الصراع الدولي
حسن ملاط
كانت الحرب العالمية الأولى والثانية، كانتا تنافساً
دامياً على اقتسام العالم بين الرأسماليات الأكثر تقدماً في أوروبا. وحيث أن
الرأسمالية الأميركية هي التي كانت مؤهلة أكثر من غيرها لتعميم نمطها، كان
الإنتصار لهذه الرأسمالية والتي حملت على عاتقها قيادة النظام الرأسمالي العالمي.
وحيث أن هذا النظام لا يمكن إلا أن يكون شاملاً، وحيث أن
الرأسمالية لم تُهمل يوماً تطوير نفسها وآلياتها، تمكنت من الإستمرار، رغم قيامها
على الظلم والنهب ومعاداة الأكثرية الساحقة من الشعوب. وأصبحنا نعيش في عصر
العولمة النيوليبيرالية، آخر تحولات النظام الرأسمالي حتى الآن.
وماذا عن الإتحاد السوفياتي السابق ودول الكوميكون؟
النظام الإشتراكي هو نظام عالمي كما النظام الرأسمالي.
لذلك، فالصراع بين النظامين لا يمكن إلا أن يكون عالمياً ويشمل حتى الدول المشاركة
في هذا الصراع. أي أن الصراع ضد النظام الرأسمالي سيشمل الداخل في الدول التي
تدافع عن هذا النظام وتقود معركته.
ما الذي جعل النظام الإشتراكي ينهار من دون تدخل عنيف من
الدول المعادية لهذا النظام؟
عندما تحدث لينين عن نظام ديكتاتورية البروليتاريا، أوضح
أن هذا النظام في حقيقته لا يختلف عن رأسمالية الدولة. ولكن الفرق بين النظامين هو
أولاً ملكية وسائل الإنتاج وتكون للدولة ويجب أن تصبح للطبقة العاملة. أما الثاني
فهو دور الحزب في تحويل هذه الملكية من خلال تنظيم الطبقة العاملة والسماح لها
بلعب دورها القيادي.
بعد موت لينين، بدأ التخلي عن العمل باتجاه ديكتاتورية
البروليتاريا، وتمتع كبار شخصيات الحزب وكبار البيروقراط في الدولة وفي الجيش
بجميع ما كان يتمتع به أفراد الطبقة الرأسمالية. وكانت الخطوة الأولى والحاسمة
بالتخلي النهائي عن الإشتراكية هو الشعار الذي رفعه الإتحاد السوفياتي ببناء
الإشتراكية في بلد واحد. هذا الشعار الذي يتناقض مع طبيعة النظام الإشتراكي الذي
يملك طابع العالمية. أضف إلى ذلك الشعار الذي لا يقل سوءاً عن الشعار الأول وهو
المباراة السلمية بين النظام الإشتراكي والنظام الرأسمالي.
عندما رُفع شعار الإشتراكية في بلد واحد تحول النظام في
الإتحاد السوفياتي إلى نظام أمني في جميع تشكيلاته الجماهيرية (الحزب ومنظمات
الشبيبة...) وفي أجهزة الدولة والجيش. وقام ستالين بتصفية الحزب وقتل وسجن مئات
الآلاف. وقُضي نهائياً على العامل الإيديولوجي الذي يُعتمد عليه لتحويل رأسمالية
الدولة إلى ديكتاتورية البروليتاريا. مما اضطر السوفيات إلى رفع شعار رأسمالي
الشكل والمضمون لتنشيط الإقتصاد المتعثر أو المنهار، وهو الشعار المشهور بالحافز
المادي واطلقت عليه تسمية مخترعه ليبيرمان. حتى العمل بهذا لشعار لم يُجد نفعاً.
وخسر السوفيات المباراة السلمية، وخسر السوفيات دولتهم التي لم تصبح يوماً
اشتراكية، إنما ظلت رأسمالية. والمتتبع يرى أن رجالات الدولة الإشتراكية العظمى
تحولوا أنفسهم إلى رجالات الدولة في الدولة الرأسمالية المعولمة روسيا الإتحادية.
إذا أحببنا أن نشير إلى السبب الرئيسي في انهيار التجربة
السوفياتية نقول بأن بناء دولة رأسمالية يتطلب آليات تنسجم مع النظام الذي نقوم
ببنائه. القمع والإرهاب والصناعة العسكرية فقط وبيع المواد الأولية (إقتصاد ريعي)،
لا يبني اقتصاداً يمكنه أن يصمد أمام المنافسة. لذلك كان من الطبيعي أن تربح
أميركا. وكان من الطبيعي أيضاً أن تلجأ روسيا للغرب لبناء اقتصاد رأسمالي يملك
إمكانية الإستمرار. ولازالت هذه الخطوة متعثرة لأن القيادة الروسية تصر على بناء
اقتصاد متطور بآليات القمع التي كانت سائدة في الإتحاد السوفياتي. وتستمر هذه
القيادة بتطوير الصناعة العسكرية التي لا تمكن المستهلك الروسي من أكلها.
بكلمة واحدة، القيادة الروسية ستظل خاضعة اقتصادياً
للعولمة النيوليبيرالية لأنها لن تتمكن من منافسة أو مجابهة العولمة بنفس آليات
هذه العولمة.
ما ينطبق على روسيا، ينطبق أيضاً على الصين مع التنويه
أن القيادة الصينية استفادت كثيراً من التجربة السوفياتية وأقامت نظام شراكة مع
الرأسمالية الفردية، من دون التخلي عن آليات القمع السائدة في روسيا سابقاً
وحالياً. وهذا ما يجعلها تتخبط حتى الآن مع أنها الإقتصاد الثاني في العالم.
هل هناك إمكانية لحرب باردة جديدة؟
للإجابة على هذا السؤال، دعونا نتحدث عن الحرب الباردة
التي انتهت بانتهاء الإتحاد السوفياتي. كانت تلك الحرب الباردة بين دول حلف شمال
الأطلسي وبين دول حلف وارسو. والحديث هو على قاعدة "أولم يسيروا في الأرض
فينظروا كيف كانت عاقبة الذين من قبلهم".
1 – كانت أحلام المواطن الذي يعيش في هذه الدول (الإشتراكية)
أن يعيش على الطريقة الغربية. أي أن هذا المعسكر مهزوم قيمياً.
2 – القوة العسكرية في المعسكر الغربي كانت متقدمة على
تلك التي في المعسكر المضاد. وعلينا أن لا ننسى أن أحد أسباب انهيار الإتحاد
السوفياتي يعزوها البعض إلى ما سمي "حرب النجوم".
3 – الإقتصاد الغربي كان ولا يزال الأقوى لأنه اقتصاد
انتاجي يرعى عشرات مراكز الأبحاث، بينما الإقتصاد السوفياتي كان اقتصاداً ريعياً.
....
والآن لم يتغير الوضع. عندما كانت الإيديولوجيا موجودة
لم يتمكن الروس من المنافسة بسبب انعدام الحريات. أما الآن لا ايديولوجيا ولا
اقتصاد انتاجي. فتسعير الحروب هي لإلهاء الشعب الروسي عن مشاكله الحقيقة واحياء
الروح القومية الشوفينية من أجل الإستمرار بنهب خيرات الشعوب الروسية.
لا يريد الروس ولا الصينيون ولا دول البريكس أو دول
معاهدة شنغهاي منافسة العولمة النيوليبيرالية لأنهم يتبنون قيمها وآلياتها، فكيف
يمكن أن تقوم حرب باردة أو غير باردة.
رب قائل، ألا تتنافس الرأسماليات؟ وكيف قامت الحرب
العالمية الأولى والثانية؟
عندما قامت تلك الحروب، كان هناك وجود لرأسمالية فرنسية
وانكليزية وألمانية و... أما في هذه الأيام يوجد رأسمال معولم، مصالحه مشتركة
أينما وجد، حيث لا حدود تفرق بين الدول أو في أماكن الإنتاج أو الإستهلاك. الصيني
يخفض سعر اليوان بالنسبة للدولار حتى يتمكن من البيع في السوق العالمية، ولا بأس
من أن يزداد عدد الجياع في الصين حماية للرأسمالية الصينية... عندما بدأت أزمة
2008 في الولايات المتحدة عمت الخسائر جميع البلدان، علماً أن الأزمة في الولايات
المتحدة. تعميم الخسارة هو بسبب أن جميع العملات العالمية والتي تقيم بالدولار هي،
حتى إشعار آخر، مجرد تحويلات للدولار. وقوة الدولار ناتجة عن الخضوع الطوعي لجميع
المستثمرين لسلطة الدولار من القوة العسكرية والمادية من حيث الإنتاج وتطويره
باستمرار.
لنتساءل أيضاً ما علاقة تنمية وتطوير الإقتصاد بتعميم
ماكدونالد في البلاد التي تطور علاقاتها الإقتصادية مع الولايات المتحدة؟ إنعدام
البراديغم الآخر يجعل مرجعية نمط الحياة الأميركية هو الوحيد القابل للتعميم. وهذا
يعني أنه لا وجود لنظام قيم حقيقي غير نظام القيم الأمريكي. علينا التفكير بهذا
الخبر: ما أن وقع على الإتفاق النووي حتى تلقى مطعم ماكدونالد عروضاً عديدة لفتح
فروع له في إيران. هذا ما حصل في الصين سابقاً وربما سيحصل في كوبا أيضاً. لقد
تمكن الأمريكي من خلق نموذجه الخاص، وهو الإنسان الإستهلاكي (أومواستهلاك). ولم
يتمكن أي نظام آخر من خلق نموذجه الخاص. لذلك، لا يمكن الإنتصار على هذا النموذج
قبل إبداع وخلق نموذج آخر.
إن الكلام الإستهلاكي في الإعلام عن البريكس
ودول معاهدة شنغهاي والميركاسور وغيرها، لا يساوي ثمن الحبر الذي يكتب فيه. هل
يحاربون النموذج الأمريكي باعتماد الدولار في جميع تعاملاتهم؟ وإن لم يعتمد مباشرة
فهو يعتمد بالتقييم. أي أنه هو الذي لا يمكن الإستغناء عنه. وقبل الكلام عن موضوع
استقلال البريكس أو غيرها، السؤال هو إن كانت هذه الدول تريد الإستغناء عن شكل
وآليات التقييم السائدة اليوم.
إذا كان ذلك كذلك، كيف يمكن تفسير الصراعات القائمة بين
الدول اليوم؟ وهل يمكن أن تؤدي إلى حروب أو حرب باردة على الأقل؟
لم يصل العالم إلى عولمة مطلقة. لاتزال هناك صناعة
ألمانية وفرنسية وأمريكية وصينية... ولكن مالكي هذه الصناعات ليسوا ألماناً أو
فرنسيين..إلخ لأن جميع هذه الشركات مساهمة ويحق لأي كان حمل هذه الأسهم. وحيث أن
هذه الدول لا تزال موجودة في بنيتها القديمة، عليها أن تدافع عن مجالها
الاستراتيجي، كما يقال. التدخل في أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تستسيغه. فأوكرانيا
هي في مجالها الحيوي. وكذلك جورجيا. تضغط أمريكا على روسيا ولكن ضغطاً يمكن لروسيا
أن تتحمله. بمعنى أنه لا يمكن أن يصل إلى حرب باردة بين البلدين. ففي قمة المنافسة
على أوكرانيا تتعاون أمريكا مع روسيا بشكل يكاد يكون مطلقاً في الموضوع السوري وموضوع
الإرهاب الإسلامي. أمريكا تريد اللعب في المجال الاستراتيجي الروسي وروسيا لا
تقبل. وأمريكا تعرف أن روسيا لن تقبل ولكنها تظل تضغط عليها لكي تعلم الأخيرة أن
الريادة لها.
هذا ما تفعله أوروبا مع اليونان. الإتحاد الأوروبي وعلى
رأسه ألمانيا يريدون أن تكون اليونان على نمطهم في جميع قراراتها، لذلك يساعدونها.
تسيبراس تراجع عن مجمل الإصلاحات التي وعد بها، واستمر اليونانيون بأخذ وجبتين
مجانيتين من الكنائس.
هل طُبع على قلوبنا أننا عبيد للعولمة النيوليبيرالية
بنسختها الأمريكية؟
القرار هو الذي يجيب على السؤال.. هناك إمكانات عديدة
للتحرر من العولمة، ولكن هذا يتطلب بنية مادية مؤاتية وإرادة تحرر. فدول معاهدة
شنغهاي يمكنهم، في حال أرادوا، تكوين كتلة متجانسة ومتجاورة وتملك من الإمكانات
المادية ما يمكنها من التحرر من سطوة الإدارة الأمريكية ومؤسساتها من البنك الدولي
وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. هذه الدول تملك الطاقة والقوة
العسكرية والماء والأرض الزراعية... الإتحاد الأوروبي مع روسيا يمكنهما أن يشكلا كتلة
تنافس الولايات المتحدة. إقليمنا، الدول العربية مع إيران وتركيا، يمكنهم أن
يشكلوا كتلة يمكنها التحرر من الهيمنة الأمريكية.
يقول تعالى "وإذا عزمت فتوكل على الله".
التحرر مرهون بإرادة شعبنا. أما التبعية للأنظمة القمعية الطائفية والمذهبية فلا
تخلق إلا الإستعباد. حرية الفرد والمجتمع هي الشرط الأول للتحرر والتنمية
الإقتصادية والإجتماعية والسياسية..
21 آب 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق