بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2008

المجتمع الاستهلاكي

المجتمع الاستهلاكي
"ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين"، قرآن كريم

يكاد المتبصر يرى بأن قيم المجتمع الاستهلاكي مناقضة تماما لقيم مجتمعاتنا الشرقية بصورة عامة، ولقيم المجتمع الإسلامي بصورة خاصة. إن الميزة الأساسية للمجتمع الاستهلاكي هي استحداثه لمتطلبات جديدة ومتجددة باستمرار. والأهم، أن هذه المتطلبات ليست من الحاجات أو الضرورات. بل إن الأساليب التي يتبعها القائمون على الترويج لها يجعلوها أو يصوروها وكأنها من الضرورات أو الحاجات. يقول تبارك وتعالى في كتابه العزيز، مخاطبا آدم وجميع الناس في آن: "اسكن أنت وزوجك الجنة". ويقول أيضا: "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، ولا تظمأ ولا تضحى". كما ويقول أيضا: "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم". إن ما تقدم يحدد الضرورات التي لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها حتى يستمر في حياته في المجتمع. وهي: المسكن والملبس والمأكل والمشرب والعلم.

إذا كان الإنسان يريد أن يعيش حياة مستقرة فما عليه الا أن يبدأ بتأمين الضرورات، فالحاجات ومن ثم الكماليات. وأما خلاف ذلك، فيعني أن هناك خللا يتطلب المعالجة. ان ما يحصل اليوم، حتى في البيئات الأكثر فقرا أن زجاجة المشروبات الغازية تسبق الى طاولة الطعام ما هو ضروري للتغذية. وهذه الزجاجة تكون بيبسي أو كوكا تبعا لجمال الدعاية وجاذبيتها. ولا حاجة للتذكير بأن وجود هذه الزجاجة على الطاولة لا ضرورة له اطلاقا.

أما الأخطر مما تقدم هو تلك الدراسة التي أجريت في بعض الدول الإفريقية الأكثر فقرا. فقد تبين من هذه الدراسة أن المزارع الإفريقي يبيع الحليب الذي ينتجه من أجل شراء زجاجة المشروب الغازي. أي أنه يستبدل الذي أدنى بالذي هو خير. فكلنا يعلم أن الحليب ضروري لصحة المزارع الذي باعه، كما وأنه كذلك لأولاده. فنراه قد تخلى عنه من أجل شيء سوف يسبب المرض بدل الصحة.

ما علينا فعله هو دراسة الأسباب التي جعلت هذا المزارع وأمثاله التصرف على النحو الذي تقدمنا به. وبعدها علينا اقتراح الحلول التي تخلص هؤلاء من هذه الآفات.

إن استمرار آلة النهب والسلب في الدوران يتطلب الاسراع بما يسمى "دورة الرأسمال". أي عندما يتحول رأسمال إلى سلعة، يجب أن يعود الى وضعه السابق، أي أن يتحول مجددا الى رأسمال، ولكن بسرعة كبيرة. وهذا بالتالي يتطلب جهازا كبيرا يقوم على بث الدعاية والإعلان حتى يتم استهلاك هذه السلع لتعود عجلة الانتاج الى الحركة.

يذهب الطفل الى المخزن لشراء بعض الحاجيات لوالدته، فيجد أمامه على طاولة البائع عشرات الأنواع من العلكة والشوكولاته والمشروبات، فان لم يعجبه هذا النوع فسوف يعجبه آخر. فلديه الكثير الكثير من الخيارات. فسوف يكون واعيا ان اشترى ما تريده والدته بدلا من أن يشتري ما تريده الدعاية والإعلان منه. والأغلب أنه يشتري ما يضره وما لا ينفعه. ليس الطفل وحده من يفعل ذلك، فالإنسان الراشد يفعل الشيء نفسه. فشراء سلعة ما، عندما تسود قيم المجتمع الاستهلاكي، لا يرتبط بمدى الحاجة إليها، إنما هو مرتبط بشكل عرض هذه السلعة في الدعاية والإعلان، أو بطريقة عرضها أو تقديمها للجمهور. أما مدى الحاجة اليها فمكانه يأتي في المؤخرة.

ما تقدم يذكرنا بما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجنة محفوفة بالمكاره وأن جهنم قد حفت بالشهوات. أي بصيغة أخرى فان المجتمع الاستهلاكي الذي لا يقوم الا على خلق شهوات لا حصر لها، سوف يسهل الدخول الى جهنم لمن أراد.

هل من سبيل الى مجابهة ذلك؟ نقول نعم. و"نعم" هذه مرتبطة بإرادة الإنسان وإرادة المجتمع. فهي مرتبطة بإرادة الإنسان الذي يرى بأن خلاصه مما هو فيه لا يمكن أن يكون فرديا. لأن الانسان لا يعيش وحيدا في المجتمع. انما هو جزء من جسم أكبر. أي عندما يحدد الفرد موضعه في هذا الكون، عندها يمكنه أن يختار النهج الذي عليه أن يسير فيه حتى يتمكن من تأمين سعادته. فالانسان مفطور على الاتجاه نحو تأمين سعادته. ولكن ما يختلف فيه الناس هو كيفية تأمين هذه السعادة. فقيم المجتمع الغربي الرأسمالي ترى بأن تأمين السعادة يكون فرديا. أي لا يهم ان انت دست على جميع القيم الاجتماعية، ان كان ذلك يؤمن منفعة لك. أما في مجتمعاتنا فالقيم لها الدور الرئيس في اختيار الفرد للمنهج الحياتي الذي سوف يسير عليه.

مر المسلمون بحالة من البؤس الشديد عندما كان هؤلاء يعملون على بناء مجتمعهم الخاص بهم. فهم تخلوا عن الكثير الكثير مما كانوا ينعمون به حتى يتمكنوا من اشاعة القيم الجديدة، قيم الاسلام. فهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش حياة الكفاف. بل لنقل أنه كان يطلب ذلك. جاء في الحديث الشريف: "أللهم اجعل رزق آل محمد قوتا"، وفي رواية أخرى "كفافا". وهذه أم المؤمنين عائشة تروي عن بيت النبوة كيف كانوا يعيشون فيه. قالت: "ان كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم نمكث شهرا ما نستوقد بنار ان هو الا التمر والماء". وتقول أيضا: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض".

نحن نعلم أن الله تبارك وتعالى قد أمرنا بالتأسي برسول الله: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر". وقد فعل الكثير من المسلمين ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإلا ما كان لهم أن ينتصروا. إليكم هذا الهدي النبوي الذي يعلم الانسان الرضا بما هو فيه في الوقت الذي يعمل فيه على تغيير الواقع: "إذا نظر أحدكم الى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه". فالانسان المطلوب منه بناء مجتمع جديد لا يمكنه أن يكون عدميا. انما عليه أن يكون متفائلا. فهو ينظر الى الجانب المليء من الكوب وليس إلى الجانب الفارغ. كما وأن الإنسان الذي أنعم الله عليه ليس ممنوعا عليه التمتع. كلا. فحياة الانسان يجب أن تكون متوازنة. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا في إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يد الله وأن تكون في ثواب المصيبة اذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك". ما هذه الروعة! ان من لا يثق بالله لا يمكنه البذل والعطاء، لذلك على الانسان أن يبذل بغير خوف ولا وجل، أن يبذل في سبيل الله لأن الله هو الذي يعطي ويمنع. كما وأنه عليه الثقة بالله عز وجل، فان أصابته مصيبة فعليه أن يثق بأن الله ما أراد به الا الخير. لذا عليه أن يقبل بها وعن رضى.

ويتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم تربيته لأصحابه حتى يتمكنوا من بناء المجتمع الذي يؤمن سعادة الانسان في الدنيا والآخرة، ويخلص الناس من عبادة بعضهم بعضا أو عبادة الشهوات، فيقول: "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك". أما عن علاقة الميسورين بالمحرومين فيقول صلى الله عليه وسلم: "أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون".

متى يتمكن الإنسان أن يبذل من غير وجل ولا خوف؟ بالطبع عندما يثق بأن مآله آمن. وان ترك أهلا بعد رحيله فهم أيضا في مقام آمن. لذلك رأينا المسلمين يندفعون الى الجهاد بحماسة قل نظيرها. يقول أحدهم في احدى الغزوات: أين أنا ان قتلت يا رسول الله؟ يجيبه النبي: "في الجنة". فألقى السائل تمرات كن في يده وقاتل حتى قتل. وهل بالإمكان الانتصار على جبروت الاستكبار الأميركي والإسرائيلي ومن والاهم إن لم يكن ايماننا بالنصر كايمان ذلك الذي ألقى التمرات التي كن في يده؟

ولكن هل يستمر المجتمع على نفس الوتيرة؟ بالطبع لا.

لقد تمكن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه أن يبنوا مجتمعا يرضي الله. ولكن بذور التغيير والتبديل تكمن دائما في المجتمع سواء كان صالحا أم خلاف ذلك . قال رسول الله واصفا حال المسلمين عندما يبتعدون عن أخلاق وقيم الإسلام: تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. وسألوا النبي إن كانوا قليلين أم كثر فيجيب النبي بأنهم كثر ولكنهم غثاء كغثاء السيل. لماذا؟ بسبب حب الدنيا وكراهية الموت. أي البعد عن الجهاد.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم محدثا أصحابه: "ما الفقر أخشى عليكم. ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم". صدقت يا رسول الله.

وقف معاوية خطيبا في الناس وبعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه قال: يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: وما من شيء الا وعندنا خزائنه... ثم قال معاوية فعلى ما تلومونني ان أقصرت في عطاياكم. فقال له الأحنف يا معاوية اننا لا نلومك على ما في خزائن الله ولكن نلومك على ما أنزله الله عز وجل في خزائنه فجعلته في خزائنك وحلت بيننا وبينه.

لقد اعتمد معاوية منهاج قارون الريعي لذلك كان يجبي الأموال لتصرف معظمها على الجند. وان ولاء الجند للسلطان لا للوطن. وهذا يؤسس للاستبداد الاقتصادي ويتحول الترف إلى حالة امتياز، تتحكم بأرزاق الناس وتحتكر معيشتهم. وبهذا يكون معاوية قد جدد دور فرعون وقارون في البلاد العربية والإسلامية وأسس للاستبداد الاقتصادي دعائمه وتعاقب على تفعيله وتأصيله من جاء من الحكام من بعده حتى يومنا هذا، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم.

أما الأخطر مما تقدم هو أن فقهاء السلاطين قد شرعنوا هذا المنهاج حتى أنهم اعتبروه أمرا من الله. حين لعب هؤلاء دورا في تدجين الناس وتهيئتهم لقبول كل شيء. تحول الجهاد الى جهاد النفس ضد الهوى وأصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضربا من ضروب السخرية. وحول فقهاء السلاطين مشروعية الحاكم الى مشروعية إلهية، وأطلقوا يده، وأعطوه صلاحيات غير محدودة. وقد اعتمد هؤلاء أسلوبا خطيرا في تعمية الناس وإلغاء قانون التغيير الاجتماعي وفق السنن الربانية التي تقتضي: الحرية، وسطية الرزق ومواجهة الترف بتضييق ظاهرة الاستهلاك.

إليكم ما جاء في العقد الفريد: من تعرض للسلطان أرداه ومن تطامن له تخطاه واذا زادك السلطان اكراما فزده اعظاما وإذا جعلك عبدا فاجعله ربا، (ج1 ص18 ).

سلطان تخافه الرعية خير للرعية من سلطان يخافها، ( عيون الأخبار ج 1 ص 2).

إن الإسلام الذي يدعو اليه فقهاء السلاطين وخدمتهم يلغي الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم.

ولننهي حديثنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك أما اني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية".

علينا أن نعلم أن الله تبارك وتعالى هو أغنى الشركاء عن الشرك.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
حسن ملاط
العرب والعولمة العدد 38

ليست هناك تعليقات: