مقدمة
يخضع المجتمع اللبناني لحرب
أهلية غير عنيفة، أي لا تُستعمل فيها الأسلحة على أنواعها كما حصل في الحرب التي
اندلعت في 1975. وعدم عنفها لا يعني أنه لا تُمارس فيها الغلبة بين مجموعاتها
الطائفية والمذهبية. فالعلاقات بين الطوائف تتميز بالغلبة كما يقول الدكتور جوزيف
عبد الله. والغلبة لا تعني العنف دائماً. فالغلبة كانت للطبقة السياسية المارونية
عند تأسيس الكيان اللبناني، وبمساعدة الاستعمار الفرنسي الذي كان يسيطر على لبنان
وسورية.
في التحليل
بعد الحرب الأهلية الأولى في
1958 والتي خلقت نوعاً من التوازن بين الطبقة السياسية المارونية ونظيرتها السنية،
مكنت الرئيس فؤاد شهاب من ادخال بعض الإصلاحات لتحديث الإدارة وتحويل لبنان الى
دولة مؤسسات. ولكن الطبقة السياسية المتحكمة بجميع مفاصل الدولة تمكنت من إفشال
محاولة التحديث التي انتهجها الرئيس شهاب. وهكذا عاد الصراع الى عهده السابق، أي
ما قبل فؤاد شهاب.
بعد انتهاء الحرب الأهلية في ال75، انتقلت الغلبة للطائفة السنية نتيجة لعوامل
عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: الوجود الفلسطيني المسلح، تدفق المال
الخليجي الى لبنان والذي تُوج برئاسة رفيق الحريري للحكومة.
بعد انتصار الثورة الإيرانية بزعامة الامام الخميني في 1979 وتأييدها للمقاومة
الفلسطينية ضد كيان العدو الصهيوني، وعملها على تأسيس تنظيم لبناني مقاوم لاحتلال
العدو الصهيوني لأراض لبنانية في الجنوب، تنظيم مستقل عن حركة "أمل" التي
أسسها الامام موسى الصدر، ومرتبط مباشرة بالإدارة الإيرانية، أصبح لإيران الإسلامية
التأثير الأقوى في لبنان، نتيجة الانتصارات التي حققتها المقاومة الإسلامية (حزب
الله) على العدو الصهيوني لا سيما أن الحزب قد حصر المقاومة بنفسه ومنع وجود
مقاومات أخرى. المقاومات التي سبقته في الوجود: البعثيون، الشيوعيون، القوميون
السورين والقوميون العرب والمجاهدون...
بعد انتصار 2000، قرر الحزب، كما مرجعيته الدخول في السلطة السياسية اللبنانية،
سواء في البرلمان أو الحكومة مضافاً اليها الإدارة أيضاً. وبذلك أصبح جزءاً لا
يتجزأ من الطبقة السياسية التي تحكم لبنان: طوائف؟ الأمين العام للحزب قال في خطبه
بعد 2000 أن حزبه يمثل الشيعة هو وحركة أمل!
بعد الحصار على الرئيس رفيق
الحريري والذي مارسه النظام السوري الذي كان يتواجد عسكرياً في لبنان، وبعد عملية
اغتياله في 2005، اُصيبت الطبقة السياسية السنية بانتكاسة كبيرة أدت الى تراجع
دورها واستلام زمام المبادرة من قبل ما يُسمى "الثنائي الشيعي" المتمثل
ب"حزب الله" وحركة "أمل". ذلك، من دون إغفال أن القوة الأولى
في لبنان بعد غياب رفيق الحريري هي لهذا الحزب الذي تمكن من فرض انتخاب العماد
ميشال عون رئيساً للجمهورية بعد تعطيل الانتخابات لأكثر من سنتين.
هل بإمكان الحزب حالياً تعطيل
الانتخابات حتى يأتي بالرئيس الذي يريده كما فعل في 2016 عندما فرض الرئيس عون؟
الإجابة على هذا السؤال تتطلب
التركيز على الدور الفعلي الذي يلعبه الحزب ليس في لبنان فقط، إنما في الإقليم الذي
يضم إلى جانب الدول العربية، تركيا وإيران.
يتواجد الحزب حالياً كقوة تدخل سريع أو كتواجد دائم في جميع الدول التي تمد إيران أذرعتها
إليها: سورية، العراق، اليمن... أي بكلمة واحدة، يقوم الحزب بترجمة السياسة الإيرانية
في الساحات التي يتواجد فيها. لذلك، فأي تراجع في الفعالية الإيرانية يؤثر
ميكانيكياً على قوة الحزب في جميع الساحات التي يتواجد فيها، ذلك أنه عنصر منفعل
في السياسة وليس فاعلاً. هذا ما يفرض علينا أن ندرس فعالية ايران الحقيقية في
ساحتها الداخلية وفي الساحات التي تتواجد فيها من خلال أذرعها، ومنها لبنان.
في العراق، جاءت حكومة السوداني نتيجة صفقة بين ايران والإدارة الأمريكية، وذلك
للقضاء على الروح الاستقلالية التي خلقها تحرك مقتدى الصدر ضد الهيمنة الإيرانية الأمريكية
على السياسة العراقية. ورغم سقوط أكثر من 600 ضحية في المناطق الشيعية ظل الحراك
مستمراً. ولكن تراجع الصدر أدى الى تعثر في إمكانية الاستمرار في الحراك.
أما في سورية، فالعامل الذي أدى الى إيقاف التصادم بين الجهات التي تُعادي استمرار
التواجد الإيراني وتلك التي تريد استمراره، هي الحرب الروسية على أوكرانيا والتي
أدت الى استعانة روسيا بالمسيرات الإيرانية وصواريخها الباليستية.
في لبنان، أدت الانتخابات النيابية الأخيرة الى تراجع قوة حلفاء الحزب في البرلمان
اللبناني. وهذا ما يمنعه من إمكانية فرض ما يريد كما فعل في 2016.
إن ترسيم الحدود البحرية مع العدو الصهيوني، والذي مثّل تراجعاً كارثياً لصالح هذا
العدو، هو أكبر دليل على قناعة داخلية بأن هذا الدور قد تراجع. مع العلم أن قناعتي
الذاتية هي أن التراجع كان نتيجة صفقة إيرانية – أمريكية - صهيونية، لم يكن للحزب
دور فاعل فيها.
نتيجة
هناك سؤال لا بد من الإجابة عليه: لماذا يتراجع الدور الإيراني مع أن حلفاءها لا
يزالون الأقوى في ايران وسورية والعراق واليمن؟
الجواب على هذا السؤال يتمثل باعجاب حكام ايران بأمريكا وبما تُمثل. أي الانهزام
الداخلي أمام مركز العولمة النيوليبيرالية المعادية للشعوب عامة وللشعب الإيراني وشعوبنا
خاصة. هذا مع العلم أن الله يقول: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم...
وقد أسمى المفكر الجزائري مالك بن نبي هذا الوضع بتعبير: القابلية للاستعمار.
القابلية للاستعمار هي رضوخ داخلي عميق للاستعمار كما يراه مالك بن نبي، هذا
الرضوخ ناتج عن إقناع الاستعمار للافراد المستعمَرين (الأهالي) بتفوقه عليهم وعدم
قدرتهم على إدارة شؤون حياتهم بدونه، ودونيتهم في كل شيء. كما يرى مالك بن نبي أن
القابلية للاستعمار قد تكون ناتجة عن الواقعة الاستعمارية أي خضوع شعب ما
للاستعمار، كما قد تكون ناتجة عن صفات عقلية ونفسية ترسخت في أمة معينة نتيجة ظروف
وصيرورة تاريخية معينة، تجعلها تفشل في القيام بفعل المقاومة، وبالتالي الشعور
بالدونية اتجاه الآخر المتفوق حضاريا، ويعتقد بن نبي أن كثير من افراد المجتمع
الإسلامي يعانون من القابلية للاستعمار حتى ولو كانت بلدانهم غير خاضعة للاستعمار.
بعد هذا العرض يُمكننا
التأكيد على أن دور الحزب قد تراجع على الساحة اللبنانية، نتيجة لتراجع الدور الإيراني
داخلياً وخارجياً. ولكن هذا التراجع لم يؤثر على قوة الحزب بشكل يؤدي الى عدم تبوئه
الدور الأول في الساحة اللبنانية.
ولكن هذه القوة لن تمكنه من فرض الرئيس الذي يريده، كما فعل مع العماد عون. إنما
يمكننا أن نؤكد أن الرئيس القادم للبنان، لن يكون الا رئيساً يحظى بموافقة الحزب بالإضافة
الى تأييد قوى أخرى غير حليفة للحزب، إنما متفاهمة معه.
9 كانون الأول (ديسمبر) 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق