من سيرة المصطفى – 16 –
إنما المؤمنون إخوة: الرابطة البديلة عن العصبية.
يقول رب العزة: "إنما المؤمنون إخوة" (الحجرات 10)
ويقول تبارك وتعالى: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم" (الفتح 29)
ويقول أيضاً: "والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم" (الحشر 9)
ويقول أيضاً: "والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم" (الأنفال 74).
عبد الرحمن بن خلدون، العالم العربي المسلم الأشهر، ومن خلال مراقبته للمجتمعات والدول، وخاصة العربية منها، وجد أن العصبية تلعب الدور الحاسم في بناء الدول من جهة وبدرجة تماسكها من جهة ثانية. وهي أي العصبية تلعب الدور الحاسم في انهيار هذه الدول. يقول ابن خلدون: "أن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانيه يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية وإلا لم تتم قدرته على ذلك وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه. وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقوة وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً فالتغلب الملكي غاية للعصبية كما رأيت ثم أن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات مفترقة وعصبيات متعددة فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنافس ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".
ثم يضيف ابن خلدون بأن الدين يتغلب على العصبية من حيث قوته. ولكن إذا اجتمعت قوة الدين مع قوة العصبية فيكون التغلب مؤكداً. يقول ابن خلدون: " فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممن يقاومهم في العدد والعصبية أو يشف عليهم إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلناه فلم يقف لهم شيء واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدين وفسدت كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوةً واعتبر هذا في الموحدين مع زناتة (إحدى العصبيات) لما كانت زناتة أبدى من المصامدة (إحدى العصبيات) وأشد توحشاً وكان للمصامدة الدعوة الدينية باتباع المهدي فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوة عصبيتهم بها فغلبوا على زناتة أولاً واستتبعوهم وإن كانوا من حيث العصبية والبداوة أشد منهم فلما خلوا من تلك الصبغة الدينية انتقضت عليهم زناتة من كل جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم والله غالب على أمره".
لقد تمكن الأمويون بفضل عصبيتهم من جهة واستنادهم إلى الدين أن يحولوا الخلافة الراشدة إلى ملك. وهذا ما كان توقعه رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يكون ملكا ثم قال: أمسك: خلافة أبي بكر سنتان، وعمر عشر، وعثمان اثنتا عشر، وعلي ست".
الراوي: سفينة مولى رسول الله المحدث: الإمام أحمد - المصدر: جامع بيان العلم -
"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم يكون ملك " ثم قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر وخلافة عمر اثنتي عشرة سنة وستة أشهر وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي رضي الله عنه تكملة الثلاثين. قلت: معاوية؟ قال كان أول الملوك".
الراوي: سفينة المحدث: البيهقي - المصدر: المدخل إلى السنن الكبرى -
"لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يتخذوا الأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، والخلافة ملكاً، والزيارة فاحشة، ويؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم. قيل: وما الزيارة فاحشة؟ قال: الرجل يصنع طعاماً لأخيه يدعوه فيكون في صنيعته النساء الخبائث .
الراوي: أبو تميمة الهجيمي المحدث: ابن عبدالبر - المصدر: الاستيعاب -
وفي هذا دليل على أن المجتمعات العربية قد سارت في الإتجاه المعاكس للإتجاه الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألله تبارك وتعالى حدد وبكل وضوح الرابطة التي تربط المؤمنين فيما بينهم، وقال: "إنما المؤمنون إخوة". ونبينا عليه السلام أراد أن تكون رابطة الأخوة هي الرابطة البديلة عن رابطة العصبية التي تعودتها المجتمعات العربية وكافة المجتمعات المشابهة. وقد وصف النبي هذه العصبية بالمنتنة: جاء في البخاري عن جابر بن عبد الله: كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمَعها الله رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: ( ما هذا ). فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة" .وفي رواية أخرى في البخاري وعن جابر بن عبد الله أيضاً: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب، فكسع أنصارياً، فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( ما بال دعوى أهل الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم ). فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها خبيثة" .
صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام أبلغنا بأن دعوى العصبية منتنة، ولكن البعض أراد أن يقوم بحركة إرتدادية تعيد المجتمع المسلم إلى العصبية، وقد كان لهذا البعض ما أراد!
جاء في السيرة المطهرة: قال ابن إسحاق: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى، فقال: "إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا، ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقس عنه قلوبكم فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، قد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد الصالح الحديث ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم".
واضح ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين في كل مكان وزمان أن "تحابوا بروح الله بينكم". لا يكون التحابب بالعصبية.
وللتأكيد على ما ذهب إليه رسول الله عليه السلام، فقد أكد القول بالفعل: قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم: "بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل".
قال ابن هشام: المفرح المثقل بالدين والكثير العيال.
"وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال. في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً، وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً، ولا يؤويه وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم". (للإطلاع على كامل الصحيفة الرجاء العودة إلى الفصل الثالث).
ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى فعلاً بين المهاجرين والأنصار، وهناك من يقول أن المؤاخاة الأولى قد كانت بين المهاجرين في مكة، ولكن هذه الواقعة ليست مؤكدة.
قال ابن إسحاق: "وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال - فيما بلغنا، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل تآخوا في الله أخوين أخوين ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال هذا أخي" فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أخوين وكان حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوين وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطيار في الجنة ومعاذ بن جبل، أخو بني سلمة أخوين.
قال ابن هشام: وكان جعفر بن أبي طالب يومئذ غائبا بأرض الحبشة. قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ابن أبي قحافة وخارجة بن زهير، أخو بلحارث بن الخزرج، أخوين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعتبان بن مالك، أخو بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج أخوين وأبو عبيدة بن عبد الله بن الجراح واسمه عامر بن عبد الله وسعد بن معاذ بن النعمان، أخو بني عبد الأشهل، أخوين.
وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع، أخو بلحارث بن الخزرج، أخوين.
والزبير بن العوام، وسلامة بن سلامة بن وقش أخو بني عبد الأشهل أخوين.
ويقال بل الزبير وعبد الله بن مسعود، حليف بني زهرة أخوين وعثمان بن عفان، وأوس بن ثابت بن المنذر أخو بني النجار أخوين وطلحة بن عبيد الله، وكعب بن مالك، أخو بني سلمة، أخوين. وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي بن كعب، أخو بني النجار: أخوين ومصعب بن عمير بن هاشم، وأبو أيوب خالد بن زيد، أخو بني النجار أخوين وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعباد بن بشر بن وقش، أخو بني عبد الأشهل أخوين.
وعمار بن ياسر، حليف بني مخزوم وحذيفة بن اليمان، أخو بني عبد عبس حليف بني عبد الأشهل أخوين ويقال ثابت بن قيس بن الشماس أخو بلحارث بن الخزرج، خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمار بن ياسر: أخوين. وأبو ذر وهو برير بن جنادة الغفاري والمنذر بن عمرو، المعنق ليموت أخو بني ساعدة بن كعب بن الخزرج: أخوين.
قال ابن هشام: وسمعت غير واحد من العلماء يقول أبو ذر جندب بن جنادة.
قال ابن إسحاق: وكان حاطب بن أبي بلتعة، حليف بني أسد بن عبد العزى وعويم بن ساعدة أخو بني عمرو بن عوف أخوين وسلمان الفارسي، وأبو الدرداء، عويمر بن ثعلبة أخو بلحارث بن الخزرج، أخوين.
قال ابن هشام: عويمر بن عامر ويقال عويمر بن زيد.
قال ابن إسحاق: وبلال، مولى أبي بكر رضي الله عنهما، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي، ... أخوين.
فهؤلاء من سمي لنا، ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه.
ثم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد مدح السلوك الحسن حتى يحض المؤمنين على الإلتزام به. فهؤلاء الأشعريين كانوا يتضامنون مع بعضهم البعض فاُعجب بسلوكهم ومدحه: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم".
الراوي: أبو موسى الأشعري المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري
وكان في نفس الوقت يُظهر عدم إعجابه بالسلوك السيء ويحض على الإبتعاد عنه: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلكم: أفشوا السلام بينكم".
الراوي: الزبير المحدث: أبو زرعة الرازي - المصدر: العلل لابن أبي حاتم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة".
الراوي: أبو الدرداء المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي -
قال النبي عليه الصلاة والسلام: "دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أخبركم بما يثبت ذاك لكم؟ أفشوا السلام بينكم".
الراوي: الزبير بن العوام المحدث: البيهقي - المصدر: شعب الإيمان
قال النبي عليه السلام يربي أصحابه: "لا تحاسدوا. ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض. وكونوا، عباد الله! إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ههنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام. دمه وماله وعرضه. وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر نحو حديث داود وزاد ونقص. ومما زاد فيه: إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم. ولكن ينظر إلى قلوبكم. وأشار بأصابعه إلى صدره" .
الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم
ثم أن المهاجرين قد أخذهم الإعجاب بما أقدم عليه إخوتهم من الأنصار. وقد عبروا عن ذلك بحضرة النبي عليه السلام. " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا يا رسول الله ما رأينا قوماً أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا! ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم بالأجر عليهم". الراوي: أنس بن مالك المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي
ولا زال المهاجرون والأنصار يتوارثون بذلك الإخاء، دون القرابات إلى أن أنزل الله "وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله". وكان الله تبارك وتعالى قد مدح الأنصار في سورة الحشر:" للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله؛ أولئك هم الصادقون. والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا وإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم". (الحشر 8 – 9 -10 )
ولكن بعد أن قويت شوكة المسلمين والإسلام أبطل الله تبارك وتعالى التوارث ما بين الذين آخى بينهم النبي عليه السلام.
جاء في السيرة النبوية المطهرة: "آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه حين نزلوا المدينة ، ليذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزر بعضهم ببعض فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أنزل الله سبحانه "وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله"[ الأنفال 75 ] أعني في الميراث ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة فقال "إنما المؤمنون إخوة" يعني في التواد وشمول الدعوة".
وحيث أن الأخوة يجب الحفاظ عليها، وكذلك تحصين دار الإسلام والحكومة الأخوية الإسلامية كان النداء من رب السماوات والأرض: "يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً" (النساء 71 ).
والنبي عليه السلام بدوره حض على حماية دار الإسلام فقال: "عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: البخاري - المصدر: العلل الكبير
و المتتبع لسيرة المصطفى عليه السلام يرى كيف كان المسلمون باستنفار دائم للحفاظ على دينهم ومدينتهم من أعداء الداخل والخارج.
فللحفاظ على مكان اجتماع المؤمنين آمناً. أمر النبي عليه السلام بطرد المنافقين من مسجده. جاء في السيرة المطهرة: "وكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين، ويسخرون ويستهزئون بدينهم، فاجتمع يوماً في المسجد منهم ناس، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم، خافضي أصواتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُخرجوا من المسجد إخراجا عنيفاً، فقام أبو أيوب، خالد بن زيد بن كليب، إلى عمر بن قيس، أحد بني غنم بن مالك بن النجار - كان صاحب آلهتهم في الجاهلية - فأخذ برجله فسحبه، حتى أخرجه من المسجد، وهو يقول: أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بني ثعلبة، ثم أقبل أبو أيوب أيضاً إلى رافع بن وديعة، أحد بني النجار فلبَّبه بردائه ثم نتره نترا شديداً، ولطم وجهه، ثم أخرجه من المسجد، وأبو أيوب يقول له: أف لك منافقاً خبيثاً: أدراجَك يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: أي ارجع من الطريق التي جئت منها.
وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو، وكان رجلاً طويل اللحية، فأخذ بلحيته فقاده بها قوداً عنيفاً حتى أخرجه من المسجد، ثم جمع عمارة يديه فلدمه بهما في صدره لدمة خر منها. يقول: خدشتني يا عمارة؛ قال: أبعدك الله يا منافق، فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: اللدم: الضرم ببطن الكف.
قال ابن إسحاق: وقام أبو محمد، رجل من بني النجار، كان بدرياً، وأبو محمد، مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن غنم ابن مالك بن النجار إلى قيس بن عمرو بن سهل، وكان قيس غلاماً شاباً، وكان لا يُعلم في المنافقين شاب غيره، فجعل يدفع في قفاه حتى أخرجه من المسجد.
وقام رجل من بَلْخُدرة بن الخزرج، رهط أبي سعيد الخدري، يقال له: عبدالله بن الحارث، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج المنافقين من المسجد إلى رجل يقال له: الحارث بن عمرو، وكان ذا جمة، فأخذ بجمته فسحبه بها سحباً عنيفاً، على ما مر به من الأرض، حتى أخرجه من المسجد.
قال: يقول المنافق: لقد أغلظت يا ابن الحارث؛ فقال: إنك أهل لذلك، أي عدو الله لما أنزل الله فيك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك نجس.
وقام رجل من بني عمرو بن عوف إلى أخيه زُوَيّ بن الحارث، فأخرجه من المسجد إخراجاً عنيفاً، وأفَّف منه، وقال: غلب عليك الشيطان وأمره.
فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ من المنافقين، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهم.
وهذا ما نزل في منافقي الأوس والخزرج من القرآن حسب ابن هشام: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين" يعني المنافقين من الأوس والخزرج، ومن كان على أمرهم. "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض" أي شك "فزادهم الله مرضاً"، أي شكاً "ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون. وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ، قالوا إنما نحن مصلحون" ، أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. يقول الله تعالى: "ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم" . من يهود، الذين يأمرونهم بالتكذيب بالحق، وخلاف ما جاء به الرسول، "يقولون إنا معكم" أي إنا على مثل ما أنتم عليه. "إنما نحن مستهزؤون" : أي إنما نستهزئ بالقوم، ونلعب بهم. يقول الله عز وجل: "الله يستهزئ بهم ويمدهم في طعيانهم يعمهون" .
ثم بعد ذلك تأتي الغزوات والسرايا والتي كانت تبغي إلى تحقيق هدفين. أولهما مهاجمة قريش، رأس الكفر حتى تصبح تجارتها غير آمنة. والثاني الحفاظ على أمن المدينة من أعدائها، وذلك ما كان يتم إما بالموادعة، إما بالقتال. ففي غزوة ودان وهي أول غزواته عليه الصلاة والسلام، وادع بني ضمرة.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ وَدّان، وهي غزوة الأبواء، يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذي وادعه منهم عليهم مخَشيّ بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه ذلك.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق كيداً، فأقام بها بقية صفر، وصدراً من شهر ربيع الأول. قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها.
وبعد هذه الغزوة كانت سرية عبيدة بن الحارث. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مُقامه ذاك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين أو ثمانين راكباً من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز، بأسفل ثنيِّة المرة، فلقي بها جمعاً عظيماً من قريش، فلم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمي يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام.
ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية. وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني، حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازني، حليف بني نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين، ولكنهما خرجا ليتوصَّلا بالكفار. وكان على القوم عكرمة ابن أبي جهل.
قال ابن هشام: حدثني ابن أبي عمرو بن العلاء، عن أبي عمرو المدني: أنه كان عليهم مِكْرز بن حفص بن الأخيف، أحد بني معيص بن عامر ابن لؤي بن غالب بن فهر.
قال ابن إسحاق: فكانت راية عبيدة بن الحارث - فيما بلغني - أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، لأحد من المسلمين. وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء، قبل أن يصل إلى المدينة.
ثم كانت سرية حمزة إلى سيف البحر. قال ابن هشام: "وبعث في مقامه ذلك، حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم، إلى سيف البحر، من ناحية العيص، في ثلاثين راكباً من المهاجرين، وليس فيهم من الأنصار أحد. فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاث مئة راكب من أهل مكة. فحجز بينهم مجديُّ بن عمرو الجهني. وكان موادعاً للفريقين جميعاً، فانصرف بعض القوم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال.
وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين. وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معاً، فشُبِّه ذلك على الناس. وقد زعموا أن حمزة قد قال في ذلك شعراً يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان حمزة قد قال ذلك، فقد صدق إن شاء الله، لم يكن يقول إلا حقاً، فالله أعلم أي ذلك كان.
ثم كانت غزوة بواط. قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول يريد قريشاً.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بواط، من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى.
ثم كانت غزوة العشيرة. "ثم غزا قريشاً، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد، فيما قال ابن هشام".
قال ابن إسحاق: فسلك على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها. فثمَّ مسجده صلى الاله عليه وسلم، وصُنع له عندها طعام، فأكل منه، وأكل الناس معه، فموضع أثافي البرمة معلوم هنالك، واستُقي له من ماء به، يقال له: المشترب، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائق بيسار، وسلك شعبة يقال لها: شعبة عبدالله، وذلك اسمها اليوم، ثم صب لليسار حتى هبط يليل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة، واستقى من بئر بالضبوعة، ثم سلك الفرش: فرش ملل، حتى لقي الطريق بصحيرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع. فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيداً. وفي تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام ما قال.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم المحاربي، عن محمد بن كعب القرظي، عن محمد بن خيثم أبي يزيد، عن عمار بن ياسر، قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة؛ فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بها؛ رأينا أناساً من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل؛ فقال لي علي بن أبي طالب: يا أبا اليقظان، هل لك في أن تأتي هؤلاء القوم، فننظر كيف يعملون؟ قال: قلت: إن شئت؛ قال: فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة، ثم غشينا النوم. فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في صور من النخل، وفي دقعاء من التراب فنمنا، فوالله ما أهبَّنا إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله. وقد تترَّبْنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: ما لك يا أبا تراب؟ لما يرى عليه من التراب. ثم قال: ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟ قلنا: بلى، يا رسول الله؛ قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه - و وضع يده على قرنه - حتى يَبُلَّ منها هذه. وأخذ بلحيته.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سمَّى علياً أبا تراب، أنه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها، ولم يقل لها شيئاً تكرهه، إلا أنه يأخذ تراباً فيضعه على رأسه. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عليه التراب عرف أنه عاتب على فاطمة، فيقول: ما لك يا أبا تراب؟ فالله أعلم أي ذلك كان.
ثم كانت سرية سعد بن أبي وقاص. قال ابن إسحاق: وقد كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص، في ثمانية رهط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرَّار من أرض الحجاز، ثم رجع ولم يلق كيداً.
قال ابن هشام : ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة .
ثم كانت غزوة سفوان ، وهي غزوة بدر الأولى. قال ابن إسحاق: ولم يُقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز ابن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، فيما قال ابن هشام .
قال ابن إسحاق: حتى بلغ وادياً، يقال له: سفوان، من ناحية بدر، و فاته كرز بن جابر، فلم يدركه، وهي غزوة بدر الأولى. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجباً وشعبان.
ثم كانت سرية عبدالله بن جحش وهي من أهم السرايا. قال ابن هشام: "وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب، مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً.
يضيف ابن هشام: "وكان أصحاب عبدالله بن جحش من المهاجرين، ثم من بني عبد شمس ابن عبد مناف: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس؛ ومن حلفائهم: عبدالله بن جحش، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن ابن حرثان، أحد بني أسد بن خزيمة، حليف لهم.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر، حليف لهم.
ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص.
ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة، حليف لهم من عنز ابن وائل، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة ابن يربوع، أحد بني تميم، حليف لهم، وخالد بن البكير، أحد بني سعد بن ليث، حليف لهم.
ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء".
أضاف ابن هشام: "فلما سار عبدالله بن جحش يومين فتح الكتاب، فنظر فيه فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبدالله بن جحش في الكتاب، قال: سمعاً وطاعة؛ ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشاً، حتى آتيه منهم بخبر؛ وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم. فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع؛ فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف عنه منهم أحد".
يضيف ابن هشام: "وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع، يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يعتقبانه. فتخلفا عليه في طلبه. ومضى عبدالله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة".
وهذا كله عن ابن هشام: "فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً، وتجارة من تجارة قريش، فيهما عمرو بن الحضرمي".
"فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا عُمَّار، لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام؛ فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبدالله، والحكم بن كيسان؛ وأفلت لقومَ نوفلُ بن عبدالله فأعجزهم. وأقبل عبدالله ابن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة".
"وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش: أن عبدالله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس - وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم - فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه".
قال ابن إسحاق: "فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. فوقَّف العير والأسيرين. وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً؛ فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا". وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال؛ فقال من يرد عليهم من المسلمين، ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان".
وقالت يهود - تفاءَلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم - عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبدالله، عمرو، عمرت الحرب؛ والحضرمي، حضرت الحرب؛ وواقد بن عبدالله، وقدت الحرب. فجعل الله ذلك عليهم لا لهم.
فلما أكثر الناس في ذلك، أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير، وصد عن سبيل الله وكفر به، والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله" أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم: "والفتنة أكبر من القتل" : أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل: "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا" : أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين.
فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نُفديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
فهذه الوتيرة المتسارعة للسرايا والغزوات تظهر كم كان النبي عليه الصلاة والسلام يحرص على أمن المسلمين وأمن المدينة أيضاً.
ثم أنزل الله تبارك وتعالى الآيات المباركات التاليات، والتي من خلالها يمكننا تمييز المسلمين عن غيرهم من أهل الكتاب، حتى تتقوى أواصر الأخوة فيما بينهم: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿2/142﴾ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿2/143﴾ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿2/144﴾ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿2/145﴾. جاء في أسباب النزول: قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس الآيات قال ابن إسحاق حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن البراء قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينظر أمر الله فأنزل الله قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام فقال رجل من المسلمين وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة وكيف بصلاتنا قبل بيت المقدس فأنزل الله وما كان الله ليضع إيمانكم وقال السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله سيقول السفهاء من الناس إلى آخر الآية له طرق نحوه وفي الصحيحين عن البراء مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم وأخرج ابن جرير من طريق السدي بأسانيده قال لما صرف النبي صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة تحير على محمد دينه فتوجه بقبلته اليكم وعلم أنكم أهدى منه سبيلا ويوشك أن يدخل في دينكم فأنزل الله لئلا يكون للناس عليكم حجة.
وحرص المصطفى عليه السلام على الإهتمام بمكان اجتماع المسلمين مع بعضهم البعض، لذلك بنى مسجد قباء ومسجده أيضاً.
قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، في بني عمرو بن عوف، يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجده.
قال: فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبنى مسجداً، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، ودأبوا فيه، فقال قائل من المسلمين: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلِّل.
وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون:
لا عيش إلا عيش الآخره * اللهم ارحم الأنصار والمهاجره
قال ابن إسحاق: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عيش إلا عيش الآخرة ، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار.
قال ابن هشام: وذكر سفيان بن عيينة عن زكريا، عن الشعبي، قال: إن أول من بنى مسجدا عمار بن ياسر.
وكان حرص النبي كبيراً على ابتكار وسيلة لجمع المسلمين إلى الصلاة، حتى تشتد أواصر الأخوة بين المسلمين، فكان خبر الأذان: قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع أمر الأنصار، استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة، وفُرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام، وتبوأ الإسلام بين أظهرهم، وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوءوا الدار والإيمان. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة مواقيتها، بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أن يجعل بوقاً كبوق يهود الذين يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه؛ ثم أمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة.
فبينما هم على ذلك، إذ رأى عبدالله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، أخو بلحارث بن الخزرج، النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف: مر بي رجل عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوساً في يده، فقلت له: يا عبدالله، أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قال: قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إنها لرؤيا حق، إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه، فليؤذن بها، فإنه أندى صوتاً منك.
فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب، وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يجر رداءه، وهو يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد على ذلك.
قال ابن إسحاق: حدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبدالله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، عن أبيه.
قال ابن هشام: وذكر ابن جريج، قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير الليثي يقول: ائتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالناقوس للاجتماع للصلاة، فبينما عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس، إذ رأى عمر بن الخطاب في المنام: لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا للصلاة.
فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي رأى، وقد جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك، فما راع عمر إلا بلال يؤذن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بذلك: قد سبقك بذلك الوحي.
وهكذا اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان اجتماع المسلمين في المسجد لتمتين أواصر الأخوة بينهم، وكذلك إلى كيفية دعوتهم للإجتماع بواسطة الأذان الذي لا يشبه كيفية دعوة لا النصارى ولا اليهود. وكانت صلاة الجماعة تعدل سبعاً وعشرين أجراً من صلاة الفرد لوحده وذلك لحث الناس على الإجتماع فيما بينهم، وذلك للبركة التي تتأتى من هذا الإجتماع.
وفُرضت الزكاة لتقوية أواصر التضامن الأخوي ما بين المسلمين. فالغني ينفق على الفقير من غير منَ ولا أذى.
وقد كان النبي عليه السلام قد أمر بإقامة سوق خاصة للمسلمين وذلك للتعامل فيما بينهم (الدين المعاملة) ولنزع الورقة الإقتصادية من أيدي اليهود الذين يسيطرون على كل شيء من خلال الأسواق.
وبذلك تكون قد اجتمعت المقومات الفكرية والمادية لإقامة مجتمع الأخوة للمسلمين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هل ما تقدم يعني أن النبي عليه السلام قد أقام مجتمع المساواة في المدينة، وهل أن المساواة بين الناس هي العدل المطلق؟ "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين".(المائدة 42 ) والقِسط هو العدل حسب جميع المعاجم العربية.
هل تساوى الجميع بنظر النبي عليه الصلاة والسلام؟
عندما غفل النبي صلى الله عليه وسلم عن معاملة الناس بالقسط عاتبه ربه تبارك وتعالى، وذلك بحادثة ابن أم مكتوم عندما كان يتحدث النبي عليه السلام، مع صناديد قريش يطمع بهدايتهم إلى الإسلام. فجاء ابن أم مكتوم يسأله في دين الله، فتولى النبي عليه السلام عنه، فنزلت "عبس وتولى أن جاءه الأعمى...". وقد تولى إبن أم مكتوم إمارة المدينة أكثر من مرة عندما كان يذهب النبي عليه السلام غازياً.
المساواة بين الناس هي النزوع نحو الكمال، لذلك قال النبي عليه السلام للمسلمين: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها". جاء في البخاري: أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه. قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( أتكلمني في حد من حدود الله ). قال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله خطيباً، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ( أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ). ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت، قالت عائشة: فكانت تأتي بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الراوي: عروة بن الزبير المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري –
ومن هي فاطمة بالنسبة للنبي عليه السلام: "فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني".
الراوي: المسور بن مخرمة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري -
إذن لم يغفل النبي عن المساواة بعد عتاب رب العزة له. ولكن هل المساواة تعني عدم التمييز بين الناس؟ فهناك من هم بحاجة أكثر من غيرهم، فمعاملتهم بالعطاء كغيرهم فيه ظلم لهم. لذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي كل ذي حاجة حاجته عندما كان يتمكن من ذلك.
وقد وعى الملتزمون يدرسة محمد عليه السلام هذا الدرس، المساواة، لذلك تتحدث الروايات عن أحد القضاة المسلمين الذي كان عليه الحكم في إحدى القضايا. فجاءه أحد المتخاصمين بهدية فرفضها. ويوم المحاكمة وجد أن نفسه لا تنظر إلى المتخاصميْن بالمساواة لذلك ذهب إلى الوالي وطلب منه إعفاءه من القضية رغم رفضه الهدية.
هذا لا يعني مطلقاً أن الناس عليها أن لا تتساوى بالعمل الصالح. وهذا يعني أنه على كل منا بذل الجهد الذي يستطيعه في إتيان العمل الصالح. وهنا يتبرز المساواة ببذل الجهد حسب الإستطاعة. قيل: إذا زاد العمل على القول ارتفع إلى الله وما زاد قوله على عمله لم يرتفع.
من هنا كان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يميز نفسه عن إخوته من المؤمنين. فقد جاع كما جاعوا في شعب أبي طالب في مكة عندما قاطعهم المشركون. وقد جاع في المدينة أيضاً. فحديث عائشة رضي الله عنها واضح: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: يا خالة، ما كان يعيشكم؟ قالت الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا .
الراوي: عائشة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري
ومات النبي عليه السلام وهو فقير لايملك شيئاً من حطام الدنيا. يقال، والله أعلم أنه عليه السلام عندما مات كانت درعه مرهونة عند يهودي. ويقال أيضاً أنه سأل عائشة إن كان يملك شيئاً فقالت له ثلاثة دراهم، فطلب منها أن تنفقها قبل أن يقبضه الله عز وجل. هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم.
هل التزم الجميع بنهج النبوة؟ بالطبع لا! فالنبي عليه السلام تنبأ بالملك بعد ثلاثين سنة من وفاته. والملك هو الإستئثار وليس المسير على نهج النبوة.
إن أهم ما علمنا إياه نبينا عليه الصلاة والسلام في إبراز الأخوة والمساواة هو احترام الجميع وعدم التسلط وعدم اختصار أحد.
ما هي المباهلة؟ هي إنهاء النقاش عندما يكون غير مجد. وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران عندما لم تصل مباحثته معهم إلى نتيجة. طلب منهم المباهلة أي ترك الحكم لله عز وجل. حتى أنه لم يستعمل العنف معهم.
وعدم اختصار أحد تعني فيما تعنيه المساواة أولاً. كم أنها تعني أنه علينا استثمار جميع طاقات المجتمع لأن المجتمع بحاجة لها جميعاً. وفي هذا احترام لطاقات الغير: "ولا تبخسوا الناس أشياءهم".
ننهي فنقول أن المؤاخاة تعني المساواة ببذل الطاقات من أجل بناء مجتمع الأخوة الذي يلبي حاجات جميع أفراد المجتمع من دون استثناء، من دون تمييز من عرق أو دين أو لون. وهذا ما علمنا إياه نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
8 كانون الأول 2010 حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق