من سيرة المصطفى – 15 –
واصبر على ما أصابك: خط المقاومة
قال تبارك وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: " واصبر وما صبرك إلا بالله".( النحل 127 )
يقول تبارك وتعالى: "فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل عليهم" (الأحقاف 35 )
ويقول أيضاً: "واصبر إن الله مع الصابرين" (الأنفال 46 )
ويقول تعالى: "واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً" (المزمل 10)
و يقول أيضاً: "واصبر صبراً جميلاً، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً" (المعارج 5 )
ويقول تعالى: "وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" (العصر 3 )
ويقول أيضاً: "وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة" ( البلد 17 )
ويقول تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله" (آل عمران 200 ).
وقال تعالى أيضاً: "فاصبر، إن وعد الله حق" (غافر 77 ).
ما هو وعد الله؟
يقول عز وجل: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم" (المائدة 9 )
ويقول أيضاً: " وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار" (التوبة 68)
ويقول أيضاً: " جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب" (مريم 61)
ويقول أيضاً: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً" (الفتح 10)
ويقول أيضاً: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون". (النور 55 )
فالصبر إذن الذي أمر الله نبيه به والمؤمنين، نتيجته مضمونة: الإستخلاف والجنات. أما الصبر في الدنيا فمن الممكن أن يكلف المؤمن حياته كما حصل مع سمية أم عمار بن ياسر.
كيف صبر النبي والذين آمنوا معه؟
غداة بعثته، صلى الله عليه وسلم، تحدث مع ورقة بن نوفل. وورقة هذا هو من الأحناف، ثم من الذين تنصروا ونالوا الدرجات العلى في صفوف النصارى، وهو من الذين قرأوالكتب. فقد عرف ورقة أن ما بُشر به نبينا عليه السلام هو حمل عظيم، يستدعي الكثير من الصبر والمصابرة. جاء في السيرة المطهرة لابن هشام: "فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال: يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، وقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصراً يعلمه، ثم أدنى رأسه منه، فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منـزله".
وهكذا فقد بشره ورقة بن نوفل ومنذ البداية أنه سيُكُذَب أولاً ثم سيُؤذى ثانياً. ليس هذا فحسب بل سيُطرد من بلده وسيُحارب أيضاً. إذن الحمل ثقيل ويتطلب الرجال الرجال. ولكن نبينا عليه الصلاة والسلام والذين آمنوا معه، هم أهل لهذه المهمة التي ارتضوها لأنفسهم.
جاء في سيرة المصطفى لابن هشام: " قال ابن إسحاق: ثم إن قريش اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم: سفهاءهم، فكذبوه وآذوه، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به، مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم كفرهم".
قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يُظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم، وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا: فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم مر الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف، ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح. قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفَؤُه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولاً.
قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم؛ فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم؛ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا الذي أقول ذلك. قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه.
قال: فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً نالوا منه قط.
ولم يترك القرشيون النبي عليه الصلاة والسلام. قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم : أشد ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش أنه خرج يوماً فلم يلقه أحد من الناس إلا كذبه وآذاه، لا حر ولا عبد، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منـزله، فتدثر من شدة ما أصابه، فأنزل الله تعالى عليه: ( يا أيها المدثر، قم فأنذر ) .
قال ابن إسحاق: حدثني رجل من أسلم، كان واعية: أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره؛ فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة، فجلس معهم.
وكان السفهاء من قريش يلاحقون النبي بقصد إيذائه. وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسبنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فذكَّر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش، أحسن حديثاً منه، فهلم إلي، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟
وجاء في رواية أخرى: والنضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن، وحذر فيه قريشاً ما أصاب الأمم الخالية، خلفه في مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رستم السنديد، وعن أسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها.
وأمية بن خلف من عتاة قريش كان يؤذي النبي عليه السلام أيضاً: وأمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه قال ابن هشام: الهمزة: الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه عليه، ويغمز به.
وجاء عند ابن هشام عن أذية النبي صلى الله عليه وسلم: ولقي أبو جهل بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - فقال له: والله يا محمد، لتتركن سب آلهتنا، أو لنسبن إلهك الذي تعبد.
وأبي بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، وعقبة بن أبي معيط، وكانا متصافيين، حَسَناً ما بينهما. فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فبلغ ذلك أبياً، فأتى عقبة فقال له: ألم يبلغني أنك جالست محمداً وسمعت منه، قال: وجهي من وجهك حرام أن أكلمك - واستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه، أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله.
ومشى أبي بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم بال قد ارْفتَّ، فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرمّ، ثم فتَّه في يده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعدما تكونان هكذا، ثم يدخلك الله النار.
واعترض رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالكعبة - فيما بلغني - الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه. فأنزل الله تعالى فيهم: ( قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دينِ ) أي إن كنتم لا تعبدون الله، إلا أن أعبد ما تعبدون، فلا حاجة لي بذلك منكم، لكم دينكم جميعاً، ولي ديني.
قال ابن إسحاق: وكان النفر الذن يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته: أبا لهب، والحكم بن العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي؛ وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، فكان أحدهم - فيما ذكر لي - يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في بُرْمته إذا نُصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً يستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى، كما حدثني عمر بن عبدالله بن عروة بن الزبير، عن عروة بن الزبير، يخرج به رسول الله صلى الله عليه وسلم على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا! ثم يُلقيه في الطريق.
هل اكتفى المشركون بأذية النبي صلى الله عليه وسلم؟ كلا فقد بادروا إلى أذية المؤمنين الذين صبروا على الإضطهاد كما فعل نبينا عليه الصلاة والسلام.
آذى المشركون النبي عليه السلام وكان معه أبو بكر. فماذا فعلوا بأبي بكر: قال ابن إسحاق: وحدثني بعض آل أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها قالت: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه، مما جبذوه بلحيته وكان كثير الشعر.
قال ابن إسحاق: ثم ان الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين.
ولكن هذا الأذى لم يترك أثراً سلبياً على الدعوة. لذلك استمر المشركون بأذاهم: " قال ابن إسحاق: ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم، ويفتنونهم عن دينهم".
قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يُفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصلب لهم، ويعصمه الله منهم.
وكان بلال، مولى أبي بكر رضي الله عنهما، لبعض بني جمح، مولَّداً من مولديهم، وهو بلال بن رباح، وكان اسم أمه حمامة ، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخُرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا و الله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى؛ فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد.
وصبر بلال لأن الدعوة إلى الله الواحد الأحد تستدعي الصبر والتضحية.
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه، قال: كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك، وهو يقول: أحد أحد؛ فيقول: أحد أحد والله يا بلال، ثم يقبل على أمية بن خلف، ومن يصنع ذلك به من بني جمح، فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حناناً، حتى مر به أبو بكر الصديق ابن أبي قحافة رضي الله عنه يوماً، وهم يصنعون ذلك به، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية بن خلف: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى؛ فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيكه به؛ قال: قد قبلت، فقال: هو لك. فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه.
قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول، فيما بلغني: صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة. فأما أمه فقتلوها، وهي تأبى إلا الإسلام.
وصبر آل ياسر جميعاً، وموعدهم في الجنة كما قال النبي عليه السلام.
وكان أبو جهل الفاسق الذي يُغري بهم في رجال من قريش، إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة، أنَّبه وأخزاه. وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولَنُفيِّلَنّ رأيك، ولنضعن شرفك؛ وإن كان تاجراً قال: والله لنُكسدنّ تجارتك، ولنهلكن مالك؛ وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به.
غاب عن ذهن أبي جهل أن هذه الدعوة أغلى من التجارة ومن المال.
قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، قال: قلت لعبدالله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجُيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له؛ آللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجُعَل ليمر بهم، فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداءً منهم مما يبلغون من جهده.
قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه.
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغاراً وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلاً، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشك فيه.
قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبدالمطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم، و بني المطلب، على أن لا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم؛ فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وكان كاتبَ الصحيفة منصورُ بن عكرمة بن عامر ابن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي - قال ابن هشام : ويقال: النضر بن الحارث - فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشُلّ بعض أصابعه.
قال ابن إسحاق: فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم و بنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب، عبدالعزى بن عبد المطلب، إلى قريش، فظاهرهم.
قال ابن إسحاق: وحُدثت أنه كان يقول بعض ما يقول: يعدني محمد أشياء لا أراها، يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يديّ بعد ذلك؟ ثم ينفخ في يديه ويقول: تباً لكما، ما أرى فيكما شيئاً مما يقول محمد. فأنزل الله تعالى فيه: ( تبت يدا أبي لهب وتبَّ ) .
وجاء في الروض الأنف للسهيلي: وذكر ما أصاب المؤمنين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب من ضيق الحصار لا يبايعون ولا يناكحون وفي الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق السمر حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة وكان فيهم سعد بن أبي وقاص.
روي أنه قال "لقد جعت، حتى إني وطئت ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته، وما أدري ما هو إلى الآن" وفي رواية يونس أن سعداً قال: خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثاً. وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام لعياله فيقوم أبو لهب عدو الله فيقول يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً، فقد علمتم ما لي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً، حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يطعمهم به ويغدو التجار على أبي لهب، فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً.
وثبت المؤمنون على إيمانهم، فالتجارة مع الله هي الرابحة دوماً.
وقد كان أبو جهل بن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه في الشعب، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة.
فجاءه أبو البَخْتري بن هشام بن الحارث بن أسد، فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم؛ فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها! خلّ سبيل الرجل؛ فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له أبو البختري لَـحْي بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطأً شديداً، وحمزة بن عبدالمطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيشمتوا بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً، و سراً وجهاراً، مبادياً بأمر الله لا يتقي فيه أحداً من الناس.
إن المرء ليستحيي مما كان يحصل مع النبي عليه السلام ومع المسلمين، ومما يحصل اليوم، حيث أن الصبر أصبح من الأقاصيص التي يُستمع إليها من دون أن تترك أثراً ذا أهمية.
يضيف ابن هشام: فجعلت قريش حين منعه الله منها، وقام عمه وقومه من بني هاشم، وبني المطلب دونه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه، وجعل القرآن ينـزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته منهم، ومنهم من سمّى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار، فكان ممن سمّي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبد المطلب وامرأته أم جميل بنت حرب ابن أمية، حمالة الحطب، وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب، لأنها كانت - فيما بلغني - تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر، فأنزل الله تعالى فيهما: ( تبت يدا أبي لهب وتب ، ما أغنى عنه ماله وما كسب ، سيصلى نارا ذات لهب ، وامرأته حمالةَ الحطب ، في جيدها حبل من مسد ).
قال ابن إسحاق: فذُكر لي: أن أم جميل: حمالة الحطب، حين سمعت ما نزل فيها، وفي زوجها من القرآن، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فِهْر من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت:
مذمماً عصينا وأمره أبَيْنا
ودينه قَلَيْنا
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام، يشكو إليها؛ وبهلك عمه أبي طالب، وكان له عضداً وحرزاً في أمره، ومنعة وناصراً على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.
فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه تراباً.
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، قال:
لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التراب، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي يا بُنيِّة، فإن الله مانع أباك. قال: و يقول بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه، حتى مات أبو طالب.
بعد وفاة أبي طالب وخديجة واستقواء قريش عليه سعى النبي عليه السلام إلى الطائف لعله يجد النصرة من ثقيف. فماذا وجد في الطائف؟
قال ابن إسحاق: ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه؛ فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك؛ وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً. لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي - : إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغَ قومَه عنه، فيُذْئِرهم ذلك عليه. فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حَبَلة من عنب، فجلس فيه. وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فيما ذكر لي - اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنـزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب، وعمار، وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية بن محرث، وصهيب، وأشباههم من المسلمين، هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى والحق! لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا.
قال ابن إسحاق: وكان العاص بن وائل السهمي - فيما بلغني - إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعوه، فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو مات لانقطع ذكره واسترحتم منه.
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - بالوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وبأبي جهل بن هشام، فهمزوه واستهزءوا به، فغاظه ذلك. فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من أمرهم: ( ولقد استهزىء برسل من قبلك ، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ) .
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله تعالى صابراً محتسباً، مؤدياً إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى و الاستهزاء. وكان عظماء المستهزئين، كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، خمسة نفر من قومهم، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم.
لم يكتف النبي عليه السلام بدعوة قومه إلى الدين العظيم، بل كان يدعو جميع القبائل إبان المواسم.
قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيد الله بن عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد، يحدثه أبي، قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتصدقوا بي، وتمنعوني، حتى أُبين عن الله ما بعثني به.
قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان، عليه حلة عدنية. فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه.
قال: فقلت لأبي: يا أبت، من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبدالعزى بن عبدالمطلب، أبو لهب.
لم يكتف النبي بالصبر على صدود قريش فقط بل راح يدعو القبائل إذعاناً لأمر الله تبارك وتعالى ”قم فأنذر".
قال ابن إسحاق: حدثنا ابن شهاب الزهري: أنه أتى كندة في منازلهم، وفيهم سيد لهم يقال له: مُليح، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله بن حصين: أنه أتى كلباً في منازلهم، إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبدالله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبدالله، إن الله عز وجل قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا عن عبدالله بن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليهم رداً منهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم - يقال له: بَيْحرة بن فراس. قال ابن هشام: فراس بن عبدالله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - : والله، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء؛ قال: فقال له: أفتُهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك؛ فأبوا عليه.
وكأني بفراس هذا يعيش في أيامنا هذه يريد أن يتاجر حتى في الدعوة إلى الله، والعياذ بالله!
ولم تسلم النساء من أذى عتاة قريش. وصبرن كما صبر النبي عليه السلام.
قال ابن إسحاق: فحُدثت عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم؛ فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثاً، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوّج عتبة بن أبي لهب رقية، أو أم كلثوم. فلما بادى قريشاً بأمر الله تعالى وبالعداوة، قالوا: إنكم قد فرَّغتم محمداً من همه، فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن.
فمشوا إلى أبي العاص فقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من قريش شئت؛ قال: لا والله، إني لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليه في صهره خيراً، فيما بلغني. ثم مشوا إلى عتبة بن أبي لهب، فقالوا له: طلق بنت محمد ونحن نُنكحك أي امرأة من قريش شئت؛ فقال: إن زوجتموني بنت أبان بن سعيد بن العاص، أو بنت سعيد بن العاص فارقتها.
فزوجوه بنت سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها، وهواناً له، وخلف عليها عثمان بن عفان بعده.
ولم يسلم الذين من خارج مكة من الأذى. فهذه قريش تعتقل سعد بن عبادة عندما عرفت أنه أسلم لله. قال: ونفر الناس من منى، فتنطَّس القوم الخبر، فوجوده قد كان، (خبر إسلام الأنصار) وخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكلاهما كان نقيباً. فأما المنذر فأعجز القوم؛ وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بِنِسْع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه، ويجذبونه بجُمَّته، وكان ذا شعر كثير.
وبعد أن فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، هل فرغ المسلمون من الصبر؟ هذه بنت رسول الله تصبر على أذى قريش لها، عندما أرادت أن تهاجر وأراد المشركون أن يمنعوها من الهجرة.
فلما فرغت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهازها قدَّم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيراً، فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهاراً يقود بها، وهي في هودج لها.
وتحدث بذلك رجال من قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذى طُوى، فكان أول من سبق إليها هبَّار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى، والفهري؛ فروّعها هبار بالرمح وهي في هودجها، وكانت المرأة حاملاً - فيما يزعمون - فلما ريعت طرحت ذا بطنها.
حتى المؤمنين في المدينة صبروا صبراً جميلاً. فالذين جُرحوا يوم أحد يواصلون الجهاد مع النبي عليه السلام. قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بني عبدالأشهل، كان شهد أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحاً، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
حتى النبي عليه السلام الذي دعا إلى الجهاد كان من عداد الجرحى في أحد.
قال ابن إسحاق: وانكشف المسلمون، فأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدُثّ بالحجارة حتى وقع لشقه، فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص.
قال ابن إسحاق: فحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال:
كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله عز وجل في ذلك: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .
قال ابن هشام: وذكر ربيح بن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبدالله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، وهم لا يعلمون.
أما في الخندق فقد أصاب المسلمين خوف شديد. قال: وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
وصبر المسلمون رغم الموقف الشديد. قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمي، إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم.
و يصبر المسلمون والنبي عليه السلام على أذى اليهود الذين أرادوا أن يكون أذاهم للمسلمين في أحلك أيامهم: فلم يزل حيي بكعب (زعماء يهود) يفتله في الذروة والغارب، حتى سمح له، على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقاً: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده،(عهده مع رسول الله عليه السلام)، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه صور من الصبر الذي مارسه المسلمون خلال الدعوة إلى الله. هل كان الصبر من أجل الصبر، والدعوة من أجل الدعوة؟ أم أن هذه الدعوة تغير المجتمع بالشكل الذي يؤمن سعادة الإنسان فيه. لقد وعى الأوائل كنه هذه الدعوة. فهذا هانىء بن قبيصة يرى أن هذه الدعوة يكرهها الملوك: قال هانيء بن قبيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، ناعتاً له دعوته: وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه هو مما تكرهه الملوك.
لقد كان وعد الله للمؤمنين بالاستخلاف، والتمكن واضحاً من خلال القرآن الكريم. فالعمل الدؤوب الذي قام به المسلمون بقيادة نبينا عليه الصلاة والسلام، كان واضح الأهداف، وخاصة من خلال الصحيفة التي كتبها النبي في المدينة، والتي تحدثنا عنها في إحدى الحلقات: بناء مجتمع لا ظلم فيه ولا تظالم. لقد عبر بوضوح نبينا عليه السلام أنه إذا دُعي بحلف الفضول لأجاب. وهذا الحلف ينص على نصرة المظلوم والتأسي بالمعاش. هل يمكن أن يؤدي هذا الحديث إلى ظالم ومظلوم كما حدث عندما تم التخلي عن الآتجاه النبوي بإقامة النظام الإسلامي، أعني الملك العضوض.
إن الصبر الذي علينا ممارسته هو ذلك الذي يؤدي إلى حكومة تؤمن الحياة الهنيئة للناس على كافة المستويات، المادية والنفسية والإجتماعية. هذه الحياة التي نؤجر عليها في الحياة الآخرة بالجنة. فالدين هو معطىً إلهي لسعادة الإنسان في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
23 تشرين الثاني 2010 حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق