاح إلى حزب الله.
ومنذ فتح المفاوضات بين تركيا، إيران وروسيا، أصبح المطلب الأمريكي إبعاد
القوات الإيرانية عن الحدود الفلسطينية هي وحزب الله.
أعلن الأمريكي إيقاف أي مساعدات للمعارضات السورية باستثناء قوات الأكراد.
وهذا ما مكن النظام وحلفاءه من الاستيلاء على كثير من الأراضي التي كانت تحت ظل
المعارضة. وقد أيد الجانب الأمريكي المفاوضات الروسية التركية حول المناطق الآمنة
والتزم بها.
أما وأنه يبدو أن جميع الأطراف هي بتوجه إيجاد حل نهائي للوضع السوري،
أعلنت الادارة الأمريكية أنها تلتزم بمطالب العدو الصهيوني بإبعاد القوات
الإيرانية والقوات الموالية لها مسافة أربعين كلم عن الحدود الفلسطينية. أعلنت
روسيا التزامها بتنفيذ هذا المطلب. ثم تغير المطلب الصهيوني إلى إبعاد هذه القوات
100 كلم. التزمت جميع الأطراف بهذه المطالب. ولكن العدو أصبح يطالب بانسحاب القوات
الإيرانية والقوات الحليفة من سورية نهائياً. كما ومنع إيران من نقل الأسلحة لحزب
الله.
أما الموقف الإيراني فقد تطور تبعاً لتبدل المعطيات على الأرض السورية. أعلن
الإيراني أنه موجود في سورية بصورة شرعية بناء لاستدعاء من الحكومة السورية
المعترف بها دولياً. بعد الاعتداءات الصهيونية المتكررة والتي كانت تشترط منع
إقامة قواعد عسكرية إيرانية في سورية، أعلنت إيران على لسان مصادر رسمية أنها لا
تمتلك أية قواعد عسكرية في سورية.
هذا الإعلان يعني تراجعاً من قبل الإيراني إزاء العدو الصهيوني، لأن العدو
لا علاقة له بالعلاقات بين سورية وإيران وطبيعتها.
أما على صعيد علاقتها مع الجانب التركي والروسي، فكان الناظم لهذه العلاقات
هو الاتفاقات البينية التي كانت تحصل بعد الاجتماعات المتكررة بين هذه الأطراف.
الجانب التركي يهمه القضاء على كل إمكانية لتحرك كردي "معادي" من
الأراضي السورية. لم يتجاوب معه الجانب الأمريكي الذي كان يتمسك بالبقاء في سورية.
ولكن الإدارة الأمريكية أعلنت أخيراً ضرورة انسحاب جميع القوات الأجنبية من سورية
باستثناء القوات الروسية. ولكن روسيا أعلنت من جانبها ضرورة انسحاب جميع القوات
الأجنبية بما فيها الروسية أيضاً.
وهذا يعني ضمناً ضرورة انسحاب القوات الإيرانية وحلفائها. في الوقت الذي
قامت به روسيا بتنسيق الوضع في إدلب مع القوات التركية المتواجدة في هذه المدينة.
ماذا يعني الانسحاب الأمريكي؟
انطلاقاً من المعطيات التي أوردناها، بالاضافة إلى الهجمة العربية لحلفاء
أمريكا على تطبيع علاقاتهم مع النظام السوري، يمكننا القول، أن النظام السوري أصبح
مدجناً بالشكل الذي يُرضي الإدارة الأمريكية. ولا يخرج عن هذا الإطار الإيراني
أيضاً الذي صرح مراراً وتكراراً أنه لا قواعد له في سورية. وبما أن الوضع على
الحدود الفلسطينية هادىء، فلم يعد هناك من ضرورة للتواجد الأمريكي.
إن أكثر ما يثير الانتباه هو إعادة تركيز المرتبطين بالنظام السوري وليس بالنظام
الإيراني على عروبة سورية وضرورة إحياء العلاقات العربية... وهذا الخطاب لا يلجأ إليه
النظام إلا عندما يريد إقامة مسافة ما بينه وبين النظام الإيراني.
بكلمة واحدة، الوضع في إقليمنا لم يعد يُشكل أي خشية للإدارة الأمريكية،
لذلك قررت الانسحاب. الإدارة الأمريكية لم تتغير، ولكن بقية الأطراف هي التي
تغيرت.
جميع الأطراف تؤمن بالهيمنة الأمريكية، فهي تقبل بالخضوع من دون مقاومة
رافعة شعار"المجد للدولار"، كما يقول صديقنا العزيز!
31 كانون الأول 2018