قراءة في تنظير "علي فياض" للثورات العربية
نشر الدكتور علي فياض مقالتين نظريتين في جريدة "السفير" اللبنانية، الأولى مؤرخة في 4 شباط 2011 والثانية مؤرخة في 14 نيسان 2011. وتبدو الثانية متممة للأولى. وأزعم أن هذه الدراسة بقسميها الأول والثاني ترتدي أهمية كبيرة، وهذا ما دفعني لقراءتها.
سأبدأ من حيث أنهى حديثه الأول، حيث قال: "يبقى علينا أن ننتظر فعلياً ما سيؤول إليه الحدث المصري، الذي خفتت أمامه كل الاستحقاقات الأخرى وبدت باهتة جداً. لأننا سنكون عندها كما ذكرنا أمام زمن آخر. زمن أكدنا فيه أن إسرائيل قابلة للهزيمة وهنا نحن نؤكد أن التغيير ممكنٌ في هذا العالم العربي الذي يستحق أن نضع حداً لمعاناته". إن أهم ما في هذا الكلام هو التأكيد على محورية مصر أولاً وعلى الإنتماء ثانياً. من هنا نقول بأن علي فياض لم يكتب من أجل التنظير فقط، إنما كتب من أجل أن تفيد أمتنا من هذا التنظير، بقصد إفادة أمتنا من هذا التغيير وبقصد تحرير فلسطين.
كما وأنه في الجزء الثاني من الدراسة، كان منه إصرار على نفس الوجهة: "هل وقعت هذه المقاربة في المبالغة والاستعجال؟ وهل تنطوي على رومانسية ما تناقض ما سعت إليه أصلاً؟ ربما، وربما كان علينا أن نتريث قليلاً، وان نتحّفظ في إطلاق الاستنتاجات، بانتظار أن نتبيّن نتائج الثورات العربية ووجهتها والمدى الذي ستبلغه، بيد أن علينا أن لا ننكر في أي حال، الوظيفة التحفيزية للأفكار، ولا سيَّما عندما تكون نتاجاً لثقافة عضوية تولد من قلب خندق المواجهة".
لقد اتفقنا في بعض الأمور مع دكتورنا العزيز واختلفنا معه في بعض الأمور. يقول الدكتور، بعد أن طرح بعض التساؤلات المنهجية: "هذه التساؤلات المنهجية الشائكة، نجد لها بدورها إجابات سهلة لكن عميقة في المقاربة الدينية للتحليل السياسي والاجتماعي، لأنه «لا يعلم جنود ربك إلا هو»، وبالتالي فالعوامل الغيبية تتكفل دائماً بتفسير ما لا يمكن تفسيره من تحولات فجائية، وهي تتآزر جنباً إلى جنب مع العوامل الأخرى التي تكمن في صلب الواقع الاجتماعي... والتي قد يتحول الثانوي فيها إلى أساسي في لحظة، أو قد تتضافر بعضها إلى بعض في توليفة زمنية استثنائية غير مفهومة مما يُفجَّر لحظة التغيير... ". إن مهمة العالم هو تفسير هذه الظواهر، ولا يمكنه أن يقول أن هذه الظواهر غير مفهومة أو لا يمكن فهمها. كما وأن القرآن الكريم عندما يتصدى للظواهر، يتصدى لها بقصد مساعدة المؤمنين على فهمها. فالله تبارك وتعالى قد وعد المؤمنين بالنصر الإلهي عندما يلتزمون بمعايير معينة، لم يغفلها القرآن الكريم، إنما ذكرها. فقد قال تعالى: "إن تنصروا الله ينصركم". فهنا شرط للنصر على المؤمن الإلتزام به حتى يصل إلى نصر الله. كما ورد في القرآن أيضاً: " وإذا عزمت فتوكل على الله". والعزم هو تأمين جميع الشروط المادية التي يحتاجها عمل ما أو ممارسة معينة. فإذا قام الإنسان بجميع هذه الشروط، عندها يتوكل على الله، وعندها ينصره الله. هذا ما جعلنا نقول أن النصر الذي حققته المقاومة في تموز وآب 2006 كان نصراً إلهياً. ذلك أن المقاومة استعدت بالقدر الذي يمكنها من أجل مجابهة العدو، طاعة لله. من أجل ذلك نصرها الله مع العلم أن الآلة العسكرية للعدو أكبر بكثير من آلة المقاومة العسكرية. وبالرغم من اعتراف السيد حسن نصر الله أن النصر كان إلهياً، ولكن لم يمنع ذلك المقاومة من دراسة التجربة بجميع حذافيرها، حتى تستفيد منها في مواجهاتها القادمة. القرآن الكريم لا يضع أحجيات لا يمكن حلها، إنما يضع منهجاً علينا اكتشافه من أجل الإلتزام به. وليس علينا الركون إلى أن هذا يدخل من ضمن الغيبيات ونستكين إلى هذا القول. ولكن عندما نعجز عن التفسير العلمي نسلم أمرنا إلى الله لأننا نؤمن به ونؤمن أنه سوف يؤآزرنا في عملنا، إذا كان في سبيله.
أما القول بأن بعض التناقضات الثانوية يمكن أن تصبح أساسية في لحظة من اللحظات، فهذا طبيعي ويحصل في جميع المجتمعات، وليس استثنائياً. ومهمة السياسي أو العالم رصد هذه التغيرات حتى يتمكن من وضع الاستراتيجيات أو التكتيكات لمجابهتها، لا أن يستسلم لها ويحيل الأمر إلى القوى الغيبية. إن بعدنا عن الساحة التونسية والمصرية هو الذي جعل ظاهرة البوعزيزي ظاهرة غير مفهومة. ولكن المناضلين التونسيين الذين استشعروا أن الأوضاع التونسية أصبحت جاهزة للتغيير هو الذي مكنهم من استغلال هذا الوضع ومتابعة النضال إلى حصول التغيير. نحن ليس بإمكاننا أن نفسر ذلك لبعدنا عن الساحة. ولكن لا يمكننا القول أن هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها.
أما في مصر، فقد كان التغيير مفاجئاً لنا أيضاً، لأننا لم نكن متتبعين للحالة المصرية أيضاً. جاء في دراسة للدكتور جوزيف عبد الله: "صحيح أن الثورة المصرية لم تعرف قائداً ملهماً، ولكن المناضلين الشباب المتمرسين بتجربة عميقة امتدت منذ العام 2004 تقريباً بشكل متواصل، شكلوا شبكة من القيادات الميدانية الصادقة التي نجحت في صيانة الثورة ورفعت من وتيرتها، ووضعت حداً للمتسلقين على ظهرها، وتمكنت في جو الاستياء العام من النظام من اكتساب الملايين من المصريين على تنوع فئاتهم".
ثم يضيف: "ولم تنفع مع الثورة المصرية كل المحاولات الأميركية لإخراج مبارك مرفوع الرأس من السلطة، أو محافظاً على ماء الوجه. فبعد إعلانه، بناءً لرغبة أميركية، عن التنازل عن ترشيح نفسه (أو توريث إبنه) لفترة رئاسية مقبلة، وبعد قيامه بتعيين عمر سليمان نائباً له، وتشكيله حكومة جديدة، وبعد إخفاق استخدامه للأجهزة الأمنية و"البلطجية" و"الأتباع" من الموظفين والمستفيدين من النظام لقمع المتظاهرين والمعتصمين... بعد كل ذلك وسط الدعوة الأميركية لتأمين ما سماه أوباما "الانتقال السلس للسلطة"، جاء خلع مبارك من الرئاسة بضغط من الجماهير المصرية الثائرة، إثر تدخل الجيش المصري الذي وجدت قيادته صغار الضباط ينتقلون إلى "ميدان التحرير" ملتحقين بالثورة. لم يكن بوسع القيادة التاريخية للجيش المصري قمع الثورة خشية انهيار كامل المؤسسة العسكرية".
أما مختار شعيب فيقول في دراسته: "ثورة 25 يناير المصرية (تحولت) من حركات احتجاجية إلى ثورة كاسحة. فكيف تطور فعل تلك الحركات إلى فعل جماهيري منظم أطاح نظاماً هيمن على مقدرات البلاد لثلاثين عاماً. ربما كانت المرة الأولى التي تنطلق فيها دعوات التغيير بصوت احتجاجي مسموع في عام 2003 عقب التظاهرات الضخمة المناهضة لغزو العراق التي احتلت ميدان التحرير، أكبر ميادين العاصمة في 20 آذار (مارس) من العام نفسه. كانت تلك التظاهرات بداية للموجة الأولى وتتويجاً لحركة احتجاجات ممتدة لطلاب جامعات القاهرة والإسكندرية والمنصورة اندلعت مع بدء انتفاضة الأقصى في أيلول (سبتمبر) 2000 للتضامن معها والاحتجاج على المواقف الرسمية للنظام، ومثّلت قطعاً مع حال الركود التي سادت خلال تسعينات القرن الماضي".
ثم قدم الكاتب توصيفاً تاريخياً لحركات الإحتجاج التي قامت بها الجماهير المصرية على اختلاف فئاتها: القضاة، الموظفون، العمال، الفلاحون، المزارعون، الطلاب والصيادون. هذا التوصيف هو الذي يسمح لنا بالقول أن المجتمع المصري لا يمكنه الإستمرار بنفس الطريقة التي كان عليها. وهذه هي مواصفات المجتمع الناضج ثورياً. والوضع عندما يكون ثورياً يصبح بحاجة للصاعق الذي يؤدي إلى التغيير. أما القول بضرورة وجود الحزب القائد أو القائد الملهم من أجل قيادة هذا التغيير، فهو ناتج عن التجربة التاريخية في أماكن أخرى. إنما ما يجعلنا نقول ذلك هو الدور الذي لعبه الحزب الشيوعي الروسي بقيادة ثورة أوكتوبر، أو الدور الذي لعبه الحزب الشيوعي الصيني، أو الثورة التي قادها الحزب الشيوعي الفييتنامي، مع عد إغفالنا لدور لينين وماو تسي تونغ وهو شي منه. وحيث لا نملك تجربة تجعلنا نقول بعدم ضرورة وجود الحزب القائد، لذلك افترضنا أنه لا إمكانية للثورة بدون الحزب القائد. إن من يقود التغيير في مصر مجموعات غير متجانسة من المناضلين، والذين أثبتوا عملياً قدرتهم على قيادة العمل النضالي. وجميع الدلائل تشير ألى إصرارهم على النصر النهائي، وهذه هي مبشرات النصر. في هذا المجال يقول الدكتور علي فياض: "علينا أن نلحظ الوتيرة المتسارعة لحركة المجتمعات المعاصرة المعولمة والتي ترتكز حركات التغيير فيها، كما في الحالة العربية، إلى أدوات التواصل الالكتروني، مما يشكل تغيراً جوهرياً في وتيرة التغيير. في الواقع إن التواصل الالكتروني سمح بتجاوز، ليس فقط المشكلة التنظيمية، إنما أيضاً بتجاوز الاستئثار الفئوي والحصرية الحزبية. ذلك أن أداة الاتصال الالكتروني فتحت الطريق أمام غلبة «العقل الاتصالي» على ما عداه". وهذه ميزة يمكن إضافتها لما سبق.
ثم يضيف: "إذن إن ما نشهده يأخذ من الناحية الشكلية ومن حيث النتائج القريبة شكل انتفاضة، لكن من حيث العملية المترتبة عليها والقابلة للتدحرج إنما هي ثورة، والناتج المباشر لها هو تغيير في رأس النظام وفي السلطة التنفيذية، لكن ثمة استمرار لبعض هياكل النظام الأساسية كالجيش والمخابرات والأجهزة الدبلوماسية والبنية الإدارية. إذن نحن أمام صنف جديد من الثورات: ليس هناك قيادة فردية للثورة، ليس هناك زعيم رمز وليس هناك إيديولوجية واحدة للثورة، وليس هناك تخطيط مسبق لانفجارها، فالثورة تنتج قيادتها الجماعية بعيد اندلاعها، وتنتج خطابها في مجرى تحققها".
نحن لا نوافق على "وليس هناك تخطيط مسبق لانفجارها" ذلك أن جميع النضالات التي قامت بها مختلف فئات المجتمع المصري هي باتجاه الوصول إلى التغيير على مستوى النظام الذي لا يمكن الإستمرار في الحياة تحت ظله، ودليلنا على ذلك هو النضالات اليومية التي تدل على استحالة الإستمرار. يضيف علي فياض: "وها نحن أمام مرحلة استثنائية، من حيث وطأة تأثيراتها، إنها أكثر من حصاة في بركة الركود العربي، أنها زلزال بتموجات وارتدادات سريعة أو متباطئة ومتلاحقة، بيد أن مما لا شك فيه، أن المسارات طويلة ومتأرجحة وغامضة". ونحن نوافق على هذا التوصيف.
ثم يضيف متأسفاً: "للأسف، كان لمعظم موضوعات علم السياسة ومفاهيمه أن تولد في رحم التجربة الغربية، انطلاقاً من هيمنة تلك التجربة على ما عداها من تجارب في المجتمعات الأخرى، بما فيها مجتمعاتنا التي بدت مستلحقة وتابعة، والتي جرى إخضاعها لإشكاليات ومنهجيات هي في أحيان كثيرة غريبة عنها ولا تصلح لها". إذا كان هو من يشكو فماذا تركنا للآخرين؟!
ثم يصب الدكتور علي فياض جام غضبه على العلم: "فإذا كان العلم قد انتقل من «الحتمية» إلى «الاحتمالية»، فإننا بصدد انتقاله من «الاحتمالية» إلى «التفسيرية»، دون أي إضافة مبالغة تتصل بقدرته على التوقع أو التنبؤ. وعلى علماء الاجتماع والسياسة، أن ينصرفوا إلى تفسير الظواهر بعد تشكلها ودراسة الثورات بعد انفجارها، والسعي لبناء النسق مفهومياً بهدف الفهم والتحليل، لكن «لحظة البوعزيزي» ستعكر على رهط العلماء هؤلاء صفو ركونهم إلى قدراتهم الواثقة، في بناء المسارات المستقبلية للظواهر. إن «لحظة البوعزيزي» اقرب إلى أن تكون «سندروم Syndrome» لأنها تزامن أو تناذر مجموعة أعراض ترتد إلى سبب واحد لكنه مولد لنتائج غير محسوبة، إن «البوعزيزي سندروم»، ستقطع على المفاهيم مطامحها وادعاءاتها وستكشف غرورها المقيت، وستظهر عجزنا العلمي عن الإحاطة الشاملة بالظواهر الإنسانية".
هذا الكلام يطرح عدة قضايا. منها أولاً أن نقيض الحتمية هو اللاحتمية ونقيض "الإحتمالية" هو "اللاإحتمالية"، ونقيض "التفسيرية" هو "اللاتفسيرية". إذن لا تناقض بين الحتمية والإحتمالية. فإذا كنا نقوم بدراسة مجتمع معين، يمكن أن نضع الكثير من الإحتمالات. وهذه الإحتمالات، حتى ترتدي الطابع العلمي عليها أن تنطلق من مقدمات موضوعية. أما في حال عدم إمكانيتنا الحصول على المعطيات التي يمكن أن تكون مقدمات لوضع الإحتمالات الممكنة، فكيف لنا أن نضع هذه الإحتمالات؟ ففي الوضع التونسي حيث أنه قد تبين أن الكثير من الذين كتبوا لم يملك المعطيات التي تمكنه من وضع احتمالات للتغيير في تونس، فهل يمكننا أن نقول أن "العلم" قد انتقل من الإحتمالي إلى التفسيري؟ ما يمكننا قوله هو أن المعطيات التي نملكها عن الوضع التونسي لا تمكننا من وضع إحتمالات ذات طابع علمي لإمكانية التغيير في الوضع التونسي. ما أقوم به ليس محاولة تبرير العلم عن القصور، ولكنه الواقع الذي بين أيدينا عن الوضع التونسي. أما بالنسبة لظاهرة البوعزيزي والذي أحب أن يسميها الدكتور علي فياض "سندروم"، فدعنا نضع التوصيف التالي: المجتمعات، جميع المجتمعات تعيش في شواش كبير CHAOS . وهذا الشواش يستدعي طرح الكثير من الإحتمالات لإمكانية التغيير. وجميع هذه الإحتمالات تكون نظرية، إلى أن يتبين إمكانية وضعها موضع التنفيذ. فلماذا لا نسمي لحظة البوعزيزي "إنهيار" في نظام المجتمع الساكن AVALANCHE. وعندما نقول انهياراً في المجتمع الساكن نكون قد عدنا إلى التوصيف الذي وضعه الصحافي في جريدة النيويورك تايمس، صاحب الدكتور علي فياض. وهذا بالتالي ينسجم مع ما ذهبنا إليه بما سبق من الكلام عندما تحدثنا عن توصيف المجتمع الثوري. وبذلك تكون لحظة البوعزيزي هي الصاعق أو ال AVALANCHE الذي فجر الوضع التونسي. لا يمكننا القول أن العلم يفسر ولا يتوقع، وإلا لم يعد من ضرورة لوجود العلماء. إذا كان العلم قاصراً، بسبب من تقصير العلماء، عن تفسير ظاهرة معينة، فهذا لا يُعتبر نقيصة للعلم. إنما هو نقيصة للعلماء الذين لم يتمكنوا من تفسير هذه الظاهرة. إن مهمة العلم تفسير الظواهر، كما أن من مهماته أيضاً طرح الإحتمالات التي يمكن أن تعين على توقع تطور ظاهرة ما ووضع الإتجاهات لتطورها. وبذلك لا يمكننا الموافقة على ما يقوله الدكتور فياض في هذا المجال: "إن دراسة النسق الاجتماعي - السياسي للظاهرة، أمر طبيعي. بيد أن لحظة التحول وعتبة القطيعة الفجائية، التي تشكل «البوعزيزي سندروم» نموذجها الأمثل ومبدأها الذي يجب أن يدخل علمي السياسة والاجتماع من بابهما العريض، كمبدأ غامض، له قيمة المعامل الكيميائي الذي يغير التركيبة الكيميائية برمتها، ولربما صح القول هنا أن نستعير دلالة «باولو كويلو» في رائعته الروائية «الخيميائي» لنقول ان «البوعزيزي سندروم» هي خيمياء الواقع الاجتماعي- السياسي. حيث الغموض سيد الموقف، وحيث التأثير والنتائج، تبدو وكأنها رقية صوفية، أو كأن فعلها هبط من السماء تعبيراً عن إرادة إلهية نافذة، وهي على كل حال، بصورة أو أخرى، «عودة الميتافيزيقا» إلى حلبة العلم، بعد أن ظن كثيرون أنها غادرت إلى غير رجعة.
مما لا شك فيه أن كثيرين سيجهدون في محاولة عقلنة «البوعزيزي سندروم» بيد أن ذلك لن يكون مقنعاً كفاية، بل سيشي بشيء من «الانتهازية المعرفية". ويضيف: "فما نصبو إليه هو بناء النسق بهدف فهمه وتفسيره، وليس بهدف الجزم والتنبؤ، لأن لحظة الانفجار التي تشيد عتبة التحول، إنما ترتبط بلحظة غير قابلة للتوقع المسبق، كما أنها غير قابلة للعقلنة إلا جزئياً، ولهذه الأسباب فهي اقرب إلى الميتافيزيق منها إلى المبادىء الامبريقية أو الواقعية".
أما بالنسبة ل"لحظة الإنفجار" "الغير قابلة للتوقع" فأضيف ما يلي: بما أن التغير النوعي يختلف عن التغير الكمي بأن الأول يكون دائماً فجائياً، لذلك لا يمكن تحديد وقت معين لحصول هذا الإنفجار. ولكن هذا لا يمنع إمكانية وضع إحتمالات لوقوعه في وقت معين. فنحن لا نوافق أن هذا يقع في نطاق الميتافيزيق، لأن العلم أصبح إحتمالياً كما قال الدكتور فياض.
نصل إلى مفهوم "الكرامة" الذي طرحه الدكتور علي فياض إنطلاقاً من الآية الكريمة "ولقد كرمنا بني آدم..." . "إن استيعاب دور مفهوم الكرامة بوصفه بنية كلية تتجاوز التحليل المجتزأ، الذي ينزلق إلى اختزال حركة الشارع ببعد محدد أو وفقاً لعامل أوحد دون سواه، من شأنه أن يساعد بصورة جوهرية على فهم ميكانيزمات تحريك الشارع العربي واتجاهاته والكيفية التي يجب أن تعتمد في التعامل معه... "
في الثورة الصينية وفي الثورة الفيتنامية كان العاملان الوطني والإجتماعي متلازمين. ولكن في بعض الأحايين كان أحد العوامل يتقدم على الآخر، فيلعب دور العامل الموجه coeficient directeur . ولا بد باستمرار من عامل موجه، فهذه مسألة مفروضة وضرورية وليست معيارية. فهل مفهوم "الكرامة" يمكن أن يكون العامل الموجه للثورات في العالم العربي؟ أنا أميل إلى هذا الخيار الذي وضعه الدكتور علي فياض، مضيفاً التساؤل التالي: ماهي القضية التي تختزل مفهوم الكرامة عند الإنسان العربي؟ أجيب أنها القضية الفلسطينية. هل هذا يعني أنها العامل الوحيد، والدكتور علي يقول أنه ليس هناك من عامل وحيد؟ نقول أن هناك عاملاً يمكن أن يكون "جماعاً" لكثير من العوامل، ،résultante ، أو كما هو مفهوم "الكفاية" compétence و الأهداف objectifs على الصعيد التربوي والتعليمي. أي أن الكفاية ليست مجموعة الأهداف، إنما تقاطعها، كما أن جماع العوامل ليس مجموع هذه العوامل، لأن جماع العوامل يكون أكبر من مجموعها، وهذا مبدأ فيزيائي. أي بصيغة أخرى إن العمل على تحرير فلسطين من براثن الصهيونية هو العامل الذي يجسد الكرامة عند الإنسان العربي. هل هذا عامل واحد؟ نقول كلا! لأنه جماع جميع العوامل التي يحتاجها الإنسان العربي في نضاله ضد البؤس والتخلف... وهذا ما يجعلنا نوافق على ما ذهب إليه كاتبنا العزيز، والذي يؤكده قائلاً: "كما أن هذا المناخ الإقليمي ينطوي كذلك على خيبات عاصفة لدى المجتمعات العربية من وعود الدولة العربية المعاصرة. لقد نكثت هذه الدولة بكل وعودها التي تتصل بالكرامة العربية من السيادة إلى الحرية إلى التنمية والتحديث وسيادة القانون. والى الإحساس العربي اليومي بالذل والمهانة جراء ما تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين من دون أن يكون للأنظمة العربية أي دور فاعل سوى ما يقوم به البعض من تآمر ومضي في مساعدة العدو".
ننهي مع ما يقوله علي فياض في نهاية بحثه الهام: "لقد عاشت المجتمعات العربية ركوداً غير مبرر على مدى عقود من السنوات، رغم ما لحق بهذه المجتمعات من حوادث وعواصف فاجعة، كان عليها أن تفجّر غضب هذه المجتمعات وتخرج ما في داخلها من احباطات، إلا أن هذا لم يحصل، يُستثنى من ذلك ظاهرة المقاومة التي لها سياقها الخاص، والتي شكلت تعبيراً مبكراً عن علاقة التجاور الخلاَّق بين العقلانية السياسية والميتافيزيقا، ولنقل الإيمان ببعده الغيبي، وبوصفه محركاً ثرياً للإرادات الحرة".
إن الإشارة إلى ظاهرة المقاومة تبدو بالنسبة لنا هي زبدة القول، مع أننا لا نوافق مع الباحث على أنها لاإنسانية، أي غيبية. إن المقاومة الإسلامية هي نتاج المجتمع اللبناني. هذا المجتمع الذي يتسم بسمات خاصة مكنته من أن يُنتج المقاومة وبمواصفات خاصة أيضاً. والإنسان، كل إنسان يملك جانباً غيبياً، لنقل صوفياً. اليس الإيمان بالغيب هو نوع من الصوفية. والمقاومة في بلادنا المشرقية تتطلب الكثير من هذا الجانب الصوفي. لذلك فظاهرة المقاومة هي نتاج طبيعي لمجتمعنا. أما لماذا في لبنان وليس في مكان آخر؟ فهذا يعود إلى خصوصية الوضع اللبناني.
كان الحري بعلي فياض أن يقدم أفقاً ما لتطور ظاهرة المقاومة بحيث تعم المجتمع اللبناني بأكمله وتتعداه إلى المجتمعات العربية الأخرى، خاصة وأن ظاهرة المقاومات الشعبية قد ظهرت في مجتمعاتنا العربية والإسلامية في القرن العاشر والحادي عشر في كثير من المدن العربية والتي كانت تجابه الغزاة فقط، أي أنها لم تشارك في الحروب ما بين الزعماء المحليين. ومن هذه المدن دمشق وحلب وصور...
إن وضع أفق معين لتطور الأوضاع في بلادنا العربية يتطلب الحديث عن دور ما للمقاومة.
سلمت يدا الدكتور علي فياض الذي يقوم بدوره كمثقف في أمتنا، يعرف ماهو مطلوب منه. فقد بدأ بالتنظير للدفاع الإستراتيجي، كمثقف عضوي في هذا النطاق. وهو اليوم ينظر للثورة العربية من منظار الكرامة الذي يختصر الأفق العربي بتجسيده بالصراع المطلق مع العدو الصهيوني من خلال الكرامة التي نجدها في المقاومة الإسلامية.
23 نيسان 2011 حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق