من سيرة المصطفى – 13 –
إقرأ بسم ربك الذي خلق: عنوان النبوة
جاء في الروض الأنف للسهيلي ما يلي: متى بعث رسول الله؟
ذكر ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث على رأس أربعين من مولده عليه السلام وهذا مروي عن ابن عباس، وجبير بن مطعم وقباث بن أشيم وعطاء وسعيد بن المسيب، وأنس بن مالك وهو صحيح عند أهل السير والعلم بالأثر وقد روي أنه نُبئ لأربعين وشهرين من مولده وقيل لقباث بن أشيم من أكبر أنت أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال رسول الله أكبر مني، وأنا أسن منه وولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل ووقفت بي أمي على روث الفيل ويروى: خزق الطير فرأيته أخضر محيلاً، أي قد أتى عليه حول.
وفي غير رواية البكائي من هذا الكتاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال لا يفتك صيام يوم الاثنين فإني قد ولدت فيه وبعثت فيه وأموت فيه.
قال ابن إسحاق: فذكر الزهري عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها حدثته أن أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة لا يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح. قالت وحبب الله تعالى إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده.
قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير. قال سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي حدثنا يا عبيد، كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل عليه السلام؟ قال فقال عبيد - وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير، ومن عنده من الناس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية.
وذكر ابن إسحاق: ما بدئ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من النبوءة إذ كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله. وفي مصنف الترمذي ومسلم أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن ينزل علي. وفي بعض المسندات زيادة أن هذا الحجر الذي كان يسلم عليه هو الحجر الأسود.
قال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان قال قال عبيد [ بن عمير ]: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذات الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به - إذا انصرف من جواره - الكعبة، قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعاً، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء، كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ قال قلت: ما أقرأ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال اقرأ قال قلت: ما أقرأ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني، فقال اقرأ قال قلت: ماذا أقرأ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال اقرأ قال فقلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداءً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. قال فقرأتها، ثم انتهى، فانصرف عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتاباً. قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة، ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني. وانصرفت راجعاً إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها، فقالت يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة ورجعوا لي، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت أبشر يا بن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع فقال ورقة بن نوفل: قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة، فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة، فقال يا بن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتله ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصراً يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.
وفي رواية يونس عن ابن إسحاق بسنده إلى أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال لخديجة: إني إذا خلوت وحدي سمعت نداءً وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر ". قالت معاذ الله ما كان الله ليفعل ذلك بك. فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم. وتصدق... الحديث فلما دخل أبو بكر، وليس [ عندها ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكرت خديجة له ذلك فقالت يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ أبو بكر بيده. فقال انطلق بنا إلى ورقة بن نوفل. فقال " ومن أخبرك "؟ قال خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه فقال: إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هارباً في الأرض. فقال له لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول لك. ثم ائتني، فأخبرني، فلما خلا ناداه يا محمد قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. حتى بلغ ولا الضالين. قل لا إله إلا الله. فأتى ورقة فذكر ذلك له فقال له ورقة أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا. ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك. فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأيت القس في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني. يعني: ورقة وفي رواية يونس أيضاً أنه عليه السلام قال لرجل سب ورقة أما علمت أني رأيت لورقة جنة أو جنتين وهذا الحديث الأخير قد أسنده البزار.
بقية من حديث ورقة وذلك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتكذبنه فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ثم قال ولتؤذينه فلم يقل له شيئاً، ثم قال ولتخرجنه فقال: أومخرجي هم؟ ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس وأيضاً فإنه حرم الله وجوار بيته وبلدة أبيه إسماعيل فلذلك تحركت نفسه عند ذكر الخروج منه ما لم تتحرك قبل ذلك فقال "أومخرجي هم؟" والموضع الدال على تحرك النفس وتحرقها إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه وذلك أن الواو ترد إلى الكلام المتقدم وتشعر المخاطب بأن الاستفهام على جهة الإنكار أو التفجع لكلامه أو التألم منه.
ما أنا بقارئ
وقوله في حديث ابن إسحاق: اقرأ قال ما أقرأ يحتمل أن تكون ما استفهاماً، يريد أي شيء أقرأ؟ ويحتمل أن تكون نفياً، ورواية البخاري ومسلم تدل على أنه أراد النفي أي ما أحسن أن أقرأ كما تقدم من قوله ما أنا بقارئ.
هذا ما جاء في الروض الأنف عن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وما ورد هنا يتطابق مع ما جاء عند ابن هشام. أما ما استوفنا في هذه الرواية نقطتان هامتان:
الأولى، أن النبي كان يُكثر الخلوة إلى النفس، وأن الشهر الذث بُعث فيه كان قد غختلى لنفسه شهراً كاملاً. تُرى ماذا كان يفعل في هذه الخلوات المتكررة والطويلة؟
الثانية، أن الأمر الإلهي، الأمر الإفتتاحي للرسالة الخاتمة جاء بأمر بالقراءة لمن كان أمياً على مختلف الروايات. تُرى ما هي القراءة المطلوبة؟
المعروف أن النبي عليه السلام قد حضر جميع المشاهد قبل بعثته المباركة. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن النبي عليه السلام كان يعيش مختلف تفاصيل ما يجري في مجتمعه. ثم يختلي الأيام الطوال! هل كان يقوم بتحليل جميع هذه الظواهر؟ أي يقرأها! يمكننا الإجابة بنعم على هذا الإحتمال لأن محمد كان يعود إلى الإختلاط بمجتمعه. فممارساته كانت مقصودة أو عن سابق إصرار وتصميم، كما يُقال. فالقراءة المطلوبة هي قراءة المجتمع بتفاصيله، والخلوة هي لتقويم ما ورد في هذه القراءة. وفي هذا المقام يخطر على البال سؤالاً نجد مشروعية لطرحه: هل أن الله تبارك وتعالى كان يُعد نبينا الأكرم إلى "الحمل الثقيل"؟ نحن نميل إلى ما ورد.
العرب قبل البعثة:
قال ابن هشام : فالعرب كلها من ولد إسماعيل وقحطان . وبعض أهل اليمن يقول : قحطان من ولد إسماعيل . ويقول : إسماعيل أبو العرب كلها.
كان العرب، سواء أهل اليمن أو غيرهم يعيشون كقبائل متقاتلة. يعيشون معظم أيامهم على الغزو المتبادل.
أما القراءات التي كانت سائدة في جزيرة العرب، فهي التالية:
الوثنية، اليهودية، الصابئة، النصرانية و الحنيفية.
يقول جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (الكتاب الذي سنعتمد عليه في بحثنا إلى جانب كتب السير):ومعارفنا عن قريش لا بأس بها بالنسبة إلى معارفنا عن خزاعة وعن من تقدم عليها من قبائل ذكر أهل الأخبار أنها سكنت مكة. وتبدأ هذه المعرفة بها، ابتداء من قصي زعيم قريش ومجمعها، والذي أخذ أمر مكة فوضعه في يديه، ثم في أيدي أولاده من بعده، فصارت بذلك قريش صاحبة مكة.
يضيف جواد علي: وقد اشتهرت قريش بالتجارة، وبها عرفت وذاع صيتها بين القبائل. وتمكن رجالها بفضل ذكائهم وحذقهم بأسلوب التعامل من الإتصال بالدول الكبرى في ذلك العهد: الفرس والروم والحبشة، وبحكومة الحيرة والغساسنة، وبسادات القبائل، ومن تكوين علاقات طيبة معها، مع تنافر هذه الدول وتباغضها. كما تمكنوا من عقد أحلاف مع سادات القبائل، ضمنت لهم السير طوال أيام السنة بهدوء وطمأنينة في كل أنحاء جزيرة العرب. والطمأنينة، أهم أمنية من أماني التاجر. وبذلك أمنوا على تجارتهم، ونشروا تجارتهم في كل أنحاء جزيرة العرب. حتى عرفوا بقريش التجار.
يضيف جواد علي: وقد علمت الأسفار سادة قريش أموراً كثيرة من أمور الحضارة والثقافة. فقد أرتهم بلاداً غريبة ذات تقدم وحضارة، وجعلتهم يحتكون بعرب العراق وبعرب بلاد الشام، فتعلموا من الحيرة أصول كتابتهم، وهذبوا لسانهم، ودونوا به أمورهم. وذُكر أنهم كانوا من أفصح العرب لساناً.
ويضيف قائلاً: وقد جعلت طبيعة هذا الوادي أهل مكة يميلون إلى السلم، ولا يركنون إلى الحرب والغزو إلا دفاعاً عن نفس.
ثم يقول: وقد تمكنت مكة في نهاية القرن السادس وبفضل نشاط قريش المذكور من القيام بأعمال هامة صيرتها من أهم المراكز المرموقة في العربية الغربية في التجارة وفي إقراض المال... وقد ذكر الثعالبي أن قريشاً صاروا أدهى العرب، وأعقل البرية، وأحسن الناس بياناً...
هذه حال مكة قبل البعثة النبوية المشرفة.
أما عن ديانات العرب قبل الإسلام، فيقول جواد علي: إن معارفنا قبل الإسلام مستمدة في الدرجة الأولى من النصوص الجاهلية بلهجاتها المتعددة من معينيةوسبئية وحضرمية وأوسانية وقتبانية وثمودية ولحيانية وصفوية، وهي نصوص ليس من بينها نص واحد ويا للأسف في أمور دينية مباشرة.... ولا تتناول الموارد الإسلامية بعد، إلا الوثنية القريبة من الإسلام والوثنية التي كانت متفشية بين قبائل الحجاز في الغالب ... وبفضل إقرار الإسلام لبعض أحكام وشعائر الجاهليين، استطعنا الوقوف على جانب من أحكامهم وشرائعهم... ومعارفنا عن الأساطير العربية الدينية قليلة جداً. وهذا مما حمل بعض المستشرقين على القول بأن العرب لم تكن لهم أساطير دينية عن آلهتهم ... وحيث أن الجاهليين كانوا شعوباً وقبائل، لم تجمع بينهم وحدة فكر ولم تضمهم دولة واحدة، أو عقيدة مشتركة، فنحن لا نستطيع التحدث عن شعائر واحدة لجميع عرب الجاهلية.
وفي مقدمة شعائر الدين عند أهل الجاهلية: الأصنام وبيوتها والتقرب إليها بالصلاة وبالسجود وبالطواف حولها، وبالنذور، وبالحبوس وبالقسم بها... ومن طرق عبادة أهل الجاهلية: التحنث، أي التعبد والتقرب إلى الآلهة... ومن شعائر الدين عند الجاهليين الإختتان. وأما الإغتسال من الجنابة وتغسيل الموتى، فمن السنن التي أقرت في الإسلام... والقرابين والنذور وزيارات المعابد والحج هي من أبرز الشعائر الدينية...
الحج والعمرة:
يقول جواد علي: ويظهر من غربلة ما أورده أهل الأخبار من روايات عن موسم الحج في الجاهلية، أن الحج إلى مكة كان في موسم ثابت، هو الربيع على رأي كثير من المستشرقين، أو الخريف على رأي ولهوزن... إن الجاهليين كانوا يتهيأون للحج من دخول شهر شوال، فيصلحون أمورهم، ويحضرون ما يحتاجون إليه من لوازم السفر، فإذا أراد أحدهم تجارة وكسباً ذهب إلى الأسواق، حتى يهل شهر ذو الحجة، وإن لم يرد تجارة، ذهب في أي وقت يراه مناسباً له...
ثم يضيف: ... أن حج أهل الجاهلية لم يكن إلى مكة وحدها، بل كان إلى محجات عديدة أخرى. بحيث حج كل قوم إلى البيت الذي قدسوه وكانوا يتقربون إليه ووضعوا أصنامهم فيه... وكان الناس يزورونها (بيوت الأصنام) ويتقربون إليها ويذبحون عند أصنامها ويطوفون حولها ويلبون تلبية الصنم الذي يطوفون حوله... غير أننا نجد في روايات بعض أهل الأخبار ما ينافي تعظيم كل العرب للبيت وحجهم إليه واحترامهم للحرم وللأشهر الحرم. فقد ورد أن من العرب من كان لا يرعى للحرم ولا للأشهر الحرم حرمة، ومنهم خثعم وطيء وأحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب. وورد أن ذؤبان العرب وصعاليكها وأصحاب التطاول، كانوا لا يؤمنون على الحرم، ولا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدراً. وقد كانوا خطراً يهدد البيت وأهله لذلك، ألف هاشم بين قريش وسادات القبائل ألفة ليحمي بهم البيت.
وحول مناسك الحج يقول جواد علي أن المناسك لم تكن موحدة عند الجاهليين، ثم يضيف: يبدأ حج أهل الجاهلية بالإهلال. فكانوا يهلون عند أصنامهم، ويلبون إليها، فإذا انتهوا من ذلك قدموا مكة... والطواف بالبيوت وبالأصنام، ركن من أركان الحج، ومنسك من مناسكه. وكانوا يفعلونه كلما دخلوا البيت الحرام، فإذا دخل أحدهم الحرم، وإذا سافر أو عاد من سفر، فأول ما كان يفعله الطواف بالبيت... وقد ذكر الإخباريون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون حول الرجمات، وهي حجارة تجمع فتكون على شبه بيت مرتفع كالمنارة، ويقال لها الرجمة. وكان الجاهليون يطوفون حول الأصنام والأنصاب(وهي أحجار هم نصبوها) ... وحول الذبيحة التي يقدمونها للآلهة. وكانوا يطوفون حول القبور أيضاً: قبور السادالت والأشراف من الناس... وتلعب عبادة الحجر دوراً بارزاً في الدوار (الطواف). فقدكان قوم من أهل الجاهلية يقيمون الأحجار، ثم يطوفون حولها، يتخذون الدوار عبادة لهم... ويلاحظ أن الجاهليين كانوا يقيمون وزناً للحليب في أمور العبادة، فقد كانوا يسكبونه على الأصنام... وعدة الطواف حول الكعبة عند الجاهليين سبعة أشواط... وقد ورد أن من الجاهليين من كان يطوف ويده مربوطة بيد إنسان آخر... يفعلونه نذراً أو حتى لا يفترقا.
ويضيف جواد علي في هذا الموضوع: والأخباريون يذكرون أن الطائفين بالبيت كانوا على صنفين: صنف يطوف عرياناً (الحلة) وصنف يطوف في ثيابه (الحمس) (ويشترك بذلك النساء والرجال، وذلك حتى لا يطوفوا في الثياب التي ارتكبوا المعصية فيها)... وذكر أن من الحجاج من كان يحج بغير زاد، وأن منهم من كان إذا أحرم رمى بما معه من زاد...
التلبية:
يقول جواد علي: وذكر محمد بن حبيب أن طواف أهل الجاهلية بالبيت أسبوعاً، وذكر أنهم كانوا يمسحون الحجر الأسود، ويسعون بين الصفا والمروة. وكانوا يلبون. (كانت تلبياتهم مختلفة). والتلبية هي إجابة الملبي ربه. ثم يضيف: وتردد جمل التلبية بصوت مرتفع، ولعل ذلك لإعتقاد الجاهليين أن في رفع الصوت إفهاماً للصنم الذي يطاف له بأن الطائف قد لبى داعيه، وأنه استجاب أمره وحرص على طاعته... وهناك مواضع أخرى غير متصلة بالبيت الحرام، كانت مقدسة وداخلة في شعائر الحج، منها عرفة ومنى والمزدلفة والصفا والمروة، ومواضع أخرى كان يقصدها الجاهليون لقدسيتها أو لوجود صنم فيها...
الإفاضة:
يقول جواد علي: ويفيض الحجاج في الجاهلية عند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة من المزدلفة إلى منى، لرمي الجمرات ولنحر الأضحية... وقد يكون لرمي الجمرات ولنحر الذبائح صلة بتلك الأصنام... وكان الجاهليون يقلدون هديهم بقلادة، أو بنعلين، يعلقان على رقبة الهدي، إشعاراً للناس بأن الحيوان هو هدي، فلا يجوز الإعتداء عليه، كما كانوا يشعرونه. والإشعار الإعلام. وهو أن يشق جلد البدنة أو يطعن بأسنمها... و التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي تشرر في الشمس. وقيل سمي التشريق تشريقاً، لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس... ولا يحل للحجاج في الجاهلية حلق شعورهم أو تقصيرها طيلة حجهم وإلا بطل حجهم. ويلاحظ أن غير العرب من الساميين كانوا لا يسمحون بقص الشعر في مثل هذه المناسبات الدينية... وخاصة اللحية... وكانت القبائل لا تحلق شعورها في مواسم حجها إلا عند أصنامها... وكان من عادة بعض القبائل، مثل بعض قبائل اليمن، إلقاء قرة من دقيق مع الشعر...
يضيف جواد علي: وكان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم وفرغوا من الحج، وذبحوا نسائكهم، يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم... وكانوا إذا خرج أحدهم من بيته يريد الحج، تقلد قلادة من لحاء السمر، دلالة على ذهابه إلى الحج، فيأمن حتى يأتي أهله...
التجارة في الحج:
قال جواد علي: قال علماء التفسير: كان متجر الناس في الجاهلية: عكاظ وذو المجاز، فكانوا إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم. ويقولون أيام الحج أيام ذكر.
العمرة:
يقول جواد علي: وكان أهل الجاهلية يقومون بأدائها في شهر رجب... حرص الجاهليون على ألا يوافق موعدها موعد مواسم الحج، لما كان لها من أهمية عظيمة عندهم قد تزيد على الطواف المألوف في شهر الحج... وورد أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن العمرة من أشهر الحج... ولكن بعضهم كان يعتمر في كل شهر، ولا سيما في رجب، حيث كانوا يحلقون رؤوسهم ويجيؤون إلى محجاتهم للعمرة. وورد أن أهل الجاهلية كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر... ويلبس المعتمر الإحرام أيضاً. وقد كان الجاهليون يكتفون في عمرتهم بالطواف بالبيت، أما السعي بين الصفا والمروة، فأغلب الظن أن العرب لم يكونوا يقومون به... وتقبيل الأحجار والأصنام واستلامها في أثناء الطواف أو غير الطواف من الشعائر الدينية عند الجاهليين... ولكننا نستطيع أن نقول إن من أهم أركان الحج عند جميع الجاهليين، وجوب مراعاة النظافة، نظافة الجسم ونظافة الثياب.
بيوت العبادة
يقول جواد علي: وبيوت العبادة عند الجاهليين ثلاثة أنواع: بيوت عبادة خاصة بالمشركين، وهم الكثرة الغالبة، وبيوت عبادة خاصة باليهود، وبيوت عبادة خاصة بالنصارى. أما بيوت عبادة المجوس، فقد عرفت في العربية الشرقية والعربية الجنوبية، ولكن عبادها هم من المجوس، أي العجم، فالمجوسية لم تنتشر بين العرب، ولم تدخل بينهم إلا بين عدد قليل من الناس.
يضيف جواد علي: وذكروا أن في جملة الألفظ التي أطلقت على بيوت الأصنام لفظة الطاغوت، والجمع طواغيت. ورد أن العرب كانت اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي إليها، كما تهدي إلى الكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده. وورد أن الطاغوت الصنم، وكل معبود من دون الله...
وقدست بعض المواضع وأقيمت المعابد فيها، بسبب وجود أشجار مقدسة فيها... وقدست مواضع أخرى لوجود أحجار مقدسة فيها، كانوا يطوفون حولها. من هذه المواضع: عكاظ... وقد عثر على كتابات جاهلية تبين منها، أن الجاهليين كانوا يعدون طهارة الملابس وطهارة الجسم من الأمور الملازمة لمن يريد دخول المعبد.... وعثر المنقبون على أحواض داخل المعابد في العربية الغربية، يظهر أنها كانت للوضوء، لتطهير الجسم قبل الدخول إلى المسجد، موضع الصنم... ولهم آداب اتبعوها حين دخولهم بيت الصنم وحين خروجهم منه... ولبيوت العبادة سدنة وحجبة وخدم، يقومون كلهم بخدمة البيت وما فيه من أصنام... وتعد السدانة من المنازل الدينية والإجتماعية الرفيعة عند الجاهليين... ومع الحرمة التي كانت للمعابد، انتهك المستهترون وذوو الحاجة حرمتها، فسرقوا ما تمكنوا عليه من خزائنها...
هذا أهم ما رأينا نقله عن الجاهلية في بلاد العرب، البلاد التي كانت الموطن الذي بعث فيه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم. ومما استعرضناه نرى أنه أبقى (النبي) على الكثير من المناسك التي كانت أيام الجاهلية بعد أن طهرها من كل ما يمت إلى الشرك بصلة. وما أبقى عليه الإسلام هو ما أمر به رب العالمين في كتابه الكريم. وحرصنا أن لا نقوم بمقابلة بين ما كان أيام الجاهلية وما هو قائم اليوم حتى لا تكون هناك شبهة باستمرارية للعبادات، أو أن العبادة هي نوع من التطور الطبيعي للمفاهيم العبادية كنتيجة لتطور المجتمع. فنحن لا نرى بأن الإنتقال من الشرك إلى التوحيد هو تطور طبيعي للمفاهيم الدينية عند أهل الجزيرة العربية. إنما الإنتقال من الجاهلية إلى الإسلام إنما هو كما عبر عنه القرآن الكريم إنتقال من الظلمات إلى النور بإذن الله. ولولا مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ما كان للبشرية ولا للعرب أن يهتدوا إلى الصراط المستقيم. ودليلنا على ذلك وجود الأحناف في الجزيرة العربية، والذين سنتحدث عنهم الآن، كيف أنهم لم يكونوا مشركين ولكنهم لم يفقهوا كيف يدعون إلى دين التوحيد، إلى الإسلام الذي كانوا يعتقدون أنه مرتبط بنبينا إبراهيم عليه السلام.
الأحناف
تعتبر الحنيفية قراءة مختلفة للكون عما كانت عليه الجاهلية، قبل مبعث نبي الهدى عليه الصلاة والسلام.
قال جواد علي: وذكر بعض أهل الأخبار أن الحنيف عند أهل الجاهلية من اختتن وحج البيت فكل من اختتن وحج البيت هو حنيف. ويرى الطبري أنه لا بد من الإستقامة على ملة إبراهيم واتباعه عليها... وقد أضاف بعضهم إعتزال الأصنام والإغتسال من الجنابة إلى ما ذكرت، وجعلوا ذلك من أهم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن المشركين... وينسب أهل الأخبار إلى الأحناف بالإضافة إلى ما ذكرت، إمتناعهم عن أكل ذبائح الأوثان وكل ما أهل لغير الله... كما نسبوا إليهم تحريم الخمر على أنفسهم، والنظر والتأمل في خلق الله، ونسبوا إليهم أداء شعائر الحج وغير ذلك.
يضيف جواد علي: والحنفاء كما يفهم من روايات أهل الأخبار، كانوا طرازاً من النساك، نسكوا في الحياة الدنيا، وانصرفوا للتعبد للإله الواحد الأحد إله إبراهيم وإسماعيل، ساحوا في البلاد على نحو ما يفعله السياح الزهاد بحثاً عن الدين الصحيح دين إبراهيم، فوصل زيد بن عمرو بن نفيل إلى الشأم والبلقاء ووقف على اليهودية والنصرانية فلم ير في الديانتين ما يريد. ومنهم من أخذ على قومه هدايتهم بحثهم على ترك عبادة الأصنام، لذلك لاقوا منهم غشاً ونصباً شديداً. ومنهم من كان يتأمل في هذا الكون، لذلك تجنب الناس واعتزلهم، والتجأ إلى الكهوف والمغاور البعيدة ابتعاداً عن الناس للتأمل والتفكر، وقد تجنبوا الخمرة والأعمال المنكرة، وقول الفحش، وساروا على مثل الإسلام، وإن عاشوا قبل الإسلام، لأن الإسلام دين إبراهيم.
يضيف جواد علي: وقد عد بعض المستشرقين الحنفاء شيعة من شيع النصرانية، وعدوهم نصارى عرباً زهاداً كيفوا النصرانية بعض التكييف، وخلطوا فيها بعض تعاليم من غيرها. وقد استدلوا على ذلك بما ورد من تنصر بعضهم... ويلاحظ أن جميع من حشرهم أهل ألأخبار في الحنيفية، كانوا من القارئين الكاتبين... ولبعض منهم، كما يروي أهل الأخبار علم باللغات الأجنبية مثل السريانية والعبرانية...كما كان لهم علم ووقوف على تيارات الفكر في ذلك الوقت... فهم بالنسبة لذلك الوقت الطبقة المثقفة من الجاهليين نادت بالإصلاح وبرفع مستوى العقل وبنبذ الأساطير والخرافات وبتحرير العقل من سيطرة العادات والتقاليد فيه، وذلك بالدراسات والتأمل وبقراءة الكتب وبالرجوع إلى دين الفطرة، الذي لا يقر عبادة الشرك ولا عبادة الناس.
... وليس في أيدينا اليوم مورد يفيد بوجود تكتل وتنظيم لمن أطلق الإخباريون عليهم لفظة: الحنفاء، تكتل وتنظيم مع مظاهر خارجية وداخلية تميزهم عن غيرهم من أهل الأديان. لذلك فنحن لا نستطيع أن نقول إن الحنيفية فرقة تتبع ديناً بالمعنى المفهوم من الدين... وجل هؤلاءالأحناف، هم من أسر معروفة، وبيوت يظهر أنها كانت مرفهة أو فوق مستوى الوسط بالنسبة لتلك الأيام، ولهذا صار بإمكانهم الحصول على ثقافة وعلى شراء الكتب... وقد ذكر من بينهم حنظلة بن صفوان وخالد بن سنان العبسي ورئاب الشني وأمية بن أبي السلط الثقفي وورقة بن نوفل وعداس مولى عتيبة بن ربيعة الثقفي وأبوقيس صرمة بن أبي أنس الأنصاري وأبو عامر الأوسي وعبدالله بن جحش الأسدي وبحيرا الراهب ومن هؤلاء من كان على النصرانية وقد نص المسعودي نفسه على ذلك. ويقال أن قس بن ساعدة الإيادي وعثمان بن الحويرث كانوا نصارى...
يقول جواد علي أن الأحناف كانوا يعتكفون: وقد نسب الإعتكاف في الكهوف وفي البراري وفي الجبال إلى عدد من هؤلاء الحنفاء. فقد ذكر أهل الأخبار أنهم كانوا قد اعتكفوا في المواضع الخالية البعيدة عن الناس، وحبسوا أنفسهم فيها، فلا يخرجون منها إلا لحاجة شديدة وضرورةماسة. يتحنثون فيه ويتأملون في الكون، يلتمسون الصدق والحق. فكانوا يتعبدون في تلك المواضع الهادئة الساكنة، مثل غار حراء.
وهذه قراءة ثانية للكون والمجتمع كانت في الجاهلية قبل مبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم. هذه القراءة هي قراءة الأحناف. وهؤلاء الأحناف قد خبرهم الرسول عليه السلام، وعرفهم، ورغم قربه منهم، من حيث المعتقدات بشكل عام، إلا أنه لم يكن منهم.
فهو (النبي) عرف بحيرا الراهب الذي يقول جواد علي أنه كان من الأحناف رغم تنصره. فهو قال لهذا الراهب عندما كان فتىً أنه يبغض اللاة والعزى.
وعرف قس بن ساعدة الإيادي في سوق عكاظ، ولكنه لم يتبن إعتقاداته: يقول جواد علي: إن وفداً من إياد قدم على النبي: فسألهم عن قس، فقالوا: هلك. فقال: رحمه الله، كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل أورق (أحمر) وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أوجدني أحفظه. فقال رجل من القوم، أنا أحفظه يا رسول الله. سمعته يقول: أيها الناس أسمعوا وعوا... إلى آخر الخطبة، وما جاء بعدها من شعر، فقال عندها رسول الله: رحم الله قساً، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمةً وحده.
يترحم الرسول على قس ولكنه لم يقل للوفد أن قساً كان مسلماً رغم تبشيره بالجنة. وكذلك فعل مع مختلف الأحناف الذين عرفهم، عدا أمية بن أبي السلط لأن هذا الأخير أبى أن يسلم. إليكم لقاءه مع النبي: يقول جواد علي: وذكر أن الرسول قال في حديث له عن أمية بن أبي الصلت: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه. وأنه لما سمع شعره في الدين والحنيفية ومطلعه:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا بالخير صبحنا ربي ومسانا
قال: إن كاد أمية ليسلم.
أما عن زيد بن عمرو بن نفيل: وروي أن رسول الله سئل عن زيد بن عمرو بن نفيل، فقال: يبعث أمة وحده يوم القيامة. بل روي أنه ترحم عليه، وأنه قال: رأيته في الجنة يسحب ذيولاً.
أما ورقة فيروى أن الرسول قال: لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني رأيته في ثياب بيض. قيل إن شخصاً تساب مع أخ لورقة بن نوفل، فسب ورقة ليحرق قلب أخيه، فبلغ ذلك الرسول، فنهى عن سبه.
كان الأحناف موحدين،ورغم ذلك لم ينتسب النبي عليه السلام لهم. لماذا؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل مشروعاً تغييرياً يتطلب العمل الدؤوب بين الناس، وليس في البراري والفيافي. عندما أنكر الناس على الأحناف معتقداتهم رأينا الأحناف يعتزلون الناس. أما النبي عليه السلام والمسلمون فقد أوذوا واضطُهدوا وصبروا وأبوا إلا أن يعيشوا مع الناس وبينهم، لأن من يريد أن يغير المجتمع عليه ان يعيش فيه، لا أن يعتزله كما فعل الأحناف. ومنهم من مات تحت التعذيب (سمية رضي الله عنها). وصمدوا رغم كل ذلك إلى أن سمح لهم النبي عليه السلام بالهجرة إلى الحبشة، تخفيفاً منه لعذاباتهم. أما النبي فقد ظل في مكة يتحمل جور أهلها من المشركين. بكلمة واحدة كان النبي يحمل هماً، رسالة كان عنوانها نقل البشرية من الظلمات إلى النور، الإقلاع عن عبادة العباد وعبادة رب العباد وحده.
والآن ننتقل إلى قراءة جديدة كانت في الجزيرة العربية قبل بعثة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
اليهودية
اليهودية دين توحيدي ورغم ذلك فالنبي عليه السلام قال لعمر (بما معناه) أن موسى لو بعث من جديد لقرأ القرآن وليس التوراة عندما وجد مع عمر بن الخطاب صحائف من التوراة (وكان مغضباً).
يقول جواد علي: وقد عُرف اليهود عند الجاهليين، وورد ذكرهم في الشعر الجاهلي. ولا بد من وقوف الجاهليين على أحوالهم، لأنهمكانوا كما سنرى يسكنون في مواضع عديدة معروفة تقع ما بين فلسطين ويثرب، كما سكنوا في اليمن وفي اليمامة وفي العروض. وكان تجار منهم يقيمون في مكة وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب للإتجار وإقراض المال بربا فاحش للمحتاجين.... ويظهر من مواضع من التلمود أن نفراً من العرب دخلوا اليهودية، وأنهم جاءوا إلى ألأحبار، فتهودوا أمامهم. وفي هذه المرويات التلمودية، تأييد لروايات أهل الأخبار التي تذكر أن اليهودية كانت في حمير، وبني كنانة، وبني الحارث بن كعب، وكندة وغسان. وذكر اليعقوبي أن ممن تهود من العرب اليمن بأسرها. كان تبع حمل حبرين من أحبار يهود إلى اليمن، فأبطل الأوثان، وتهود من باليمن، وتهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير. وتهود قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام... ويرى عض الإخباريين أن ابتداء أمر اليهود في الحجاز ونزولهم وادي القرى وخيبر وتيماء ويثرب إنما كان في أيام بختنصر، فلما جاء بختنصر إلى فلسطين، هرب قسم منهم إلى هذه المواضع واستقروا بها إلى مجيء الإسلام، وليس في هذا الخبر ما يحملنا على استبعاده... أما ما ورد في روايات أهل الأخبار عن هجرة بعض اليهود إلى أطراف يثرب وأعالي الحجاز على إثر ظهور الروم على بلاد الشأم وفتكهم بالعبرانيين وتنكيلهم بهم مما اضطر ذلك بعضهم إلى الفرار إلى تلك الأنحاء الآمنة البعيدة عن مجالات الروم، فإنه يستند إلى أساس تاريخي صحيح...
يقول جواد علي: وما دمنا لا نملك نصوصاً يهودية جاهلية،ولا نصوصاً عربية جاهلية تتعرض ليهود، فليس في وسعنا إذن أن نتحدث باطمئنان عن أثر اليهود في الجاهليين أو أثر الجاهليين في اليهود. لقد تحدث عدد من المستشرقين عن أثر اليهود في الجاهليين، فزعموا أن لليهود أثراً عميقاً فيهم، فالختان مثلاً هو أثر من آثار يهود في العرب، وشعائر الحج عند الوثنيين أكثرها هي من إسرائيل، فالطواف حول البيت يرجع أصله إلى بني إسرائيل، ذلك أن قدماءهم كانوا يطوفون حول خيمة الإله يهوه إله إسرائيل، ومنهم تعلمه الجاهليون واتبعوه في طوافهم بالبيت. والإجازة بعرفة يهودية كذلك، لأن الذي كان يجيز الحجاج بعرفة فيأمر الحج بالرمي بعد أن يلاحظ الشمس وقت الغروب يعرف بصوفة، وصوفة تسمية عبرانية لها علاقة وصلة بهذه الوظيفة وظيفة مراقبة غروب الشمس وتثبيت وقته، فالإجازة إذن عبرانية الأصل. ومنى صنم من أصنام إسرائيل، ووادي منى على إسم هذا الصنم الإسرائيلي، وأسماء أيام الأسبوع هي تسميات أخذت من يهود، ولفظة المدينة التي تطلق على يثرب، أطلقها اليهود على هذا الموضع قبل الإسلام، وقد أخذوها من الإرمية، لتميز هذا المكان عن وادي القرى. وأشياء أخرى من هذا القبيل.581
يبدو واضحاً مما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاشر يهوداً أو التقى بهم قبل بعثته. أما اليهود فكانوا ممن تنبأواص ببعثته المباركة. ومن الواضح أن من عرف محمداً كان يخاف عليه من غدر اليهود. فهذا بحيرا الراهب النصراني الذي اعتبره جواد علي من الأحناف، أوصى أبا طالب، عم النبي بالإنتباه عليه من اليهود. قال ابن إسحاق : فلما فرغ (بحيرا الراهب)، أقبل على عمه أبي طالب ، فقال له : ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً؛ قال: فإنه ابن أخي؛ قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به؛ قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده.
أما عن التنبؤ بمبعثه عليه السلام فقد كان لليهود قسط من ذلك. قال ابن إسحاق: وكانت الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، لما تقارب من زمانه.
أما الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى، فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن فيما تسترق من السمع، إذ كانت هي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم. وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره، لا تلقي العرب لذلك فيه بالاً، حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون، فعرفوها.
من خلال ما تقدم يمكننا أن نؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالط يهوداً في مكة قبل بعثته المباركة. فما يمكننا قوله أيضاً، أنه لم يتأثر بقراءة اليهود للمجتمع والكون. كما ونؤكد أن قراءته للكون والمجتمع لم تكن مشابهة لقراءة يهود. كذلك فإن الخوف على الطفل والفتى محمد سواء من الوثنيين أو من النصارى أو الأحناف يحمل مدلولاً لا بأس من التفكر فيه.
النصارى
يقول جواد علي: ليس في استطاعتنا تعيين الزمن الذي دخلت فيه النصرانية إلى جزيرة العرب. وتحاول مؤلفات رجال الكنائس رد ذلك التاريخ إلى الأيام الأولى من التأريخ النصراني، غير أننا لا نستطيع إقرارهم على ذلك، لأن حججهم في ذلك غير كافية للإقناع.
ثم يضيف: وإذا كانت اليهودية قد دخلت جزيرة العرب بالهجرة والتجارة، فإن دخول النصرانية إليها كان بالتبشير وبدخول بعض النساك والرهبان إليها للعيش فيها بعيدين عن ملذات الدنيا... وبفضل ما كان لكثير من المبشرين من علم ومن وقوف على الطب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس، تمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فأدخلوهم في دينهم، أو حصلوا منهم على مساعدتهم وحمايتهم... ولم يعبأ المبشرون بالمصاعب والمشقات التي كانوا يتعرضون لها، فدخلوا مواضع نائية في جزيرة العرب، ومنهم من رافقوا الأعراب، وعاشوا عيشتهم، وجاروهم في طراز حياتهم، فسكنوا معهم الخيام... وقد كان في مكة وفي الطائف وفي يثرب وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب رقيق نصراني كان يقرأ ويكتب ويفسر للناس ما جاء في التوراة والأناجيل ويقص عليهم قصصاً نصرانياً ويتحدث إليهم عن النصرانية... وذكر ابن قتيبة الدينوري: إن النصرانية كانت في ربيعة، وغسان، وبعض قضاعة. وقال اليعقوبي: وأما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، منهم عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل. ومن بني تميم: بنو امرىء القيس بن زيد مناة. ومن ربيعة: بنو تغلب، ومن اليمن: طيء ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم.
يقول جواد علي: ومن أهل مكة من زعم أن قيناً لبني الحضرمي كان قد جمع الكتب، وهو رومي، فكان رسول الله يأتي إليه ويجتمع به، فكان المشركون يقولون: إنه يتعلم من هذا الرومي! وذكر بعض الرواة أن آل الحضرمي كانوا يملكون عبدين، هما جبر ويسار، فكانا يقرآن التوراة والكتب بلسانهما، فكان الرسول عليه السلام يمر عليهما فيقوم يستمع منهما... وأما من ذكر أن وأما من ذكر أن سمه بلعام، فقال أنه كان قيناً رومياً بمكة وكان نصرانياً أعجمي اللسان، فكان المشركون يرون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا إنما يعلمه بلعام. ومهما اختلف المفسرون في إسم هذا الرجل فإنهم اتفقوا على أنه كان أعجمي الأصل، نصرانياً يقرأ الكتب، وأنه كان بمكة نفر من الموالي كانوا علي دين النصرانية يقرأون ويكتبون.
من المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن يكون نبياً كان يمشي في الأسواق يستمع لما يحصل فيها، لأنه كان يعيش مجتمعه. فهو قد صادف قس بن ساعدة الإيادي فة سوق عكاظ، ومع أن قساً كان من الأحناف ولكن ورد أنه قد تنصر، كما أن النبي عليه السلام قد عرف غلام خديجة الذي كان على دين النصارى. كما أن النبي عليه السلام قد عرف بحيرى الراهب الذي تحدث معه خلال رحلته الأولى إلى الشام مع عمه أبي طالب.
وهناك رواية عن النصارى تروى عندما كان محمد لا يزال طفلاً: قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم :
أن مما هاج أمه السعدية على رده إلى أمه ، مع ما ذكرت لأمه مما أخبرتها عنه ، أن نفرا من الحبشة نصارى ، رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه ، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ، ثم قالوا لها : لنأخذن هذا الغلام ، فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا ، فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره ، فزعم الذي حدثني أنها لم تكد تنفلت به منهم .
الملاحظ أن علاقة محمد مع النصارى كانت علاقة تتسم بالود. من هنا لجوءه إلى النصراني الأشهر ورقة بن نوفل عندما جاءه الملاك جبريل. و هذا يدل على الثقة التي أولاها النصارى.
رغم كل ما تقدم لا نجد في سيرة المصطفى عليه السلام ما يدل أو يوحي أنه قد تبنى أياً من المفاهيم النصرانية. إذن كانت لمحمد قبل النبوة قراءته الخاصة للكون.
هل تغيرت علاقة النبي عليه السلام مع الآخر بعد أن أصبح نبياً؟
إذا بدأنا من محيطه الأدنى، أي علاقته بزوجه، نراه قد دعاها للإسلام. أي أن علاقته قد أخذت طابعاً آخر، الشراكة من أحل الدعوة لإلى الله تبارك وتعالى.
أما بالنسبة من كان أقرب الناس إلى معتقداته، نعني الأحناف، فقد بدا أن الفروقات بينهما كبيرة جداً. فالأحناف يدعون إلى الخلاص الفردي كما تفعل النصرانية، بينما الدعوة الإسلامية تدعو إلى خلاص الإنسانية عبر خلاص المجتمعات الذي يأتي عبر الدعوة والجهاد الذي يقوم بهما المؤمنون بهذا الدين. ولو خطر على بال أحد أن يفكر بما قاله ورقة بن نوفل، المتقدم بالحنيفية وبالنصرانية، للنبي صلى الله عليه وسلم، عندما قال له أنصرنك نصراً مؤزراً. ألم يخطر ببال أحد أن يسأل لماذا لا ينصر دينه؟ الجواب بسيط! فدعوة ورقة وأشباهه هي دعوة للخلاص الفردي. بينما القراءة باسم الله تفرض الخلاص الجماعي للمجتمع والإنسانية.
وبعد أن بعث محمد رسولاً، كانت أولى ممارساته مع اليهود هي الكتاب الذي ينظم العلاقة ما بين المسلمين ويهود في المدينة. وقد كانت النقاشات بين النبي عليه السلام واليهود تجري باستمرار، حتى أنه كان عليه السلام يذهب إلى مدارسهم. وكان اليهود يعرفون أنه نبي مرسل وينكرون نبوته عليه السلام. قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمة الله تعالى وهداه لنا، لما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم.
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه، حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به، وكفروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين ).
قال ابن هشام: يستفتحون: يستنصرون، ويستفتحون أيضاً: يتحاكمون، وفي كتاب الله تعالى: ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ).
وهذه قصة ثانية من السيرة عن اليهود. قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد أخي بني عبدالأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش، وكان سلمة من أصحاب بدر، قال: كان لنا جار من يهود في بني عبدالأشهل، قال: فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبدالأشهل - قال سلمة: وأنا يومئذ من أحدث من فيه سناً، علي بردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي - فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار؛ قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت؛ فقالوا له: ويحك يا فلان أوترى هذا كائناً، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلف به، ولودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه، بأن ينجو من تلك النار غداً؛ فقالوا له: ويحك يا فلان! فما آية ذلك؟ قال: نبى مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة واليمن؛ فقالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سناً، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمداً رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً، قال: فقلنا له: ويحك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به.
ومن معرفة اليهود بالنبي عليه السلام واستكبارهم عن الإيمان به: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد، نفر من بني هدل، إخوة من بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام. قال: قلت: لا و الله، قال: فإن رجلاً من يهود من أهل الشام، يقال له: ابن الهيبان، قدم علينا قبيل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا؛ فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة؛ فنقول له: كم؟ فيقول: صاعاً من تمر، أو مدين من شعير. قال: فنخرجها ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي الله لنا. فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث.
قال: ثم حضرته الوفاة عندنا. فلما عرف أنه ميت، قال: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: إنك أعلم؛ قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبى قد أظل زمانه؛ وهذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه.
فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قريظة، قال هؤلاء الفتية، وكانوا شباباً أحداثاً: يا بني قريظة، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان؛ قالوا: ليس به؛ قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا، وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم.
قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود.
أما معاملة النبي عليه السلام، مع النصارى فكانت مختلفة عن تعامله مع اليهود، حيث أنه لم يتعرض لغدرهم بالعهود.
ورد أن الرسول عليه السلام قال لراهبين أتياه من نجران ليبحثا فيما عنده: "يمنعكما عن الإسلام ثلاث: أكلكما الخنزير، وعبادتكما الصليب، وقولكما لله ولد".
وقد ناقش الرسول صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى. فاختلف النصارى مع النبي عليه السلام بعيسى فقال لهم ما قاله الله له: ( إن مثل عيسى عند الله ) فاستمع ( كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون. الحق من ربك )، أي ما جاءك من الخبر عن عيسى ( فلا تكن من الممترين )، أي قد جاءك الحق من ربك فلا تمترينّ فيه، وإن قالوا: خلق عيسى من غير ذكَر فقد خلقت آدم من تراب، بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كان عيسى لحماً ودماً، وشعراً وبشراً، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا. ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم )، أي من بعد ما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره، ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ، ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم ، ثم نبتهلْ فنجعلْ لعنة الله على الكاذبين ).
قال ابن هشام: قال أبو عبيدة: نبتهل: ندعو باللعنة.
قال ابن هشام: ويقال: بهُلة الله، أي لعنة الله؛ ونبتهل أيضاً: نجتهد، في الدعاء.
قال ابن إسحاق: ( إن هذا ) الذي جئت به من الخبر عن عيسى ( لهو القصص الحق ) من أمره ( وما من إله إلا الله، وإن الله لهو العزيز الحكيم. فإن تولوا، فإن الله عليم بالمفسدين . قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا، فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) . فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجة .
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأُمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا له: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبدالمسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك علىدينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضاً.
وهكذا نرى بأن عاقبة الخلاف ما بين النبي عليه السلام واليهود كانت الحرب، أما خلافه مع النصارى انتهى إلى التوافق، فقد أخذوا من عند النبي عليه السلام من يحكم بينهم.
نستنتج فنقول بأن القراءة باسم الله هي قراءة جديدة في جميع توجهاتها، قراءة تكون عاقبتها تحرير المجتمع والإنسان من عبادة العباد وبناء المجتمع الذي يحقق هذه الحرية للإنسان. أو كما ورد عن أحد علمائنا: أن كمال حرية الإنسان هو بتمام عبوديته لله عز وجل.
7 تشرين الثاني 2010 حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق