الكيان الصهيوني: الدور الملتبس!
حسن ملاط
كان تأسيس الكيان الصهيوني، بمعونة وإشراف من بريطانيا، من أجل تحقيق أكثر
من هدف. فبريطانيا أعطت الصهاينة تعهداً بإنشاء كيان لهم في فلسطين، علماً أن
فلسطين ليست أرضاً سائبة، إنما هي أرض يملكها الفلسطينيون. ولكن هذه الممارسة لم
تكن من دون سوابق من قبل الإستعمار البريطاني. فما فعله في فلسطين هو ما كان قد
فعله في جنوب أفريقيا. أما في أماكن أخرى فقد قام بالأسوأ. ففي أمريكا الشمالية،
قام بتصفية السكان الأصليين للبلاد واستولى على أراضيهم واستورد الأفارقة لإعمار
هذه البلاد لصالحهم. وقد فعل الشيء نفسه في أوستراليا.
وعد بلفور لم يكن خطأً غير متعمد، إنما من أجل:
1 – التخلص من أكبر عدد من يهود أوروبا الذين يرفضون الإندماج في مجتمعاتهم
الأصلية. فبدلاً من تحمل تبعات مشاكلهم، اختارت بريطانيا أن يتحمل الشعب الفلسطيني
ذلك.
2 – إعطاء الصهاينة مكافأة لحسن تعاملهم مع الحلفاء، ولكن من كيس
الفلسطينيين.
3 – وهو الأهم، زرع كيان في البلاد العربية يفصل قسمها الأسيوي عن قسمها
الأفريقي، مهمته منع أي حراك من أجل تحرير هذه البلاد من التبعية السياسية ومن
التبعية الإقتصادية. والأساسي هو أن يكون هذا الكيان غريباً ليس من نسيج المنطقة،
حتى لا يتجه إلى التعايش الطبيعي في المنطقة وإلا فهذا يعني خسرانه الدور الرئيسي
الذي من أجله تم زرعه في منطقتنا.
وقد قام الكيان الصهيوني بما هو مطلوب منه في هذا المجال. فقد بدأ بالمجازر
بحق الفلسطينيين من أجل تهجيرهم من أرضهم والإستيلاء عليها. وكان يتدخل في كل حركة
استقلالية من أجل قمعها (احتلال سيناء مرتين، الأولى عند تأميم قناة السويس،
والثانية في حرب ال67). كما واحتلاله للجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية وتلال
كفرشوبا والأغوار ووو...
*****************************
تعامل العرب مع الواقع المستجد على أن الكيان الصهيوني هو استعمار أجنبي
لبلد عربي يجب العمل عل إزالته وإعطاء الفلسطينيين حق تقرير المصير على أرضهم. كما
وأن العرب ( الدول والشعوب) اعتبروا أن لهم الحق باستخدام جميع الأساليب، ومنها
العنيفة طبعاً، من أجل الوصول إلى هذا الهدف. لذلك، لم يعترف أي بلد عربي بالكيان
الصهيوني عند تأسيسه، ولذلك أيضاً كان مبرر قيام جميع الإنقلابات العسكرية التي
حصلت في البلاد العربية، هو تحرير فلسطين.
النضال ضد إسرائيل هو، تبعاً لما تقدم، حركة تحرر وطني، وهذا ما جعل جميع
الأنظمة تقدم يد المساعدة للمنظمات الفلسطينية في حربها ضد الكيان الصهيوني. وكان
هذا هو المبرر لنشوء منظمة التحرير الفلسطينية، وبإشراف الأنظمة.
*************************
مرت المقاومة ضد الكيان الصهيوني بكثير من التعرجات. فبعد الإنتصار الهام
على الجيش الصهيوني في معركة الكرامة الشهيرة (آذار 1968)، والتي تُعتبر أول
مواجهة مباشرة مع الجيش الصهيوني صمد فيها المقاتلون الفلسطينيون وأجبروا المعتدين
على الإنسحاب بعد تكبيدهم خسائر هامة، كانت مجازر أيلول الأسود في 1970. هذه
المجازر التي أجبرت المقاومة الفلسطينية على الإنسحاب من الأردن ووقف العمل المسلح
ضد الكيان الصهيوني. كل ذلك تم بتواطؤ بين النظام الأردني والكيان الصهيوني.
أصبحت جبهة القتال الوحيدة المفتوحة ضد الكيان الصهيوني، هي جبهة جنوب
لبنان. وبعد اعتداء 1982 واحتلال بيروت، أجبر الكيان الصهيوني والمجتمع الدولي
المقاومة الفلسطينية على الإنسحاب من جبهة المواجهة المسلحة مع الكيان الغاصب.
كانت المواجهة داخل الكيان الصهيوني صدىً للمقاومة في الخارج. ولكن بعد منع
المقاومة من التواجد على مختلف الجبهات اقتصر النضال الفلسطيني على الداخل، عمليات
تفجير وعمليات استشهادية وانتفاضات.
أدت هذه العمليات إلى انسحاب الجيش الصهيوني من غزة ومن جانب واحد، أي من
غير اتفاق مع منظمة التحرير. هذا الإنسحاب كانت نتيجته عدة اعتداءات مدمرة على
غزة، كان آخرها منذ سنة وأدى إلى دمار كبير لم يتم إصلاح ما هدمه العدوان حتى
الآن. وهناك أكثر من 400000 مشرد في أرضهم.
*************************
بعد انسحاب الجيش الصهيوني من بيروت وصيدا تحت ضربات المقاومة الوطنية
اللبنانية، اقتصر وجود الجيش الصهيوني على الشريط الحدودي المحتل، والذي انسحب منه
تحت ضربات حزب الله اللبناني. وكانت آخر المعارك في لبنان في 2006. ومن الجدير
ذكره أن الجيش الصهيوني خسر جميع معاركه مع حزب الله. وما يحكم العلاقة بين الكيان
الصهيوني والمقاومة حالياً هو قرار مجلس الأمن 1701.
**********************************
في غضون هذه الأحداث، أبرم النظام المصري السلام مع العدو الصهيوني. وكذلك
فعل الأردن ومنظمة التحرير. وهناك علاقات ناشطة ما بين الكيان الصهيوني والعديد من
الدول العربية مثال: قطر والإمارات والمغرب وتونس....
********************************
نحن لا نؤرخ لما حصل، إنما هو استعراض موجز فحسب.
ما المستجد؟
المستجد هو أنه منذ اندلاع "الربيع العربي"، اتخذت الدول التي
تنتمي إلى إقليمنا (الدول العربية مع تركيا وإيران)، مواقف تتسم بالتفتيش عن
مصالحها كدول وليس عن مصالح شعوب هذا الإقليم. عاد التقييم بناءً لمبدأ بريجينيف
الشهير (الدور التقدمي للجيوش في العالم الثالث)، وتفسيره شراء السلاح من الترسانة
السوفياتية وظلم الشعوب كما يريد كبار المتمسكين بالجيش والدولة بدلاً من
الرأسماليين. أي أن ما يحدد وطنية وتقدمية أي نظام هو علاقته مع هذا النظام أو
ذاك، وليس علاقته مع شعبه.
البعض اعتبر أن هناك ضرورة للحفاظ على الأنظمة التي ترتبط بدولة ما. والبعض
الآخر اعتبر ضرورة القتال من أجل تغيير هذه التبعية.
بصيغة أخرى، اخترع معظم المسيطرين على الحركة السياسية تناقضاً غير موضوعي،
وتجاوزوا التناقض الموضوعي من أجل مصالحهم وبشكل معاد لمصالح الشعوب. فحتى هذا
التاريخ كان الجميع (باستثناء تركيا التي تقيم علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني
والتي ساءت بعد العدوان الصهيوني على الأتراك في البحر) يتفق على أن الصراع مع
العدو الصهيوني له الأولوية على باقي الصراعات جميعها. ولكن مصالح دول متنفذة في
الإقليم رأت ضرورة تغيير هذا التناقض لصالح تناقض آخر يخدم أجندات أخرى ويجعل
الصراع مع العدو الصهيوني ثانوياً.
وكانت المعركة مع التكفيريين هي الوجه الجديد للصراع في المنطقة والذي يخفي
وراءه كوارث هي: مشاركة العدو الصهيوني بالمعركة القائمة في إقليمنا تحت نفس
الشعارات. وكذلك الصراع المذهبي المستبطن والصريح أحياناً، والذي تغذيه الإدارة
الأميركية بمساعدتها الأطراف المتنافسة في حروبها البينية.
ما تطرحه إسرائيل هو حلف مع الدول السنية ضد إيران والتكفيريين. وفي الجهة
المقابلة تطرح إيران حلفاً مع النظام السوري والعراقي والحوثيين ضد السعودية
والتكفيريين.
معادلة بسيطة تُرينا كيف خرج الكيان الصهيوني من صورة الصراع، إن لم يكن
مطروحاً كناشط من ضمن التحالفات الموجودة.
ما المطلوب إذن؟
إزاء ما هو قائم فعلاً الآن، أصبح من الضروري ابتداع استراتيجية جديدة
للصراع ضد العدو الصهيوني الذي تحول من جسم غريب إلى جسم طبيعي من نسيج المنطقة.
ولا ينفع الصراخ وإنكار ذلك، خاصة أن جميع الأطراف في الإقليم متوافقة على أن
الصراع هو مع التكفيريين ومع إيران والسعودية، تبعاً للإصطفاف.
المعركة مع إسرائيل لم تعد معركة تحرر وطني بالنسبة للأنظمة في إقليمنا. من
هنا، ضرورة إعادة فرز القوى الإجتماعية لتحديد من هي القوى الحليفة والقوى
المعادية، نظريا. فالإنتقال إلى الممارسة العملية يتطلب هذه المعرفة.
المقاومة ضد الكيان الغاصب هي مسألة بديهية نظرياً، طالما أن هوية هذا
الكيان لم تتغير. والمقاومة تأخذ أشكالاً متعددة، العسكري أحدها.
إن تحديد أشكال المقاومة الممكنة حالياً، هي التي تحدد هوية وطبيعة
الكيانات المقاومة، كما وتحدد من هي الفئات التي يجب أن تتسلم زمام المبادرة.
العمل الجدي يستدعي التفكير في كيفية التحضير للعمل في المستقبل القريب،
قبل الندم على عدم التحضير لهذا المستقبل.
ملاحظة أخيرة: إن عدم قيام الكيانات المسلحة بالمهام التي من أجلها وُجدت
(هنا مقاومة الكيان الصهيوني)، يحولها إلى كيانات قائمة لذاتها، أي تفتش عن كيفية
تعيشها. لذلك يمكن تحويلها بسهولة إلى قوات تدخل سريع لصالح الأنظمة التي تصرف
عليها. وهذا لا يتطلب كثيراً من الجهد في جو الشحن المذهبي. حيث أن جميع هذه الكيانات
في منطقتنا تتميز بالصفاء المذهبي.
والأمثلة جاهزة: الجيش السوفياتي والصيني والمصري والحرس الثوري
الإيراني... جميع هذه الجيوش والمؤسسات قامت للدفاع عن الثورة وتحولت إلى مؤسسات
قائمة لذاتها، تستثمر لصالحها في الإقتصاد وتنافس الرأسمال الخاص. وتصبح مؤسسات
مهمتها الدفاع عن استقرار استغلال الشعب لصالح كبار قادتها ولصالح الرأسمال الخاص.
أما الكيانات التي لا تكون جزءاً من نظام ما، فتصبح مجموعات مسلحة صالحة للإستخدام
في أي مكان، لصالح من يصرف عليها، والمبرر هو تأمين استمراريتها، مع نسيان سبب
قيامها في الأصل. (من يقوم بمهمة قمع المقاومة في الضفة الغربية؟).
مهام ملحة
الغاية التي من أجلها كُتبت هذه الورقة هي التأكيد على ضرورة تغيير طبيعة
وأشكال النضال.
1 – الأونروا: هذه المؤسسة التي أوجدها المجتمع الدولي لمساعدة الفلسطينيين
بانتظار العودة، تريد أطراف موالية للكيان الصهيوني تصفيتها للإنتهاء من حق
العودة. المعنيون بهذه المؤسسة هم جميع اللاجئين الفلسطينيين، أينما وُجدوا. ولكن
ردود الفعل على محاولات التصفية ليست بحجم الحدث. لذلك لا بد من ترك اللاجئين
يعبرون عن أنفسهم بالنسبة لهذا الموضوع من دون تأطير أمني مخابراتي كما هو سائد في
جميع أماكن تجمعات اللاجئين.
كما وأن فلسطينيي الشتات معنيون بهذا الموضوع. يمكن إسماع صوت الفلسطينيين
في جميع أنحاء العالم حيث يوجد فلسطينيون. ولكن هذه الطاقات معطلة.
2 – المخيمات: لقد تمكن النظام الأمني المسيطر من جعل هذه المخيمات بؤر غير
معنية بقضايا الشعب الوطنية. لذلك نرى التنافس فيما بين مختلف الكيانات على أمور
ليس لها علاقة بتأمين حقوق اللاجئين ولا بالنضال السياسي من أجل العودة. والمنافسات
بين الكيانات تقوم على مكاسب لا تقرب فلسطين إلى الفلسطينيين ولا تقرب الفلسطينيين
من بلدهم.
إطلاق نار يومي، اغتيالات، فساد... مجابهة هذه الآفات لا يمكن أن تصل إلى
مبتغاها إلا في حال وجود حركة شعبية غير مرتبطة بالكيانات القائمة تجابه هذه الآفات
بالتحركات السلمية. المنظمات فشلت في ضبط المخيمات، وليس بإمكانها أن تنجح. عمل
هذه المنظمات يحمل طابعاً أمنياً. والممارسات الأمنية دمرت الإتحاد السوفياتي، فما
بالك بمخيم! لابد من عزل الكيانات التي تسيء إلى النضال الفلسطيني شعبياً.
3 - غزة: يجب إعادة إعمار غزة ويجب عدم تقديمات تنازلات سياسية للعدو.
هل يمكن ترك عشرات آلاف الفلسطينيين رهينة في أيدي بعض المنظمات التي تفتش
عن مكاسب لها ولزعمائها والمنفقين عليها؟ هل يمكن الإستمرار في المقاومة العسكرية
إن كان تجديد هذه الترسانة مرهون لهذا النظام أو ذاك؟ وما فائدة هذه المقاومة إذا
كان استثمارها ليس لصالح القضية الفلسطينية، وهو كذلك. منذ تأسيس الكيان الصهيوني،
تعمل الأنظمة على استعداة فلسطين في الإذاعات والبيانات والمؤتمرات...
لا بد من نقاش جدوى العمل العسكري وأشكاله. يجب التفتيش عن شكل للنضال
المسلح لا يرهن ممارسيه لأي نظام مهما كان صادقاً! وحسب التجربة التاريخية، العمل
العنيف داخل الأرض التي يحتلها العدو (أراضي 48 والضفة وغزة قبل تحريرها) هو الذي
أثبت جدواه رغم الخسائر. ولكنها خسائر يشترك فيها العدو.
ولكن اقتصار العمل العنيف على الداخل يجب أن لا يترافق مع أي تنازل سياسي
للعدو مهما كان. والضغط على الممسكين بالقرار الفلسطيني يجب أن يقوم به الشعب
الفلسطيني وليس بتبادل الإتهامات بين فتح وحماس. فلا أحد من الكيانات الفلسطينية
يمكن أن يختصر الشعب الفلسطيني فيه. كما وأن هذا ينطبق على الكيانات مجتمعة.
فالعلاقات السياسية مع العدو مرفوضة سواء قامت بها فتح أو حماس أو أي فصيل
فلسطيني. أما تأمين معيشة الفلسطينيين وأمنهم فلا يدخل ضمن نطاق العلاقات
السياسية، إنما تنظمه المواثيق الدولية بالنسبة للأراضي المحتلة من العدو.
نخلص إلى القول أنه لا جدوى من النضال المسلح إلا إذا كان مستقلاً، لا
يرتبط تطوره بغيره، وإلا أصبح ألعاباً نارية تسبب الموت والدمار في مهرجان
الضغوطات المتبادلة بين مختلف الأنظمة.
4 – منظمة التحرير: هل وجود منظمة التحرير شرط للنضال من أجل أن ينال الشعب
الفلسطيني حقه بالعودة وممارسة حقه بتقرير مصيره على أرضه؟ منذ قيام السلطة
الفلسطينية المرتبطة بالكيان الصهيوني وجمع قيادة المنظمة والسلطة في شخص واحد،
تراجع دور المنظمة وأصبح دورها الموافقة على قرارات قائد السلطة الفلسطينية. كما
وأن جميع الكيانات المرتبطة بها أصبحت عاطلة عن العمل النضالي. ورغم هذا، وبما أنه
كيان موجود فلا بأس من إصلاحه، على أن لا يزيد هذا الإصلاح المزمع الشروخ بين
مختلف فئات الشعب الفلسطيني. وتجديد قيادتها وشمولها جميع مكونات الشعب الفلسطيني
لا يفيد إذا لم يتم الفصل بين المنظمة والسلطة. مضافاً إلى ضرورة تحديد المهمات
المنوطة بالسلطة وتلك المنوطة بالمنظمة. فكل ماهو سياسي يجب أن يرتبط بالمنظمة
الموجودة قيادتها خارج الأراضي المحتلة. وكل ما يتعلق بحياة الناس يجب أن يكون
منوطاً بالسلطة. دور المنظمة سياسي ودور السلطة خدماتي.
5 – الوحدة الفلسطينية: الوحدة، إن لم تكن على برنامج واضح للنضال الوطني
الفلسطيني، فليست حاجة. وهي تعني اتفاق على تقسيم المغانم بين النافذين. الكلام عن
الوحدة يعني مشاركة العديد من المتنورين الفلسطينيين وذوي الخبرة في العمل السياسي
والوطني والإجتماعي والإقتصادي إلى جانب المنظمات المقاومة، بصياغة برنامج للنضال
المرحلي على رأسه العمل على تحقيق العودة لللاجئين إلى وطنهم والتعويض عليهم. ومن
ثم حل المشاكل المستجدة في الحياة اليومية للمواطنين.
6 – العلاقة مع الآخر: يجب أن تقوم على ما يحقق البرنامج الوطني الفلسطيني
وعدم المشاركة بما يحصل في مختلف البلدان العربية حيث يتواجد اللاجئون.
وأخيراً، لابد من الإشارة إلى ضرورة العمل، في مجتمعات اللجوء، مع مختلف
فئات المجتمع من أجل تحقيق مطالب اللاجئين السياسية والإجتماعية...
26 تموز 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق