بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية

حسن ملاط

صورتي
القلمون, طرابلس, Lebanon
كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.

الأحد، 19 ديسمبر 2010

من سيرة المصطفى – 17 –
مجادلة أهل الكتاب
يقول تبارك وتعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم؛ وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون".(العنكبوت 46)
إن سيرة النبي المصطفى، صلى الله عليه وسلم تبين أنه التزم بما أمر به الله تبارك وتعالى المسلمين بعدم مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، بالطبع "إلا الذين ظلموا منهم". ومرافقتنا للسيرة المطهرة تبين أن المسلمين حرصوا في تطبيق "التي هي أحسن" مع أهل الكتاب.
فما أن استقر النبي عليه السلام في المدينة حتى كتب صحيفة ما بين المسلمين، وما بين المسلمين واليهود. وحرص النبي عليه الصلاة والسلام على تصنيف اليهود كأهل كتاب لذلك رأيناه يدعوهم بنسبهم الديني أولاً وبنسبهم القبائلي ثانياً. ونبرز فيما يلي القسم الذي يبين علاقة المسلمين باليهود من صحيفة المدينة.
تقول الصحيفة:
25 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين؛
26 - وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتِغُ إلا نفسه، وأهل بيته،
27 - وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف؛
28 - وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف؛
29 - وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف؛
30 - وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف؛
31 - وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف؛
32 - وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف؛ إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتغ إلا نفسه وأهل بيته؛
33 - وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم؛
34 - وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم؛
35 - وإن موالي ثعلبة كأنفسهم؛
36 - وإن بطانة يهود كأنفسهم؛
37 - وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم؛
38 - وإنه لا ينحجز على نار جرح؛
39 - وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم؛
40 - وإن الله على أبر هذا؛
41 - وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم؛
42 - وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة؛
43 - وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم؛
44 - وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه؛
45 - وإن النصر للمظلوم؛
46 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين؛
47 - وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة؛
48 - وإن الجار كالنفس غير مُضار ولا آثم؛
49 - وإنه لا تجُار حُرمة إلا بإذن أهلها؛
50 - وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخُاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، ‏وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
51 - وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره؛
مما سبق يتبين أن العلاقة ما بين المسلمين واليهود سوف تكون في أحسن حال إذا لم يخن اليهود العهد. ولكن اليهود ليس بإمكانهم إلا أن يغدروا.
ولكن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم ييأس من اليهود. قال ابن إسحاق:‏‏ ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة، بغياً وحسداً وضغناً، لما خص الله تعالى به العرب من أخذه رسوله منهم، وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج، ممن كان عسى على جاهليته، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه، فظهروا بالإسلام، واتخذوه جُنَّة من القتل، ونافقوا في السر، وكان هواهم مع يهود، لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وجحودهم الإسلام‏‏.‏‏
وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنَّتونه، ويأتونه باللَّبس، ليلبسوا الحق بالباطل، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه، إلا قليلاً من المسائل في الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها‏‏.‏‏
ولكن النبي عليه السلام ظل يحاورهم، وتمكن من استقطاب شخصيات هامة منهم، مثل عبد الله بن سلام. قال ابن إسحاق:‏‏ وكان من حديث عبدالله بن سلام، كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حبراً عالماً، قال‏‏:‏‏ لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت مسراً لذلك، صامتاً عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما نزل بقباء، في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت؛ فقالت لي عمتي، حين سمعت تكبيري:‏‏ خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت، قال:‏‏ فقلت لها‏‏:‏‏ أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به‏‏.‏‏ قال‏‏:‏‏ فقالت:‏‏ أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟‏‏ قال:‏‏ فقلت لها:‏‏ نعم‏‏.‏‏ قال‏‏:‏‏ فقالت‏‏:‏‏ فذاك إذاً‏‏.‏‏
قال:‏‏ ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي، فأمرتهم فأسلموا.‏‏
قال‏‏:‏‏ وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له‏‏:‏‏ يا رسول الله، إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك، وتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني، حتى يخبروك كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني‏‏.‏‏
قال‏‏:‏‏ فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته، ودخلوا عليه، فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم‏‏:‏‏ أي رجل الحصين بن سلام فيكم؟‏‏ قالوا:‏‏ سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا‏‏.‏‏ قال‏‏:‏‏ فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم، فقلت لهم:‏‏ يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأومن به وأصدقه وأعرفه، فقالوا:‏‏ كذبت ثم وقعوا بي.‏‏
قال‏‏:‏‏ فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور!‏‏ قال:‏‏ فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث، فحسن إسلامها‏‏.‏‏
هذا عالم من علمائهم يقر لرسول الله أن اليهود أهل غدر، ومع ذلك حرص النبي عليه السلام على مجادلتهم بالتي هي أحسن. وهذا ما جعل مخيريق يسلم ويستشهد في سبيل الله.
قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وكان من حديث مخيريق، وكان حبراً عالماً، وكان رجلاً غنياً كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته، وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم أحد يوم السبت، قال:‏‏ يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق‏‏.‏‏ قالوا:‏‏ إن اليوم يوم السبت؛ قال:‏‏ لا سبت لكم‏‏.‏‏
ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، وعهد إليه من وراءه من قومه:‏‏ إن قتلت هذا اليوم، فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما أراه الله.‏‏ فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل.‏‏
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يقول‏‏:‏‏ مخيريق خير يهود‏‏.‏‏ وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فعامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها.‏‏
ولم يتضجر النبي صلى الله عليه وسلم من مجادلة أعداء الله، ابني أخطب.
قال ابن إسحاق:‏‏ وحدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال‏‏:‏‏ حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت‏‏:‏‏ كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه‏‏.‏‏ قالت‏‏:‏‏ فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قباء، في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي، حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب، مغلسين.‏‏ قالت:‏‏ فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس.‏‏
قالت:‏‏ فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى.‏‏ قالت:‏‏ فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم‏‏.‏‏ قالت‏‏:‏‏ وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب:‏‏ أهو هو‏‏؟‏‏ قال‏‏:‏‏ نعم والله؛ قال‏‏:‏‏ أتعرفه وتثبته؟‏‏ قال‏‏:‏‏ نعم؛ قال:‏‏ فما في نفسك منه‏‏؟‏‏ قال:‏‏ عداوته والله ما بقيت‏‏.‏‏
ولكن لم تذهب جميع جهود المصطفى عليه السلام سدىً. فهذا "جلاس الذي قال - وكان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك - لئن كان هذا الرجل صادقاً لنحن شر من الحمر‏‏.‏‏ فرفع ذلك من قوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد، أحدهم، وكان في حجر جلاس، خَلَف جلاس على أمه بعد أبيه، فقال له عمير بن سعد‏‏:‏‏ والله يا جلاس، إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي يداً، وأعزهم علي أن يصيبه شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن رفعتُها عليك لأفضحنك، ولئن صمتُّ عليها ليهلكن ديني، ولإحداهما أيسر علي من الأخرى‏‏.‏‏ ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له ما قال جلاس، فحلف جلاس بالله لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ لقد كذب علي عمير، وما قلت ما قال عمير بن سعد.‏‏
فأنزل الله عز وجل فيه‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم، وهموا بما لم ينالوا، وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله، فإن يتوبوا يك خيرا لهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
قال ابن هشام:‏‏الأليم‏‏:‏‏ الموجع‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق:‏‏ فزعموا أنه تاب فحسنت توبته، حتى عرف منه الخير والإسلام.‏‏
ثم دخل النبي عليه السلام في معمعة لا تنتهي من الجدال مع اليهود.

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ حدثني عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين المكي، عن شهر بن حوشب الأشعري:‏‏ أن نفراً من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:‏‏ يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت ذلك اتبعناك وصدقناك، وآمنا بك.‏‏
قال‏‏:‏‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقُنَّني؛ قالوا‏‏:‏‏ نعم؛ قال:‏‏ فاسئلوا عما بدا لكم‏‏.‏‏
قالوا‏‏:‏‏ فأخبرْنا كيف يشبه الولد أمه، وإنما النطفة من الرجل؟‏‏ قال:‏‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة، فأيَّتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟‏‏ قالوا:‏‏ اللهم نعم.‏‏
قالوا‏‏:‏‏ فأخبرنا كيف نومك‏‏؟‏‏ فقال:‏‏ أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه يقظان‏‏؟‏‏ فقالوا‏‏:‏‏ اللهم نعم؛ قال:‏‏ فكذلك نومي، تنام عيني وقلبي يقظان.‏‏
قالوا:‏‏ فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟‏‏ قال‏‏:‏‏ أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها، وأنه اشتكى شكوى، فعافاه الله منها، فحرم على نفسه أحب الطعام والشراب إليه شكراً لله، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟‏‏ قالوا:‏‏ اللهم نعم.‏‏
قالوا:‏‏ فأخبرنا عن الروح؟‏‏ قال:‏‏ أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمونه جبريل، وهو الذي يأتيني؟‏‏ قالوا‏‏:‏‏ اللهم نعم، ولكنه يا محمد لنا عدو، وهو ملك، إنما يأتي بالشدة وبسفك الدماء، ولولا ذلك لاتبعناك؛ قال‏‏:‏‏ فأنزل الله عز وجل فيهم‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى:‏‏ ‏‏(‏‏ أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم، بل أكثرهم لا يؤمنون‏‏.‏‏ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.‏‏ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ‏‏)‏‏ ، أي السحر ‏‏ (‏‏ وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وكان القرآن الكريم يواكب حركة النبي عليه السلام. فقد نزل من عند الله ما يفيد جدال النبي عليه السلام مع أبي ياسر وأخيه أبناء أخطب: قال ابن إسحاق:‏‏ وكان ممن نزل فيه القرآن، بخاصة من الأحبار وكفار يهود، الذي كانوا يسألونه ويتعنتونه ليلبسوا الحق بالباطل - فيما ذكر لي عن عبدالله بن عباس وجابر بن عبدالله بن رئاب - أن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة البقرة‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ‏‏)‏‏ ، فأتى أخاه حُيي بن أخطب في رجال من يهود، فقال:‏‏ تعلَّموا والله، لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ الم ذلك الكتاب ‏‏)‏‏ ؛ فقالوا‏‏:‏‏ أنت سمعته‏‏؟‏‏ فقال:‏‏ نعم، فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقالوا له:‏‏ يا محمد، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل إليك:‏‏ ‏‏(‏‏ الم ذلك الكتاب ‏‏)‏‏ ‏‏؟‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ بلى؛ قالوا‏‏:‏‏ أجاءك بها جبريل من عند الله‏‏؟‏‏ فقال:‏‏ نعم؛ قالوا‏‏:‏‏ لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه، وما أكل أمته غيرك؛ فقال حيي بن أخطب، وأقبل على من معه، فقال لهم‏‏:‏‏ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة؛ أفتدخلون في دين إنما مدة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة‏‏؟‏‏
ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏‏:‏‏ يا محمد، هل مع هذا غيره‏‏؟‏‏ قال:‏‏ نعم؛ قال:‏‏ ماذا‏‏؟‏‏ قال:‏‏ ‏‏(‏‏ المص ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ قال‏‏:‏‏ هذه والله أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومئة سنة، هل مع هذا يا محمد غيره‏‏؟‏‏ قال:‏‏ نعم ‏‏(‏‏الر) ‏‏.‏‏ قال:‏‏ هذه والله‏ أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مئتان، فهذه إحدى وثلاثون ومئتان، هل مع هذا غيره يا محمد‏‏؟‏‏ قال‏‏:‏‏ نعم ‏‏(‏‏ المر ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ قال‏‏:‏‏ هذه والله أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مئتان، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة، ثم قال:‏‏ لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلاً أُعطيت أم كثيراً؟‏‏ ثم قاموا عنه؛ فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار:‏‏ ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومئة، وإحدى وثلاثون ومئتان، وإحدى وسبعون ومئتان، فذلك سبع مئة وأربع وثلاثون سنة؛ فقالوا‏‏:‏‏ لقد تشابه علينا أمره.‏‏ فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأُخَر متشابهات ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وقد سمعت من لا أتهم من أهل العلم يذكر‏‏:‏‏ أن هؤلاء الآيات إنما أُنزلن في أهل نجران، حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن عيسى بن مريم عليه السلام‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق:‏‏ وقد حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أنه قد سمع:‏‏ أن هؤلاء الآيات إنما أُنزلن في نفر من يهود، ولم يفسر ذلك لي‏‏.‏‏ فالله أعلم أي ذلك كان‏‏.‏‏
وبالرغم مما تقدم، لم ييأس النبي عليه السلام وتابع نقاشه وجداله مع يهود وكانت مواكبة القرآن لكريم مستمرة: قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وكان فيما بلغني عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:‏‏ أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه‏‏.‏‏ فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، أخو بني سلمة‏‏:‏‏ يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته؛ فقال سلام بن مشكم، أحد بني النضير:‏‏ ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم، فأنزل الله في ذلك من قولهم‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وكان القرآن الكريم يرد على قضايا جزئية: قال ابن إسحاق:‏‏ وقال مالك بن الصيف، - حين بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر لهم ما أخذ عليهم له من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه - ‏‏:‏‏ والله ما عُهد إلينا في محمد عهد، وما أُخذ له علينا من ميثاق‏‏.‏‏ فأنزل الله فيه‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم، بل أكثرهم لا يؤمنون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وهذا ما ما نزل في قول أبي صلوبا ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ما جئتنا بشيء نعرفه ‏‏)‏‏: وقال أبو صَلُوبا الفطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية فنتبعك لها‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وما نزل في قول ابن حريملة و وهب: قال رافع بن حريملة، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ يا محمد، ائتنا بكتاب تُنَزِّله علينا من السماء نقرؤه، وفجِّر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل، ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ‏‏).
ومانزل في طلب ابن حريملة أن يكلمه الله: قال ابن إسحاق:‏‏ وقال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ يا محمد، إن كنت رسولاً من الله كما تقول، فقل لله فَلْيُكلِّمنا حتى نسمع كلامه.‏‏ فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله، أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم، قد بينا الآيات لقوم يوقنون ‏‏).
وما نزل ما في التوراة من الحق: وسأل معاذ بن جبل، أخو بني سلمة، وسعد بن معاذ، أخو بني عبدالأشهل؛ وخارجة بن زيد، أخو بلحارث بن الخزرج، نفراً من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبروهم عنه.‏‏ فأنزل الله تعالى فيهم:‏‏ ‏‏(‏‏ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وما نزل في جوابهم للنبي عليه الصلاة و السلام حين دعاهم إلى الإسلام: قال:‏‏ ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغبهم فيه، وحذرهم عذاب الله ونقمته؛ فقال له رافع بن خارجة، ومالك بن عوف‏‏:‏‏ بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم وخيراً منا‏‏.‏‏
فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما:‏‏ ‏‏(‏‏ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليك آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
‏‏ وكان إعراض يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيده إصراراً على دعوتهم إلى الحق: قال ابن هشام‏‏:‏‏ ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله؛ فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد‏‏:‏‏ على أي دين أنت يا محمد‏‏؟‏‏ قال:‏‏ على ملة إبراهيم ودينه؛ قالا‏‏:‏‏ فإن إبراهيم كان يهودياً؛ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ فهلم إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه.‏‏ فأنزل الله تعالى فيهما‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون.‏‏ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
ثم هداهم استكبارهم إلى فكرة شيطانية بأن يؤمنوا ثم يكفرون: وقال عبدالله بن صيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض‏‏:‏‏ تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع، ويرجعون عن دينه‏‏.‏‏
فأنزل الله تعالى فيهم:‏‏ ‏‏(‏‏ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل، وتكتمون الحق وأنتم تعلمون.‏‏ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعوا‏‏.‏‏ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قل إن الهدى هدى الله أن يُؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
على أن ما فعله اليهود لم يغيرشيئاً من إيمان أهل الإيمان فجحدوا الحق جملة: قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه، وقال‏‏:‏‏ أرعنا سمعك يا محمد، حتى نُفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه‏‏.‏‏ فأنزل الله فيه:‏‏ (‏‏ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل.‏‏ والله أعلم بأعدائكم، وكفى بالله ولياً، وكفى بالله نصيراً.‏‏ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون سمعنا وعصينا، واسمع غير مُسمَع، وراعنا ‏‏)‏‏ ، أي راعنا سمعك ‏‏(‏‏ لَيَّاًً بألسنتهم، وطعناً في الدين، ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا، لكان خيراً لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود، منهم عبدالله بن صوريا الأعور، وكعب بن أسد، فقال لهم:‏‏ يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق، قالوا:‏‏ ما نعرف ذلك يا محمد‏‏:‏‏ فجحدوا ما عرفوا، وأصروا على الكفر.‏‏
فأنزل الله تعالى فيهم:‏‏ ‏‏(‏‏ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وعند كل محطة ، كان اليهود يعودون إلى النبي عليه السلام: قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني ابن شهاب الزهري أنه سمع رجلاً من مزينة، من أهل العلم، يحدث سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة حدثهم‏‏:‏‏ أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس، حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا:‏‏ ابعثوا بهذا الرجل وهذه المرأة إلى محمد، فسلوه كيف الحكم فيهما، وولوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من التَّجْبِية - والتجبية:‏‏ الجلد بحبل من ليف مطلي بقار، ثم تسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتجُعل وجوههما من قبل أدبار الحمارين - فاتبعوه، فإنما هو ملك، وصدقوه؛ وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبي، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه.‏‏
فأتوه، فقالوا‏‏:‏‏ يا محمد، هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما.‏‏ فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدراس فقال‏‏:‏‏ يا معشر يهود، أخرجوا إلي علماءكم، فأخرج له عبدالله بن صوريا.‏‏
قال ابن إسحاق:‏‏ وقد حدثني بعض بني قريظة‏‏:‏‏ أنهم قد أخرجوا إليه يومئذ، مع ابن صوريا، أبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا‏‏:‏‏ هؤلاء علماؤنا.‏‏ فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى حصّل أمرهم، إلى أن قالوا لعبدالله بن صوريا:‏‏ هذا أعلم من بقي بالتوراة‏‏.‏‏
قال ابن هشام:‏‏ من قوله‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وحدثني بعض بني قريظة ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ إلى‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أعلم من بقي بالتوراة ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ من قول ابن إسحاق، وما بعده من الحديث الذي قبله‏‏.‏‏
فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلاماً شاباً من أحدثهم سناً، فألظّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة، يقول له:‏‏ يابن صوريا، أنشدك الله وأُذكِّرك بأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟‏‏ قال:‏‏ اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبي مرسل ولكنهم يحسدونك.‏‏
قال‏‏:‏‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما فَرُجما عند باب مسجده في بني غنم بن مالك بن النجار.‏‏ ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، وجحد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.‏‏
قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ فأنزل الله تعالى فيهم‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ أي الذين بعثوا منهم من بعثوا وتخلفوا، وأمروهم ‏بما أمروهم به من تحريف الحكم عن مواضعه.‏‏ ثم قال:‏‏ ‏‏ (‏‏ يحرفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه ‏‏)‏‏ ، أي الرجم ‏‏(‏‏ فاحذروا ‏‏)‏‏ إلى آخر القصة‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق:‏‏ وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكانة عن إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن عباس، قال:‏‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، فرجما بباب مسجده، فلما وجد اليهودي مسَّ الحجارة قام إلى صاحبته فجنأ عليها، يقيها مس الحجارة، حتى قتلا جميعا‏‏.‏‏
قال‏‏:‏‏ وكان ذلك مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في تحقيق الزنا منهما‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وحدثني صالح بن كيسان، عن نافع مولى عبدالله ابن عمر، عن عبدالله بن عمر، قال:‏‏ لما حكَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما، دعاهم بالتوراة، وجلس حبر منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرجم، قال:‏‏ فضرب عبدالله بن سلام يد الحبر، ثم قال‏‏:‏‏ هذه يا نبي الله آية الرجم، يأبى أن يتلوها عليك.‏‏
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ ويحكم يا معشر يهود‏‏!‏‏ ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم؟‏‏ قال‏‏:‏‏ فقالوا:‏‏ أما والله إنه قد كان فينا يُعمل به، حتى زنى رجل منا بعد إحصانه، من بيوت الملوك وأهل الشرف، فمنعه الملك من الرجم، ثم زنى رجل بعده، فأراد أن يرجمه، فقالوا:‏‏ لا والله، حتى ترجم فلاناً، فلما قالوا له ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية، وأماتوا ذكر الرجم والعمل به.‏‏
قال‏‏:‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ فأنا أول من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به، ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده‏‏.‏‏ قال عبدالله بن عمر‏‏:‏‏ فكنت فيمن رجمهما.‏‏
ولشدة إيمانهم كان اليهود يتحايلون على ما كانوا يعرفونه من أحكام توراتهم: قال ابن إسحاق:‏‏ وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس‏‏:‏‏ أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها:‏‏ ‏‏(‏‏ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ إنما أنزلت في الدية بين بني النضير وبين بني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف، يؤدون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يؤدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سواء‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق:‏‏ فالله أعلم أي ذلك كان.‏‏
ولم تمنعهم غباوتهم واستكبارهم من محاولة فتنة النبي المعصوم عليه السلام: قال ابن إسحاق:‏‏ وقال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبدالله بن صوريا، وشأس بن قيس، بعضهم لبعض:‏‏ اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتوه، فقالوا له:‏‏ يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم‏ وسادتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعتك يهود، ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين بعض قومنا خصومة، أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم، ونؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم‏‏.‏‏ فأنزل الله فيهم:‏‏ ‏‏(‏‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثير من الناس لفاسقون‏‏.‏‏ أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وبعد هذا كله، يدّعون أنهم على الحق: وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة، وسلام بن مشكم، ومالك بن الصيف، ورافع بن حريملة، فقالوا‏‏:‏‏ يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟‏‏ قال:‏‏ بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق فيها، وكتمتم منها ما أُمرتم أن تبينوه للناس، فبرئتُ من إحداثكم؛ قالوا:‏‏ فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الهدى والحق، ولا نؤمن بك، ولا نتبعك.‏‏‏ فأنزل الله تعالى فيهم:‏‏ ‏‏(‏‏ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليكم من ربكم، وليزيدنّ كثيرا منهم ما أُنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً، فلا تأس على القوم الكافرين ‏‏).
وقد أشركوا بالله: قال ابن إسحاق:‏‏ وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم النحام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحري بن عمرو، فقالوا له‏‏:‏‏ يا محمد، أما تعلم مع الله إلهاً غيره‏‏؟‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏‏ الله لا إله إلا هو، بذلك بُعثت، وإلى ذلك أدعو‏‏.‏‏ فأنزل الله فيهم وفي قولهم‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل أي شيء أكبر شهادة، قل الله شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ، أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى، قل لا أشهد، قل إنما هو إله واحد، وإنني برىء مما تشركون‏‏.‏‏ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ‏‏).
أي قلب مع رسول الله، عليه السلام، الذي مكنه من تحمل أقوال هؤلاء اليهود: وقال جبل بن أبي قشير، وشمويل بن زيد، لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ يا محمد، أخبرنا، متى تقوم الساعة إن كنت نبياً كما تقول‏‏؟‏‏ فأنزل الله تعالى فيهما:‏‏ ‏‏(‏‏ يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي، لا يجلِّيها لوقتها إلا هو، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة، يسأونك كأنك حفي عنها، قل إنما علمها عند الله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وقد صبر النبي على جحودهم: قال ابن إسحاق:‏‏ وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن سيحان، ونعمان بن أضاء، وبحري بن عمرو، وعزير بن أبي عزير، وسلام بن مشكم، فقالوا:‏‏ احق يا محمد أن هذا الذي جئت به لحق من عند الله، فإنا لا نراه متسقاً كما تتسق التوارة؟‏‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏‏ أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله.‏‏ تجدونه مكتوباً عندكم في التوارة، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به؛ فقالوا عند ذلك، وهم جميع:‏‏ فنحاص، وعبدالله بن صوريا، وابن صلوبا، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وأشيع، وكعب بن أسد، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة:‏‏ يا محمد، أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟‏‏ قال:‏‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏‏ أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله، و إني لرسول الله‏‏:‏‏ تجدون ذلك مكتوباً عندكم في التوراة؛ فقالوا‏‏:‏‏ يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتاباً من السماء نقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيهم وفيما قالوا:‏‏ ‏‏(‏‏ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ‏‏).
ثم سألوا عن ذي القرنين: قال ابن إسحاق:‏‏ وقال حيي بن أخطب، وكعب بن أسد، وأبو رافع، وأشيع، وشمويل بن زيد، لعبدالله بن سلام حين أسلم‏‏:‏‏ ما تكون النبوة في العرب ولكن صاحبك ملك، ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذي القرنين فقص عليهم ما جاءه من الله تعالى فيه، مما كان قص على قريش، وهم كانوا ممن أمر قريشاً أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، حين بعثوا إليهم النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط‏‏.‏‏
لم يصبر اليهود على صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فما كان منهم إلا أن تهجموا على ذات الله، و غضب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك: قال ابن إسحاق:‏‏ وحُدثت عن سعيد بن جبير أنه قال:‏‏ أتى رهط من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:‏‏ يا محمد، هذا الله خلَق الخلق، فمن خلق الله؟‏‏ قال‏‏:‏‏ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتُقع لونه، ثم ساورهم غضباً لربه‏‏.‏‏ قال‏‏:‏‏ فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه، فقال‏‏:‏‏ خفِّض عليك يا محمد، وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل هو الله أحد‏‏.‏‏ الله الصمد.‏‏ لم يلد ولم يولد.‏‏ ولم يكن له كفواً أحد ‏‏)‏‏.‏‏
قال‏‏:‏‏ فلما تلاها عليهم، قالوا:‏‏ فصف لنا يا محمد كيف خَلْقه؟‏‏ كيف ذراعه؟‏‏ كيف عضده؟‏‏ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول، وساورهم‏‏.‏‏ فأتاه جبريل عليه السلام، فقال له مثل ما قال له أول مرة، وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه‏‏.‏‏ يقول الله تعالى:‏‏ ‏‏(‏‏ وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون ‏‏)‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وحدثني عتبة بن مسلم، مولى بني تيم، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، قال‏‏:‏‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ يُوشك الناس أن يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم‏‏:‏‏ هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟‏‏ فإذا قالوا ذلك فقولوا:‏‏ ‏‏(‏‏ قل هو الله أحد.‏‏ الله الصمد‏‏.‏‏ لم يلد ولم يولد.‏‏ ولم يكن له كفواً أحد ‏‏)‏‏‏‏.‏‏ ثم ليتفل الرجل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ‏‏)‏‏‏‏.‏‏
ثم ادعوا أن عزيرا ابن الله: قال ابن إسحاق:‏‏ وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاّم بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس، ومحمود بن دحية، وشأس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا له‏‏:‏‏ كيف نتبعك وقد تركت قِبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله؟‏‏ فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله أنى يؤفكون‏‏)‏‏ إلى آخر القصة‏‏.‏‏
ثم كان إنكارهم نبوة عيسى عليه السلام: قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر منهم‏‏:‏‏ أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وعازر بن أبي عازر، وخالد، وزيد، وإزار بن أبي إزار، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏‏ ‏‏(‏‏ نؤمن بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون ‏‏)‏‏‏‏.‏‏ فلما ذكر عيسى بن مريم جحدوا نبوته، وقالوا‏‏:‏‏ لا نؤمن بعيسى بن مريم ولا بمن آمن به.‏‏ فأنزل الله تعالى فيهم‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل، وأن أكثركم فاسقون ‏‏)‏‏‏‏.‏‏
‏‏‏‏ ولكم هذه الجرأة من أحد أحبار يهود: وقال عبدالله بن صوريا الأعور الفطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد؛ وقالت النصارى مثل ذلك‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى في ذلك من قول عبدالله بن صوريا وما قالت النصارى:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ثم القصة إلى قول الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تُسئلون عما كانوا يعملون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وكانت مشاركة من ابي بكر رضي الله عنه في جدال اليهود، إذ دخل مدراسهم: ودخل أبو بكر الصديق بيت المدراس على يهود، فوجد منهم ناساً كثيراً قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم، يقال له‏‏:‏‏ أشيع؛ فقال أبو بكر لفنحاص‏‏:‏‏ ويحك يا فنحاص!‏‏ اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً لرسول الله، وقد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوارة والإنجيل؛ فقال فنحاص لأبي بكر‏‏:‏‏ والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغنيّ، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويُعطيناه، ولو كان عنا غنياً ما أعطانا الربا.‏‏
قال:‏‏ فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال‏‏:‏‏ والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم، لضربت رأسك، أي عدو الله.‏‏
قال‏‏:‏‏ فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:‏‏ يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:‏‏ ما حملك على ما صنعت؟‏‏ فقال أبو بكر:‏‏ يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه.‏‏ فجحد ذلك فنحاص، وقال:‏‏ ما قلت ذلك.‏‏
فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص رداً عليه، وتصديقاً لأبي بكر:‏‏ ‏‏(‏‏ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، سنكتب ما قالوا، وقتلهم الأنبياء بغير حق، ونقول ذوقوا عذاب الحريق ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ونزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وما بلغه في ذلك من الغضب:‏‏ ‏‏(‏‏ ولتسمعنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً.‏‏ وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
ثم قال فيما قال فنحاص والأحبار معه من يهود‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لَتُبينُّنه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون.‏‏ لا تحسبن الذين يفرحون بما أَتَوْا، ويحبون أن يحُمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، ولهم عذاب أليم ‏‏)‏‏ يعني فنحاص، وأشيع وأشباههما من الأحبار، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة، ويحبون أن يحُمدوا بما لم يفعلوا؛ أن يقول الناس:‏‏ علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا حق، ويحُبون أن يقول الناس:‏‏ قد فعلوا.‏‏
ورغم استكبار يهود، نراهم يجادلون النصارى بحضرةالنبي المصطفى عيه السلام: قال ابن إسحاق:‏‏ ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة:‏‏ ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى وبالإنجيل؛ فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود‏‏:‏‏ ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة؛ فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء، وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ‏‏)‏‏، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به، أي يكفر اليهود بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى عليه السلام بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى عليه السلام، من تصديق موسى عليه السلام، وما جاء به من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد صاحبه.‏‏‏
‏‏
وقال أحبار يهود ونصارى نجران، حين اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا، فقالت الأحبار‏‏:‏‏ ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى من أهل نجران‏‏:‏‏ ما كان إبراهيم إلا نصرانياً‏‏.‏‏ فأنزل الله عز وجل فيهم‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم،‏ فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏‏.‏‏ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين‏‏.‏‏ إن أولى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعوه، وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ‏‏)‏‏‏‏.‏‏
وقال أبو رافع القرظي، حين اجتمعت الأحبار من يهود، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام‏‏:‏‏ أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم‏‏؟‏‏ وقال رجل من أهل نجران نصراني، يقال له ‏‏:‏‏ الرّبيِّس، - ويروى ‏‏:‏‏ الريس، والرئيس - ‏‏:‏‏ أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا‏‏؟‏‏ أو كما قال.‏‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره، فما بذلك بعثني الله، ولا أمرني؛ أو كما قال‏‏.‏‏
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقولَ للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى:‏‏ ‏‏(‏‏ بعد إذ أنتم مسلمون ‏‏)‏‏‏‏.‏‏
وبعد أن أصبح الإسلام قوياً تابع النبي عليه السلام علاقته مع يهود. ولكن بعد أن نقضوا عهدهم مع المسلمين، تعامل معهم بما يقتضيه نقض العهد، ليس كما يتعامل محمود عباس، رئيس ما يسمى السلطة الوطنية الفلسطينية. فاليهود يهودون حالياً القدس والضفة الغربية، ويصر عباس هذا على مفاوضتهم. أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد جمع بني قينقاع عندما نقضوا عهدهم معه: قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة‏‏:‏‏ أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوا فيما بين بدر وأحد‏‏.‏‏
قال ابن هشام: ولما أصاب الله عز وجل قريشاً يوم بدر جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود في سوق بني قينقاع، حين قدم المدينة، فقال:‏‏ يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشاً، فقالوا له:‏‏ يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش، كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنَّا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:‏‏ ‏‏(‏‏ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏‏.‏‏ قد كان لكم آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين، والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ‏‏).
قال ابن هشام وذكر عبدالله بن جعفر بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون، قال:‏‏ كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يُريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحتْ.‏‏ فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق:‏‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال:‏‏ فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبدالله بن أبي بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال‏‏:‏‏ يامحمد، أحسن في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج، قال:‏‏ فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال:‏‏ يا محمد، أحسن في موالي، قال‏‏:‏‏ فأعرض عنه‏‏.‏‏ فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم.‏‏
قال ابن هشام:‏‏ وكان يقال لها ذات الفضول.‏‏
قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏‏ أرسلني، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظُللاً، ثم قال:‏‏ ويحك أرسلني؛ قال لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر؛ قال:‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏‏ هم لك.‏‏
فعرب هذه الأيام أشبه ما يكونون بعبدالله بن أبي الذي يدافع عن اليهود. فقد اغتصب اليهود كامل فلسطين وجزء من الأردن ولبنان وسوريا، ولا يزال العرب يؤمنون بالسلام. يا ترى ما يفتش عنه العرب هو السلام أم الإستسلام؟
وبعد بني قينقاع، جاء دور بني النضير بنقض العهد: قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر، اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، كما حدثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف‏‏.‏‏ فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين، قالوا:‏‏ نعم، يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، مما استعنت بنا عليه‏‏.‏‏ ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا‏‏:‏‏ إنكم ‏لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه‏‏؟‏‏ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال‏‏:‏‏ أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، رضوان الله عليهم.‏‏
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء؛ بما أراد القوم، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة، فسألوه عنه، فقال:‏‏ رأيته داخلاً المدينة‏‏.‏‏ فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهوا إليه صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم، والسير إليهم‏‏.‏‏
يا سبحان الله، قرارات عرب هذه الأيام حاسمة كما قرارات نبينا الأكرم صلوات ربي عليه!
قال ابن هشام‏‏:‏‏ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق:‏‏ ثم سار بالناس حتى نزل بهم‏‏.‏‏
قال ابن هشام:‏‏ وذلك في شهر ربيع الأول فحاصرهم ست ليال ونزل تحريم الخمر‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق:‏‏ فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه:‏‏ أن يا محمد، قد كنت تنهي عن الفساد، وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها‏‏؟‏‏ ‏
وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عدو الله عبدالله بن أبي سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير‏‏:‏‏ أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أَّن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة‏‏.‏‏ ففعل.‏‏ فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه،فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام.‏‏
أما ما نزل من قرآن ببني النضير: قال ابن هشام: ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته، وما سلط عليهم به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عمل به فيهم، فقال تعالى ‏‏"‏‏ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ‏‏"‏‏ ، وذلك لهدمهم بيوتهم عن نجف أبوابهم إذا احتملوها‏‏.‏‏ ‏‏"‏‏ فاعتبروا يا أولي الأبصار، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء ‏‏"‏‏ وكان لهم من الله نقمة، ‏‏"‏‏ لعذبهم في الدنيا ‏‏"‏‏ ‏‏:‏‏ أي بالسيف، ‏‏"‏‏ولهم في الآخرة عذاب النار‏‏"‏‏ مع ذلك.‏‏ ‏‏"‏‏ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها ‏‏"‏‏‏‏.‏‏ واللينة ‏‏:‏‏ ما خالف العجوة من النخل ‏‏"‏‏ فبإذن الله ‏‏"‏‏ ‏‏:‏‏ أي فبأمر الله قطعت، لم يكن فساداً، ولكن كان نقمة من الله ‏‏"‏‏ وليخزي الفاسقين ‏‏"‏‏ ‏‏.‏‏
ما علينا أن نفعل، حتى نكون عادلين مع يهود هذه الأيام؟
وبعد بني النضير وبني قينقاع يأتي دور بني قريظة بنقض العهد في أسوأ توقيت بالنسبة للمسلمين. وذلك عندما جاءت قريش وحلفاءها يحاصرون المدينة لغزوها. وقد كان ليهود دور مهم في الغزو، علماً أنهم حلفاء للمسلمين!
قال ابن هشام: فحدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير بن عروة بن الزبير،ومن لا أتهم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزُّهري، وعاصم بن عمر بن قَتادة، وعبدالله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق، وبعضهم يحدث ما لا يحدث به بعض، قالوا:‏ إنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود، منهم‏:‏ سلاّم ابن أبي الحقيق النَّضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحُقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النَّضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله؛ فقالت لهم قريش:‏ يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟‏ قالوا‏:‏ بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه.‏ فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم:‏ ‏"‏ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فإن تجد له نصيراً‏"‏ إلى قوله تعالى ‏"‏ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ‏"‏ ‏:‏ أي النبوة، ‏"‏ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً‏.‏ فمنهم من آمن به، ومنهم من صُدَّ عنه، وكفى بجهنم سعيراً‏".‏
ثم راح اليهود يحرضون غطفان على المسلمين ونبيهم: قال ‏:‏ فلما قالوا ذلك لقريش، سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه، من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود، حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه‏.‏
كما أن حيي بن أخطب راح يحرض كعب بن أسد على نقض العهد: قال ‏ابن هشام:‏ وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري، حتى أتى كعب بن أسد القرظي، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وعاقده على ذلك وعاهده؛ فلما سمع كعب يحيى بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه حيي‏:‏ ويحك يا كعب!‏ افتح لي؛ قال‏:‏ ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمداً، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً؛ قال‏:‏ ويحك افتح لي أكلمك؛ قال:‏ ما أنا بفاعل؛ قال‏:‏ والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك (الحب المطبوخ) أن آكل معك منها؛ فأحفظ الرجل، ففتح له؛ فقال:‏ ويحك يا كعب؛ جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة؛ وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد، قد عاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه‏.‏ قال:‏ فقال له كعب:‏ جئتني والله بِذُلِّ الدهر، وبجهام ‏(‏ السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه ‏)‏ قد هراق ماءه، فهو يرعد ويبرق ليس فيه شيء، ويحك يا حيي!‏ فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً‏.‏ فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمح له، على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقاً:‏ لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.‏ فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وإلى المسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ بن النعمان، وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة بن دليم، أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبدالله بن رواحة، أخو بني الحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير، أخو بني عمرو بن عوف؛ فقال‏:‏ انطلقوا حتى تنظروا، أحَقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟‏ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تَفُتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس‏.‏ قال:‏ فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، فيما نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا:‏ من رسول الله؟‏ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد‏.‏ فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلاً فيه حده؛ فقال له سعد بن عبادة:‏ دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.‏ ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليه، ثم قالوا:‏ عضل والقارة؛ أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع، خبيب وأصحابه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏ الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين.‏
فلما كانت الظهر، أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني الزهري، معتجراً بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، فقال:‏ أوَ قد وضعت السلاح يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم؛فقال جبريل:‏ فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.‏
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً، فأذن في الناس:‏ من كان سامعاً مطيعاً، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة‏.‏ جبريل يأتي بحرب بني قريظة‏.‏
قال ابن إسحاق‏:‏ وقَدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار على بن أبي طالب، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق، فقال:‏ يا رسول الله، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث؛ قال:‏ لم؟‏ أظنك سمعت منهم لي أذى‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا رسول الله؛ قال‏:‏ لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً‏.‏ فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم‏.‏ قال‏:‏ يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته‏؟‏ قالوا:‏ يا أبا القاسم، ما كنت جهولاً.‏
ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة، نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم، يقال لها بئر أنا‏.‏
قال ابن هشام‏:‏ بئر أنى‏.‏
قال ابن إسحاق:‏ وتلاحق به الناس، فأتى رجال منهم من بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يصلين أحد العصر إلا ببني قريظة، فشغلهم ما لم يكن منه بد في حربهم، وأبوا أن يصلوا، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏ حتى تأتوا بني قريظة.‏
فصلوا العصر بها، بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك في كتابه، ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
حدثني بهذا الحديث أبي إسحاق بن يسار، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري‏.‏
قال‏:‏ وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب.‏
وقد كان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه.‏
قال‏:‏ فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس، فقالوا:‏ يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت - وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبدالله بن أبي بن سلول، فوهبهم له - فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏ ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم‏؟‏ قالوا:‏ بلى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏ فذاك إلى سعد بن معاذ‏.‏
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها‏:‏ رُفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق:‏ اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب.‏
فلما حكَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطَّئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون:‏ يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم؛ فلما أكثروا عليه قال:‏ لقد أَنى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم‏.‏
فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبدالأشهل، فنَعَى لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه.‏
فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قوموا إلى سيدكم - فأما المهاجرون من قريش، فيقولون:‏ إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار؛ وأما الأنصار، فيقولون:‏ قد عمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقاموا إليه، فقالوا:‏ يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم؛ فقال سعد بن معاذ:‏ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لمَا حكمت؟‏ قالوا‏:‏ نعم:‏ وعلى من هاهنا؟‏ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏ نعم؛ قال سعد:‏ فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء.‏ ويُروى أن النبي عليه السلام أثنى على حكم ابن معاذ.
أما الجولة الأخيرة فقد كانت مع يهود خثبر، حيث اجتمع كافة الأعداء. فبعد انهيار مقاومة اليهود، صالحهم النبي عليه السلام: وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة، سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم، ففعل.‏
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الأموال كلها‏:‏ الشق ونطاة والكتيبة وجميع حصونهم، إلا ما كان من ذينك الحصنين.‏
فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم، وأن يحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل‏.‏
وكان فيمن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود، أخو بني حارثة، فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا:‏ نحن أعلم بها منكم، وأعمر لها‏.‏
فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم؛ فصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئاً بين المسلمين، وكانت فدك خالصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب‏.‏
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر، علهم يؤمنون: قال ابن إسحاق:‏‏ وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر، فيما حدثني مولى لآل زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس‏‏:‏‏
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاحب موسى وأخيه، والمصدق لما جاء به موسى:‏‏ ألا إن الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وإنكم لتجدون ذلك في كتابكم:‏‏ ‏‏(‏‏ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوارة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب الزُرَّاع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
وإني أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المن والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله، إلا أخبرتموني:‏‏ هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟‏‏ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كُرْه عليكم‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ قد تبين الرشد من الغي ‏‏)‏‏ فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه.‏‏
إن تعامل العرب مع إسرائيل بالتردد والخوف جعل إسرائيل منتصرة دوماً. أما عندما تعاملت المقاومة الإسلامية بالشدة التي تستأهلها إسرائيل، فقد تمكنت هذه المقاومة، رغم قلة الإمكانات، من الإنتصار المؤزر على الكيان العدواني.
نأتي الآن إلى كيفية تعامل النبي عليه السلام مع النصارى، وهم أهل كتاب أيضاً. وكان أول من جاءه من النصارى، نصارى نجران: قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم‏‏:‏‏ العاقب، أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يُصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبدالمسيح؛ والسيد، لهم ثمالهم، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم؛ وأبو حارثة بن علقمة، أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم‏‏.‏‏
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم، حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.‏‏‏
فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له موجِّهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جنبه أخ له، يقال له:‏‏ كوز بن علقمة - قال ابن هشام:‏‏ ويقال:‏‏ كرز - فعثرت بغلة أبي حارثة، فقال كوز:‏‏ تعس الأبعد:‏‏ يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏‏ فقال له أبو حارثة:‏‏ بل أنت تعست!‏‏ فقال‏‏:‏‏ ولم يا أخي‏‏؟‏‏ قال:‏‏ والله إنه للنبي الذي كنا ننتظر؛ فقال له كوز:‏‏ ما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟‏‏ قال:‏‏ ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا وموّلونا وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى‏‏.‏‏ فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة، حتى أسلم بعد ذلك.‏‏ فهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني.‏‏
قال ابن هشام:‏‏ وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتاباً عندهم.‏‏ فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتماً مع الخواتم التي كانت قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي فعثر، فقال له ابنه:‏‏ تعس الأبعد‏‏!‏‏ يريد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال له أبوه:‏‏ لا تفعل، فإنه نبي، واسمه في الوضائع، يعني الكتب.‏‏
فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم فحسن إسلامه وحج.
قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال:‏‏ لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات، جبب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب.‏‏ قال:‏‏ يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ:‏‏ ما رأينا وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ دعوهم؛ فصلوا إلى المشرق.‏‏
قال ابن إسحاق:‏‏ فكانت تسمية الأربعة عشر، الذين يئول إليهم أمرهم‏‏:‏‏ العاقب، وهو عبدالمسيح؛ والسيد وهو الأيهم، وأبو حارثة ابن علقمة أخو بني بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبدالله، ويحنَّس، في ستين راكباً.‏‏
فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم:‏‏ أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبدالمسيح، والأيهم السيد - وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف من أمرهم، يقولون:‏‏ هو الله، ويقولون‏‏:‏‏ هو ولد الله، ويقولون‏‏:‏‏ هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانية‏‏.‏‏
فهم يحتجون في قولهم:‏‏ ‏‏(‏‏ هو الله ‏‏)‏‏ بأنه كان يحيي الموتى، ويبرىء الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائراً، وذلك كله بأمر الله تبارك وتعالى:‏‏ ‏‏(‏‏ ولنجعله آية للناس)‏‏.
ويحتجون في قولهم:‏‏ ‏‏(‏‏ إنه ولد الله ‏‏)‏‏ بأنهم يقولون:‏‏ لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله.‏‏
ويحتجون في قولهم‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إنه ثالث ثلاثة ‏‏)‏‏ بقول الله:‏‏ فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون‏‏:‏‏ لو كان واحداً ما قال إلا فعلت، وقضيت، وأمرت، وخلقت؛ ولكنه هو وعيسى ومريم.‏‏ ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن - فلما كلمه الحبران، قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ أسلما؛ قالا‏‏:‏‏ قد أسلمنا؛ قال:‏‏ إنكما لم تسلما فأسلما؛ قالا:‏‏ بلى، قد أسلمنا قبلك، قال:‏‏ كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير؛ قالا:‏‏ فمن أبوه يا محمد؟‏‏ فصمت عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهما‏‏.‏‏
وكان ما نزل فيهم من القرآن: قال ابن هشام: فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم كله، صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، فقال جل وعز:‏‏ ‏‏(‏‏ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ فافتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا، وتوحيده إياه بالخلق والأمر، لا شريك له فيه، رداً عليهم ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه من الأنداد، واحتجاجاً بقولهم عليهم في صاحبهم، ليعرفهم بذلك ضلالتهم؛ فقال: ‏‏(‏‏ الم الله لا إله إلا هو ‏‏)‏‏ ليس معه غيره شريك في أمره ‏‏(‏‏ الحي القيوم ‏‏)‏‏ الحي الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم‏‏.‏‏ والقيوم:‏‏ القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في قولهم عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره.‏‏
‏‏ (‏‏ نزَّل عليك الكتاب بالحق ‏‏)‏‏، أي بالصدق فيما اختلفوا فيه ‏‏(‏‏ وأنزل التوراة و الإنجيل ‏‏)‏‏:‏‏ التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، كما أنزل الكتب على من كان قبله ‏‏(‏‏ وأنزل الفرقان ‏‏)‏‏، أي الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره.‏‏
‏‏ (‏‏ إن الذين كفرو بآيات الله، لهم عذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام ‏‏)‏‏، أي أن الله منتقم ممن كفر بآياته، بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها.‏‏
‏‏ (‏‏ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ‏‏)‏‏، أي قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى، إذ جعلوه إلهاً ورباً، وعندهم من علمه غير ذلك، غِرَّة بالله، وكفراً به.‏‏
‏‏ (‏‏ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ‏‏)‏‏، أي قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صُوِّر غيره من ولد آدم، فكيف يكون إلهاً وقد كان بذلك المنزل.‏‏
ثم قال تعالى إنزاهاً لنفسه، وتوحيداً لها مما جعلوا معه:‏‏ ‏‏(‏‏ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ‏‏)‏‏، العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء الحكيم في حجته وعذره إلى عباده.‏‏ ‏
‏‏ (‏‏ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ‏‏)‏‏ فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وُضعن عليه ‏‏(‏‏ وأخر متشابهات ‏‏)‏‏ لهن تصريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، ألاّ يُصرفن إلى الباطل، ولا يحُرَّفن عن الحق.
يقول عز وجل ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ فأما الذين في قلوبهم زيغ ‏‏)‏‏، أي ميل عن الهدى ‏‏(‏‏ فيتَّبعون ما تشابه منه ‏‏)‏‏، أي ما تصرف منه، ليصدقوا به ‏ما ابتدعوا وأحدثوا، لتكون لهم حجة، ولهم على ما قالوا شبهة ‏‏(‏‏ ابتغاء الفتنة ‏‏)‏‏، أي اللبس ‏‏(‏‏ وابتغاء تأويله ‏‏)‏‏.‏‏ ذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم:‏‏ خلقنا وقضينا‏‏.‏‏ يقول‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وما يعلم تأويله ‏‏)‏‏، أي الذي به أرادوا ما أرادوا ‏‏(‏‏ إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ‏‏)‏‏ فكيف يختلف وهو قول واحد، من رب واحد.‏‏ ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، واتسق بقولهم الكتاب، وصدق بعضه بعضاً، فنفذت به الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودمغ به الكفر‏‏.‏‏
يقول الله تعالى في مثل هذا:‏‏ ‏‏(‏‏ وما يذكَّر ‏‏)‏‏ في مثل هذا ‏‏(‏‏ إلا أولوا الألباب‏‏.‏‏ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا)‏‏‏‏:‏‏ أي لا تمل قلوبنا، وإن مِلْنا بأحداثنا‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ‏‏)‏‏‏‏.‏‏
ثم قال:‏‏ ‏‏(‏‏ شهد الله أنه لا إله إلا هو الملائكة وأولوا العلم ‏‏)‏‏ بخلاف ما قالوا ‏‏(‏‏ قائماً بالقسط ‏‏)‏‏، أي بالعدل فيما يريد ‏‏(‏‏ لا إله إلا هو العزيز الحكيم.‏‏ إن الدين عند الله الإسلام ‏‏)‏‏، أي ما أنت عليه يا محمد:‏‏ التوحيد للرب، والتصديق للرسل‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلامن بعد ما جاءهم العلم ‏‏)‏‏، أي الذي جاءك، أي أن الله الواحد الذي ليس له شريك ‏‏(‏‏ بغياً بينهم، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏‏.‏‏ فإن حاجوك ‏‏)‏‏، أي بما يأتون به من‏ الباطل من قولهم:‏‏ خلقنا وفعلنا وأمرنا، فإنما هي شبهة باطل قد عرفوا ما فيها من الحق ‏‏(‏‏ فقل أسلمت وجهي لله ‏‏)‏‏، أي وحده ‏‏(‏‏ ومن اتبعنِ، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ‏‏)‏‏ الذين لا كتاب لهم ‏‏(‏‏ أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، والله بصير بالعباد ‏‏)‏‏.‏‏
وكانت الملاعنة آخر الدواء: (الملاعنة هي المباهلة، عند ابن منظور): فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأُمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا له:‏‏ يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه.‏‏ فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا:‏‏ يا عبدالمسيح، ماذا ترى؟‏‏ فقال‏‏:‏‏ والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم.‏‏ فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏‏:‏‏ يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك علىدينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضاً‏‏.‏‏
قال محمد بن جعفر‏‏:‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏‏ ائتوني العشية أبعثْ معكم القوي الأمين‏‏.‏‏ قال‏‏:‏‏ فكان عمر بن الخطاب يقول‏‏:‏‏ ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مُهجِّراً، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال:‏‏ اخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه‏‏.‏‏ قال عمر‏‏:‏‏ فذهب بها أبو عبيدة.‏‏
سنروي قصة إسلام أحد قادة النصارى لرمزيتها: قال (عدي بن حاتم، وكان نصرانياً) فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال:‏ من الرجل‏؟‏ فقلت:‏ عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها.‏
قال:‏ قلت في نفسي:‏ والله ما هذا بملك!‏
قال:‏ ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا دخل في بيته، تناول وسادة في أدم محشوة ليفاً، فقذفها إلي، فقال:‏ اجلس على هذه، قال:‏ قلت:‏ بل أنت فاجلس عليها، فقال:‏ بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض.‏
قال:‏ قلت في نفسي‏:‏ والله ما هذا بأمر ملك‏.‏
ثم قال‏:‏ إيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسياً‏؟‏ قال‏:‏ قلت:‏ بلى، قال:‏ أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟‏ (والمرباع ما يأْخذه الرئيس وهو ربع الغنيمة) قال‏:‏ قلت:‏ بلى، قال‏:‏ فإن ذلك يكن يحل لك في دينك، قال‏:‏ قلت‏:‏ أجل والله‏.‏
وقال‏:‏ وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل.‏
ثم قال:‏ لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم، وقلة
عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف.‏ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله، ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، قال:‏ فأسلمت.‏
وكان عدي يقول:‏ قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها، لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وأيم الله لتكون الثالثة، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه‏.‏
وقد كان تعامل النبي عليه السلام مع النصارى يتميز بعدم الشدة لأن النصارى أنفسهم لم يخونوا عهداً مع النبي عليه السلام، وهم الذين اختاروا طريقة التعامل مع النبي عليه الصلاة والسلام. جاء في السيرة المطهرة: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة، صاحب أيلة، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم كتاباً فهو عندهم.‏
فكتب النبي عليه السلام ليحنة بن رؤبة:
بسم الله الرحمن الرحيم:‏ هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله، ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر‏:‏ لهم ذمة الله، وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه، من بر أو بحر‏.‏
وهذا أكيدر، وقد كان نصرانياً صالحه رسول الله عليه السلام: قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن خالداً قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته.
ثم أن الرسول عليه السلام قد أوصى معذاً عندما بعثه إلى أهل الكتاب في اليمن: قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين بعث معاذاً أوصاه ، وعهد إليه ، ثم قال له ‏:‏
يسر ولا تعسر ، وبشر ولا تنفر ، وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب ، يسألونك ما مفتاح الجنة ‏؟‏ فقل ‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له...
ننهي فنقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعامل مع أهل الكتاب معاملة عادلة (بالتي هي أحسن). أما ما كان من قتل اليهود أحياناً وتهجيرهم أحياناً أخرى فكان ذلك بسبب من نقضهم عهدهم مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وتآمرهم عليه وجمع الجموع لقتاله وتأليب القبائل عليه. وهذا ما لم نجده مطلقاً مع النصارى.
إن عدم معرفة مسلمي أيامنا الحاضرة التعامل مع اليهود بما يقتضيه التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل اليهود ينتصرون علينا ويستعمرون فلسطين وبعضاً من أراضي الدول العربية. والقلة المؤمنة التي تعاملت مع هؤلاء اليهود بما يقتضيه التأسي بالنبي عليه السلام جعلهم يحققون انتصارين عزيزين على الأعداء، عنيت المقاومة الإسلامية.
ولا يخرج عن ذلك التعامل مع الغرب المستعمر وخاصة مع أمريكا الظالمة التي تتمتع بخيرات الدول الإسلامية لأن المتحكمين بهذه الدول باتوا على غربة مع رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه.
19 كانون الأول 2010 حسن ملاط

ليست هناك تعليقات: