في كنف القبيلة
حسن ملاط
وَلَوِ
اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن
فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (71 المؤمنون).
لم يتمكن أهل مكة من استيعاب أن ما يدعو إليه
النبي صلى الله عليه وسلم يختلف عما عرفوه من القيم القبلية. لم يكرر النبي ما
فعله جده هاشم عندما أراد أن يدعم موقعه في مكة وذلك باستعانته بأقاربه من الخزرج.
إنما دعا النبي عليه السلام إلى قيم جديدة ونبذ القيم السائدة التي تقوم على
العصبية القبلية. أبو جهل لم يؤمن بسبب ما رآه من تنافس على قيادة مكة بين أفخاذ
قريش، ومن له حق القيادة. وعندما استعان قادة مكة بأبي طالب لإقناع النبي عليه
السلام بعدم الخروج على القيم السائدة أعطوه ما يغرون به عادة من يريدون انضمامه
إلى صفوفهم، ولم يعوا أن ما يدعو إليه النبي هو مجتمع جديد بجميع تفاصيله. لا فرق
بين غني وفقير، بين حر وعبد، بين عربي وأعجمي ...
اضطُر النبي عليه الصلاة لترك مكة عندما
انعدمت فرص الدعوة إلى الله. وهاجر إلى المدينة عندما وافق رهط من أهل المدينة على
استقباله بعد أن آمنوا معه وعاهدوه على النصر حتى بالقتال.
كان أول ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام
في المدينة هو الكتاب الذي كتبه بين المهاجرين والأنصار وبين المسلمين وأهل
المدينة. أما المادة الأولى من هذه الوثيقة، فهي تختصر توجه النبي بالقضاء على
القيم القبلية واستبدالها بقيم جديدة. فعوضاً عن مصطلح القبيلة أستُجد مصطلح بمضامين
مستحدثة: الأمة! تقول الوثيقة:
هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين
والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
إنهم أمة
واحدة من دون الناس.
ما يجمع المؤمنين والمسلمين من أهل مكة
والمدينة هو أنهم أمة وليسوا قبائل. لم يلجأ إلى صلة القربى التي تجمعه بالخزرج
حتى يقيم في المدينة، إنما الرابطة الجديدة التي عمل عليها هي التي مكنته من
الإقامة في المدينة على نحو آمن، رابطة الأخوة: إنما المؤمنون إخوة!
وأعقبها بتحديد العدو، عدو الأمة الذي منع
التعامل معه: وأنه لا
يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن. هذا هو
العدو الذي حددته أمة المسلمين. أما بالنسبة لجميع الناس الآخرين فمتروك لهم تحديد
موقفهم من هذه الأمة الجديدة.
وفي الكتاب ما بين المسلمين وأهل المدينة،
منع هؤلاء من التعامل مع قريش. فليس من المنطقي أن يكون حليفك حليفاً لعدوك في
الآن نفسه. لذلك نصت الوثيقة على: وأن لا تجار قريش ولا من نصرها.
وانتصر المسلمون على قريش، العدو وممثل الكفر
في تلك الحقبة من الزمن. ودخل الناس في دين الله أفواجاً وهم لا يزالون يحملون في
أنفسهم القيم الجاهلية. فعندما جاء النسوة لمبايعة النبي عليه الصلاة والسلام،
فيقول لهم و"لا تزنين"، قالت له إحداهن: وهل تزني الحرة (لم تستخدم صفة
المؤمنة) يا رسول الله؟
مات النبي صلى الله عليه وسلم. قبل دفنه،
اجتمع الخزرج ومعهم واحد من الأوس على بعض الروايات وبحثوا بكيفية قيادة المدينة
بعد موت القائد. عندما علم عمر بالإجتماع
دعا أبا بكر ودخلوا سقيفة بني ساعدة حيث الإجتماع. وتباحثوا جميعاً بما تؤول إليه
الأوضاع بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام. اتفقوا على أن الأمراء من قريش والوزراء
من الأنصار. إتفاق طابعه قبائلي وعشائري.
بعد الخلافة الراشدة تسلم القسم الأقوى في
قريش الحكم وحوله إلى ملك عضود كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
ومنذ ذلك الحين وحتى انهيار الدولة
العثمانية، كان الحكم في بلاد المسلمين للغلبة وليس للقيم التي حاول أن يُرسيها
النبي صلى الله عليه وسلم على أن المسلمين أمة وليسوا شعوباً وقبائل وأن أحسنهم هو
أتقاهم.
الله تبارك وتعالى يؤكد لنا أننا أمة أو
علينا أن نكون أمة:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً. (البقرة)
كنتم خير أمة
أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. (آل عمران)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (فاتقون). (الأنبياء، المؤمنون)
ما هو قائم اليوم هو اختراع أو ابتداع
أنماط من التدين تؤكد على عدم وحدة المسلمين، وأن المذاهب أصبحت أقوى من الدين.
والأخطر الذي وصل إليه المسلمون، بجميع مذاهبهم، أنهم أصبحوا يرون أن حروبهم
البينية هي أولى من حربهم مع عدو الأمة، الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين.
الأمة الحية هي التي تراكم تجاربها
الإيجابية من أجل إيجاد ذاكرة جمعية تجعل المنتمي إلى هذه الأمة يفتخر بانتمائه
إليها. ولكن الصراعات المذهبية بين مكونات أمتنا تحول دون القيام بذلك. فصلاح
الدين حرر القدس، ولكن البعض يرى بأن صلاح الدين قتل أبرياء من بعض المذاهب
المخالفة لمذهبه. حزب الله انتصر على الكيان الصهيوني مرتين. فبدلاً من توظيف هذه
الإنتصارات في ذاكرة الأمة الإيجابية يذهب البعض إلى اعتبار هذه الإنتصارات مزيفة
لتوظيف هذا الكلام في صراعه المذهبي.
وهذا ما حصل أخيراً مع سمير القنطار الذي
قتله الكيان الصهيوني بسبب عمله على تأسيس مقاومة في الجولان المحتل. فالبعض لا
يقبل إلا أن القنطار يقتل الشعب السوري، وكأن الكيان الصهيوني يدافع عن الشعب
السوري، بينما المختلفون عنهم مذهبياً يقتلون الشعب السوري.
ما تقدم يُظهر بوضوح أن ما يُسمى "المسلمون"
لا يزالون كل منهم يلوذ بقبيلته (هنا مذهبه) لأنهم لا يملكون شعور الإنتماء إلى
أمة. فهم يقدمون مصلحة القبيلة، المذهب، على مصلحة الأمة. وهذا التقديم لا يخدم
إلا مصلحة أعدائهم وأعداء الأمة. يخدمون أعداءهم الحقيقيين نكاية بأعدائهم
المفترضين. هذا يُذكر بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الذين باعوا دينهم بدنيا
غيرهم.
27 كانون الأول 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق