الوضع الإقليمي (تحجيم
تركيا)
حسن ملاط
العديد من المؤشرات توحي بأن الوضع الإقليمي يتطور
باتجاه تغيرات دراماتيكية لم تكن متوقعة سابقاً.
روسيا: بعدما تمكن الرئيس بوتين من القضاء على "الثورة"
الشيشانية، ارتفعت أسهمه كثيراً في الداخل الروسي. فالمواطن الروسي قارن بين حكم
يلتسين الضعيف والذي تميز بتبعيته للغرب، وبوتين الذي رفع الروح القومية الروسية
ووعد الروس بإعادة بلدهم إلى مصاف الدول الكبرى كما كانت في الحقبة السوفياتية.
هذا ما جعل الروس يؤيدونه فيما يراه حتى وإن اضطرهم ذلك للتخلي عن مكاسبهم التي
كانوا يملكونها في الفترة الشيوعية. بعدها، أعلن الحرب على جورجيا التي أراد
رئيسها شيفارندزة الدخول في الحلف الأطلسي وإعاقة تدفق النفط الروسي إلى أوروبا
الغربية، حيث أن الأنابيب تمر في الأراضي الجورجية. إنتصاره في هذه الحرب أيضاً، رفع
من أسهمه وجعله القيصر الجديد. ساعده في حركته ارتفاع سعر النفط إلى أكثر من مئة
دولاراً للبرميل الواحد.
الحرب على أوكرانيا أدت إلى اختلافه مع الغرب الذي فرض
عقوبات ضاغطة على الإقتصاد الروسي، مما جعل العملة الروسية تتراجع إلى أقل من
النصف. ثم تلا ذلك انخفاض سعر النفط والغاز إلى أقل من النصف.
في هذه الظروف دخلت روسيا طرفاً فاعلاً في الحرب
السورية. وكلفة الحرب اليومية هي بين 2،5 و3 ملايين دولاراً. وميزانية وزارة
الدفاع تمكنها من الإنفاق ما بين ثلاثة وأربعة أشهر كما صرح بذلك رئيس الوزراء
ميدفيديف. وإذا علمنا أن الإقتصاد الروسي يقوم على بيع النفط والغاز وحوالي 15
مليار دولاراً من بيع السلاح، يمكننا أن نستيقن بأن روسيا تدخل الحرب ضعيفة وهي
بحاجة إلى إنهاء الحرب بالسرعة القصوى وأن إطالة أمد الحرب سيكون سيئاً جداً
بالنسبة لها بالرغم من تأييد الإدارة الأمريكية لها في هذه الحرب، علماً أن هذه
الأخيرة لن تكون مستاءة إذا غرقت روسيا في وحول الحرب السورية.
إيران:
ارتضت إيران بتقديم بعض التنازلات للمجتمع الدولي
والإدارة الأمريكية في ملفها النووي لأنها كانت ولا تزال بحاجة إلى رفع العقوبات
الدولية عنها. هذا ما سيجعلها تسترد بضعة عشرات من مليارات الدولارات للمساهمة بإعادة
بناء إقتصادها الذي يحتاج إلى مئات المليارات. ولكنها، عملياً، تستخدم هذه الأموال
لصرفها في تمويل الحرب السورية والعراقية. وإذا صحت الأنباء عن تعهد السلطات
الإيرانية بتمويل الحرب الروسية، فهذا يعني أن المواطن الإيراني سيظل يعاني كما
كان يعاني في عهد العقوبات الظالمة.
إن الضغوط الإقتصادية التي ترزح تحتها روسيا وإيران تعطي
دلالة واضحة على عدم إمكانيتهما على التصرف باستقلالية عن الإدارة الأميركية التي
أشركت جميع هذه الدول في حربها على الإرهاب. وراحت جميع الدول تفتش عن المبررات
التي تسمح لها بالدخول في هذه الحرب التي أرادتها أمريكا.
تركيا: تركيا وحدها كانت بعيدة نسبياً عن هذه الحرب،
علماً أن جميع الأطراف يتهمها بأنها تسمح للإرهابيين الإسلاميين باستخدام أراضيها
لاستقدام المقاتلين. إن وضعاً كهذا سيمكن تركيا من الإستفادة من مغانم الحرب
الدائرة في سوريا والعراق من دون أن تدفع بدلاً عن الإستثمار في هذه الحرب. لذلك
كان لا بد من تحجيم الدور التركي حتى يتناسب مع الدور الروسي والإيراني، مع
الأفضلية للروسي دائماً.
إسقاط الطائرة الروسية كان الباب الذي دخلت منه تركيا
إلى الفخ أو المأزق. إن ردود الفعل الأمريكية على إسقاط الطائرة من قبل تركيا،
وردود الفعل الأوروبية الأطلسية تبين بوضوح تبرؤ هؤلاء جميعاً مما فعلته تركيا.
الجميع طلب من تركيا وروسيا عدم تصعيد الموقف والإتفاق فيما بينهما.
من المرجح أن لا تتجه الأمور إلى حرب ما بين الجارتين
المرتبطتين إقتصادياً بما يساوي 50 ملياراً من الدولارات، والتي كان المنوي رفعها
إلى 100 ملياراً. صحيح أن روسيا فرضت بعض العقوبات ولكنها لم تتحدث عن وقف إمدادات
الغاز والذي يساوي 30% من الإستهلاك التركي. كما أن وزيري خارجية البلدين قد
اجتمعا ولم يكن الإجتماع إيجابياً. ولكن من المؤكد أن التصعيد قد توقف نسبياً.
إيران، الطرف الأقرب إلى تركيا وروسيا في نفس الآن، أيدت
روسيا سياسياً وأعلنت أن عليها أن تقوم ببعض الجهود من أجل إعادة الحرارة للعلاقات
التركية الروسية، مع أنها لم تتوقف عن الغمز من قناة الأتراك. فالعلاقات التي
ترتبط بها هذه الأطراف الثلاثة، روسيا، إيران وتركيا، تكاد تكون الأكثر حميمية.
فتركيا لم تلتزم بالعقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على إيران. كما أنها لم
تلتزم بالعقوبات التي فرضتها أمريكا والإتحاد الأوروبي على روسيا. وبالرغم من كل
ما تقدم، تبدو التطورات أنها تسير باتجاه تحديد الأدوار للقوى الإقليمية تحت إشراف
الإدارة الأمريكية والروسية. أي أن أمريكا تفضل أن تعطي الدور الأول لروسيا في
الإشراف على تنفيذ الحلول المزمع الوصول إليها في سوريا أولاً، ولها هي بالنسبة
للعراق.
الملاحظ للمواقف الإيرانية بعد إسقاط الطائرة الروسية
يمكنه أن يستنتج أن هناك ما يستدعي الحذر من الموقف الأمريكي والروسي. فالإيرانيون
أيدوا الموقف الروسي من دون تحفظ. ثم تراجعوا خطوة إلى الوراء عندما أعلنوا ضرورة قيامهم
بجهود من أجل إتفاق الروس والأتراك، مع استمرار الإعلام الموالي بشن الحملات على
تركيا. إن ما جعل إيران تتوجس من أمريكا وروسيا في الآن ذاته، هو إغداقهما
المساعدات للميليشيات الكردية التي تريد أن تستأثر بشمال سوريا المتصل جغرافياً
بشمال العراق المتصل بالمنطقة الكردية التركية والإيرانية. ولا ننسى أن أول
جمهورية كردية قامت في التاريخ الحديث كانت عاصمتها مهاباد الموجودة في إيران. هذه
الجمهورية التي قامت بمساعدة الروس. وبعد القضاء عليها التجأ وزير دفاعها الملا
مصطفى البرزاني إلى روسيا. الحركة الأمريكية والروسية حيال الأكراد تبين بوضوح
رغبتهما باستخدام هذه الورقة للضغط على تركيا أولاً وعلى إيران وتركيا ثانياً. بحيث
يرى الطرفان أن وحدة أراضيهما مهددة من قبل الأكراد الذين يتمتعون بالرعاية
المشتركة لأمريكا وروسيا على السواء.
ما تريده أمريكا هو تحجيم الدور التركي بواسطة روسيا بعد
أن حجمت الدور الروسي بجهودها وجهود الإتحاد الأوروبي وحجمت الدور الإيراني بواسطة
المجتمع الدولي. هكذا تتمكن أمريكا من ترك روسيا الضعيفة لرعاية التوازن في الشرق
الأوسط وتتفرغ هي للمحيط الهادي، كما أعلنت منذ سنوات.
12كانون الأول 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق