بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2008

النظرة الى الرزق

النظرة الى الرزق
حسن ملاط

استكمالا لبحثنا السابق، وحتى يستقيم المعنى لا بد من هذه الاضافة. وعلينا الإشارة إلى أن التداخل اذا ما حصل لا يسسيء الى الهدف من هذه الدراسة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "أللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" و في رواية "كفافا". رواه البخاري والترمذي ومسلم.

الرزق إذا هو ما يتقوى به العبد على العبادة، لأن الله تبارك و تعالى قد خلق الجن و الإنس ليعبدوه. و انطلاقا من هذه المسلّمة يستتبع بالتالي النظر إلى هذه الحياة الدنيا على أنها الدار الفانية دار الممر، وجودنا فيها مؤقت. ولكن هذا الوجود المؤقت هو ميدان الاختبار والامتحان لنا من قبل رب العالمين. فكل ما في هذه الدنيا لا يساوي جناح بعوضة عند الله تبارك وتعالى، وبالرغم من ذلك فهو يجزي عباده الصالحين، رحمة منه بهم بالجنة، دار البقاء والخلود.

رب سائل يسأل: طالما أن مهمة الإنسان هي عبادة الله تبارك وتعالى فهل أن الرزق مساق لمن يعبد الله مخلصا له الدين فقط؟

يقول تبارك وتعالى: "كلاّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك" والمقصود بهؤلاء وهؤلاء من يريد العاجلة ومن يريد الآخرة. ومن يريد العاجلة هم الكفار أما من يريد الآخرة فهم المؤمنون فعطاء الله بالنسبة لجميع الناس ليس محظورا. فالله تبارك وتعالى رب جميع العالمين يرزقهم سواء أرادوا أم لم يردوا ولكن المؤمنين فقط هم الذين يعلمون أن هذا العطاء من الله تبارك وتعالى هو ليتقووا على عبادته. أما الكفار فلهم اعتقادات شتى، إعتقادات ما أنزل الله بها من سلطان. أما الآن وبعد أن عرفنا ما هو معنى الرزق فلننظر ما موقف الانسان من الرزق.

موقف المشركين:

المشركون جميعا يرون بأن الطبيعة هي التي تمدهم بالرزق. فالانسان عندما يعمل يأكل. واذا لم يعمل لا يمكنه الاستمرار في الحياة. لعل هذه النظرة هي التي جعلت هتلر يقضي على المعوقين لأنهم لا يقدمون شيئا للمجتمع. وكأن الحياة هي منة منه يأخذها حين يشاء. ان عدم التفكر في خلق الانسان وخلق الطبيعة هو الذي يؤدي الى هذا الموقف. وإذا أمعنا النظر في هذا الموقف نراه عبثيا أو عدميا لا فرق. هل يمكن أن يكون الانسان قد وجد عبثا؟ هل يمكن أن لا يكون هناك أية حكمة من وجوده؟ ان التفكر في خلق السماوات والأرض، والتفكر في خلق الانسان ووجوده ، إن هذا التفكر يعطينا الجواب على هذه النظرة القاصرة الى الموقف من الرزق.

موقف المؤمنين:

أما بالنسبة للمؤمنين فهناك ثلاثة مواقف بالرغم من أنهم جميعا ينطلقون من أن الله هو معطي الرزق للناس.

أ – هناك فئة من المؤمنين ترى بأن الرزق مكتوب للانسان من قبل أن يوجد على هذه الأرض، وهذا صحيح، إذن ليس العمل ضروريا من أجل تحصيل الرزق. وهذا خطأ.

إن اعتماد هذه الفئة على آيات قرآنية مجتزأة من سياقها الصحيح يجعلها ترى وكأنها تملك مسوغا شرعيا لموقفها. فالله تبارك وتعالى يقول "وما من دابة الا على الله رزقها"، ويقول أيضا "إن الله يرزق من يشاء بغيرحساب". لذلك نراهم يقعدون عن طلب الرزق، أي لا يعملون. اليكم فهم عمر بن الخطاب لما تقدم، وهو الفهم الصحيح: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول أللهم ارزقني وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وأن الله يرزق الناس بعضهم من بعض".

الموقف الثاني:

هذه الفئة التي تنظر الى نفسها وكأنها الأساس في تحصيل الرزق. فهي تعمل، تكد وتجتهد، من دون أن تنظر الى الحلال والحرام في تحصيلها للرزق. فهي تغترف كيفما أمكنها ذلك. علما أن الله تبارك وتعالى قد حرم علينا أعمالا وحلل أخرى. فالتجارة حلال والربا حرام وليست التجارة كالربا كما يحلو للبعض أن يقول. فتحصيل الرزق يجب أن يكون مسورا بالحدود التي أحلها الله تبارك وتعالى. فهذه الفئة هي من "ان هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا".

الموقف الثالث:

وهو الموقف الحنيف. وهذه الفئة هي التي ترى وتعرف أن الرزق هو من عند الله تبارك وتعالى يمن به على عباده الذين يسعون في طلبه. العبد يسعى في طلب الرزق والله هو الذي يعطي. يقول عمر بن الخطاب: "المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض ويتوكل على الله".

ويقول علي عليه السلام: "فالله تكفل لكم بالرزق وأمركم بالعمل".

هل الرزق حسب المفهوم الاسلامي هو غير المال؟

المال: عن أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: إنا أنزلنا المال لاقام الصلاة وإيتاء الزكاة...". وللحديث تتمة. أخرجه الامام أحمد والطبراني.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدينار كنز والدرهم كنز والقيراط كنز". رواه ابن ماجه والحاكم ورواه ابن مردويه عن ابي هريرة.

فالمال إذن هو كل ما يفيض عن الرزق وهو يرد في الأحاديث النبوية الشريفة بلفظ "فضل" والفضل هو ما يفيض عن حاجة الانسان. كما ويرد بلفظ "العفو" كما قال تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين".

ومما لا شك فيه أن المال له أهمية كبيرة في بناء المجتمعات وخاصة المجتمعات الحديثة. وهذا التحديد مفروض علينا سواء أردنا ذلك أم لم نرد. لأن مجتمعنا قد تطور حتى أصبح على الشكل الحاضر من غير إرادتنا. وعلاقاته القائمة مفروضة علينا. وعندما نقول علاقاته فالمقصود بها جميع أشكال هذه العلاقات من سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية ودينية إلخ... ومن يروم بناء مجتمع عليه أن يرى واقع المجتمع الذي يريد تغييره.

إن تراكم المال أو الرأسمال كما يقول علماء الاقتصاد كان عاملا مهما في إيجاد الصناعة وتطويرها. والصناعة كما نعلم هي مهمة جدا في المجتمعات القائمة. ولا أعني بالصناعة صناعة أجهزة الكمبيوتر مثلا ولكن يمكن أن أعني صناعة الجرار الزراعي أو صناعة القدر. وكل هذه الصناعات هي بحاجة لرأسمال.

ولكن ما يحدد طبيعة رأس المال هو الدور الذي يلعبه هذا المال.

يقول علماء الاقتصاد أن للمال آلية خاصة به لا دخل للإنسان بها. فللرأسمال تطور خاص به. إن هذا الكلام صحيح في المجتمعات البورجوازية، الرأسمالية أو الاشتراكية. ولكن هذا الكلام عن الآلية الخاصة للرأسمال لا يمكن أن يصح في المجتمع الاسلامي. وعندما أقول المجتمع الإسلامي أعني المجتمع الذي يلتزم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

سوف نرى الآن كيف أن الاسلام لا يترك لهذا المال الفرصة لأن يكون له كيانا خاصا. يقول تبارك وتعالى: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين". (التوبة 24).

ويقول تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة فبشرهم بعذاب أليم. يوم تحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون". (التوبة 34 ، 35).



إن السياق القرآني في الآية الأولى فيه تحريض ضد حب المال. فالمال وسيلة وليس غاية. علما أن المال أي مال هو ملك لله تبارك وتعالى فهو المالك الحقيقي والإنسان مستخلف على كل ما يملك. فملكية الإنسان وظيفة اجتماعية في المجتمع الإسلامي يحاسب عليها من قبل رب العالمين. فالخالق يعلم أن الإنسان يحب المال فعليه العمل حتى لا يستعبده. فالمال وسيلة وليس غاية. وبما أن للمال وظيفة اجتماعية لذلك نرى سياق الآية الثانية مختلف عن الأولى. فسياق الثانية يحرض المؤمنين على أن لا يكتنزوا المال ويوظفوه في سبيل الله. والتوظيف في سبيل الله في دار الإسلام هو بالطريقة التي تجلب الخير للمجتمع الإسلامي، ليس هذا فحسب بل إنّ اكتنازه نتيجته عسيرة جدا يوم القيامة.

فهل من مالك المال مؤمن يجرؤ على اكتناز مال ولا يوظفه في سبيل الله؟ ولا ينفقه في سبيل الله؟.

عن سلمة بن الأكوع قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بجنازة ثم أتي بأخرى فقال: هل ترك من دين؟ قالوا: لا. قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: نعم ثلاثة دنانير. فقال: بأصابعه ثلاثة كيات. رواه أحمد ونحوه البخاري وابن حبان.

أين آلية رأس المال فيما نرى من نظرة الإسلام للمال. إن آلية رأس المال التي يتحدث عنها الاقتصاديون ناتجة عن تخلي الإنسان عن إنسانيته، عن حياته وإعطائها للرأسمال من دون مقابل. بينما الإسلام يرى بأن الإنسان هو القيمة الحقة لذلك لا يمكن أن يعطى المال الحرية في التصرف باستقلال عن الإنسان. ولا أخال الأحبار والرهبان الذين تحدثت عنهم الآية الكريمة الثانية إلا رجال الدين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذلك بجعلهم القيمة الحقيقية للرأسمال وليس للإنسان.

نلخص ما تقدم: المال حسب أحبار ورهبان الاقتصاد له آلية خاصة، أي أن المال يكون معاد للمجتمع. المال حسب النظرية الإسلامية له وظيفة اجتماعية وهو إنفاقه في سبيل الله. والإنفاق له أوجه عديدة منها بناء المصانع أو استصلاح الأراضي أو إعالة اليتيم أو صدقة لمسكين أما اكتناز المال فجزاؤه الاكتواء به يوم القيامة.

إن كلامنا عن الرزق وعن المال لا يمكن أن يأخذ أبعاده الحقيقية إلا إذا ربطناه بالاستهلاك وبالزهد.

الاستهلاك: نقول عن مجتمع مجتمعاً إنتاجياً إذا اعتمد على نفسه في إنتاج ما يستهلكه. ونقول عن المجتمع استهلاكياً إذا اعتمد على غيره في ما يستهلك أو اذا أنتج السلع الكمالية قبل انتاجه للضرورات.

ولكن الرسول الأعظم قد أعطى الاستهلاك معنىً أوسع وأشمل من كل ما يمكنه أن يخطر ببال، صلى الله عليه وسلم: عن عبادة عن أنس بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي: الإشراك بالله. أما إني لست أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية"، الترغيب والترهيب ورواه ابن ماجه عن عامر بن عبد الله.

تصوروا مجتمعاً لا ينتج قمحاً ويزرع الحشيشة والأفيون. تصوروا مجتمعاً يؤمن بالله ورسوله يستورد الراديو والفيديو والكمبيوتر ولا ينتج خبزاً ولا يستصلح الأراضي. أليس هذا الشرك. هذه مفاهيم المجتمع الاستهلاكي.

المجتمع الاستهلاكي هو المجتمع الذي يعرف الضرورات وهي المآكل والملبس والمسكن والعلم والعمل، ولا ينتجها. المجتمع المسلم يؤمن هذه الضرورات ومن ثم يمكنه الاتجاه إلى إنتاج ما دون ذلك ولكن قبل ذلك لا يحق له إنتاج إلا ما هو ضروري. فالمسكن من الضرورات ولكن بناء مساكن ليست للسكن منهي عنه. وهذا واضح في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

عن أم الوليد بنت عمر قالت: اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عشية فقال: “يا أيها الناس ألا تستحيون؟ قالوا ممَ ذلك يا رسول الله؟ قال: تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تعمرون وتأملون ما لا تدركون. ألا تستحيون من ذلك". رواه الطبراني.

علينا أن نستحي إذا جمعنا ما لا نأكل. أين الحياء عندنا الآن ونحن لا نجمع ما نأكل بل نجمع ما يبعدنا عن الله مسافات ومسافات. وإذا زرعنا فلا نزرع ما نأكل بل نزرع ما نضر به أنفسنا وغيرنا، ما نفسد به نفسنا وغيرنا. هذا هو الاستهلاك بعينه والذي نهينا عنه.

الزهد: عن أبي ذر الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال وإضاعة المال..."، وللحديث تتمة رواه الترمذي وابن ماجة.

فالزهد حسب المفهوم الإسلامي هو وضع كل شيء بمكانه كما يريد الله ورسوله.

الزهد على الصعيد الاجتماعي هو أولاً الاتجاه إلى تأمين الضرورات الأولية لهذا المجتمع والاستغناء عن ما هو غير ضروري. ليس من المحرمات أن يأكل الإنسان المسلم أطيب المأكولات، ولكنه ليس مستساغاً أبدا أن يأكل الإنسان الطعام الشهي، وأخوه المسلم بجانبه لا يمكنه تأمين لقمة العيش. فالزهد هنا هو بالتخلي عن بعض كمالياته لتأمين ضرورات غيره، وهذا من الحلال المحبب إلى الله ورسوله. هذا على الصعيد الفردي، أما على الصعيد الاجتماعي فالمسلم مستخلف في هذه الدنيا. عليه بناء دار الإسلام، بناء الدار التي يرتضيها الله ورسوله للمؤمنين، بناء الدار التي شعارها: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

أما ثنائية الزهد/الاستهلاك، فهي تعني قمع الاستهلاك حتى يكون له الحيز الأصغر في حياة المجتمع لحساب الزهد. كما هو في ثنائية الرزق/المال، أي بتصغير الحيز الذي يشغله المال لصالح الرزق.

ما تقدم يعني أن المجتمع الإسلامي يرتقي بمجموعه. نموه نمو طبيعي، لا نمو سرطاني كالمجتمعات الشيوعية أو المجتمعات الرأسمالية.

من كل ما تقدم نصل إلى النتيجة التالية: إن نظرة الإنسان إلى الرزق هي التي تحدد مساره. إن كان متوافقا مع فطرته سار في مسار الإسلام، وإن لم يكن متوافقا مع فطرته سار في مسار السبل.

يقول تبارك وتعالى: "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك".
حسن ملاط
العرب والعولمة العدد 39

ليست هناك تعليقات: