من سيرة المصطفى -18 –
يقول تبارك وتعالى: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله مع المتقين". (التوبة 36)
استجاب نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام لأمر الله تبارك وتعالى. وما أن استقر به المقام في المدينة، حتى تطلع إلى مجاهدة المشركين بما تقتضيه الظروف.
وكانت أولى غزواته، عليه السلام، غزوة ودان، حيث وادع بني ضمرة، مع استمرارهم على شركهم.
قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: حتى بلغ وَدّان، وهي غزوة الأبواء، يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذي وادعه منهم عليهم مخَشيّ بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه ذلك.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق كيداً، فأقام بها بقية صفر، وصدراً من شهر ربيع الأول. قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها.
ثم أرسل النبي عليه السلام عبيدة بن الحارث بسرية يريد فيها قريشاً: قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مُقامه ذاك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين أو ثمانين راكباً من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماءً بالحجاز، بأسفل ثنيِّة المرة، فلقي بها جمعاً عظيماً من قريش، فلم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد ُرمي يومئذ بسهم، فكان أول سهم رُمي به في الإسلام.
ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية. وفرَ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني، حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازني، حليف بني نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين، ولكنهما خرجا ليتوصَّلا بالكفار. وكان على القوم عكرمة ابن أبي جهل.
قال ابن هشام: حدثني ابن أبي عمرو بن العلاء، عن أبي عمرو المدني: أنه كان عليهم مِكْرز بن حفص بن الأخيف، أحد بني معيص بن عامر ابن لؤي بن غالب بن فهر.
ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بسرية ثانية بقيادة حمزة إلى سيف البحر: قال ابن هشام: وبعث في مقامه ذلك، حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم، إلى سيف البحر، من ناحية العيص، في ثلاثين راكباً من المهاجرين، وليس فيهم من الأنصار أحد. فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاث مئة راكب من أهل مكة. فحجز بينهم مجديُّ بن عمرو الجهني. وكان موادعاً للفريقين جميعاً، فانصرف بعض القوم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال.
وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين. وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معاً، فشُبِّه ذلك على الناس. وقد زعموا أن حمزة قد قال في ذلك شعراً يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان حمزة قد قال ذلك، فقد صدق إن شاء الله، لم يكن يقول إلا حقاً، فالله أعلم أي ذلك كان.
فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا، فعبيدة بن الحارث أول من عقد له.
ثم كانت غزوة بواط، وهي الثانية بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق : ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول يريد قريشاً.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بواط، من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى.
سوف يلاحظ القارىء أن أمر الله تبارك وتعالى يعني الكثير بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، لذلك تلاحقت الغزوات والسرايا بوتيرة عالية قياساً مع أيامنا الحاضرة، بحيث لم يترك للعدو أي مجال للراحة.
وكانت غزوة العشيرة، وهي الثالثة: قال ابن هشام: ثم غزا (النبي عليه السلام) قريشاً، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فسلك على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها. فثمَّ مسجده صلى الاله عليه وسلم، وصُنع له عندها طعام، فأكل منه، وأكل الناس معه، فموضع أثافي البرمة معلوم هنالك، واستُقي له من ماء به، يقال له: المشترب، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائق بيسار، وسلك شعبة يقال لها: شعبة عبدالله، وذلك اسمها اليوم، ثم صب لليسار حتى هبط يليل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة، واستقى من بئر بالضبوعة، ثم سلك الفرش: فرش ملل، حتى لقي الطريق بصحيرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع. فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيداً.
علينا ملاحظة أن الموادعة تُخرِج العدو من مقتضيات العداوة، كالقتال، على سبيل المثال.
وفي تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام ما قال.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم المحاربي، عن محمد بن كعب القرظي، عن محمد بن خيثم أبي يزيد، عن عمار بن ياسر، قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة؛ فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بها؛ رأينا أناساً من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل؛ فقال لي علي بن أبي طالب: يا أبا اليقظان، هل لك في أن تأتي هؤلاء القوم، فننظر كيف يعملون؟ قال: قلت: إن شئت؛ قال: فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة، ثم غشينا النوم. فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في صور من النخل، وفي دقعاء من التراب فنمنا، فوالله ما أهبَّنا إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله. وقد تترَّبْنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: ما لك يا أبا تراب؟ لما يرى عليه من التراب.
ثم قال: ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟ قلنا: بلى، يا رسول الله؛ قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه - ووضع يده على قرنه - حتى يَبُلَّ منها هذه. وأخذ بلحيته.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سمَّى علياً أبا تراب، أنه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها، ولم يقل لها شيئاً تكرهه، إلا أنه يأخذ تراباً فيضعه على رأسه. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عليه التراب عرف أنه عاتب على فاطمة، فيقول: ما لك يا أبا تراب؟ فالله أعلم أي ذلك كان.
ثم تأتي سرية سعد بن أبي وقاص: قال ابن إسحاق: وقد كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص، في ثمانية رهط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرَّار من أرض الحجاز، ثم رجع ولم يلق كيداً.
قال ابن هشام: ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة.
أما غزوة سفوان فهي تدعى أيضاً غزوة بدر الأولى: قال ابن إسحاق : ولم يُقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز ابن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ وادياً، يقال له: سفوان، من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر، فلم يدركه، وهي غزوة بدر الأولى. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجباً وشعبان.
ثم كانت سرية عبد الله بن جحش. وهي تعتبر من أهم السرايا لأن من نتائجها تغيير مسار معارك المسلمين ضد المشركين: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب، مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً.
وكان أصحاب عبدالله بن جحش من المهاجرين، ثم من بني عبد شمس ابن عبد مناف: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس؛ ومن حلفائهم: عبدالله بن جحش، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن ابن حرثان، أحد بني أسد بن خزيمة، حليف لهم.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر، حليف لهم.
ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص.
ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة، حليف لهم من عنز ابن وائل، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة ابن يربوع، أحد بني تميم، حليف لهم، وخالد بن البكير، أحد بني سعد بن ليث، حليف لهم.
ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء.
فلما سار عبدالله بن جحش يومين فتح الكتاب، فنظر فيه فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبدالله بن جحش في الكتاب، قال: سمعاً وطاعة؛ ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشاً، حتى آتيه منهم بخبر؛ وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم. فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع؛ فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف عنه منهم أحد.
وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع، يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يعتقبانه. فتخلفا عليه في طلبه. ومضى عبدالله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة.
فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً، وتجارة من تجارة قريش، فيهما عمرو بن الحضرمي.
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا عُمَّار، لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام؛ فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبدالله، والحكم بن كيسان؛ وأفلت لقومَ نوفلُ بن عبدالله فأعجزهم. وأقبل عبدالله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش: أن عبدالله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس - وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم - فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه.
قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. فوقَّف العير والأسيرين. وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً؛ فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال؛ فقال من يرد عليهم من المسلمين، ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان.
فلما أكثر الناس في ذلك، أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير، وصد عن سبيل الله وكفر به، والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله) أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم ( والفتنة أكبر من القتل ): أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) (البقرة 217): أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين.
فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نُفديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
ثم كان يوم الفرقان، غزوة بدر الكبرى: قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام.
قال ابن هشام: ويقال: عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبدالله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن ابن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقته من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام، ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله يُنْفِلُكُموها.
فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً.
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أمر الناس. حتى أصاب خبراً من بعض الركبان: أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة.
وتنبأت عاتكة بنت عبد المطلب، فغضب أبو جهل، وكان ما كان بينه وبين العباس بن عبد المطلب: قال ابن هشام: قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت، وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبدالمطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة؛ قال: فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبدالمطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفُروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقاً ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء، نكتبْ عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئاً. قال: ثم تفرقنا.
فلما أمسيت، لم تبق امرأة من بني عبدالمطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غِيَر لشيء مما سمعت، قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان مني إليه من كبير. وأيم الله لأتعرضن له، فإن عاد لأكفينَّكُنَّه.
قال (العباس): فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أُرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه. قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه، ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلاً خفيفاً، حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر. قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال: فقلت في نفسي: ما له لعنه الله، أكلُّ هذا فَرَق مني أن أشاتمه! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع: صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، قد جدع بعيره، وحوّل رحله، وشق قيمصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمةَ اللطيمةَ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوثَ الغوثَ. قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر.
فتجهز الناس سراعاً، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً. وأوعبت قريش، فلم يتخلف من أشرافها أحد.
إلا أن أبا لهب بن عبدالمطلب تخلف، وبعث مكانه العاصي بن هشام ابن المغيرة، وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجُزئ عنه، بعثه فخرج عنه، وتخلف أبو لهب.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح: أن أمية بن خلف كان أجمع القعود، وكان شيخاً جليلاً جسيماً ثقيلاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء؛ قال: قبحك الله وقبح ما جئت به، قال: ثم تجهز فخرج مع الناس.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر، فكاد ذلك يثنيهم، فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه، فخرجوا سراعاً.
قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه - قال ابن هشام: خرج يوم الأثنين لثمان ليال خلون من شهر رمضان - واستعمل عمرو بن أم مكتوم - ويقال: اسمه: عبدالله بن أم مكتوم - ، أخا بني عامر بن لؤي، على الصلاة بالناس، ثم رد أبا لبابة من الروحاء، واستعمله على المدينة.
قال ابن إسحاق: ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار.
قال ابن هشام: وكان أبيض.
قال ابن إسحاق: وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان، إحداهما مع علي بن أبي طالب، يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.
قال ابن إسحاق: وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيراً، فاعتقبوها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيراً، وكان حمزة بن عبدالمطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة، مولياً رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيراً، وكان أبو بكر، وعمر، وعبدالرحمن بن عوف يعتقبون بعيراً.
قال ابن إسحاق: وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فسلك طريقه من المدينة إلى مكة، على نَقْب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحُليفة، ثم على أولات الجيش.
قال ابن هشام: ذات الجيش.
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم؛ فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش؛ فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن.
ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون) (المائدة 24). ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له به.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل؛ قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك؛ ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران، فسلك على ثنايا. يقال لها: الأصافر؛ ثم انحط منها إلى بلد يقال له: الدَّبَّة، وترك الحنَّان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم؛ ثم نزل قريباً من بدر، فركب هو ورجل من أصحابه.
قال ابن هشام: الرجل هو أبو بكر الصديق.
قال ابن إسحاق كما حدثني محمد بن يحيى بن حبان: حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم؛ فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم؛ قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش.
فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ: ما من ماء، أمن ماء العراق؟
قال ابن هشام: يقال: ذلك الشيخ: سفيان الضمري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه؛ فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه، إلى ماء بدر، يلتمسون الخبر له عليه - كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير - فأصابوا رواية لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء.
فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما. فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما. وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه، ثم سلم، وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا، والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش؟ قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب: العقنقل - فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم؟ قالا: كثير؛ قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري؛ قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم فيما بين التسع مئة والألف.
ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، و زمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء، قد مضيا حتى نزلا بدراً، فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنَّاً لهما يستقيان فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء. فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر، وهما يتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غداً أو بعد غد، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك. قال مجدي: صدقتِ، ثم خلَّص بينهما. وسمع ذلك عدي وبسبس، فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه بما سمعا.
وأقبل أبو سفيان بن حرب، حتى تقدم العير حذراً، حتى ورد الماء؛ فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحداً؟ فقال: ما رأيت أحداً أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا.
فأتى أبو سفيان مُناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتَّه، فإذا فيه النوى؛ فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع إلى أصحابه سريعاً، فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدراً بيسار، وانطلق حتى أسرع.
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش قال: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا؛ فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدراً - وكان بدر موسماً من مواسم العرب، يجتمع لهم به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثاً، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونُسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا.
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان حليفاً لبني زهرة وهم بالجحفة: يا بني زهرة، قد نجَّى الله لكم أموالكم، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا لي جُبْنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا، يعني أبا جهل.
فرجعوا، فلم يشهدها زُهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعاً.
ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس، إلا بني عدي بن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدراً من هاتين القبيلتين أحد، ومشى القوم.
قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي، وهو يَلْيَل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلفه قريش، والقُلُب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة.
وبعث الله السماء، وكان الوادي دهساً، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبَّد لهم الأرض، ولم يمنعهم عن السير، وأصاب قريشاً منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
قال ابن إسحاق: فحُدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا: أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي.
فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، و بنى حوضاً على القَليب الذي نزل عليه، فمُلىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث: أن سعد بن معاذ قال: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له بخير. ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه.
قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصَوَّب من العقنقل - و هو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي - قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر - إن يكن في أحد القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا.
وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري، بعث إلى قريش، حين مروا به، ابناً له بجزائره أهداها لهم، وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. قال: فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك رحم، قد قضيت الذي عليك، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة.
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه. فكان إذا اجتهد في يمينه، قال: لا والذي نجاني من يوم بدر.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: احزروا لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاث مائة رجل، يزيدون قليلاً أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ قال: فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيئاً، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئاً، ولكن قد رأيت، يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم، حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي؛ قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي، فعلي عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية ( أبا جهل).
ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله، أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعاً له من جرابها، فهو يهنئها. - قال ابن هشام: يهيئها - فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، للذي قال؛ فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمداً وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه، فقد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك، ومقتل أخيك. فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: واعمراه، واعمراه، فحميت الحرب، وحَقِب الناس، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل ( انتفخ والله سحره )، قال: سيعلم مُصَفِّر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو؟
قال ابن هشام: السَحْر: الرئة وما حولها مما يعلق بالحلقوم من فوق السرة. وما كان تحت السرة، فهو القُصْب، ومنه قوله: رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار: قال ابن هشام: حدثني بذلك أبو عبيدة.
ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته؛ فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.
قال ابن إسحاق: وقد خرج الأسود بن عبدالأسد المخزومي، وكان رجلاً شرساً سيئ الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه؛ فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد - زعم - أن يبر يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
قال ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم: عوف، ومعوذ، ابنا الحارث - وأمهما عفراء - ورجل آخر، يقال: هو عبدالله بن رواحة؛ فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار؛ قالوا: ما لنا بكم من حاجة.
ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي؛ قالوا: نعم، أكفاء كرام.
فبارز عبيدة، وكان أسن القوم، عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة؛ وبارز علي الوليد بن عتبة.
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله؛ وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله؛ واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه؛ وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا (أجهزا) عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار، حين انتسبوا: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا.
قال ابن إسحاق : ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال : إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، معه أبو بكر الصديق .
فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.
قال ابن إسحاق: كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين.
قال ابن إسحاق : وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، حليف بن عدي بن النجار - قال ابن هشام: يقال: سوَّاد؛ مثقلة؛ وسواد في الأنصار غير هذا، مخفف - وهو مستنتل من الصف - قال ابن هشام: ويقال: مستنصل من الصف - فطعن في بطنه بالقدح وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل؛ قال: فأقدني.
فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد؛ قال: فاعتنقه فقبل بطنه؛ فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقاله له.
قال ابن إسحاق: ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش فدخله، ومعه فيه أبو بكر الصديق، ليس معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا نبي الله: بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.
وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله. هذا جبريل أخذ بعنان فرس يقوده، على ثناياه النقع.
قال ابن إسحاق: وقد رمى مهجع، مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين؛ ثم رمى حارثة بن سراقة، أحد بني عدي بن النجار، وهو يشرب من الحوض، بسهم فأصاب نحره، فقتل.
قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم، وقال: والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحُمام أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن عوف ابن الحارث، وهو ابن عفراء قال: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسراً. فنـزع درعاً كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبدالله بن ثعلبة بن صُعَير العذري، حليف بني زهرة، أنه حدثه: لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل بن هشام: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة. فكان هو المستفتح.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشاً بها، ثم قال: شاهت الوجوه، ثم نضحهم بها، وأمر أصحابه، فقال: شدوا؛ فكانت الهزيمة، فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم. فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش، الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشح السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كَرَّة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؛ قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك احب إلي من استبقاء الرجال.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبدالله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ: إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً، ولا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البَخْتَري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهاً. قال: فقال أبوحذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا. ونترك العباس، والله لئن لقيته لأُلْحِمنَّه السيف - قال ابن هشام: ويقال لأُلْجِمَنه السيف - قال: فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص - قال عمر: والله إنه لأول يوم كنَّاني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص - أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟ فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفاَ، إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيداً.
قال ابن إسحاق: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على وبني هاشم وبني المطلب، فلقيه المجذر بن زياد البلوي، حليف الأنصار، ثم من بني سالم بن عوف، فقال المجذر لأبي البختري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك - ومع أبي البختري زميل له، قد خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مُلَيحة بنت زهير بن الحارث بن أسد؛ وجنادة رجل من بني ليث. واسم أبي البختري: العاص - قال: وزميلي؟ فقال له المجذر: لا والله، ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك، فقال: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعاً، لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصاً على الحياة.
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، قال ابن إسحاق: وحدثنيه أيضاً عبدالله بن أبي بكر وغيرهما، عن عبدالرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقاً بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت عبدالرحمن ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبواك؟ فأقول : نعم ؛ فيقول: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئاً أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف، قال: فكان إذا دعاني: يا عبد عمرو لم أجبه، قال: فقلت له: يا أبا علي، اجعل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، قال: فقلت: نعم، قال: فكنت إذا مررت به، قال: يا عبد الإله فأجيبه، فأتحدث معه.
حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه علي ابن أمية، آخذ بيده، ومعي أدراع قد استلبتها فأنا أحملها. فلما رآني قال لي: يا عبد عمرو فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، فقلت نعم، هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك. قال قلت: نعم. ها الله ذا! قال فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ قال ثم خرجت أمشي بهما.
قال ابن هشام: يريد باللبن، أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن.
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالواحد بن أبي عون، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه عبدالرحمن بن عوف، قال: قال لي أمية بن خلف، وأنا بينه وبين ابنه، آخذ بأيديهما: يا عبد الإله، من الرجل منكم المُعْلم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلت: ذاك حمزة بن عبدالمطلب؛ قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل.
قال عبدالرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارقَ دين محمد؛ فيقول بلال: أحد أحد - قال: فلما رآه؛ قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: قلت: أي بلال، أبأسيري، قال: لا نجوت إن نجا. قال: قلت: أتسمع يا ابن السوداء، قال: لا نجوت إن نجا. قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المُسكة وأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط. قال: فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء بك فوالله ما أغني عنك شيئاً، قال: فهبروهما بأسيافهم، حتى فرغوا منهما. قال: فكان عبدالرحمن يقول: يرحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.
وتحدث البعض ممن شهد بدراً، أن الملائكة قد شاركت في القتال. ونحن لا نشك بأن الملائكة قد نصرت المؤمنين في بدر لأنه قد ورد في القرآن ما يفيد بذلك: قال تبارك وتعالى في سورة آل عمران في الآية الكريمة 123 وما بعدها: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون. إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلى، إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. وما جعله الله إلا بشرى لكم، ولتطمئن قلوبكم به، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم". ويقول تعالى في سورة الأنفال في الآية التاسعة والعاشرة: "وإذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بثلاثة آلاف من الملائكة مردفين. وما جعله الله إلا بشرى، ولتطمئن به قلوبكم، وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم". قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله ابن أبي بكر أنه حُدث عن ابن عباس قال: حدثني رجل من بني غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننتهب مع من ينتهب، قال: فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم؛ فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدراً، قال، بعد أن ذهب بصره: لو كنت اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك فيه ولا أتمارى.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بني مازن بن النجار، عن أبي داود المازني، وكان شهد بدراً، قال: إني لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مِقسم، مولى عبدالله ابن الحارث، عن عبدالله بن عباس، قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء قد أرسلوها على ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمراً. ( وابن عباس كان طفلاً).
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أن علي بن أبي طالب قال: العمائم: تيجان العرب، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء وقد أرخوها على ظهورهم، إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم، عن ابن عباس، قال: ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عدداً ومدداً لا يضربون. (وحيث أن الملائكة والجان هم من عالم الغيب، الخفي على بني آدم، لذلك ليس بإمكاننا رؤية الملائكة ولا الجان. ولكن لانشك ولو للحظة أن الله نصر المؤمنين بالملائكة يوم بدر، وجعله بشرى لهم، بشرهم بها رسول الله عليه الصلاة والسلام).
قال ابن هشام: وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: أحد أحد.
ويحدثنا ابن هشام عن مقتل رأس الكفر أبي جهل: قال ابن إسحاق: وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز، وهو يقاتل.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، أمر بأبي جهل أن يُلتمس في القتلى.
وكان أول من لقي أبا جهل، كما حدثني ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، وعبدالله بن أبي بكر أيضاً قد حدثني ذلك، قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح، أخو بني سلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة - قال ابن هشام: الحرجة: الشجر الملتف. وفي الحديث عن عمر بن الخطاب: أنه سأل أعرابياً عن الحرجة؛ فقال: هي شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، وهم يقولون: أبو الحكم لا يخُلص إليه.
قال: فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنَّت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يُضرب بها.
قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.
قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان.
ثم مر بأبي جهل وهو عقير، معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه و به رمق. وقاتل معوذ حتى قتل، فمر عبدالله بن مسعود بأبي جهل، حين أمر رسول الله صلى الله عليه سلم أن يُلتمس في القتلى، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - انظروا، إن خفي عليكم في القتلى، إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوماً أنا وهو على مأدبة لعبدالله بن جدعان، ونحن غلامان، وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه، فجحش في إحداهما جحشاً لم يزل أثره به.
قال عبدالله بن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه - قال: وقد كان ضبث بي مرة بمكة، فآذاني ولكزني، ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني، أعمد من رجل قتلتموه، أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال: قلت: لله ولرسوله.
قال ابن هشام: ضبث: قبض عليه ولزمه
قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بني مخزوم، أن ابن مسعود كان يقول: قال لي: لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رُوَيْعِيَّ الغنم؛ قال: ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل؛ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آللهِ الذي لا إله غيره - قال: وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: فقلت: نعم، والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي: أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص، ومر به: إني أراك كأن في نفسك شيئاً، أراك تظن أني قتلت أباك؛ إني لو قتله لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به، وهو يبحث بحث الثور برَوْقه فحُدْتُ عنه، وقصد له ابن عمه علي فقتله.
وكان حديث بين أبي بكر وإبنه الكافر، عبد الرحمن: قال ابن هشام: ونادى أبو بكر الصديق ابنه عبدالرحمن، وهو يومئذ مع المشركين، فقال: أين مالي يا خبيث؟ فقال عبدالرحمن:
لم يبق غير شِكَّة ويعبوبْ * وصارم يقتل ضُلاَّل الشيبْ
فيما ذكر لي عن عبدالعزيز بن محمد الدراوردي.
وكان مصير قتلى المشركين في القليب: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير عن عائشة، قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب، طرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فملأها، فذهبوا ليحركوه، فتزابل لحمه، فأقروه، وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
فلما ألقاهم في القليب، وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً. قالت: فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوماً موتى؟ فقال لهم: لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقاً.
قالت عائشة: والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم، وإنما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد علموا.
قال ابن إسحاق: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل وهو يقول: يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، فعدد من كان منهم في القليب: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؛ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً؟ فقال المسلمون: يا رسول الله، أتنادي قوماً قد جيَّفوا؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم هذه المقالة: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس؛ ثم قال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ للمقالة التي قال.
قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوا في القليب، أخذ عتبة بن ربيعة، فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - في وجه أبي حذيفة بن عتبة، فإذا هو كئيب قد تغير لونه، فقال: يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فقال: لا، والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر، بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيراً.
ثم يتحدث ابن هشام عن نزول سورة الأنفال التي تصف أحداث بدر:
ما نزل في تقسيم الفيء بعد اختلاف المسلمين فيه: قال ابن إسحاق: فلما انقضى أمر بدر، أنزل الله عز وجل فيه من القرآن الأنفال بأسرها، فكان مما نزل منها في اختلافهم في النفل حين اختلفوا فيه: ( يسئلونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله رسوله إن كنتم مؤمنين).
فكان عبادة بن الصامت - فيما بلغني - إذا سئل عن الأنفال، قال: فينا معشر أهل بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل يوم بدر، فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقنا؛ فرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه بيننا عن بَوَاء - يقول: على السواء - وكان في ذلك تقوى الله وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصلاح ذات البين.
ما نزل في خروج المسلمين لملاقاة قريش: ثم ذكر القوم ومسيرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرف القوم أن قريشاً قد ساروا إليهم، وإنما خرجوا يريدون العير طمعاً في الغنيمة، فقال: ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون): أي كراهية للقاء القوم، وإنكاراً لمسير قريش، حين ذُكروا لهم (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم): أي الغنيمة دون الحرب (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته، ويقطع دابر الكافرين): أي بالوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر (إذ تستغيثون ربكم): أي لدعائهم حين نظروا إلى كثرة عدوهم، وقلة عددهم (فاستجاب لكم) بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائكم (أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين): أي أنزلت عليكم الأمنة حين نمتم لا تخافون (وينزل عليكم من السماء ماء) للمطر الذي أصابهم تلك الليلة، فحبس المشركين أن يسبقوا إلى الماء، وخلى سبيل المسلمين إليه (ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام): أي ليذهب عنكم شك الشيطان، لتخويفه إياهم عدوهم، واستجلاد الأرض لهم، حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبقوا اليه عدوهم.
ما نزل في تبشير المسلمين وتحريضهم على القتال: ثم قال تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا): أي آزروا الذين آمنوا. (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب)، ثم قال: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير): أي تحريضاً لهم على عدوهم لئلا ينكلوا عنهم إذا لقوهم، وقد وعدهم فيهم ما وعدهم.
ما نزل في رمي الرسول المشركين بالحصباء: ثم قال تعالى في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالحصباء من يده، حين رماهم: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى): أي لم يكن ذلك برميتك، لولا الذي جعل الله فيها من نصرك، وما ألقى في صدور عدوك منها حين هزمهم الله (وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً): أي ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على عدوهم، وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه، ويشكروا بذلك نعمته.
ما نزل في الاستفتاح: ثم قال: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح): أي لقول أبي جهل: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة. والاستفتاح: الإنصاف في الدعاء.
يقول الله جل ثناؤه: (وإن تنتهوا): أي لقريش (فهو خير لكم وإن تعودوا نعد): أي بمثل الوقعة التي أصبناكم بها يوم بدر (ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين): أي عددكم وكثرتكم في أنفسكم لن تغني عنكم شيئاً، وإني مع المؤمنين، أنصرهم على من خالفهم.
القرآن يحض المسلمين على طاعة الرسول: ثم قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله، ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون): أي لا تخالفوا أمره وأنتم تسمعون لقوله، وتزعمون أنكم منه (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون): أي كالمنافقين الذين يظهرون له الطاعة، ويسرون له المعصية (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون): أي المنافقين الذين نهيتكم أن تكونوا مثلهم، بكم عن الخير، صم عن الحق، لا يعقلون: لا يعرفون ما عليهم في ذلك من النقمة والتباعة (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم): أي لأنفذ لهم قولهم الذي قالوا بألسنتهم، ولكن القلوب خالفت ذلك منهم، ولو خرجوا معكم (لتولوا وهم معرضون)، ما وفوا لكم بشيء مما خرجوا عليه. (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم): أي للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم، (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون. يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون): أي لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم، ثم تخالفوه في السر إلى غيره، فإن ذلك هلاك لأماناتكم، وخيانة لأنفسكم. (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم): أي فصلاً بين الحق والباطل، ليظهر الله به حقكم، ويطفىء به باطل من خالفكم.
تذكير الرسول بنعمة الله عليه: ثم ذكَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعمته عليه، حين مكر به القوم ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه (ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين): أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
ما نزل في غرة قريش واستفتاحهم على أنفسهم: ثم ذكر غرة قريش واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا: (اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك): أي ما جاء به محمد (فأمطرْ علينا حجارة من السماء) كما أمطرتها على قوم لوط (أو ائتنا بعذاب أليم): أي بعض ما عذبت به الأمم قبلنا، وكانوا يقولون: إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفره، ولم يعذب أمة ونبيها معها حتى يخرجه عنها. وذلك من قولهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: يذكر جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم، حين نعى سوء أعمالهم: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون): أي لقولهم: إنا نستغفر ومحمد بين أظهرنا، ثم قال: (وما لهم ألا يعذبهم الله) وإن كنت بين أظهرهم، وإن كانوا يستغفرون كما يقولون (وهم يصدون عن المسجد الحرام): أي من آمن بالله وعبده: أي أنت ومن اتبعك، (وما كانوا أولياءَه، إنْ أولياؤه إلا المتقون) الذين يحرمون حرمته ويقيمون الصلاة عنده: أي أنت ومن آمن بك (ولكن أكثرهم لا يعلمون. وما كان صلاتهم عند البيت) التي يزعمون أنه يدفع بها عنهم (إلا مكاء وتصدية).
ثم يلتفت ابن هشام التفاتة لطيفة عن المدة بين ( يا أيها المزمل ) و بدر: قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة قالت: ما كان بين نزول: ( يا أيها المزمل )، وقول الله تعالى فيها: ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً. إن لدينا أنكالاً وجحيماً. وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً ) إلا يسير، حتى أصاب الله قريشاً بالوقعة يوم بدر.
قال ابن هشام: الأنكال: القيود؛ واحدها: نِكْل.
ما نزل من الأمر بقتال الكفار: ثم قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله): أي حتى لا يفتن مؤمن عن دينه، ويكون التوحيد لله خالصاً ليس له فيه شريك، ويخلع ما دونه من الأنداد (فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير. وإن تولوا) عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم (فاعلموا أن الله مولاكم). الذي أعزكم ونصركم عليهم يوم بدر في كثرة عددهم وقلة عددكم (نعم المولى ونعم النصير).
ما نزل في تقسيم الفيء واسباب النصر: ثم أعلمهم مقاسم الفيء وحكمه فيه، حين أحله لهم، فقال: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير): أي يوم فرقت فيه بين الحق والباطل بقدرتي يوم التقتى الجمعان منكم ومنهم (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) من الوادي (وهم بالعدوة القصوى) من الوادي إلى مكة (والركب أسفل منكم) أي عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها عن غير ميعاد منكم ولا منهم (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد): أي ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ثم بلغكم كثر عددهم، وقلة عددكم ما لقيتموهم (ولكن ليقضي الله امراً كان مفعولاً): أي ليقضي ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الكفر وأهله عن غير بلاء منكم ففعل ما أراد من ذلك بلطفه، ثم قال: (ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم). أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك.
ما نزل في لطفه تعالى به صلى الله عليه وسلم: ثم ذكر لطفه به وكيده له، ثم قال: (إذ يريكهم الله في منامك قليلاً، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم، إنه عليم بذات الصدور)، فكان ما أراك من ذلك نعمة من نعمه عليهم، شجعهم بها على عدوهم، وكف بها عنهم ما تخوف عليهم من ضعفهم، لعلمه بما فيهم.
قال ابن هشام: تُخوف: مبدلة من كلمة ذكرها ابن إسحاق ولم أذكرها.
(وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً): أي ليؤلف بينهم على الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه، من أهل ولايته.
ما نزل في وعظ المسلمين وتعليمهم فنون الحرب: ثم وعظهم وفهمهم وأعلمهم الذي ينبغي لهم أن يسيروا به في حربهم، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة) تقاتلونهم في سبيل الله عز وجل (فاثبتوا واذكروا الله كثيراً) الذي له بذلتم أنفسكم، والوفاء له بما أعطيتموه من بيعتكم (لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا): أي لا تختلفوا فيتفرق أمركم (وتذهب ريحكم): أي وتذهب حدتكم (واصبروا إن الله مع الصابرين): أي إني معكم إذا فعلتم ذلك (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس): أي لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا: لا نرجع حتى نأتي بدراً فننحر به الجزر ونسقى بها الخمر، وتعزف علينا فيها القيان، وتسمع العرب أي: لا يكون أمركم رياءً، ولا سمعةً، ولا التماس ما عند الناس، وأخلصوا لله النية والحسبة في نصر دينكم، ومؤازرة نبيكم، لا تعملوا إلا لذلك ولا تطلبوا غيره.
ثم قال تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم).
قال ابن إسحاق: ثم ذكر الله تعالى أهل الكفر، وما يلقون عند موتهم، ووصفهم بصفتهم، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عنهم، حتى انتهى إلى أن قال: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون): أي فنكل بهم من ورائهم لعلهم يعقلون (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) . . . إلى قوله تعالى: (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم، وأنتم لا تظلمون): أي لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة، وعاجل خلفه في الدنيا، ثم قال تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها): أي إن دعوك إلى السلم على الإسلام فصالحهم عليه (وتوكل على الله) إن الله كافيك (إنه هو السميع العليم).
والسلم أيضاً: الصلح، وفي كتاب الله عز وجل: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)، ويقرأ : (إلى السِّلم)، وهو ذلك المعنى.
قال ابن هشام: وبلغني عن الحسن بن أبي الحسن البصري، أنه كان يقول: (وإن جنحوا للسلم) للإسلام. وفي كتاب الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) ويقرأ (في السَّلم)، وهو الإسلام. (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله) هو من وراء ذلك. (هو الذي أيدك بنصره) بعد الضعف (وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم) على الهدى الذي بعثك الله به إليهم (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم) بدينه الذي جمعهم عليه (إنه عزيز حكيم).
ثم قال تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين. يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون): أي لا يقاتلون على نية ولا حق ولا معرفة بخير ولا شر.
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي نجيح عن عطاء بن أبي رباح، عن عبدالله بن عباس قال: لما نزلت هذه الآية، اشتد على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين، ومئة ألفاً، فخفف الله عنهم، فنسختها الآية الآخرى (في هذه المناسبة)، فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين). قال: فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم.
ما نزل في المغانم والأسارى: قال ابن إسحاق: ثم عاتبه الله تعالى في الأسارى، وأخذ المغانم، ولم يكن أحد قبله من الأنبياء يأكل مغنماً من عدو له.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد أبو جعفر بن علي بن الحسين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت جوامع الكلم، وأحلت لي المغانم ولم تحلل لنبي كان قبلي، وأعطيت الشفاعة، خمس لم يؤتهن نبي قبلي.
قال ابن إسحاق: فقال: (ما كان لنبي): أي قبلك (أن يكون له أسرى) من عدوه (حتى يثخن في الأرض)؛ أي يثخن عدوه، حتى ينفيه من الأرض (تريدون عرض الدنيا): أي المتاع، الفداء بأخذ الرجال (والله يريد الآخرة): أي قتلهم لظهور الدين الذي يريد إظهاره، والذي تدرك به الآخرة (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم): أي من الأسارى والمغانم (عذاب عظيم) أي لولا أنه سبق مني أني لا أعذب إلا بعد النهي ولم يك نهاهم، لعذبتكم فيما صنعتم، ثم أحلها له ولهم رحمة منه، وعائدة من الرحمن الرحيم، فقال: (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم). ثم قال: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم).
الحض على التواصل والتواد والولاية بين المسلمين، وردّ المواريث إلى أهلها: وحض المسلمين على التواصل، وجعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية الدين دون من سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، ثم قال: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير): أي إلا يوال المؤمن المؤمن من دون الكافر، وإن كان ذا رحم به: (تكن فتنة في الأرض): أي شبهة في الحق والباطل، وظهور الفساد في الأرض بتولي المؤمن الكافر دون المؤمن.
ثم رد المواريث إلى الأرحام ممن أسلم بعد الولاية من المهاجرين والأنصار دونهم إلى الأرحام التي بينهم، فقال: (والذين آمنوا من بعدُ وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم، وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله): أي بالميراث (إن الله بكل شيء عليم).
إن ما جعلنا نتوسع بوصف هذه الغزوة أنها كانت معركة حقيقية يخوضها المسلمون ضد أئمة الكفر. وسيكون لهذه الغزوة تأثيرها على مسيرة النبي عليه السلام الجهادية. فهذه الغزوة دعاها الله تبارك وتعالى: يوم الفرقان، لأهميتها. ولا يغيب عن بالنا أنها المرة الأولى التي يشارك فيها الأنصار في غزاة أو سرية، ولهذا دلالته.
قال ابن إسحاق: وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر في عقب شهر رمضان أو في شوال.
ثم كانت غزوة بني سليم: قال ابن إسحاق: فلما قدم (رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم يقم بها إلا سبع ليال (حتى ) غزا بنفسه، يريد بني سليم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سباع بن عُرفطة الغفاري، أو ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: فبلغ ماء من مياهم، يقال له: الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيداً، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وأفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش.
ثم كانت غزوة السويق: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام: قال: حدثنا زياد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثم غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق في ذي الحجة، وولىَّ تلك الحجة المشركون من تلك السنة، فكان أبو سفيان كما حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، ويزيد بن رومان، ومن لا أتهَّم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، وكان من أعلم الأنصار، حين رجع إلى مكة، ورجع فل قريش من بدر، نذر أن لايمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً صلى الله عليه وسلم، فخرج في مئتي ركاب من قريش، ليبر يمينه، فسلك النجدية، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له: ثيب، من المدينة على بريد
(فرسخين= ستة أميال أو اثني عشر ميلاً) أو نحوه، ثم خرج من الليل، حتى أتى بني النضير تحت الليل ، فأتى حيي بن أخطب، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له بابه وخافه، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك، وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه، فأذن له، فقراه وسقاه، وبطن له من خبر الناس، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالاً من قريش إلى المدينة، فأتوا ناحية منها، يقال لها: العريض، فحرقوا في أصوار من نخل بها، ووجدوا بها رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما، فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين، ونذر بهم الناس. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، واستعمل على المدينة بشير بن عبدالمنذر، وهو أبو لبابة، فيما قال ابن هشام: حتى بلغ قرقرة الكدر ثم انصرف راجعاً، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأوا أزواداً من أزواد القوم قد طرحوها في الحرث يتخففون منها للنجاء، فقال المسلمون، حين رجع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: نعم.
قال ابن هشام: وإنما سميت غزوة السويق، فيما حدثني أبو عبيدة: أن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم السويق، فهجم المسلمون على سويق كثير، فسميت غزوة السويق.
ثم كانت غزوة ذي امر: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريباً منها، ثم غزا نجداً، يريد غطفان، وهي غزوة ذي أمر، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فأقام بنجد صفْراً كله أو قريباً من ذلك، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيداً. فلبث بها شهر ربيع الأول كله، أو إلا قليلاً منه.
ثم غزا ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يريد قريشاً، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بحران، معدنا بالحجاز من ناحية الفرع، فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً.
ثم كانت سرية زيد بن حارثة: قال ابن إسحاق : وسرية زيد بن حارثة التي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، حين أصاب عير قريش، وفيها أبو سفيان بن حرب على القردة، ماء من مياه نجد. وكان من حديثها: أن قريشاً خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار، فيهم: أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة، وهي عظم تجارتهم، واستأجروا رجلاً من بني بكر بن وائل، يقال له: فرات بن حيان يدلهم في ذلك على الطريق.
قال ابن هشام: فرات بن حيان، من بني عجل، حليف لبني سهم.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزه الرجال، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وكانت إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد قدومه من نجران، جمادى الآخرة ورجباً وشعبان وشهر رمضان، وغزته قريش غزوة أحد في شوال، سنة ثلاث.
ثم كانت غزوة أحد التي سنتحدث عنها بالتفصيل لأنها الهزيمة الأولى للمسلمين: قال ابن هشام: قال ابن اسحاق: وكان من حديث أحد، كما حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبدالرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من هذا الحديث عن يوم أحد قالوا، أومن قال منهم: لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فلُّهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره، مشى عبدالله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش، ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فعلَّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا، ففعلوا.
قال ابن إسحاق: ففيهم، كما ذكر لي بعض أهل العلم، أنزل الله تعالى: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون".
فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب، وأصحاب العير بأحأبيشها، ومن أطاعها من قبائل كنانة، وأهل تهامة، وكان أبو عّزة عمرو بن عبدالله الجمحي قد منّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وكان فقيراً ذا عيال وحاجة وكان في الأسارى فقال: إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن علي صلى الله عليك وسلم، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صفوان بن أمية يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك فأخرج معنا، فقال: إن محمداً قد منّ علي فلا أريد أن أظاهر عليه، قال بلى فأعنا بنفسك فلك الله علي إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فخرج أبو عزة في تهامة ويدعو بني كنانة. وخرج مسافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودعا جبير بن مطعم غلامًا له حبشيًا يقال له: وحشي يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها، فقال له: أخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة عمّ محمد بعمّي طعيمة بن عدي، فأنت عتيق.
فخرجت قريش بحدّها وجدّها وحديدها وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم الظعن، التماس الحفيظة، وألا يفروا. فخرج أبو سفيان بن حرب، وهو قائد الناس. بهند بنة عتبة وخرج عكرمة بن أبي جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة، بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمر بن عمير الثقفية، وهي أم عبدالله بن صفوان بن أمية.
قال ابن إسحاق: وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبدالله بن عمرو، وخرج طلحة بن أبي طلحة وأبو طلحة عبدالله بن عبدالعزى بن عثمان بن عبدالدار بسلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية، وهي أم بني طلحة: مسافع والجلاس وكلاب، قتلوا يومئذهم وأبوهم، وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب، إحدى نساء بني مالك بن حسل مع ابنها أبي عزيز بن عمير، وهي أم مصعب بن عمير، وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وكانت هند بنت عتبة كلما مرت بوحشي أو مر بها، قالت: ويها أبا دسمة اشف واستشف، وكان وحشي يكنى بأبي دسمة، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين، بجبل ببطن السبخة، من قناة على شفير الوادي، مقابل المدينة.
قال: فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت بقراً لي تذبح، قال: فأما البقر فهي ناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في ذباب سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل.
قال ابن إسحاق: فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبدالله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك، وألا يخرج إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره، ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا نخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منَّا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، فلبس لأْمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة. وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له: مالك بن عمرو، أحد بني النجار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم، وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك. فلما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله: استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل". فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه.
قال ابن هشام: واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبدالله بن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال.
قال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه.
قال ابن هشام: وذكر غير زياد، عن محمد بن إسحاق عن الزهري: أن الأنصار يوم أحد، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال: "لا حاجة لنا فيهم".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : مَن رجل يخرج بنا على القوم من كثب - أي من قرب - من طريق لا يمر بنا عليهم؟ فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله. فنفذ به في حرة بني حارثة، وبين أموالهم، حتى سلك في مال لمربع بن قيظي، وكان رجلاً منافقاً ضرير البصر، فلما سمع حِس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله، فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي. وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك.
فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر" وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبدالأشهل، قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه.
قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد، في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال "لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال" وقد سرَّحت قريش الظهر والكراع، في زروع كانت بالصمغة من قناة للمسلمين، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة، ولمَّا نضارب؟ وتعبىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال. وهو في سبعمائة رجل، وأمَّر على الرماة عبدالله بن جبير، أخا بني عمرو بن عوف، وهو مُعلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلاً فقال، "انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك "وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبدالدار.
قال ابن هشام: وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سمرة بن جندب الفزاري، ورافع بن خديج، أخا بني حارثة، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وكان قد ردهما، فقيل له: يا رسول الله إن رافعاً رامٍ فأجازه، فلما أجاز رافعاً قيل له: يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعاً، فأجازه.
وردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسامة بن زيد، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، أحد بني مالك بن النجار، والبراء بن عازب، أحد بني حارثة، وعمرو بن حزم أحد بني مالك بن النجار، وأسيد بن ظهير أحد بني حارثة، ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة سنة.
قال ابن إسحاق: وتعبأت قريش، وهم ثلاثة آلاف رجل، ومعهم مئتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم؛ حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، أخو بني ساعدة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تشرب به العدو حتى ينحني؛ قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه.
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، إذا كانت، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء، فاعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج عصابته تلك، فعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفين.
قال ابن إسحاق: فحدثني جعفر بن عبدالله بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب، عن رجل من الأنصار من بني سلمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله، إلا في مثل هذا الموطن.
وبدأت المعركة. قال ابن إسحاق: وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبدالدار يحرضهم بذلك على القتال: يا بني عبدالدار، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، فهموا به وتواعدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع وذلك أراد أبو سفيان.
فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويحرضنهم.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أمت، أمت، فيما قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس.
قال ابن هشام: حدثني غير واحد، من أهل العلم، أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه فسألته إياه قبله، فأعطاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع؛ فاتبعته، فأخرج عصابة له حمراء، فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصب بها.
قال ابن إسحاق: فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله. وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحاً إلا ذفف عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه. فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا، فأختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها. قال الزبير فقلت: الله ورسوله أعلم.
قال ابن إسحاق: وقال أبو دجانة سماك بن خرشة: رأيت أنساناً يخمش الناس خمشاً شديداً، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اضرب به امرأة.
وقاتل حمزة بن عبدالمطلب حتى قتل أرطاة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، ثم مر به سباع بن عبدالعزى الغبشاني، وكان يكنى بأبي نيار، فقال له حمزة: هلم إلي يابن مقطعة البظور - وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي.
قال ابن هشام: شريق بن الأخنس بن شريق. وكانت ختانة بمكة - فلما التقيا ضربه حمزة فقتله.
واستشهد حمزة ومصعب بن عمير. والتقى حنظلة بن أبي عامر الغسيل وأبو سفيان، فلما استعلاه حنظلة بن أبي عامر رآه شداد بن الأسود، وهو ابن شعوب، وقد علا أبا سفيان. فضربه شداد فقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم، يعني حنظلة، لتغسله الملائكة. فسألوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبته عنه. فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة.
قال ابن هشام: ويقال: الهائعة. وجاء في الحديث: خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك غسَّلته الملائكة.
قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير، أنه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر، حين كشفنا القوم عنه وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم.
قال ابن هشام: الصارخ: أزبّ العقبة، يعني الشيطان.
وقد أصيب الرسول عليه السلام في هذه الغزوة: قال ابن إسحاق: وانكشف المسلمون، فأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدُثّ بالحجارة حتى وقع لشقه، فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص.
قال ابن إسحاق: فحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله عز وجل في ذلك: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون".
قال ابن هشام: وذكر ربيح بن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبدالله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، وهم لا يعلمون؛ فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائماً، ومص مالك بن سنان، أبو أبي سعيد الخدري، الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مس دمي دمه لم تصبه النار".
قال ابن هشام: وذكر عبدالعزيز بن محمد الدراوردي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الارض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله.
وذكر، يعني عبدالعزيز الدراوردي، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عيسى بن طلحة، عن عائشة، عن أبي بكر الصديق: أن أبا عبيدة بن الجراح نزع إحدى الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت ثنيته، ثم نزع الأخرى، فسقطت ثنيته الأخرى، فكان ساقط الثنيتين.
وكان من شجاعة الصحابة: قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غشية القوم: مَن رجل يشري لنا نفسه؟ كما حدثني الحصين بن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن محمود بن عمرو، قال: فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار وبعض الناس يقول إنما هو عمارة بن يزيد بن السكن، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلاً ثم رجلاً، يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدنوه مني"، فأدنوه منه، فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد.
فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري: أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة، فقلت لها: يا خالة، أخبريني خبرك، فقالت خرجت: أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين.
فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إليّ.
قالت: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت: من أصابك بهذا؟ قالت ابن قمئة، أقمأه الله! لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربني هذه الضربة، ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان.
وكان من خبر شجاعة أبي دجانة وسعد بن أبي وقاص: قال ابن إسحاق: وترَّس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره، وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل، ورمي سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل، وهو يقول: "ارم فداك أبي وأمي" حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول: ارم به.
وكان من شجاعة قتادة بن النعمان ما رواه ابن هشام: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، حتى وقعت على وجنته.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عيله وسلم ردها بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما.
قال ابن إسحاق: وحدثني القاسم بن عبدالرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار، قال: انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قتل، وبه سمى أنس بن مالك.
قال ابن إسحاق: فحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم: أن عبدالرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذ فهتم (ألقى مقدم أسنانه)، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، إصابة بعضها في رجله فعرج.
قال ابن إسحاق: وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة، وقول الناس: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر لي ابن شهاب الزهري كعب بن مالك، قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أنصت.
قال ابن إسحاق: فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، رضوان الله عليهم. والحارث بن الصمة، ورهط من المسلمين.
قال: فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ادركه أبي بن خلف وهو يقول: أي محمد، لانجوت إن نجوت، فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه؛ فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، يقول بعض القوم فيما ذكر لي: فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة، تطايرنا بها تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها - قال ابن هشام: الشعراء ذباب له لدغ - ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً.
قال ابن هشام : تدأدأ ، يقول : تقلب عن فرسه فجعل يتدحرج .
قال إسحاق وكان أبيُّ بن خلف، كما حدثني صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فيقول: يا محمد إن عندي العوذ، فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه؛ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد! قالوا له: ذهب والله فؤادك! والله إنْ بك من بأس؛ قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك. فوالله لو بصق عليَّ لقتلني. فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة.
قال: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب، حتى ملأ درقته ماء من المهراس، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً، فعافه فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمَّى وجه نبيه.
قال ابن إسحاق: فحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقول: والله ما حرصت على قتل رجل قط كحرصي على قتل عتبة بن أبي وقاص. وإن كان ما علمت لسيء الخلق مبغضاً فيه قومه، ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتد غضب الله على من دمَّى وجه رسوله.
قال ابن إسحاق: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعب، معه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل.
قال ابن هشام: كان على تلك الخيل خالد بن الوليد.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا! فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل.
قال ابن إسحاق: ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض صلى الله عليه وسلم لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به، حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يقول: أوجب طلحة حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع.
قال ابن هشام: وبلغني عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الدرجة المبنية في الشعب.
قال ابن هشام: وذكر عمر مولى غفرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم أحد قاعداً من الجراح التي أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعوداً.
قال ابن إسحاق: وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى بعضهم المنقَّى، دون الأعوص.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، رفع حسيل بن جابر، وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان، وثابت بن وقش في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه. وهما شيخان كبيران: ما أبا لك، ما تنتظر؟ فوالله لا بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار (إلا يسير)، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا، ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذا أسيافهما ثم خرجا، حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما، فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر، فاختلفت عليه أسياف المسلمين، فقتلوه ولا يعرفونه، فقال حذيفة: أبي؛ فقالوا: والله إن عرفناه، وصدقوا.
قال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه؛ فتصدق حذيفة بديته على المسلمين؛ فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن رجلاً منهم كان يدعى حاطب بن أمية بن رافع، وكان له ابن يقال له: يزيد بن حاطب، أصابته جراحة يوم أحد، فأتي به إلى دار قومه وهو بالموت، فاجتمع إليه أهل الدار، فجعل المسلمون يقولون له من الرجال والنساء: أبشر يابن حاطب بالجنة؛ قال: وكان حاطب شيخاً قد عسا في الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه، فقال: بأي شيء تبشرونه؟ بجنة من حرمل! غررتم والله هذا الغلام من نفسه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجل أتيّ لا يُدرى ممن هو، يقال له: قزمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار، قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالاً شديداً، فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر، قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً من كنانته، فقتل به نفسه.
قال ابن إسحاق: وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الفطيون، قال: لما كان يوم أحد، قال: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل معه حتى قتل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - مخيريق خير يهود.
قال ابن إسحاق: وكان الحارث بن سويد بن صامت منافقاً، فخرج يوم أحد مع المسلمين، فلما التقى الناس عدا على المجذر بن ذياد البلوي، وقيس بن زيد، أحد بني ضبيعة، فقتلهما، ثم لحق بمكة بقريش؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون قد أمر عمر بن الخطاب بقتله إن هو ظفر به، ففاته، فكان بمكة؛ ثم بعث إلى أخيه الجلاس بن سويد يطلب التوبة، ليرجع إلى قومه.
فأنزل الله تعالى فيه، فيما بلغني عن ابن عباس: " كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم، وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين " إلى آخر القصة.
قال ابن هشام: حدثني من أثق به من أهل العلم: أن الحارث بن سويد، قتل المجذر بن ذياد، ولم يقتل قيس بن زيد، والدليل على ذلك: أن ابن إسحاق لم يذكره في قتلى أحد؛ وإنما قتل المجذر، لأن المجُذَّر بن ذياد كان قتل أباه سويداً في بعض الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى من هذا الكتاب.
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، إذ خرج الحارث بن سويد من بعض حوائط المدينة، وعليه ثوبان مضرجان، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فضرب عنقه؛ ويقال: بعض الأنصار.
قال ابن إسحاق: قتل سويد بن الصامت معاذ بن عفراء غيلة، في غير حرب، رماه بسهم فقتله قبل يوم بعاث.
قال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن أبي سفيان، مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة قال: كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يُصَل قط، فإذا لم يعرفه الناس، سألوه: من هو؟ فيقول: أصيرم من بني عبدالأشهل، عمرو بن ثابت بن وقش. قال الحصين: فقلت لمحمود بن أسد: كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه. فلما كان يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، بدا له في الإسلام فأسلم، ثم أخذ سيفه فعدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة.
وقال فبينا رجال من بني عبدالأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه ما جاء به؛ فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي، فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني، ثم لم يلبث أن مات في أيديهم. فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه لمن أهل الجنة.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن أشياخ من بني سلمة: أن عمرو بن الجموح كان رجلاً أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله عز وجل قد عذرك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك، وقال لبنيه: ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل يوم أحد.
قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة، كما حدثني صالح بن كيسان، والنسوة اللاتي معها، يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الهن عليه وسلم يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشياً، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة، فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها فقالت:
نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر * ولا أخي وعمه بكري
شفيت نفسي وقضيت نذري * شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي عليَّ عمري * حتى ترمَّ أعظمي في قبري
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فقال: أخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون وما يريدون فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؛ فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة.
ثم إن أبا سفيان بن حرب، حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته فقال: أنعمت فعال، وإن الحرب سجال يوم بيوم، أعل هبل، أي أظهر دينك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق