حجة الوداع
يقول تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.(المائدة 3)
نـزلت هذه الآية يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر، والنبيّ صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء.(مشقوقة الأذن).
أخبرنا عبد الرحمن بن حمدان العدل قال: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا جعفر بن عون قال: أخبرني أبو عميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نـزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: أيّ آية هي؟ قال:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نـزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والساعة التي نـزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عَشِيَّة يوم عرفة في يوم جمعة. رواه البخاري عن الحسن بن صباح. ورواه مسلم عن عبد بن حميد، كلاهما عن جعفر بن عون.
أخبرنا الحاكم أبو عبد الرحمن الشاذياخي قال: أخبرنا زاهر بن أحمد قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن مصعب قال: حدثنا يحيى بن حكيم قال: حدثنا ابو قتيبة قال: حدثنا حماد عن عمار بن أبي عمار قال: قرأ ابن عباس هذه الآية ومعه يهودي: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا" فقال اليهودي: لو نـزلت هذه الآية علينا في يوم لاتخذناه عيدًا، فقال ابن عباس: فإنها نـزلت في عيدين اتفقا في يوم واحد يوم جمعة وافق ذلك يوم عرفة.
وكانت خطبة الوداع الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم، علم الناس دينهم. وما من أحد سأله إلا أجابه.
سوف نروي الآن ما حصل في ذلك النهار الإستثنائي من حيث أهميته لأمة "لا إله إلا الله".
قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجة، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، إسمعوا قولي، فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تُظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله.
وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعاً في بني ليث، فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد: أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس، إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً، ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت.
وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً، كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم؛ اللهم هل بلغت.
فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، ربيعة بن أمية بن خلف قال: يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هلا تدرون أي شهر هذا؟ فيقول لهم: فيقولون: الشهر الحرام، فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة شهركم هذا.
ثم يقول: قل: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أي بلد هذا؟ قال: فيصرخ به، قال: فيقولون: البلد الحرام قال: فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة بلدكم هذا.
قال: ثم يقول: قل: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أي يوم هذا؟ قال: فيقوله لهم. فيقولون: يوم الحج الأكبر، فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم، إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا.
قال ابن إسحاق: حدثني ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري عن عمرو بن خارجة قال:
بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، فبلغته، ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لغامها ليقع على رأسي، فسمعته وهو يقول:
أيها الناس، إن الله أدى إلى كل ذي حق حقه، وإنه لا تجوز وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً (حيلة) ولا عدلاً.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف بعرفة قال: هذا الموقف للجبل الذي هو عليه، وكل عرفة موقف. وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة: هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف. ثم لما نحر بالمنحر بمنى، قال: هذا المنحر وكل منى منحر.
فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج وقد أراهم مناسكهم، وأعلمهم ما فرض الله عليهم من حجهم: من الموقف، ورمي الجمار، وطواف بالبيت، وما أحل لهم من حجهم: وما حرم عليهم، فكانت حجة البلاغ، وحجة الوداع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج بعدها.
أما في كتب الحديث الشريف فقد جاء الكثير عن حجة الوداع. وقد انتقينا الأحاديث التالية التي تُظهر كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم الناس ما يجب أن يعلموه.
قال الراوي: عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال أي يوم أحرم، أي يوم أحرم، أي يوم أحرم؟ قال: فقال الناس: يوم الحج الأكبر يا رسول الله. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده، ألا إن المسلم أخو المسلم، فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، ألا وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأول دم أضع من دم الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل. ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان(من كان لها زوج) عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً. ألا وإن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن. المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي -
إن أهم ما نراه في الحديث هو التأكيد على المسؤولية الفردية، وهذا تطور كبير، أو على الأصح نقلة نوعية من المسؤولية الجماعية (القبيلة أو العشيرة) إلى المسؤولية الفردية.
قال الراوي: حبشي بن جنادة السلولي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع وهو واقف بعرفة أتاه أعرابي فأخذ بطرف ردائه فسأله إياه فأعطاه وذهب؛ فعند ذلك حرمت المسألة (الإستعطاء). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة (قوي) سوي إلا لذي فقر مدقع أو غرم مفظع ومن سأل الناس ليثري به ماله كان خموشاً(خدوش) في وجهه يوم القيامة ورضفاً (الحجارة المحمية) يأكله من جهنم ومن شاء فليقل ومن شاء فليكثر. المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي – كم هي المسألة صعبة إلا لمن تتوفر فيه شروط معينة.
قال الراوي: أبو بكرة نفيع بن الحارث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب في حجة الوداع: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله، من أخفر الله (نقض عهده) أكبه الله في النار على وجهه، ليبلغ الشاهد الغائب، فلعله أن يبلغه قوم هم أحفظ ممن سمعه.
المحدث: البزار - المصدر: البحر الزخار –
يظهر أن من سمات الكفر عند النبي عليه السلام أن يضرب الأخوة رقاب بعضهم البعض!.
قال الراوي: أبو أمامة الباهلي: شهدت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع، فقال قولاً كثيراً حسناً جميلاً، وكان فيها: من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا.
المحدث: ابن جرير الطبري - المصدر: تفسير الطبري -
قال الراوي: جابر بن عبد الله الأنصاري: لما قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في حجة الوداع سأل الناس بماذا أحرمتم فقال أناس أهللنا بالحج وقال آخرون قدمنا متمتعين وقال آخرون أهللنا بإهلالك يا رسول الله فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان قدم ولم يسق هدياً فليحلل فإني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي حتى أكون حلالاً فقال سراقة بن مالك بن جعثم يا رسول الله عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد فقال لا بل لأبد الأبد.
المحدث: الطحاوي - المصدر: شرح مشكل الآثار
قال الراوي: جابر بن عبد الله الأنصاري: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه من حجة الوداع وكان آخر خطبة خطبها فيما أعلم فقال من قال لا إله إلا الله لا يخلط معها غيرها وجبت له الجنة فقام إليه علي بن أبي طالب وكان من أحب من قام إليه ذلك اليوم في مسألة فقال بأبي أنت وأمي ما لا يخلط معها غيرها صفه لنا فسره لنا قال حب الدنيا وطلبها ورضاءها واتباعاً لها وقوم يقولون أقاويل الأنبياء ويعملون أعمال الجبابرة فمن قال لا إله إلا الله ليس فيها شيء من هذا وجبت له الجنة
المحدث: ابن عدي
العجب أن الكثير الكثير لا يقبلون من الناس شهادة التوحيد وكأنهم هم المكلفون بمحاسبة الناس على ما في قلوبهم! ثم أضاف عليه السلام ضرورة إنكار عمل الجبابرة لأنه مناقض لعمل الأنبياء.
قال الراوي: أبو أمامة الباهلي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة عام حجة الوداع أيها الناس إنه لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم.
المحدث: ابن عدي -
وهنا يبلغنا نبينا عظم المسؤولية الملقاة على عاتقنا، أنه لا أمة بعدنا، أي أننا نحن الشهداء على الناس. كما وعلينا أن نفعل كما فعل نبينا عليه الصلاة والسلام من إنذار الناس والصبر عليهم.
قال الراوي: أسامة بن شريك: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يخطب وهو يقول: أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك. قال: فجاء قوم فقالوا: يا رسول الله قتلتنا بنو يربوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجني نفس على أخرى، ثم سأله رجل نسي أن يرمي الجمار فقال: ارم ولا حرج، ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله نسيت الطواف، فقال: طف ولا حرج، ثم أتاه آخر حلق قبل أن يذبح، فقال: اذبح ولا حرج. فما سألوه يومئذ عن شيء إلا قال: لا حرج لا حرج. ثم قال: قد أذهب الله الحرج إلا رجل اقترض امرأً مسلماً (قطَعَه بالغِيبة والطّعْنِ عليه ونالَ منه) فذلك الذي حرج وهلك. وقال: ما أنزل الله عز وجل داءً إلا أنزل معه دواء إلا الهرم.
المحدث: ابن حزم - المصدر: حجة الوداع
وهنا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الغيبة وكذلك أن يجني أحد على آخر.
قال الراوي: جابر بن عبدالله الأنصاري: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع، فقال: يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليبلغ الشاهد الغائب، ثم ذكر الحديث في تحريم الدماء والأموال والأعراض.
المحدث: البيهقي - المصدر: شعب الإيمان
يعلم رسول الله الناس أن معيار الأفضلية ليس العرق واللون (لا تمييز عنصري)، إنما التقوى. حتى اليوم لا يزال التمييز العنصري سائداً في جميع دول الغرب. فهم لا يعطون المسلم الوظيفة إلا في حال عدم وجود أوروبي بإمكانه القيام بمقتضيات هذه الوظيفة. والجرم الذي اقترفه طالب الوظيفة هو انتماؤه للإسلام. علماً أن قانون عدم التمييز هم من أقره في الأمم المتحدة. ثم يذكر النبي ما حرم الله علينا.
قال الراوي: سعد بن أبي وقاص: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، قال: قلت يا رسول الله! قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا، الثلث والثلث كثير.
المحدث: البيهقي - المصدر: السنن الصغير للبيهقي
كان يحرص نبينا عليه السلام أن يترك المورث لورثته، إن أمكنه ذلك، ما يعينهم على الحياة الكريمة.
عن عبد الله بن عباس قال: كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع.
المحدث: ابن عبدالبر - المصدر: التمهيد
أما هنا فيوضح النبي للفتاة أنها يمكنها أن تحج عن أبيها، علماً أنه لم يزجرها، لا هي ولا الفضل بن عباس لأنهما كانا ينظران لبعضهما البعض.
قال الراوي: عبيدالله بن عدي بن الخيار: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه، فرفع فيهما البصر وخفضه، فرآنا جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.
المحدث: الإمام أحمد - المصدر: الدراية
وهنا لا يبخل الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما يحملهما تبعة أو مسؤولية أخذهما الصدقة مع أنهما قويان، أي يمكنها العمل والتكسب.
قالت الراوي أم الحصين الأحمسية: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً كثيراً. ثم سمعته يقول: إن أمر عليكم عبد مجدع ( حسبتها قالت ) أسود، يقودكم بكتاب الله. فاسمعوا له وأطيعوا.
المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم -
وهنا يوضح النبي الذي أرسل رحمة للعالمين أن شرط الطاعة هو العمل بكتاب الله عز وجل، وليس بأي شرط آخر.
بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية
حسن ملاط
- فكر وتربية
- القلمون, طرابلس, Lebanon
- كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.
الجمعة، 28 يناير 2011
الأربعاء، 19 يناير 2011
من سيرة المصطفى – 21-
مفهوم جديد للعقاب!
قال تبارك وتعالى: "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا لا تنفروا في الحر. قل نار جهنم أشد حراً، لو كانوا يفقهون".(التوبة 81)
وقال تعالى: "رضوا أن يكونوا مع الخوالف، وطُبع على قلوبهم، فهم لا يفقهون".(87)
وقال تعالى: "وعلى الثلاثة الذين خُلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا؛ إن الله هو التواب الرحيم".(118)
لماذا نتحدث عن المخلفين؟
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعمل على تغيير الإنسان في الجزيرة العربية، كانت المفاهيم السائدة هي تلك التي تعظم القبيلة والعائلة. وحيث أن هذه المفاهيم لا تتناسب مع ما يدعو إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، كان لا بد من القضاء عليها، وذلك باستبدالها بمفاهيم أرقى، مفاهيم تتعامل مع الإنسان على أنه إنسان، عضو في مجتمع يحكمه مبدأ "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات). وما ميز نبينا صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقرن قوله بالفعل. لذا سوف نرى كيف تعامل مع المخلفين، الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، تلك الغزوة التي يمكن أن نعتبرها إمتحاناً للمؤمنين. وذلك للظروف الخاصة والإستثنائية التي أحاطت بالتحضير لها وببعثها. وسوف نرى بعد دراستها صحة أو لنقل دقة ما ذهبنا إليه.
أما المخلفون فقد كانوا مؤمنين حقاً، لم يدخل الشك إلى قلوبهم قط، ومع ذلك فقد تخلفوا! كيف تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون؟ هذا ما سوف ندرسه.
يتحدث ابن هشام عن غزوة تبوك: ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تخلفوا عنه عن غير شك ولا ارتياب؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب، أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع، أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، أخو بني واقف، وأبو خيثمة، أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق، لا يتهمون في إسلامهم.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري.
وذكر عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة، مخرجه إلى تبوك، سباع بن عرفطة.
وبعد الغزوة، عاد النبي صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة. يقول ابن هشام: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين، وتخلف أولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق، كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية.
فقال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا تكلمن أحداً من هؤلاء الثلاثة، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعذرهم الله ولا رسوله، واعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة.
اعتزل المسلمون الكلام مع الثلاثة وليس مع المنافقين. فالمنافقون ليسوا قوة للمسلمين، وليسوا مهيئين لاكتساب التربية الإسلامية. فالمنافقون ختم الله على قلوبهم. فتربيتهم لن تكون ذات فائدة.
قال ابن إسحاق: فذكر الزهري محمد بن مسلم بن شهاب، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك: أن أباه عبدالله وكان قائد أبيه حين أصيب بصره، قال: سمعت أبي كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وحديث صاحبيه قال: ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، غير أني كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر، وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحداً تخلف عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج يريد عير قريش، حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وحين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها.
قال: كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، ووالله ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً، واستقبل غزوة عدو كثير، فجلى للناس أمرهم، ليتأهبوا لذلك أهبته، وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد، والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ، يعني بذلك الديوان، يقول: لا يجمعهم ديوان مكتوب.
قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفي له ذلك ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين طابت الثمار، وأحبت الظلال، فالناس إليها صعر(مَيْل)، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجهز المسلمون معه، وجعلت أغدو لأتجهز معهم، فأرجع ولم أقض حاجة، فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر الناس بالجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً، والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفرط الغزو(فات أوانه)، فهممت أن أرتحل، فأدركهم، وليتني فعلت، فلم أفعل، وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، فيحزنني أني لا أرى رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء.
ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك:
ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه، والنظر في عطفيه(جنبيه).
فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله، ما علمنا منه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك، حضرن بثي، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً، وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه.
وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وإيمانهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى. حتى جئت فسلمت عليه؛ فتبسم، تبسم المغضب، ثم قال لي: تعاله، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك، ألم تكن ابتعت ظهرك(الدابة)، قال: قلت: إني يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، لكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كذباً لترضين عني، وليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديثاً صدقاً تجد علي فيه، إني لأرجو عقباي من الله فيه، ولا والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يقضي الله فيك.
فقمت، وثار معي رجال من بني سلمة، فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم:
هل لقي هذا أحد غيري؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أبي أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين، فيهما أسوة فصمت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة، من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي والأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين، وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني.
حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة. وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام.
فقلت: يا أبا قتادة: أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فناشدته، فسكت عني، فعدت فناشدته، فسكت عني، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي ووثبت فتسورت الحائط (علوته)، ثم غدوت إلى السوق، فبينا أنا أمشي بالسوق إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فجعل الناس يشيرون له إلي، حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكتب كتاباً في سرقة (خرقة) من حرير فإذا فيه: (أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك).
قال: قلت حين قرأتها، وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك، قال: فعمدت بها إلى تنور فسجرته (أوقده) بها.
فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: قلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض.
قال: وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع، لا خادم له، أفتكره أن أخدمه؟
قال: لا، ولكن لا يقربنك؛ قالت: والله يا رسول الله، ما به من حركة إلي، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، ولقد تخوفت على بصره.
قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، قال: فقلت: والله لا أستأذنه فيها، ما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي في ذلك إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب.
قال: فلبثنا بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة، من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح، صبح خمسين ليلة، وعلى ظهر بيت من بيوتنا، على الحال التي ذكر الله منا، قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وضاقت علي نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع (شجرة)، فكنت أكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أوفى (أشرف) على ظهر سلع(مكان في المدينة)، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج.
قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب نحو صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً، وسعى ساع من أسلم، حتى أوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس.
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت ثوبي فكسوتهما إياه، بشارة، والله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة، يقولون:
ليهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله، فحياني وهنأني، ووالله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب بن مالك لا ينساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لي ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟
قال: بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر، قال: وكنا نعرف ذلك منه.
قال: فلما جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله، إن من توبتي إلى الله عز وجل، أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك، قال: قلت: إني ممسك سهمي الذي بخيبر.
وقلت يا رسول الله، إن الله قد نجاني بالصدق، وإن من توبتي إلى الله، أن لا أحدث إلا صدقاً ما حييت، والله ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أفضل مما أبلاني الله، والله ما تعمدت من كذبة منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي.
ما أجمل حديث كعب. إن عالم نفس لا يمكنه أن يصور الصراع الداخلي الذي عاشه كعب بن مالك أحسن من وصف كعب لهذا الصراع. في غمرة مقاطعة الناس له جاءه رسول غسان، ولكنه فهم هذه الرسالة ابتلاء، وهي كذلك. لذلك أسرع إلى إحراقها. فهو أحرقها في نفسه، برفضه إياها. وأحرقها بالنار. صبر كصبر المسلمين في تبوك. ولكنه فاز أخيراً بتوبة من الله عز وجل.
ولكن التعبير القرآني لا يُعلى عليه بوصفه لمعاناة المخلفين الثلاثة: "حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه". وهذا ما حصل معهم.
هل من تربية تعلو على هذه التربية. خاصة أنهم أصبحوا أشد تعلقاً بالله ورسوله. فالتربية كانت ناجحة بكل المقاييس. فكعب يريد أن يتصدق بكل ماله فرحاً بالتوبة.
الأهم أن هذه التجربة هي من غير مثال سابق. إنها إبداع إسلامي صرف.
لقد كان لنا برسول الله اسوة حسنة.
19 كانون الثاني 2011 حسن ملاط
مفهوم جديد للعقاب!
قال تبارك وتعالى: "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا لا تنفروا في الحر. قل نار جهنم أشد حراً، لو كانوا يفقهون".(التوبة 81)
وقال تعالى: "رضوا أن يكونوا مع الخوالف، وطُبع على قلوبهم، فهم لا يفقهون".(87)
وقال تعالى: "وعلى الثلاثة الذين خُلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا؛ إن الله هو التواب الرحيم".(118)
لماذا نتحدث عن المخلفين؟
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعمل على تغيير الإنسان في الجزيرة العربية، كانت المفاهيم السائدة هي تلك التي تعظم القبيلة والعائلة. وحيث أن هذه المفاهيم لا تتناسب مع ما يدعو إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، كان لا بد من القضاء عليها، وذلك باستبدالها بمفاهيم أرقى، مفاهيم تتعامل مع الإنسان على أنه إنسان، عضو في مجتمع يحكمه مبدأ "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات). وما ميز نبينا صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقرن قوله بالفعل. لذا سوف نرى كيف تعامل مع المخلفين، الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، تلك الغزوة التي يمكن أن نعتبرها إمتحاناً للمؤمنين. وذلك للظروف الخاصة والإستثنائية التي أحاطت بالتحضير لها وببعثها. وسوف نرى بعد دراستها صحة أو لنقل دقة ما ذهبنا إليه.
أما المخلفون فقد كانوا مؤمنين حقاً، لم يدخل الشك إلى قلوبهم قط، ومع ذلك فقد تخلفوا! كيف تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون؟ هذا ما سوف ندرسه.
يتحدث ابن هشام عن غزوة تبوك: ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تخلفوا عنه عن غير شك ولا ارتياب؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب، أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع، أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، أخو بني واقف، وأبو خيثمة، أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق، لا يتهمون في إسلامهم.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري.
وذكر عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة، مخرجه إلى تبوك، سباع بن عرفطة.
وبعد الغزوة، عاد النبي صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة. يقول ابن هشام: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين، وتخلف أولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق، كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية.
فقال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا تكلمن أحداً من هؤلاء الثلاثة، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعذرهم الله ولا رسوله، واعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة.
اعتزل المسلمون الكلام مع الثلاثة وليس مع المنافقين. فالمنافقون ليسوا قوة للمسلمين، وليسوا مهيئين لاكتساب التربية الإسلامية. فالمنافقون ختم الله على قلوبهم. فتربيتهم لن تكون ذات فائدة.
قال ابن إسحاق: فذكر الزهري محمد بن مسلم بن شهاب، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك: أن أباه عبدالله وكان قائد أبيه حين أصيب بصره، قال: سمعت أبي كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وحديث صاحبيه قال: ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، غير أني كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر، وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحداً تخلف عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج يريد عير قريش، حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وحين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها.
قال: كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، ووالله ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً، واستقبل غزوة عدو كثير، فجلى للناس أمرهم، ليتأهبوا لذلك أهبته، وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد، والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ، يعني بذلك الديوان، يقول: لا يجمعهم ديوان مكتوب.
قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفي له ذلك ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين طابت الثمار، وأحبت الظلال، فالناس إليها صعر(مَيْل)، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجهز المسلمون معه، وجعلت أغدو لأتجهز معهم، فأرجع ولم أقض حاجة، فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر الناس بالجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً، والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفرط الغزو(فات أوانه)، فهممت أن أرتحل، فأدركهم، وليتني فعلت، فلم أفعل، وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، فيحزنني أني لا أرى رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء.
ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك:
ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه، والنظر في عطفيه(جنبيه).
فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله، ما علمنا منه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك، حضرن بثي، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً، وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه.
وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وإيمانهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى. حتى جئت فسلمت عليه؛ فتبسم، تبسم المغضب، ثم قال لي: تعاله، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك، ألم تكن ابتعت ظهرك(الدابة)، قال: قلت: إني يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، لكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كذباً لترضين عني، وليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديثاً صدقاً تجد علي فيه، إني لأرجو عقباي من الله فيه، ولا والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يقضي الله فيك.
فقمت، وثار معي رجال من بني سلمة، فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم:
هل لقي هذا أحد غيري؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أبي أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين، فيهما أسوة فصمت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة، من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي والأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين، وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني.
حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة. وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام.
فقلت: يا أبا قتادة: أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت فناشدته، فسكت عني، فعدت فناشدته، فسكت عني، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي ووثبت فتسورت الحائط (علوته)، ثم غدوت إلى السوق، فبينا أنا أمشي بالسوق إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فجعل الناس يشيرون له إلي، حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكتب كتاباً في سرقة (خرقة) من حرير فإذا فيه: (أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك).
قال: قلت حين قرأتها، وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك، قال: فعمدت بها إلى تنور فسجرته (أوقده) بها.
فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: قلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض.
قال: وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع، لا خادم له، أفتكره أن أخدمه؟
قال: لا، ولكن لا يقربنك؛ قالت: والله يا رسول الله، ما به من حركة إلي، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، ولقد تخوفت على بصره.
قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، قال: فقلت: والله لا أستأذنه فيها، ما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي في ذلك إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب.
قال: فلبثنا بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة، من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح، صبح خمسين ليلة، وعلى ظهر بيت من بيوتنا، على الحال التي ذكر الله منا، قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وضاقت علي نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع (شجرة)، فكنت أكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أوفى (أشرف) على ظهر سلع(مكان في المدينة)، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج.
قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب نحو صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً، وسعى ساع من أسلم، حتى أوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس.
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت ثوبي فكسوتهما إياه، بشارة، والله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة، يقولون:
ليهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله، فحياني وهنأني، ووالله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب بن مالك لا ينساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لي ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟
قال: بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر، قال: وكنا نعرف ذلك منه.
قال: فلما جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله، إن من توبتي إلى الله عز وجل، أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك، قال: قلت: إني ممسك سهمي الذي بخيبر.
وقلت يا رسول الله، إن الله قد نجاني بالصدق، وإن من توبتي إلى الله، أن لا أحدث إلا صدقاً ما حييت، والله ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أفضل مما أبلاني الله، والله ما تعمدت من كذبة منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي.
ما أجمل حديث كعب. إن عالم نفس لا يمكنه أن يصور الصراع الداخلي الذي عاشه كعب بن مالك أحسن من وصف كعب لهذا الصراع. في غمرة مقاطعة الناس له جاءه رسول غسان، ولكنه فهم هذه الرسالة ابتلاء، وهي كذلك. لذلك أسرع إلى إحراقها. فهو أحرقها في نفسه، برفضه إياها. وأحرقها بالنار. صبر كصبر المسلمين في تبوك. ولكنه فاز أخيراً بتوبة من الله عز وجل.
ولكن التعبير القرآني لا يُعلى عليه بوصفه لمعاناة المخلفين الثلاثة: "حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه". وهذا ما حصل معهم.
هل من تربية تعلو على هذه التربية. خاصة أنهم أصبحوا أشد تعلقاً بالله ورسوله. فالتربية كانت ناجحة بكل المقاييس. فكعب يريد أن يتصدق بكل ماله فرحاً بالتوبة.
الأهم أن هذه التجربة هي من غير مثال سابق. إنها إبداع إسلامي صرف.
لقد كان لنا برسول الله اسوة حسنة.
19 كانون الثاني 2011 حسن ملاط
الجمعة، 14 يناير 2011
من سيرة المصطفى – 20 -
قال تبارك وتعالى: "وأمرهم شورى بينهم". (الشورى 38)
وقال تعالى: "وشاورهم في الأمر". (آل عمران 159)
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله. رواه البخاري.
حدثنا الوليد حدثنا زهير بن محمد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه. سنن أبي داوود.
لقد حرصنا، ولا نزال، على أن نؤيد ممارسات النبي صلى الله عليه وسلم، من خلال سيرته بواسطة القرآن الكريم، وذلك حتى تكون استنتاجاتنا موثقة. وما نصبو إليه من خلال دراستنا هو أن نتأسى بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام. فنحن نعتقد أن أمتنا لا تصلح إلا إذا تأست بالنبي عليه السلام. إن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نتخذ النبي أسوة حسنة. كما وأن النبي بسيرته يساعدنا على فهم القرآن عملياً. فقد كان خلقه، صلى الله عليه وسلم، القرآن.
نأتي إلى الشورى والتشاور. من حيث اللغة لم نجد فرقاً بين الشورى والتشاور. من هنا، فسوف نتعامل مع الشورى والتشاور بنفس المعنى والمدلول. وسوف نرى كيف شاور النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه. كما أننا سنرى من من أصحابه شاور. هل أنه اختار رجالاً محددين أم أنه شاور الجميع من دون تخصيص. وهذا حتى نرى أن الكثير الكثير قد استعملوا التأويل المناقض لممارسة النبي الكريم حتى وصلوا إلى تحديد أناس محددين للقيام بالشورى. وعلينا أن نتذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الأسوة الحسنة. كما علينا أن نتذكر أنه الوحيد الذي لا يرد حكمه.
أولاً: يوم بدر جمع الناس جميعاً وشاورهم، بعد أن جاءه الخبر عن قريش. قال ابن هشام: وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم؛ فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش؛ فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن.
ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون) (المائدة 24). ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له به.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل؛ قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك؛ ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
فالمشاورة كانت هنا لجميع الناس. وحتى عندما أراد الأنصار لم يطلب من النقباء الحديث، إنما الحديث كان موجهاً للجميع من دون استثناء.
وهذه استشارة ثانية: قال ابن إسحاق: فحُدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا: أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل (المكان الذي عسكر فيه المسلمون في غزوة بدر)، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي.
فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، و بنى حوضاً على القَليب الذي نزل عليه، فمُلىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
الحباب بن المنذر هو الذي أشار على النبي عليه السلام، وقد قُبلت المشورة على الرحب والسعة. ولم يسأله النبي من أنت حتى تشير علي!
في الخندق: فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه؛ فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما؛ فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبدالله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرىً ( ضيافة ) أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
هنا كانت المشاورة مع سادة القوم.
أما سلمان فقد أشار على النبي عليه السلام من غير أن يستشيره. ومع ذلك فقد أخذ النبي بمشورته. قال ابن هشام: يقال: إن سلمان الفارسي أشار به (بالخندق) على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا كانت الإشارة من أم المؤمنين، أم سلمة رضي الله عنها، ومن دون أن يستشيرها. ولكنه كان يشكوها همه. فأشارت عليه، واستجاب لمشورتها. أخرج البخاري في باب شروط الجهاد وغيره في قصة صلح الحديبية وننقل موضع الحاجة: ((.....قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ "قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا". قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ .
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا.
أما في أحد فقد قبل مشورة القوم، بالرغم من عدم رضاه. ذلك أن الأكثرية هي التي أشارت عليه.
قال ابن هشام: فلما سمع بهم (قريش) رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت بقراً لي تذبح، قال: فأما البقر فهي ناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في ذباب سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل.
قال ابن إسحاق: فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبدالله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك، وألا يخرج إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره، ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا نخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منَّا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، فلبس لأْمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة. وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له: مالك بن عمرو، أحد بني النجار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم، وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك. فلما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله: استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه.
أما في أمر يهم أهل بيته، فقد استشار من أهل بيته. استشار علياً وأسامة والخادمة. قال ابن هشام: قالت (عائشة): فدعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، و أسامة بن زيد، فاستشارهما؛ فأما أسامة فأثنى علي خيراً وقاله؛ ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيراً، وهذا الكذب والباطل؛ وأما علي فإنه قال: يا رسول الله، إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية، فإنها ستصدقك.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بُريرة ليسألها؛ قالت: فقام إليها علي بن أبي طالب، فضربها ضرباً شديداً، ويقول : اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قالت: فتقول والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً، إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله.
هذه هي المرات التي استشار فيه النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه. ومن خلالها يمكننا التأكيد على أن الإستشارة لم تكن لأناس مخصوصين. بل كان جميع المسلمين أهلاً للإستشارة، كما مارس عليه السلام.
كيف تتم الإستشارة في أيامنا هذه؟
لا بد في أيامنا هذه من مجلس للإستشارة يضم جميع الإختصاصات في مختلف العلوم. تجمعهم جميعاً خاصية واحدة هي تقوى الله، وعدم الإرتباط بأصحاب السلطة وعدم الإرتباط بالأجنبي. وتكون مهمة هذا المجلس إصدار الفتوى. وليس لشخص واحد، مهما بلغ علمه أن يحيط بجميع المعارف في أيامنا هذه. فما يسمى بعالم الدين لا يستغني عن استشارة علماء الدنيا، حتى يفتي وهو مطمئن...
14 كانون الثاني 2011 حسن ملاط
قال تبارك وتعالى: "وأمرهم شورى بينهم". (الشورى 38)
وقال تعالى: "وشاورهم في الأمر". (آل عمران 159)
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله. رواه البخاري.
حدثنا الوليد حدثنا زهير بن محمد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه. سنن أبي داوود.
لقد حرصنا، ولا نزال، على أن نؤيد ممارسات النبي صلى الله عليه وسلم، من خلال سيرته بواسطة القرآن الكريم، وذلك حتى تكون استنتاجاتنا موثقة. وما نصبو إليه من خلال دراستنا هو أن نتأسى بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام. فنحن نعتقد أن أمتنا لا تصلح إلا إذا تأست بالنبي عليه السلام. إن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نتخذ النبي أسوة حسنة. كما وأن النبي بسيرته يساعدنا على فهم القرآن عملياً. فقد كان خلقه، صلى الله عليه وسلم، القرآن.
نأتي إلى الشورى والتشاور. من حيث اللغة لم نجد فرقاً بين الشورى والتشاور. من هنا، فسوف نتعامل مع الشورى والتشاور بنفس المعنى والمدلول. وسوف نرى كيف شاور النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه. كما أننا سنرى من من أصحابه شاور. هل أنه اختار رجالاً محددين أم أنه شاور الجميع من دون تخصيص. وهذا حتى نرى أن الكثير الكثير قد استعملوا التأويل المناقض لممارسة النبي الكريم حتى وصلوا إلى تحديد أناس محددين للقيام بالشورى. وعلينا أن نتذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الأسوة الحسنة. كما علينا أن نتذكر أنه الوحيد الذي لا يرد حكمه.
أولاً: يوم بدر جمع الناس جميعاً وشاورهم، بعد أن جاءه الخبر عن قريش. قال ابن هشام: وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم؛ فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش؛ فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن.
ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون) (المائدة 24). ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له به.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل؛ قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك؛ ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
فالمشاورة كانت هنا لجميع الناس. وحتى عندما أراد الأنصار لم يطلب من النقباء الحديث، إنما الحديث كان موجهاً للجميع من دون استثناء.
وهذه استشارة ثانية: قال ابن إسحاق: فحُدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا: أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل (المكان الذي عسكر فيه المسلمون في غزوة بدر)، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي.
فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، و بنى حوضاً على القَليب الذي نزل عليه، فمُلىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
الحباب بن المنذر هو الذي أشار على النبي عليه السلام، وقد قُبلت المشورة على الرحب والسعة. ولم يسأله النبي من أنت حتى تشير علي!
في الخندق: فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه؛ فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما؛ فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبدالله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرىً ( ضيافة ) أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
هنا كانت المشاورة مع سادة القوم.
أما سلمان فقد أشار على النبي عليه السلام من غير أن يستشيره. ومع ذلك فقد أخذ النبي بمشورته. قال ابن هشام: يقال: إن سلمان الفارسي أشار به (بالخندق) على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا كانت الإشارة من أم المؤمنين، أم سلمة رضي الله عنها، ومن دون أن يستشيرها. ولكنه كان يشكوها همه. فأشارت عليه، واستجاب لمشورتها. أخرج البخاري في باب شروط الجهاد وغيره في قصة صلح الحديبية وننقل موضع الحاجة: ((.....قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ "قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا". قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ .
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا.
أما في أحد فقد قبل مشورة القوم، بالرغم من عدم رضاه. ذلك أن الأكثرية هي التي أشارت عليه.
قال ابن هشام: فلما سمع بهم (قريش) رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت بقراً لي تذبح، قال: فأما البقر فهي ناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في ذباب سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل.
قال ابن إسحاق: فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبدالله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك، وألا يخرج إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره، ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا نخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منَّا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، فلبس لأْمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة. وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له: مالك بن عمرو، أحد بني النجار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم، وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك. فلما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله: استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه.
أما في أمر يهم أهل بيته، فقد استشار من أهل بيته. استشار علياً وأسامة والخادمة. قال ابن هشام: قالت (عائشة): فدعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، و أسامة بن زيد، فاستشارهما؛ فأما أسامة فأثنى علي خيراً وقاله؛ ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيراً، وهذا الكذب والباطل؛ وأما علي فإنه قال: يا رسول الله، إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية، فإنها ستصدقك.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بُريرة ليسألها؛ قالت: فقام إليها علي بن أبي طالب، فضربها ضرباً شديداً، ويقول : اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قالت: فتقول والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً، إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله.
هذه هي المرات التي استشار فيه النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه. ومن خلالها يمكننا التأكيد على أن الإستشارة لم تكن لأناس مخصوصين. بل كان جميع المسلمين أهلاً للإستشارة، كما مارس عليه السلام.
كيف تتم الإستشارة في أيامنا هذه؟
لا بد في أيامنا هذه من مجلس للإستشارة يضم جميع الإختصاصات في مختلف العلوم. تجمعهم جميعاً خاصية واحدة هي تقوى الله، وعدم الإرتباط بأصحاب السلطة وعدم الإرتباط بالأجنبي. وتكون مهمة هذا المجلس إصدار الفتوى. وليس لشخص واحد، مهما بلغ علمه أن يحيط بجميع المعارف في أيامنا هذه. فما يسمى بعالم الدين لا يستغني عن استشارة علماء الدنيا، حتى يفتي وهو مطمئن...
14 كانون الثاني 2011 حسن ملاط
الخميس، 13 يناير 2011
لماذا أهمل المسلمون القضية الفلسطينية؟
إن الإنعطافة التي حصلت عند المسلمين اللبنانيين بالنسبة للقضية الفلسطينية هي على قدر كبير من الأهمية، ولا يمكن إهمالها بأي شكل من الأشكال. إن إهمال القضية الفلسطينية على علاقة عضوية بالمعتقدات التي يؤمن بها المسلمون. ففلسطين هي من ثغور المسلمين وعلى جميع المسلمين واجب الدفاع عنها من غير منة. كما وأن واجب النصرة للإخوة الفلسطينيين هو مما لا يمكن لأحد إنكاره. كما وأنه في هذا المجال يمكن استذكار ما قاله نبينا عن حلف الفضول وأنه إن دُعي به بالإسلام لأجاب. وهذا الحلف ينص على بندين اثنين، كل منهما له أهميته المطلقة على الصعيدين الإجتماعي والسياسي:
أولاً: نصرة المظلوم.
ثانياً: التأسي بالمعاش.
فإذا أردنا أن نتجاوز الأخوة بالدين مع الفلسطينيين، وإذا أردنا أن نتجاوز الأخوة الإنسانية، وإذا أردنا أن نتجاوز التاريخ الواحد، على مدى المئات من السنين، وإذا أردنا تجاوزالإنتماء إلى أمة واحدة فلنتحدث عن نصرة المظلوم.
ما تقدم يجعلنا نميل إلى أننا آثمون بعدم اهتمامنا بالقضية الفلسطينية، كما كنا على مر مراحل هذه القضية، ابتداءً من استقبال اللاجئين وصولاً إلى المشاركة في حركة المقاومة الفلسطينية. ولن أتحدث عن الحرب الأهلية، عندما كان الفلسطينيون يعتبرون جيش المسلمين، أو جيش السنة مع العلم أنه كان ينتمي إلى حركة المقاومة الفلسطينية الكثير الكثير من الشيعة والمسيحيين.
لماذا نسي السنة في لبنان القضية الفلسطينية؟ ولصالح من هذا الإهمال؟
كان اتفاق الطائف الذي يعود الفضل بجزء منه إلى العدد الكبير من الضحايا التي قدمها الشعب الفلسطيني على مذبح الحرب الأهلية اللبنانية. فأهمية رئاسة مجلس الوزراء لم تكن من صنع الضغوطات الدولية فقط. من هنا كان المركز الذي تبوأه الرئيس رفيق الحريري تعود أهميته إلى تضحيات الفلسطينيين. كما وأني أريد أن أؤكد في هذا المجال أنه إن كان مركز رئيس مجلس الوزراء مهماً فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن جماهير أهل السنة في لبنان يتمتعون من أهمية موقع رئيس مجلس الوزراء. كما وأن الفلسطينيين لم يحرروا بلادهم بعد أن أصبح مركز رئيس الوزراء مهماً. فالمسلمون السنة لا زالوا محرومين كما كانوا محرومين سابقاً، بل أكثر. إن أكثرية السنة في لبنان موجودون في طرابلس وعكار والضنية. والمناطق الأكثر فقراً في لبنان هي المناطق التي سبق ذكرها. وشمال لبنان هو المنطقة التي تتمتع بأكبر رقم من الأمية في لبنان.
ما هي مناسبة استذكار الرئيس رفيق الحريري في هذا المجال؟ إن الإنعطافة جاءت نتيجة العملية الإجرامية التي أدت إلى خسران السنة في لبنان الشخصية الأهم من الشخصيات السنية في لبنان والتي كانت تملك من الحضور الدولي ما لا يملكها أي سياسي آخر. إن التجييش المذهبي الذي قامت بها قوى لا تمت إلى أهل السنة بأية صلة، كانت عاملاً مهماً جداً بتحول السنة من الإهتمام بأمور الأمة، إلى تركيز إهتمامها بقضية واحدة: الحقيقة! وكأن اهتمام السنة بالقضايا الإجتماعية لجماهير الفقراء سوف يؤدي إل ضياع الحقيقة. أو أن مسيرة جميع جماهير الفقراء بالمناداة بالحقيقة سوف يأتي بالحقيقة. لم ينتبه الكثير من الناس أننا نسير من غير هدى. يقولون لنا أهتفوا بالحقيقة فنقوم بالهتاف، من دون أن نسأل أنفسنا إن كان هذا الهتاف مفيد أم لا؟! كما وأننا لم نسأل أنفسنا يوماً من الذي يقول لنا أن نهتف بالحقيقة؟ لم نسأل أنفسنا لماذا علينا أن نريح إسرائيل من خلال تفتيشنا على الحقيقة؟ لأم نسأل أنفسنا لماذا علينا أن نتقاتل مع المقاومة التي كانت تقاتل إسرائيل. لم نسأل أنفسنا ما هي علاقة معرفة الحقيقة بإنكار إنتصار المقاومة على إسرائيل والتي أقري به إسرائيل نفسها. هل سألنا أنفسنا ما الذي يجمعنا بإسرائيل حتى نصل إلى الحقيقة.
لقد كانت تحركاتنا غريزية لا تستفيد منها الحقيقة ولا يستفيد منها سنة لبنان على امتداد لبنان. صحيح لقد استفاد منها بعض السياسيين التجار، الذين تاجروا فينا وتاجروا بدم الرئيس رفيق الحريري، ولكن هؤلاء لم يهتموا بأي مسألة تهم جماهير الفقراء السنة، وهم كثر. كما أن أهم المستفيدين كانت إسرائيل لأننا أهملنا القضية الفلسطينية، وكأن الرئيس رفيق الحريري لم يكن مؤيداً للقضية الفلسطينية. من الذي جاء باتفاق نيسان الذي شرع عمل المقاومة الإسلامية في لبنان، أليس الرئيس الحريري. هل يقبل الرئيس الحريري أن نتنكر لتاريخه ونحن نظن أننا ندافع عن إرثه؟ بالتأكيد كلا!
إن التنكر لمساعدة المقاومة الإسلامية الذي كان يمارسه الرئيس رفيق الحريري انسحب أيضاً على الإهمال المطلق لقضايا الشعب الفلسطيني.
ما هي الإنعكاسات التي تركها إهمال المسلمين للقضية الفلسطينية؟
الإنعكاس الأول والأهم هو إهمال جميع الدول العربية لقضايا الشعب الفلسطيني باستثناء سوريا التي تسمح لممثلي المقاومة الفلسطينية بالتحرك في أراضيها، وكذلك لبنان، مع إنكار رسمي للحقوق الإجتماعية للشعب الفلسطيني.
أما الكيان الغاصب فقد أخذ حريته الكاملة باضطهاد الفلسطسنيين، سواء في الضفة الغربية وغزة والقدس الشريف. كذلك فهو يقوم باضطهاد من تبقى من الشعب الفلسطيني في أراضي ال48 .
في خطوة جديدة تستهدف المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل، أقرت لجنة الداخلية البرلمانية في الكنيست الإسرائيلي أمس بالقراءة الأولى «قانون المواطنة» الذي يمكن المحاكم الإسرائيلية من سحب الجنسية من أي مواطن يدان بالمشاركة في أعمال "إرهابية "ضد "الدولة ".
وصادقت اللجنة على القانون المتوقع تمريره بسهولة أمام الكنيست وفيه إمكانية «سحب الجنسية من أي مواطن يدان بالتجسس لصالح تنظيم إرهابي»، أو يشارك في نشاطات "إرهابية معادية للدولة".
وقالت الناشطة السياسية عبير قبطي في حديث مع «السفير» إن القانون الجديد، في حال إقراره، «يهدف إلى تزويد الدولة بأدوات قانونية لمواجهة ما تسميه بالإرهاب، كما أنه وسيلة للتخلص من الفلسطينيين داخل إسرائيل». وأضافت ان «مشروع القانون، بصيغته الحالية، يجعل التعريفات المعتمدة لمنظمة إرهابية أو عمل إرهابي أو عضوية في منظمة إرهابية، فضفاضة جداً.
وتقول قبطي إن القانون يجعل على سبيل المثال «أي تبرع لمنظمات تربوية، خيرية أو اجتماعية تابعة لحركات سياسية فلسطينية لها أذرع عسكرية، دعماً للإرهاب، ويمكن اعتبار الإساءة لقيادات إسرائيلية بارزة أعمالاً إرهابية، وبالتالي فإن التعريف الفضفاض لكلمة إرهاب أو ما له علاقة بها يجعل ملاحقة أي شخص بسيطة، والعقوبة تكون سحب الجنسية.
ومن نضالات الشعب الفلسطيني في الداخل الفلسطيني: انطلقت مسيرة احتجاجية مساء الثلاثاء 28-12-2010 من مخيم أبو عيد للاجئين في اللد إلى أن وصلت مفرق " جانيه أبيب " الذي يبعد 100 متر عن المخيم .حيث شارك في المسيرة أصحاب البيوت المهدومة وعدد من أهالي اللد رجالاً ونساءً وأطفالاً، يشاركهم أهالي حي دهمش المهدد بالهدم، وعدد من أهالي حي الشيخ جراح، كما شارك في المسيرة عدد من النشطاء اليهود اليساريين .
ورفع المتظاهرون لافتات تندد بسياسة الهدم المتفشية في المدينة، والتي كان آخرها هدم 7 بيوت كانت تأوي أكثر من خمسين شخصاً.
كما رددوا شعارات احتجاج ضد الحكومة التي تدعم عمليات هدم البيوت العربية في اللد، وترصد لها ميزانيات خاصة .
وفي ختام الفعالية الاحتجاجية احتشد عدد من رجال الشرطة وقوات مسلحة مهددة المتظاهرين أثناء وقوفهم على أرصفة مفترق الطرق، في محاولة لاستفزازهم .
أما الحاجة " أم روضي " التي تجاوزت الثمانين من عمرها، وهي أم الأبناء السبعة أصحاب البيوت المهدومة، فكانت في مقدمة المتظاهرين وكانت تردد وتقول: "هدوا دور اولادي الخمسين يا ويلهم من الله".
وفي حديث مع المهندسة بثينة ضبيط عضو اللجنة الشعبية في اللد، أشارت إلى أن هذه الفعالية هي ليست الوحيدة، بل أنها فعالية أسبوعية ستستمر حتى إيجاد حل لأهالي المخيم المنكوبين .
وفي القدس الشريف وقع رئيس بلدية القدس الغربية نير بركات على 34 أمراً لهدم بيوت فلسطينية في القدس الشرقية منذ توليه منصب رئاسة البلدية قبل ثلاثة شهور، ما يشير إلى تزايد كبير في أوامر الهدم مقارنة مع سلفه في المنصب أوري لوبليانسكي.
وذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي الاثنين أنه خلال الشهور الثلاثة الأخيرة منذ بداية ولاية بركات قدمت دائرة مراقبة البناء في بلدية القدس أكثر من 100 لائحة اتهام كل شهر ضد مواطنين فلسطينيين طالبت فيها بهدم مبانٍ في القدس الشرقية بذريعة أنها بنيت من دون ترخيص.
وأشارت الإذاعة إلى أن كمية طلبات هدم البيوت في الأحياء العربية في القدس الشرقية خلال الشهور الثلاثة الأخيرة يدل على ارتفاع وتيرة هدم البيوت مقارنة مع هدم 88 بيتاً في القدس الشرقية خلال عام 2008 الماضي، ويبدو أنه سيتم هذا العام هدم 120 بيتاً على الأقل.
ويوقع بركات على أوامر هدم بيوت بنيت في الفترة الأخيرة، لكن في المقابل تقدم البلدية أكثر من 1000 لائحة اتهام كل سنة ضد مواطنين فلسطينيين بادعاء بناء بيوتهم من دون ترخيص وتطالب بهدمها.
من ناحية ثانية لفتت إذاعة الجيش الإسرائيلي إلى وجود صعوبات في استصدار تراخيص بناء قانونية في القدس الشرقية وأنه في العام الأخير طلبت 203 عائلات تراخيص بناء وحصل 87 منها فقط على موافقة البلدية.
وهذه ناشطة فلسطينية داخل الخط الأخضر. ريما مصطفى: في عام 1895 كتب مؤسس الصهيونية الحديثة تيودر هيرتزل: "لدى امتلاك البلاد فإننا سنجلب فائدة مادية فورية على الدولة التي ستقبلنا، الأراضي الخاصة بمناطق البلاد التي سيجري تسليمها لنا ينبغي علينا أن نستلها رويداً رويداً من أيادي أصحابها، والسكان الفقراء سنسعى لنقلهم خلف الحدود بدون ضجيج عبر منحهم عملاً في البلدان التي سينتقلون إليها، لكن في بلادنا سنمنع عنهم إمكان القيام بأي عمل، يجب أن يتم نقل الأراضي إلى سيطرتنا وإخراج الفقراء من دولتنا بنعومة وحضر".
ريما مصطفى: مصطلح المدينة المختلطة بتعريفه العالمي إنما يشير إلى الاندماج والتعايش، هنا في يافا وفي جاراتها اللد والرملة المعرفة بأنها مدن مختلطة هدمت إسرائيل في العام الأخير فقط ما يزيد عن ألفي بيت للمواطنين العرب.
أنا ريما مصطفى أصطحبكم في مهمة خاصة حول سياسة هدم البيوت في المدن المختلطة في وسط إسرائيل، من خلال قصص هدم البيوت ستستمعون إلى سيناريوهات غريبة ومستحيلة ليست هي من نسج الخيال بل من واقع فلسطيني صار أقرب إلى الخيال.
قفطان الوحواح: أنا هديت بيتي بإيدي عشان ما.. إذا هم بجيبوا البوليس والجيش يجي هان بيدفعونا حق البوليس اللي بيجي ياكل ويشرب ويقعد يتطلع ويتفرج يعمل حفلة علينا، بدهم يعملوا حفلة علينا هنا بعطيهمش الشنص (الحظ) هذا.
إذا الواحد بيجي بيهدم بيته بإيده إيش ظل! ما ظلش إشي ما ظلش حاجة يعني بجيبوا الروس بحطوهم محلنا ونحنا يا أهل البلاد بدهم يزتونا برا، إيش ظل؟ ما ظلش إشي.. ما فيش إشي خلصت.
وفي يافا لم تكتفِ إسرائيل بـ 500 أمر هدم ستشرد 2500 عائلة بس صعّدت إلى المقابر والموتى، وسيضطر عبودي إلى إخلاء قبر والده وجده لأن محكمة إسرائيلية أصدرت أمراً عجيباً بإخلاء المقبرة الإسلامية الوحيدة في يافا.
.. نحن مستعدين نموت عشان المنطقة هاي اللي ساكنين فيها، يعني منفضل نموت ولا يعتدوا علينا وياخذوا منا ولا دارنا ولا أرضنا ولا مقبرتنا.
أموال الوقف الإسلامي لا تباع ولا تشترى ولكن حكومة إسرائيل المتصرف الوحيد في أملاك الوقف الإسلامي اللي هي 1/16 من أراضي إسرائيل، تعطي لنفسها الصلاحية أن تقوم بأي عمليات صفقات تحويل أراضي الوقف الإسلامي لصالح شركات خاصة.
بروفيسور جف هلبر (مدير اللجنة الإسرائيلية ضد هدم البيوت): ما يقف خلف سياسة هدم البيوت في الضفة وداخل إسرائيل أيضاً هي سياسة الامتلاك، بمعنى أن أرض إسرائيل وفق الفهم اليهودي أرض إسرائيل من البحر المتوسط حتى الأردن تتبع فقط الشعب اليهودي، للشعب اليهودي ملكية مطلقة في هذه الأرض لا يوجد عرب هنا لا يوجد شعب فلسطيني لا يوجد شعب آخر، يمكن أن تتواجد مجموعة عرب أفراد ولكن ليس تواجد قومي لا يوجد حق للفلسطينيين في هذه الأرض، منذ 48 السياسة هي سياسة اقتلاع وطرد، نحن نعلم أن في العام 1948 تقريباً مليون فلسطيني طردوا كما في الـ 1967، وكما يجري دائماً يعني إسرائيل تشجع هجرة العرب إلى خارج إسرائيل في الضفة وأيضاً داخل إسرائيل، تقرير كينينغ الذي نشرته وزارة الداخلية في السنوات السبعين أشار بالضبط إلى هذه السياسة، ما يعني تضييق الحياة على العرب في السكن والتربية والتعليم في العمل حتى لا يبقى لديهم سبب ليبقوا في البلاد، المهم أن تهاجر الطبقة الوسطى وإذا بقي الشعب البسيط فقط يمكن السيطرة عليه بسهولة، إذا هاجر المثقفون وأصحاب الأعمال سيضعف هذا الشعب الفلسطيني.
ومنحكي نحنا عن حوالي تقريباً 2000 بيت اللي هم مهددين كمان لبيوت غير معترف فيها.
في العام الفائت هدمت وزارة الداخلية في إسرائيل ثلاثة أضعاف ما هدمت بالضفة كلها بيوت لعرب مواطنين إسرائيليين، يعني 866 بيتاً هدموا في الفترة الأخيرة داخل إسرائيل، هذه ليست حالة واحدة"
بثينة ضبيط (محامية وناشطة اجتماعية): يعني هناك فيه استهداف للوجود العربي بدولة إسرائيل عامةً وخصوصاً في مناطق الدول المختلطة الرملة اللد يافا، فيهم حالة استفراد بالوجود العربي هون، يعني نحنا منحكي عن مئات أوامر الهدم اللي أصدروها ضد المواطنين العرب، نحن نعرف أنه مشاكل السكن هي مشاكل تاريخية اللي الدولة ما أمنت مساكن للسكان وحتى الناس لما تجي تأخذ مبادرة وهي تبني بحد ذاتها بتلاحقها في أوامر هدم وفي غرامات مالية، فهون هاي السياسة منهجية اللي كانت منذ قيام الدولة من الـ 1948 لليوم بالنسبة إلنا هاي نكسة جديدة نكبة جديدة، بس نحن عايشين على المستوى اليومي، هناك فيه حالة كمان بالرملة في هناك أوامر إخلاء وبيافا في أوامر إخلاء بالنهاية الهدف تهجير تراتسفير جديد للسكان العرب في الدول المختلطة.
بروفيسور جف هلبر (مدير اللجنة الإسرائيلية ضد هدم البيوت): في العام الفائت هدمت وزارة الداخلية في إسرائيل ثلاثة أضعاف ما هدمت بالضفة كلها بيوت لعرب مواطنين إسرائيليين، يعني 866 بيتاً هدموا في الفترة الأخيرة داخل إسرائيل، هذه ليست حالة واحدة أو اثنتين بل هذه سياسة واضحة في اللد والرملة ويافا هم في الواجهة والمركز، ففيهم يعيش عرب كثيرون وهناك السياسة وهي سياسة أبارتهايد التمييز العنصري، ماذا يقول لك عندما يتشاجروا معك؟ يعني إذا لم تستطع التخلص من الجميع ولم تستطع تنظيف البلاد من العرب على الأقل قسمهم إلى جزر منعزلة عن بعضها البعض، ولذلك بنوا جداراً عازلاً بين اليهود والعرب في داخل الرملة واللد، في رأيي في داخل هذه المدن هناك سياسة أبارتهايد تمييز عنصري أقوى وأحدّ من تلك التي كانت في جنوب أفريقيا.
ركام بعد ركام ونكبة بعد نكبة هذا هو حال اللد والرملة ويافا وحال البلاد المحتلة منذ عام 1948 والتي تتنقل فيها السياسات المتمثلة بيد جرافة من المدن المختلطة إلى الجليل والكرمل وكل التجمعات العربية داخل إسرائيل، فالوجود العربي هو مشكلة بالنسبة لمخططات إسرائيل كما يرى العرب، ولهذا فالسياسات تنتقل والمعادلة هي في المكان والزمان.
وقال المكتب البرلماني للشيخ عباس زكور، في بيان له، إن الكتل البرلمانية لكل من: التجمع، الموحدة والعربية للتغيير، والجبهة، تقدمت إلى الكنيست الإسرائيلي، باقتراح قانون طالبت فيه بحجب الثقة عن حكومة اولمرت، احتجاجاً على سياسة هدم البيوت العربية في كفر قاسم والطيبة ويافا والرملة واللد والنقب.
ما الذي يمكننا أن نقدمه إزاء هذه المآسي التي تحدثنا عنها؟
إن دعمنا الحقيقي للشعب الفلسطيني سوف يمنع إسرائيل من الإستفراد بهذا الشعب المظلوم والثائر على ظلمه. عندما كانت المقاومة ناشطة لم تكن إسرائيل لتقدم على الأعمال التي تحدثنا عنها. فما علينا إذن إلا أن نعاود دعمنا للشعب الفلسطيني استجابة لأمر نبينا بنصرة المظلوم، وكذلك الأخوة الإسلامية والعربية والإنسانية تفرض علينا نصرة الشعب الفلسطيني لتأجيج مقاومته وانتفاضاته من جديد. وحتى لا يشعر أنه وحيد أمام العسف الإسرائيلي.
13 كانون الثاني 2011 حسن ملاط
إن الإنعطافة التي حصلت عند المسلمين اللبنانيين بالنسبة للقضية الفلسطينية هي على قدر كبير من الأهمية، ولا يمكن إهمالها بأي شكل من الأشكال. إن إهمال القضية الفلسطينية على علاقة عضوية بالمعتقدات التي يؤمن بها المسلمون. ففلسطين هي من ثغور المسلمين وعلى جميع المسلمين واجب الدفاع عنها من غير منة. كما وأن واجب النصرة للإخوة الفلسطينيين هو مما لا يمكن لأحد إنكاره. كما وأنه في هذا المجال يمكن استذكار ما قاله نبينا عن حلف الفضول وأنه إن دُعي به بالإسلام لأجاب. وهذا الحلف ينص على بندين اثنين، كل منهما له أهميته المطلقة على الصعيدين الإجتماعي والسياسي:
أولاً: نصرة المظلوم.
ثانياً: التأسي بالمعاش.
فإذا أردنا أن نتجاوز الأخوة بالدين مع الفلسطينيين، وإذا أردنا أن نتجاوز الأخوة الإنسانية، وإذا أردنا أن نتجاوز التاريخ الواحد، على مدى المئات من السنين، وإذا أردنا تجاوزالإنتماء إلى أمة واحدة فلنتحدث عن نصرة المظلوم.
ما تقدم يجعلنا نميل إلى أننا آثمون بعدم اهتمامنا بالقضية الفلسطينية، كما كنا على مر مراحل هذه القضية، ابتداءً من استقبال اللاجئين وصولاً إلى المشاركة في حركة المقاومة الفلسطينية. ولن أتحدث عن الحرب الأهلية، عندما كان الفلسطينيون يعتبرون جيش المسلمين، أو جيش السنة مع العلم أنه كان ينتمي إلى حركة المقاومة الفلسطينية الكثير الكثير من الشيعة والمسيحيين.
لماذا نسي السنة في لبنان القضية الفلسطينية؟ ولصالح من هذا الإهمال؟
كان اتفاق الطائف الذي يعود الفضل بجزء منه إلى العدد الكبير من الضحايا التي قدمها الشعب الفلسطيني على مذبح الحرب الأهلية اللبنانية. فأهمية رئاسة مجلس الوزراء لم تكن من صنع الضغوطات الدولية فقط. من هنا كان المركز الذي تبوأه الرئيس رفيق الحريري تعود أهميته إلى تضحيات الفلسطينيين. كما وأني أريد أن أؤكد في هذا المجال أنه إن كان مركز رئيس مجلس الوزراء مهماً فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن جماهير أهل السنة في لبنان يتمتعون من أهمية موقع رئيس مجلس الوزراء. كما وأن الفلسطينيين لم يحرروا بلادهم بعد أن أصبح مركز رئيس الوزراء مهماً. فالمسلمون السنة لا زالوا محرومين كما كانوا محرومين سابقاً، بل أكثر. إن أكثرية السنة في لبنان موجودون في طرابلس وعكار والضنية. والمناطق الأكثر فقراً في لبنان هي المناطق التي سبق ذكرها. وشمال لبنان هو المنطقة التي تتمتع بأكبر رقم من الأمية في لبنان.
ما هي مناسبة استذكار الرئيس رفيق الحريري في هذا المجال؟ إن الإنعطافة جاءت نتيجة العملية الإجرامية التي أدت إلى خسران السنة في لبنان الشخصية الأهم من الشخصيات السنية في لبنان والتي كانت تملك من الحضور الدولي ما لا يملكها أي سياسي آخر. إن التجييش المذهبي الذي قامت بها قوى لا تمت إلى أهل السنة بأية صلة، كانت عاملاً مهماً جداً بتحول السنة من الإهتمام بأمور الأمة، إلى تركيز إهتمامها بقضية واحدة: الحقيقة! وكأن اهتمام السنة بالقضايا الإجتماعية لجماهير الفقراء سوف يؤدي إل ضياع الحقيقة. أو أن مسيرة جميع جماهير الفقراء بالمناداة بالحقيقة سوف يأتي بالحقيقة. لم ينتبه الكثير من الناس أننا نسير من غير هدى. يقولون لنا أهتفوا بالحقيقة فنقوم بالهتاف، من دون أن نسأل أنفسنا إن كان هذا الهتاف مفيد أم لا؟! كما وأننا لم نسأل أنفسنا يوماً من الذي يقول لنا أن نهتف بالحقيقة؟ لم نسأل أنفسنا لماذا علينا أن نريح إسرائيل من خلال تفتيشنا على الحقيقة؟ لأم نسأل أنفسنا لماذا علينا أن نتقاتل مع المقاومة التي كانت تقاتل إسرائيل. لم نسأل أنفسنا ما هي علاقة معرفة الحقيقة بإنكار إنتصار المقاومة على إسرائيل والتي أقري به إسرائيل نفسها. هل سألنا أنفسنا ما الذي يجمعنا بإسرائيل حتى نصل إلى الحقيقة.
لقد كانت تحركاتنا غريزية لا تستفيد منها الحقيقة ولا يستفيد منها سنة لبنان على امتداد لبنان. صحيح لقد استفاد منها بعض السياسيين التجار، الذين تاجروا فينا وتاجروا بدم الرئيس رفيق الحريري، ولكن هؤلاء لم يهتموا بأي مسألة تهم جماهير الفقراء السنة، وهم كثر. كما أن أهم المستفيدين كانت إسرائيل لأننا أهملنا القضية الفلسطينية، وكأن الرئيس رفيق الحريري لم يكن مؤيداً للقضية الفلسطينية. من الذي جاء باتفاق نيسان الذي شرع عمل المقاومة الإسلامية في لبنان، أليس الرئيس الحريري. هل يقبل الرئيس الحريري أن نتنكر لتاريخه ونحن نظن أننا ندافع عن إرثه؟ بالتأكيد كلا!
إن التنكر لمساعدة المقاومة الإسلامية الذي كان يمارسه الرئيس رفيق الحريري انسحب أيضاً على الإهمال المطلق لقضايا الشعب الفلسطيني.
ما هي الإنعكاسات التي تركها إهمال المسلمين للقضية الفلسطينية؟
الإنعكاس الأول والأهم هو إهمال جميع الدول العربية لقضايا الشعب الفلسطيني باستثناء سوريا التي تسمح لممثلي المقاومة الفلسطينية بالتحرك في أراضيها، وكذلك لبنان، مع إنكار رسمي للحقوق الإجتماعية للشعب الفلسطيني.
أما الكيان الغاصب فقد أخذ حريته الكاملة باضطهاد الفلسطسنيين، سواء في الضفة الغربية وغزة والقدس الشريف. كذلك فهو يقوم باضطهاد من تبقى من الشعب الفلسطيني في أراضي ال48 .
في خطوة جديدة تستهدف المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل، أقرت لجنة الداخلية البرلمانية في الكنيست الإسرائيلي أمس بالقراءة الأولى «قانون المواطنة» الذي يمكن المحاكم الإسرائيلية من سحب الجنسية من أي مواطن يدان بالمشاركة في أعمال "إرهابية "ضد "الدولة ".
وصادقت اللجنة على القانون المتوقع تمريره بسهولة أمام الكنيست وفيه إمكانية «سحب الجنسية من أي مواطن يدان بالتجسس لصالح تنظيم إرهابي»، أو يشارك في نشاطات "إرهابية معادية للدولة".
وقالت الناشطة السياسية عبير قبطي في حديث مع «السفير» إن القانون الجديد، في حال إقراره، «يهدف إلى تزويد الدولة بأدوات قانونية لمواجهة ما تسميه بالإرهاب، كما أنه وسيلة للتخلص من الفلسطينيين داخل إسرائيل». وأضافت ان «مشروع القانون، بصيغته الحالية، يجعل التعريفات المعتمدة لمنظمة إرهابية أو عمل إرهابي أو عضوية في منظمة إرهابية، فضفاضة جداً.
وتقول قبطي إن القانون يجعل على سبيل المثال «أي تبرع لمنظمات تربوية، خيرية أو اجتماعية تابعة لحركات سياسية فلسطينية لها أذرع عسكرية، دعماً للإرهاب، ويمكن اعتبار الإساءة لقيادات إسرائيلية بارزة أعمالاً إرهابية، وبالتالي فإن التعريف الفضفاض لكلمة إرهاب أو ما له علاقة بها يجعل ملاحقة أي شخص بسيطة، والعقوبة تكون سحب الجنسية.
ومن نضالات الشعب الفلسطيني في الداخل الفلسطيني: انطلقت مسيرة احتجاجية مساء الثلاثاء 28-12-2010 من مخيم أبو عيد للاجئين في اللد إلى أن وصلت مفرق " جانيه أبيب " الذي يبعد 100 متر عن المخيم .حيث شارك في المسيرة أصحاب البيوت المهدومة وعدد من أهالي اللد رجالاً ونساءً وأطفالاً، يشاركهم أهالي حي دهمش المهدد بالهدم، وعدد من أهالي حي الشيخ جراح، كما شارك في المسيرة عدد من النشطاء اليهود اليساريين .
ورفع المتظاهرون لافتات تندد بسياسة الهدم المتفشية في المدينة، والتي كان آخرها هدم 7 بيوت كانت تأوي أكثر من خمسين شخصاً.
كما رددوا شعارات احتجاج ضد الحكومة التي تدعم عمليات هدم البيوت العربية في اللد، وترصد لها ميزانيات خاصة .
وفي ختام الفعالية الاحتجاجية احتشد عدد من رجال الشرطة وقوات مسلحة مهددة المتظاهرين أثناء وقوفهم على أرصفة مفترق الطرق، في محاولة لاستفزازهم .
أما الحاجة " أم روضي " التي تجاوزت الثمانين من عمرها، وهي أم الأبناء السبعة أصحاب البيوت المهدومة، فكانت في مقدمة المتظاهرين وكانت تردد وتقول: "هدوا دور اولادي الخمسين يا ويلهم من الله".
وفي حديث مع المهندسة بثينة ضبيط عضو اللجنة الشعبية في اللد، أشارت إلى أن هذه الفعالية هي ليست الوحيدة، بل أنها فعالية أسبوعية ستستمر حتى إيجاد حل لأهالي المخيم المنكوبين .
وفي القدس الشريف وقع رئيس بلدية القدس الغربية نير بركات على 34 أمراً لهدم بيوت فلسطينية في القدس الشرقية منذ توليه منصب رئاسة البلدية قبل ثلاثة شهور، ما يشير إلى تزايد كبير في أوامر الهدم مقارنة مع سلفه في المنصب أوري لوبليانسكي.
وذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي الاثنين أنه خلال الشهور الثلاثة الأخيرة منذ بداية ولاية بركات قدمت دائرة مراقبة البناء في بلدية القدس أكثر من 100 لائحة اتهام كل شهر ضد مواطنين فلسطينيين طالبت فيها بهدم مبانٍ في القدس الشرقية بذريعة أنها بنيت من دون ترخيص.
وأشارت الإذاعة إلى أن كمية طلبات هدم البيوت في الأحياء العربية في القدس الشرقية خلال الشهور الثلاثة الأخيرة يدل على ارتفاع وتيرة هدم البيوت مقارنة مع هدم 88 بيتاً في القدس الشرقية خلال عام 2008 الماضي، ويبدو أنه سيتم هذا العام هدم 120 بيتاً على الأقل.
ويوقع بركات على أوامر هدم بيوت بنيت في الفترة الأخيرة، لكن في المقابل تقدم البلدية أكثر من 1000 لائحة اتهام كل سنة ضد مواطنين فلسطينيين بادعاء بناء بيوتهم من دون ترخيص وتطالب بهدمها.
من ناحية ثانية لفتت إذاعة الجيش الإسرائيلي إلى وجود صعوبات في استصدار تراخيص بناء قانونية في القدس الشرقية وأنه في العام الأخير طلبت 203 عائلات تراخيص بناء وحصل 87 منها فقط على موافقة البلدية.
وهذه ناشطة فلسطينية داخل الخط الأخضر. ريما مصطفى: في عام 1895 كتب مؤسس الصهيونية الحديثة تيودر هيرتزل: "لدى امتلاك البلاد فإننا سنجلب فائدة مادية فورية على الدولة التي ستقبلنا، الأراضي الخاصة بمناطق البلاد التي سيجري تسليمها لنا ينبغي علينا أن نستلها رويداً رويداً من أيادي أصحابها، والسكان الفقراء سنسعى لنقلهم خلف الحدود بدون ضجيج عبر منحهم عملاً في البلدان التي سينتقلون إليها، لكن في بلادنا سنمنع عنهم إمكان القيام بأي عمل، يجب أن يتم نقل الأراضي إلى سيطرتنا وإخراج الفقراء من دولتنا بنعومة وحضر".
ريما مصطفى: مصطلح المدينة المختلطة بتعريفه العالمي إنما يشير إلى الاندماج والتعايش، هنا في يافا وفي جاراتها اللد والرملة المعرفة بأنها مدن مختلطة هدمت إسرائيل في العام الأخير فقط ما يزيد عن ألفي بيت للمواطنين العرب.
أنا ريما مصطفى أصطحبكم في مهمة خاصة حول سياسة هدم البيوت في المدن المختلطة في وسط إسرائيل، من خلال قصص هدم البيوت ستستمعون إلى سيناريوهات غريبة ومستحيلة ليست هي من نسج الخيال بل من واقع فلسطيني صار أقرب إلى الخيال.
قفطان الوحواح: أنا هديت بيتي بإيدي عشان ما.. إذا هم بجيبوا البوليس والجيش يجي هان بيدفعونا حق البوليس اللي بيجي ياكل ويشرب ويقعد يتطلع ويتفرج يعمل حفلة علينا، بدهم يعملوا حفلة علينا هنا بعطيهمش الشنص (الحظ) هذا.
إذا الواحد بيجي بيهدم بيته بإيده إيش ظل! ما ظلش إشي ما ظلش حاجة يعني بجيبوا الروس بحطوهم محلنا ونحنا يا أهل البلاد بدهم يزتونا برا، إيش ظل؟ ما ظلش إشي.. ما فيش إشي خلصت.
وفي يافا لم تكتفِ إسرائيل بـ 500 أمر هدم ستشرد 2500 عائلة بس صعّدت إلى المقابر والموتى، وسيضطر عبودي إلى إخلاء قبر والده وجده لأن محكمة إسرائيلية أصدرت أمراً عجيباً بإخلاء المقبرة الإسلامية الوحيدة في يافا.
.. نحن مستعدين نموت عشان المنطقة هاي اللي ساكنين فيها، يعني منفضل نموت ولا يعتدوا علينا وياخذوا منا ولا دارنا ولا أرضنا ولا مقبرتنا.
أموال الوقف الإسلامي لا تباع ولا تشترى ولكن حكومة إسرائيل المتصرف الوحيد في أملاك الوقف الإسلامي اللي هي 1/16 من أراضي إسرائيل، تعطي لنفسها الصلاحية أن تقوم بأي عمليات صفقات تحويل أراضي الوقف الإسلامي لصالح شركات خاصة.
بروفيسور جف هلبر (مدير اللجنة الإسرائيلية ضد هدم البيوت): ما يقف خلف سياسة هدم البيوت في الضفة وداخل إسرائيل أيضاً هي سياسة الامتلاك، بمعنى أن أرض إسرائيل وفق الفهم اليهودي أرض إسرائيل من البحر المتوسط حتى الأردن تتبع فقط الشعب اليهودي، للشعب اليهودي ملكية مطلقة في هذه الأرض لا يوجد عرب هنا لا يوجد شعب فلسطيني لا يوجد شعب آخر، يمكن أن تتواجد مجموعة عرب أفراد ولكن ليس تواجد قومي لا يوجد حق للفلسطينيين في هذه الأرض، منذ 48 السياسة هي سياسة اقتلاع وطرد، نحن نعلم أن في العام 1948 تقريباً مليون فلسطيني طردوا كما في الـ 1967، وكما يجري دائماً يعني إسرائيل تشجع هجرة العرب إلى خارج إسرائيل في الضفة وأيضاً داخل إسرائيل، تقرير كينينغ الذي نشرته وزارة الداخلية في السنوات السبعين أشار بالضبط إلى هذه السياسة، ما يعني تضييق الحياة على العرب في السكن والتربية والتعليم في العمل حتى لا يبقى لديهم سبب ليبقوا في البلاد، المهم أن تهاجر الطبقة الوسطى وإذا بقي الشعب البسيط فقط يمكن السيطرة عليه بسهولة، إذا هاجر المثقفون وأصحاب الأعمال سيضعف هذا الشعب الفلسطيني.
ومنحكي نحنا عن حوالي تقريباً 2000 بيت اللي هم مهددين كمان لبيوت غير معترف فيها.
في العام الفائت هدمت وزارة الداخلية في إسرائيل ثلاثة أضعاف ما هدمت بالضفة كلها بيوت لعرب مواطنين إسرائيليين، يعني 866 بيتاً هدموا في الفترة الأخيرة داخل إسرائيل، هذه ليست حالة واحدة"
بثينة ضبيط (محامية وناشطة اجتماعية): يعني هناك فيه استهداف للوجود العربي بدولة إسرائيل عامةً وخصوصاً في مناطق الدول المختلطة الرملة اللد يافا، فيهم حالة استفراد بالوجود العربي هون، يعني نحنا منحكي عن مئات أوامر الهدم اللي أصدروها ضد المواطنين العرب، نحن نعرف أنه مشاكل السكن هي مشاكل تاريخية اللي الدولة ما أمنت مساكن للسكان وحتى الناس لما تجي تأخذ مبادرة وهي تبني بحد ذاتها بتلاحقها في أوامر هدم وفي غرامات مالية، فهون هاي السياسة منهجية اللي كانت منذ قيام الدولة من الـ 1948 لليوم بالنسبة إلنا هاي نكسة جديدة نكبة جديدة، بس نحن عايشين على المستوى اليومي، هناك فيه حالة كمان بالرملة في هناك أوامر إخلاء وبيافا في أوامر إخلاء بالنهاية الهدف تهجير تراتسفير جديد للسكان العرب في الدول المختلطة.
بروفيسور جف هلبر (مدير اللجنة الإسرائيلية ضد هدم البيوت): في العام الفائت هدمت وزارة الداخلية في إسرائيل ثلاثة أضعاف ما هدمت بالضفة كلها بيوت لعرب مواطنين إسرائيليين، يعني 866 بيتاً هدموا في الفترة الأخيرة داخل إسرائيل، هذه ليست حالة واحدة أو اثنتين بل هذه سياسة واضحة في اللد والرملة ويافا هم في الواجهة والمركز، ففيهم يعيش عرب كثيرون وهناك السياسة وهي سياسة أبارتهايد التمييز العنصري، ماذا يقول لك عندما يتشاجروا معك؟ يعني إذا لم تستطع التخلص من الجميع ولم تستطع تنظيف البلاد من العرب على الأقل قسمهم إلى جزر منعزلة عن بعضها البعض، ولذلك بنوا جداراً عازلاً بين اليهود والعرب في داخل الرملة واللد، في رأيي في داخل هذه المدن هناك سياسة أبارتهايد تمييز عنصري أقوى وأحدّ من تلك التي كانت في جنوب أفريقيا.
ركام بعد ركام ونكبة بعد نكبة هذا هو حال اللد والرملة ويافا وحال البلاد المحتلة منذ عام 1948 والتي تتنقل فيها السياسات المتمثلة بيد جرافة من المدن المختلطة إلى الجليل والكرمل وكل التجمعات العربية داخل إسرائيل، فالوجود العربي هو مشكلة بالنسبة لمخططات إسرائيل كما يرى العرب، ولهذا فالسياسات تنتقل والمعادلة هي في المكان والزمان.
وقال المكتب البرلماني للشيخ عباس زكور، في بيان له، إن الكتل البرلمانية لكل من: التجمع، الموحدة والعربية للتغيير، والجبهة، تقدمت إلى الكنيست الإسرائيلي، باقتراح قانون طالبت فيه بحجب الثقة عن حكومة اولمرت، احتجاجاً على سياسة هدم البيوت العربية في كفر قاسم والطيبة ويافا والرملة واللد والنقب.
ما الذي يمكننا أن نقدمه إزاء هذه المآسي التي تحدثنا عنها؟
إن دعمنا الحقيقي للشعب الفلسطيني سوف يمنع إسرائيل من الإستفراد بهذا الشعب المظلوم والثائر على ظلمه. عندما كانت المقاومة ناشطة لم تكن إسرائيل لتقدم على الأعمال التي تحدثنا عنها. فما علينا إذن إلا أن نعاود دعمنا للشعب الفلسطيني استجابة لأمر نبينا بنصرة المظلوم، وكذلك الأخوة الإسلامية والعربية والإنسانية تفرض علينا نصرة الشعب الفلسطيني لتأجيج مقاومته وانتفاضاته من جديد. وحتى لا يشعر أنه وحيد أمام العسف الإسرائيلي.
13 كانون الثاني 2011 حسن ملاط
الثلاثاء، 11 يناير 2011
من سيرة المصطفى - 19-
أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. (النحل 125)
وإنك لعلى خلق عظيم. (القلم 4)
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. (الأنبياء 107)
عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا - الحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي.
وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم.
وعن أم المؤمنين عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، قالت:( كان خلقه القرآن) صحيح مسلم.
الدعوة إلى الله تبارك وتعالى هي ممارسة واعية لا يحسنها إلا من تعاقد مع الله على أن يكون عمله كله لوجهه الكريم. لقد كان النبي أحسن من أجاد الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمره رب العزة. وحيث أننا مأمورون بالتأسي بنبينا عليه الصلاة والسلام، أللهم إذا أردنا أن يكون عملنا مقبولاً عند ربنا تبارك وتعالى، فما علينا إلا أن نبشر ولا ننفر، وأن نيسر ولا نعسر. هذه نصيحة المصطفى عليه السلام لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن.
وسوف نرى كيف مارس الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة من خلال مواقفه في سيرته المباركة.
هذا هو المثال الأول لكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أحد المشركين عندما استولى المسلمون على مال لأبي العاص، وقدومه لاسترداده، و إجارة زينب له.
قال ابن إسحاق: وأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حين فرق بينهما الإسلام،(فقد كانت زينب بنت محمد زوجة أبي العاص) حتى إذا كان قبيل الفتح، خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام، وكان رجلاً مأموناً، بمال له وأموال لرجال من قريش، أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلاً، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هارباً، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبوالعاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار بها، فأجارته، وجاء في طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح - كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صُفَّة النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع.
قال: فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم؛ قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته، فقال: أي بُنيَّة، أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، و قد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به؛ فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوه عليه، حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الرجل بالشَّنَّة(قربة بالية) وبالإداوة(إناء صغير من جلد للماء)، حتى إن أحدهم ليأتي بالشِّظاظ(خُشَيْبة عَقْفاء محدَّدةُ الطرَف )، حتى ردوا عليه ماله بأسره، لا يفقد منه شيئاً. (أرأيتم إلى حديث النبي عليه السلام مع صحبه، فهو لم يأمرهم بشيء، إنما قال لهم أنه يحب أن يعيدوا المال إلى أبي العاص، علماً أن هذا المال هو حق لهم حسب سنة المصطفى عليه السلام. ولكنهم أعادوا جميع المال، كرمى لنبيهم عليه السلام. ماذا كانت النتيجة على أبي العاص؟)
ثم احتمله (أبو العاص المال) إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله، ومن كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؛ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت، ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (هذه نتيجة المعاملة الحسنة).
قال ابن إسحاق: وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الأول لم يحُدث شيئاً بعد ست سنين.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة: أن أبا العاص بن الربيع لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين، قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال، فإنها أموال المشركين؟ فقال أبو العاص: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. (أخلاقه إسلامية، لذلك قد أسلم).
وهذه قصة ثانية عن دعوة النبي عليه السلام بأخلاق الإسلام، بالموعظة الحسنة، لعمير بن وهب الذي جاء لقتله بعد تحريض صفوان له.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش في الحجر بيسير، وكان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناءً وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر.
قال ابن هشام: أسره رفاعة بن رافع أحد بني زريق.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش بعدهم خير؛ قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة: ابني أسير في أيديهم؛ قال: فاغتنمها صفوان وقال: علي دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أُواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم؛ فقال له عمير: فاكتم شأني وشأنك؛ قال: أفعل.
قال: ثم أمر عمير بسيفه، فشُحذ له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة؛ فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحاً السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا، وحَزَرنا(قدر بالحدس) للقوم يوم بدر.
ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه؛ قال: فأدخله علي، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون؛ ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير؛ فدنا ثم قال: إنعموا صباحاً، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام: تحية أهل الجنة، فقال: أما والله يا محمد، إن كنت بها لحديث عهد؛ قال: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه؛ قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال: اصدقني، ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمّل لك صفوان بدَيْنك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك؛ قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره، ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله، إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لي، فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم؟ قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة.
وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبداً، ولا ينفعه بنفع أبداً.
قال ابن إسحاق: فلما قدم عمير مكة، أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذي من خالفه أذىً شديداً، فأسلم على يديه ناس كثير. (هذه هي الموعظة الحسنة التي حولت العدو إلى داعية إلى الله عز وجل، كل أمر نبينا فيه خير).
وعندما جاء نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم، دعاهم إلى الإسلام، فلم يقبلوا. فدعاهم إلى الملاعنة، فلم يقبلوا. ولكنهم طلبوا من يحكم بينهم فقبل النبي عليه السلام بما طلبوه. وعلينا أن نعلم أن جل نصارى الجزيرة العربية قد دخلوا الإسلام عن طيب خاطر.
وكانت الملاعنة آخر الدواء: (الملاعنة هي المباهلة، عند ابن منظور): فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأُمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا له: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبدالمسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضاً.
قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني العشية أبعثْ معكم القوي الأمين. قال: فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مُهجِّراً، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: اخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.
أما عندما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم الإنتصار الفصل، يوم فتح مكة، فما الذي فعله؟ قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبدالله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعاً على راحلته، يستلم الركن بمحجم في يده؛ فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس(وقفوا ينظرون إليه) في المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة (الأثر) أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها.
يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ... الآية كلها .
ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. (هذا ما فعله بأكثر الناس عداوة له وعلى من تآمر عليه وعلى دين الله).
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، إجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء.
أما ما فعله مع الشيماء يرينا هذه الأخلاق التي لا يشابهه فيها أحد. قال ابن إسحاق: وحدثني بعض بني سعد بن بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: إن قدرتم على بجاد، رجل من بني سعد بن بكر، فلا يفلتنكم، وكان قد أحدث حدثاً، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء، بنت الحارث بن عبدالعزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فعنفوا عليها في السياق؛ فقالت للمسلمين: تعلموا والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة؛ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبيد السعدي، قال: فلما انتهى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا رسول الله، إني أختك من الرضاعة؛ قال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك؛ قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه، فأجلسها عليه، وخيرها، وقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت؛ فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي.
فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردها إلى قومها. فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاماً له يقال له مكحول، وجارية، فزوجت أحدهما الأخرى، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.
ولكن حسن سياسته لأمور المسلمين ظهرت عندما كاد المسلمون أن يقتتلوا فيما بينهم. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين؛ فغضب عبدالله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! لا ولكن أذن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس.
وقد مشى عبدالله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلَّغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وكان في قومه شريفاً عظيماً، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حدباً على ابن أبي سلول، ودفعاً عنه.
قال ابن إسحاق: فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبدالله بن أبي؛ قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، وهو والله الذليل وأنت العزيز؛ ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً. (وهذا أسيد قد اكتسب أخلاق النبوة).
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبدالله بن أبي.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبدالله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا. ( هذه أخلاق النبوة).
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأُرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته؛ قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري. (صدق عمر، رضي الله عنه).
وهذا حديث جويرية على ما حصل في غزوة بني المصطلق والتي أدت إلى إسلام زعيمهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب منهم(بني المصطلق) سبياً كثيراً، فشا قسمه في المسلمين؛ وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة مُلاّحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها؛ قالت عائشة: فوالله ما هو إلا ان رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء، ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي؛ قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؛ قالت: نعم يا رسول الله؛ قال: قد فعلت.
قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم؛ قالت: فلقد أُعتق بتزوجيه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.
قال ابن هشام: ويقال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث، وكان بذات الجيش، دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة، وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته؛ فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيَّبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق، في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، فوالله ما اطلع على ذلك إلا الله، فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما، فدفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودُفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت، وحسن إسلامها؛ فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها، فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.
أما يوم الحديبية فقد كان من حسن سياسته أن جعل معسكر الأعداء ينقسم على نفسه لصالح المسلمين. فقد كان الحليس زعيم الأحابيش من المتألهين، لذلك كانت مبادرة النبي عليه السلام تنسجم مع صفة الحليس. قال ابن هشام: ثم بعثوا(قريش) إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رآى الهدي يسيل عله(من الشرب) من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك. قال: فقالوا له: إجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم. أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له! والذي نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
وهكذا يكون الحليس قد اختلف مع قريش عندما أراه النبي عليه السلام أنه لم يأت إلا لتعظيم رب البيت.
أما عندما وجد الأنصار من حرمانهم من أموال هوازن واسترضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم:
قال ابن هشام: حدثني زياد بن عبدالله، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري قال:
لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا، في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.
قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
يا معشر الأنصار، ما قاله بلغني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!
قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ الله ولرسوله المن والفضل.
قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم.
ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.
وهذا صحابي آخر، جعيل بن سراقة، لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، أن يدخله ضمن دائرة المؤلفة قلوبهم، أمثال عيينة بن حصن أو الأقرع بن حابس أو أبي سفيان بن حرب أو ابنه معاوية، لذلك، ترك النبي عليه السلام جعيل لدينه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي:
أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض، كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، ولكني تألفتهما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
وهكذا نكون قد رأينا كيف أن ما قام به النبي عليه الصلاة والسلام، بدعوة الناس بالتي هي أحسن قد أدت إلى إعزاز المسلمين وتعزيز الإسلام. وقد كانت حميع الأمثلة عندما كان الإسلام قوياً، وعندما كان بإمكان المسلمين أن يبطشوا بأعدائهم. ولكن الدعوة كلنت بالتي هي أحسن.
11 كانون الثاني 2011 حسن ملاط
أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. (النحل 125)
وإنك لعلى خلق عظيم. (القلم 4)
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. (الأنبياء 107)
عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا - الحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي.
وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم.
وعن أم المؤمنين عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، قالت:( كان خلقه القرآن) صحيح مسلم.
الدعوة إلى الله تبارك وتعالى هي ممارسة واعية لا يحسنها إلا من تعاقد مع الله على أن يكون عمله كله لوجهه الكريم. لقد كان النبي أحسن من أجاد الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمره رب العزة. وحيث أننا مأمورون بالتأسي بنبينا عليه الصلاة والسلام، أللهم إذا أردنا أن يكون عملنا مقبولاً عند ربنا تبارك وتعالى، فما علينا إلا أن نبشر ولا ننفر، وأن نيسر ولا نعسر. هذه نصيحة المصطفى عليه السلام لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن.
وسوف نرى كيف مارس الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة من خلال مواقفه في سيرته المباركة.
هذا هو المثال الأول لكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أحد المشركين عندما استولى المسلمون على مال لأبي العاص، وقدومه لاسترداده، و إجارة زينب له.
قال ابن إسحاق: وأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حين فرق بينهما الإسلام،(فقد كانت زينب بنت محمد زوجة أبي العاص) حتى إذا كان قبيل الفتح، خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام، وكان رجلاً مأموناً، بمال له وأموال لرجال من قريش، أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلاً، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هارباً، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبوالعاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار بها، فأجارته، وجاء في طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح - كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صُفَّة النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع.
قال: فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم؛ قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته، فقال: أي بُنيَّة، أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، و قد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به؛ فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوه عليه، حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الرجل بالشَّنَّة(قربة بالية) وبالإداوة(إناء صغير من جلد للماء)، حتى إن أحدهم ليأتي بالشِّظاظ(خُشَيْبة عَقْفاء محدَّدةُ الطرَف )، حتى ردوا عليه ماله بأسره، لا يفقد منه شيئاً. (أرأيتم إلى حديث النبي عليه السلام مع صحبه، فهو لم يأمرهم بشيء، إنما قال لهم أنه يحب أن يعيدوا المال إلى أبي العاص، علماً أن هذا المال هو حق لهم حسب سنة المصطفى عليه السلام. ولكنهم أعادوا جميع المال، كرمى لنبيهم عليه السلام. ماذا كانت النتيجة على أبي العاص؟)
ثم احتمله (أبو العاص المال) إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله، ومن كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؛ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت، ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (هذه نتيجة المعاملة الحسنة).
قال ابن إسحاق: وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الأول لم يحُدث شيئاً بعد ست سنين.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة: أن أبا العاص بن الربيع لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين، قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال، فإنها أموال المشركين؟ فقال أبو العاص: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. (أخلاقه إسلامية، لذلك قد أسلم).
وهذه قصة ثانية عن دعوة النبي عليه السلام بأخلاق الإسلام، بالموعظة الحسنة، لعمير بن وهب الذي جاء لقتله بعد تحريض صفوان له.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش في الحجر بيسير، وكان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناءً وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر.
قال ابن هشام: أسره رفاعة بن رافع أحد بني زريق.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش بعدهم خير؛ قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة: ابني أسير في أيديهم؛ قال: فاغتنمها صفوان وقال: علي دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أُواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم؛ فقال له عمير: فاكتم شأني وشأنك؛ قال: أفعل.
قال: ثم أمر عمير بسيفه، فشُحذ له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة؛ فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحاً السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا، وحَزَرنا(قدر بالحدس) للقوم يوم بدر.
ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه؛ قال: فأدخله علي، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون؛ ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير؛ فدنا ثم قال: إنعموا صباحاً، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام: تحية أهل الجنة، فقال: أما والله يا محمد، إن كنت بها لحديث عهد؛ قال: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه؛ قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال: اصدقني، ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمّل لك صفوان بدَيْنك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك؛ قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره، ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله، إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لي، فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم؟ قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة.
وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبداً، ولا ينفعه بنفع أبداً.
قال ابن إسحاق: فلما قدم عمير مكة، أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذي من خالفه أذىً شديداً، فأسلم على يديه ناس كثير. (هذه هي الموعظة الحسنة التي حولت العدو إلى داعية إلى الله عز وجل، كل أمر نبينا فيه خير).
وعندما جاء نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم، دعاهم إلى الإسلام، فلم يقبلوا. فدعاهم إلى الملاعنة، فلم يقبلوا. ولكنهم طلبوا من يحكم بينهم فقبل النبي عليه السلام بما طلبوه. وعلينا أن نعلم أن جل نصارى الجزيرة العربية قد دخلوا الإسلام عن طيب خاطر.
وكانت الملاعنة آخر الدواء: (الملاعنة هي المباهلة، عند ابن منظور): فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأُمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا له: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبدالمسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضاً.
قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني العشية أبعثْ معكم القوي الأمين. قال: فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مُهجِّراً، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: اخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.
أما عندما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم الإنتصار الفصل، يوم فتح مكة، فما الذي فعله؟ قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبدالله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعاً على راحلته، يستلم الركن بمحجم في يده؛ فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس(وقفوا ينظرون إليه) في المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة (الأثر) أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها.
يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ... الآية كلها .
ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. (هذا ما فعله بأكثر الناس عداوة له وعلى من تآمر عليه وعلى دين الله).
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، إجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء.
أما ما فعله مع الشيماء يرينا هذه الأخلاق التي لا يشابهه فيها أحد. قال ابن إسحاق: وحدثني بعض بني سعد بن بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: إن قدرتم على بجاد، رجل من بني سعد بن بكر، فلا يفلتنكم، وكان قد أحدث حدثاً، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء، بنت الحارث بن عبدالعزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فعنفوا عليها في السياق؛ فقالت للمسلمين: تعلموا والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة؛ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبيد السعدي، قال: فلما انتهى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا رسول الله، إني أختك من الرضاعة؛ قال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك؛ قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه، فأجلسها عليه، وخيرها، وقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت؛ فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي.
فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردها إلى قومها. فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاماً له يقال له مكحول، وجارية، فزوجت أحدهما الأخرى، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.
ولكن حسن سياسته لأمور المسلمين ظهرت عندما كاد المسلمون أن يقتتلوا فيما بينهم. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين؛ فغضب عبدالله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! لا ولكن أذن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس.
وقد مشى عبدالله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلَّغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وكان في قومه شريفاً عظيماً، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حدباً على ابن أبي سلول، ودفعاً عنه.
قال ابن إسحاق: فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبدالله بن أبي؛ قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، وهو والله الذليل وأنت العزيز؛ ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً. (وهذا أسيد قد اكتسب أخلاق النبوة).
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبدالله بن أبي.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبدالله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا. ( هذه أخلاق النبوة).
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأُرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته؛ قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري. (صدق عمر، رضي الله عنه).
وهذا حديث جويرية على ما حصل في غزوة بني المصطلق والتي أدت إلى إسلام زعيمهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب منهم(بني المصطلق) سبياً كثيراً، فشا قسمه في المسلمين؛ وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة مُلاّحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها؛ قالت عائشة: فوالله ما هو إلا ان رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء، ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي؛ قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؛ قالت: نعم يا رسول الله؛ قال: قد فعلت.
قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم؛ قالت: فلقد أُعتق بتزوجيه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.
قال ابن هشام: ويقال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث، وكان بذات الجيش، دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة، وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته؛ فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيَّبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق، في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، فوالله ما اطلع على ذلك إلا الله، فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما، فدفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودُفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت، وحسن إسلامها؛ فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها، فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.
أما يوم الحديبية فقد كان من حسن سياسته أن جعل معسكر الأعداء ينقسم على نفسه لصالح المسلمين. فقد كان الحليس زعيم الأحابيش من المتألهين، لذلك كانت مبادرة النبي عليه السلام تنسجم مع صفة الحليس. قال ابن هشام: ثم بعثوا(قريش) إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رآى الهدي يسيل عله(من الشرب) من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك. قال: فقالوا له: إجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم. أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له! والذي نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
وهكذا يكون الحليس قد اختلف مع قريش عندما أراه النبي عليه السلام أنه لم يأت إلا لتعظيم رب البيت.
أما عندما وجد الأنصار من حرمانهم من أموال هوازن واسترضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم:
قال ابن هشام: حدثني زياد بن عبدالله، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري قال:
لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا، في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.
قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
يا معشر الأنصار، ما قاله بلغني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!
قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ الله ولرسوله المن والفضل.
قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم.
ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.
وهذا صحابي آخر، جعيل بن سراقة، لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، أن يدخله ضمن دائرة المؤلفة قلوبهم، أمثال عيينة بن حصن أو الأقرع بن حابس أو أبي سفيان بن حرب أو ابنه معاوية، لذلك، ترك النبي عليه السلام جعيل لدينه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي:
أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض، كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، ولكني تألفتهما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
وهكذا نكون قد رأينا كيف أن ما قام به النبي عليه الصلاة والسلام، بدعوة الناس بالتي هي أحسن قد أدت إلى إعزاز المسلمين وتعزيز الإسلام. وقد كانت حميع الأمثلة عندما كان الإسلام قوياً، وعندما كان بإمكان المسلمين أن يبطشوا بأعدائهم. ولكن الدعوة كلنت بالتي هي أحسن.
11 كانون الثاني 2011 حسن ملاط
السبت، 8 يناير 2011
هل العَوْدُ أحمد؟
كان للحديث الذي أدلى به الرئيس سعد الحريري لجريدة "الحياة" اللندنية وقع المفاجأة للكثير من العاملين في الحقل العام اللبناني. فقد كانت المعلومات التي أدلى بها بمثابة هدف سجله في مرمى فريق الثامن من آذار الذي كان يبشر بالإيجابيات في الوقت الذي كان فريق الرابع عشر من آذار يبشر بالسلبيات. ليس هذا فحسب، بل إن أوساط المعارضة كانت لا تتحفظ عن اتهام كل من لا يبشر بما تقوم بالتبشير به. فقد ترك الرئيس الحريري الفريق الآخر يقوم بالتصعيد إلى آخر مدى.. ثم كان الحديث الذي أسال المياه الباردة على تصعيد المعارضة!
ماذا قال الرئيس الحريري؟
مضت مدة وأنا أراقب ما يجري في البلد وطوال هذا الوقت التزمت الصمت من أجل حماية الجهود السعودية - السورية. لكنني من موقع المسؤول والمعني بحماية هذه الجهود، رأيت من واجبي أن أصوب بعض ما سمعته في الأيام الأخيرة من كلام كثير يمس الحقائق السياسية في البلاد ويعرض الجهود السعودية - السورية للتشويش.
الجهود التي تقوم بين المملكة العربية السعودية وسورية هي جهود تتناول عدداً من النقاط لتثبيت الاستقرار في لبنان. وهي ثمرة لمسار أطلقته القمة التي عقدت في بيروت بين خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس بشار الأسد والرئيس ميشال سليمان. ومن هنا لا يجوز لأحد أن يخطئ في تحديد المسار السعودي - السوري. هذا المسار، الذي تم التوصل إليه بفضل حكمة خادم الحرمين الشريفين وبعد نظره وحرصه على لبنان، لا يتحرك على خط واحد خلافاً لما يتم الترويج له، بل في الحقيقة يتطلب خطوات إيجابية عدة لم يقم الطرف الآخر بأي منها حتى الآن.
ثم أضاف:
الخطوات والأجوبة مطلوبة من غيرنا وليس منا. هذا الموضوع أنجز منذ فترة طويلة. ولا يتذرعن أحد بأن خادم الحرمين الشريفين موجود في نيويورك، لأن ما تم الاتفاق عليه حصل قبل شهر من الوعكة الصحية التي ألمت به. وأنا بصراحة أستغرب كل الكلام الذي يصدر في هذا الصدد سواء عن معرفة أم عدم معرفة. فإذا كان عن عدم معرفة، فتلك مصيبة، وإذا كان عن معرفة فالمصيبة أكبر. الجهود السعودية - السورية وصلت إلى نتائج محددة منذ أشهر عدة، وهي سابقة لانتقال خادم الحرمين الشريفين للعلاج في نيويورك.
لقد قال الرئيس الحريري نصف الحقيقة، حيث أنه لم يقل أنه خلال النقاشات التي كانت تجري بين الطرف السوري والسعودي كانت الإدارة الأمريكية تتدخل باستمرار مع الجانب السعودي حتى تمنع إمكانية الوصول إلى إتفاق يمنع إمكانية تفجير الساحة الداخلية اللبنانية. وهذا ما قامت به السيدة كلنتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، وموظفوها الأقل رتبة مثال فلتمان وغيره. وهي لا تزال حتى الآن تقوم بتخريب المساعي المشتركة للرئيس بشار الأسد والملك عبد الله بن عبد العزيز.
"ومن واشنطن أفاد مراسل "النهار" هشام ملحم أن مسؤولاً أميركياً بارزاً أعرب قبل ساعات من لقاء الوزيرة كلينتون الرئيس الحريري في نيويورك، عن قلق حكومته مما وصفه بـ"محاولات الابتزاز السياسي التي يقوم بها حزب الله الذي يقول للحكومة وسائر اللبنانيين: اذا لم تفعلوا ما نريده في شأن المحكمة الخاصة فاننا سنحرق البيت بمن فيه". وأضاف المسؤول أن النقاش سيتطرق الى المضاعفات التي يمكن ان تبرز عقب القرار الاتهامي. وقال المسؤول الأميركي البارز لـ"النهار" أن كلينتون ستؤكد للحريري "التزام الولايات المتحدة القوي لاستقلال لبنان وسيادته، كما ستكرر دعمنا للجهود القضائية الرامية الى انهاء حقبة الاغتيالات السياسية في لبنان". وبعدما ذكّر المسؤول بأن اللبنانيين عانوا الكثير من سفك الدماء، رأى ان المحكمة الخاصة "هي وسيلة لانهاء حقبة الاغتيالات السياسية التي طاولت مختلف الفئات اللبنانية. عمل المحكمة لا ينحصر فقط بمعاقبة قتلة الحريري ورفاقه ومن طاولهم الاغتيال لاحقاً، لانها يفترض أن تعطي لبنان القدرة على فتح صفحة جديدة". وأخيراً أعرب عن عدم رضاه عن المفاوضات السورية السعودية بإنكاره لمثل هذه الجهود: وعما قيل عن وجود اتفاق سعودي - سوري غير معلن، تساءل المسؤول: "اذا كان هناك اتفاق سعودي - سوري، لماذا يبقى سرياً؟". وقال: "نحن مقتنعون بجدية الجهود السعودية وصدقيتها، والمملكة تلعب دوراً ايجابياً في لبنان". لكنه أضاف بنبرة عكست مشاعر الاحباط التي يعكسها عادة المسؤولون الاميركيون عندما يتحدثون عن لبنان: في نهاية المطاف على القيادات اللبنانية ان تقرر بنفسها ما هي مصلحة لبنان".
إن كلام المسؤول الأمريكي يعكس مدى إصرار واشنطن على عرقلة الجهود السورية السعودية. وهذا ما قامت به كلنتون عند لقائها العاهل السعودي ورئيس الحكومة اللبنانية. قالت جريدة "النهار" اللبنانية: اللقاء الذي جمع في الساعات الاخيرة في نيويورك العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز ووزيرة خارجية الولايات المتحدة هيلاري كلينتون، والذي تلاه فجر اليوم بتوقيت بيروت لقاء لكلينتون ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري الذي يستعد للاجتماع مع الملك عبدالله للمرة الثانية خلال عشرة ايام، دفع الملف اللبناني الى مرتبة متقدمة من الاهتمام الدولي، الأمر الذي يوحي بتطورات مرتقبة ستتضح معالمها قريباً وستظهر نتائجها داخلياً حيث احدثت آخر مواقف الرئيس الحريري اختراقاً في الجمود المطبق على البلاد منذ اسابيع.
ما هي هذه الإنعكاسات؟
سوف تقوم الجهود الأمريكية بإعادة الأوضاع في لبنان إلى المربع الأول. والجهود الأمريكية سوف تضع الفيتو على جميع التقدم التي أحرزته الجهود التي قام بها الرئيس بشار الأسد والملك عبد الله. وهذا ما سيعيد الأوضاع اللبنانية إلى المربع الأول، حيث لا إمكانية إلى إيجاد نقاط مشتركة يتفق عليها الرئيس الحريري وحزب الله. ذلك أن الإدارة الأمريكية تقوم بعرقلة هذه الجهود حيث أن ما تراهن عليه هذه الإدارة هو تفجير الأوضاع في لبنان لصالح العدو الإسرائيلي.
إن هذا التدخل الأمريكي السافر سوف يعيد الألق إلى التصريح الذي أدلى به السيد الخامنائي عن المحكمة الدولية والذي قال فيه أن كل ما يصدر عن المحكمة الدولية فهو باطل،والذي لم يكن الدافع له إلا ما تقوم به الإدارة الأمريكية من عرقلة للجهود السورية السعودية، هذه الجهود من أجل منع أي تدهور للأوضاع الداخلية في لبنان. وهذا ما سوف يؤجل اي إمكانية للحل إلى ما بعد اللقاء الإيراني الأمريكي في تركيا أواسط هذا الشهر.
صحيح أن ردود الأفعال المعارضة على الرئيس الحريري اتسمت بالهدوء، ولكن ما لا يمكن لحزب الله ومؤيدي المقاومة التنازل عنه هو إلغاء مفاعيل القرار الظني للمحكمة الدولية المسيسة بفضل الجهود الأمريكية. فرد الفعل الأول كان للرئيس نبيه بري: سجل الرئيس بري، الذي تلقى اتصالاً هاتفياً من الحريري قبل ادلاء الاخير بحديثه الصحافي، في بيان "ايجابية الاعتراف (من الحريري) بنتائج المبادرة السعودية – السورية"، لكنه أسف "لمحاولات رمي المسؤولية على طرف آخر". وأضاف: "ان الفريق المطلوب منه موقف بهذا الخصوص معلوم وبالتأكيد ليس المعارضة".
أما الوزير محمد فنيش (حزب الله): اعتبر وزير التنمية الادارية محمد فنيش أن كلام الحريري «يثبت ما كنا نقوله في السابق حول حقيقة وجود هذا المسعى وهذا التقدم الذي وصلنا اليه، على عكس ما كان يقوله بعض الفرقاء الذين كانوا ينفون في كل مرة هذا الكلام من خلال التصريحات الدائمة».
وقال في حديث لموقع «14 آذار» الالكتروني، ان «الحريري هو المخول الوحيد في توضيح التأخير الذي يحول دون البدء بتنفيذ هذا المسعى كونه مطلعاً أكثر، وعلى علم بمضامين الاتفاق المنجز».
وقال حول «التشويش» الذي تطرق اليه الحريري في كلامه، ان «على الرئيس الحريري توضيح أشكال التشويش التي كان يتعرض لها المسعى.
ونائب الأمين العام لحزب الله أدلى بما يلي: في قناعتنا توجد معطيات راجحة لمصلحة التسوية ونحن ندفع في اتجاه هذا الحل لأنه افضل للجميع، ولكن في الاتفاقات لا توجد نجاحات بنسبة 80 او 90 في المئة، بل اما ان تنجز واما لا تنجز، يعني اما ابيض واما اسود. وإذا كنا نريد الحديث بصيغة التفاؤل وليس الانجاز نقول ان الاجواء معقولة، ولكن عندما نصل الى الانجاز نقول الله اعلم لأن القوى المؤثرة في القرار النهائي هي التي تملك خيار الانجاز.
وحول المحكمة الدولية قال الشيخ قاسم: لقد ثبت بالدليل القطعي انها محكمة مخصصة لضرب قوى الممانعة والمقاومة من بوابة لبنان وعلى رأسها سوريا وحزب الله, وان فيها من المرونة ما يساعد على توجيهها في اي مسار وفي تغيير مسارها في اي لحظة, والدليل انها سارت بمسار متكامل لمدة اربع سنوات تجاه سوريا ثم بقدرة قادر اخذت مسارا آخر باتجاه حزب الله واقفلت مؤقتا مسار سوريا والضباط الاربعة, فلو كانت محكمة جنائية لكان يمكن ان تنكشف مساراتها في أوقات مبكرة بان يتم اكتشاف مثلا خطأ الدليل بعد شهر او شهرين او ثلاثة, ومن ثم يختارون ادلة اخرى تتبلور اكثر. معنى ذلك ان هناك مرونة داخل المحكمة لاختيار الهدف والتفتيش عن الادلة المفتعلة لهذا الهدف, وهذا هو التسييس بعينه.
ورداً على سؤال عن الفترة الزمنية لبلوغ التسوية النهائية، قال قاسم انه من المفروض الا تكون الفترة الزمنية طويلة, وهي في الواقع متزاحمة نوعا ما مع توقيت القرار الاتهامي بحيث ان صدوره سيجعل مثل هذه المساعي في وضع آخر, وما قبل القرار يختلف عما بعده لذا من مصلحة الجميع الاسراع في بلورة نتيجة التسوية.
ورغم هذا الهدوء في ردود فعل المعارضة نرى فريق الرابع عشر من آذار يريد أن يُدخل ضمن فريق المعارضة سوريا وإيران: وأوضح ركن بارز في قوى 14 آذار لـ"النهار" مفهوم "الطرف الآخر" الذي ورد في حديث الحريري، فقال انه أوسع نطاقاً من "المعارضة" التي انبرى بري للدفاع عنها. وهذا يعني أن هذا المصدر يريد أن يضم إيران وسوريا.
وفرنسا لا تريد أن تخرج من "عرس" الضغوطات على المعارضة الوطنية اللبنانية والمقاومة من دون حصة فقد أفاد مراسل "النهار" في باريس ان مصدراً رئاسياً فرنسياً افاد ان الموضوع اللبناني سيكون على طاولة المحادثات بين الرئيسين ساركوزي وأوباما في واشنطن في العاشر من الجاري. وأوضح "ان لبنان يمر حالياً بفترة من التوترات الداخلية وأن جميع البلدان الصديقة له معنية ولها مصلحة في تخفيف هذا الاحتقان". وأكد "ان المحكمة يجب ان تستمر في عملها وأن يصدر القرار الاتهامي عنها والمطلوب من جميع اللبنانيين تخفيف حدة التوتر".
كيف يريد أن يخفف الإحتقان والتوتر هو ووليه الأمريكي إن كان يصر على إصدار القرار الظني المسيس؟
هذه الهجمة الأمريكية الفرنسية على المبادرة السعودية السورية لا تُجابه إلا بالتضامن الفعلي مع حزب الله والمقاومة من مختلف فئات الشعب اللبناني التي تريد أن يسود السلام والاطمئنان ربوع بلادنا. كما وعلينا مجابهة الضغوط الأمريكية على المبادرة السورية السعودية وذلك بفضح الأهداف الأمريكية التي تريد أن تريح العدو الإسرائيلي من الضغط التي تشكله المقاومة على الوضع الإسرائيلي الداخلي.
8 كانون الثاني، يناير 2011 حسن ملاط
كان للحديث الذي أدلى به الرئيس سعد الحريري لجريدة "الحياة" اللندنية وقع المفاجأة للكثير من العاملين في الحقل العام اللبناني. فقد كانت المعلومات التي أدلى بها بمثابة هدف سجله في مرمى فريق الثامن من آذار الذي كان يبشر بالإيجابيات في الوقت الذي كان فريق الرابع عشر من آذار يبشر بالسلبيات. ليس هذا فحسب، بل إن أوساط المعارضة كانت لا تتحفظ عن اتهام كل من لا يبشر بما تقوم بالتبشير به. فقد ترك الرئيس الحريري الفريق الآخر يقوم بالتصعيد إلى آخر مدى.. ثم كان الحديث الذي أسال المياه الباردة على تصعيد المعارضة!
ماذا قال الرئيس الحريري؟
مضت مدة وأنا أراقب ما يجري في البلد وطوال هذا الوقت التزمت الصمت من أجل حماية الجهود السعودية - السورية. لكنني من موقع المسؤول والمعني بحماية هذه الجهود، رأيت من واجبي أن أصوب بعض ما سمعته في الأيام الأخيرة من كلام كثير يمس الحقائق السياسية في البلاد ويعرض الجهود السعودية - السورية للتشويش.
الجهود التي تقوم بين المملكة العربية السعودية وسورية هي جهود تتناول عدداً من النقاط لتثبيت الاستقرار في لبنان. وهي ثمرة لمسار أطلقته القمة التي عقدت في بيروت بين خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس بشار الأسد والرئيس ميشال سليمان. ومن هنا لا يجوز لأحد أن يخطئ في تحديد المسار السعودي - السوري. هذا المسار، الذي تم التوصل إليه بفضل حكمة خادم الحرمين الشريفين وبعد نظره وحرصه على لبنان، لا يتحرك على خط واحد خلافاً لما يتم الترويج له، بل في الحقيقة يتطلب خطوات إيجابية عدة لم يقم الطرف الآخر بأي منها حتى الآن.
ثم أضاف:
الخطوات والأجوبة مطلوبة من غيرنا وليس منا. هذا الموضوع أنجز منذ فترة طويلة. ولا يتذرعن أحد بأن خادم الحرمين الشريفين موجود في نيويورك، لأن ما تم الاتفاق عليه حصل قبل شهر من الوعكة الصحية التي ألمت به. وأنا بصراحة أستغرب كل الكلام الذي يصدر في هذا الصدد سواء عن معرفة أم عدم معرفة. فإذا كان عن عدم معرفة، فتلك مصيبة، وإذا كان عن معرفة فالمصيبة أكبر. الجهود السعودية - السورية وصلت إلى نتائج محددة منذ أشهر عدة، وهي سابقة لانتقال خادم الحرمين الشريفين للعلاج في نيويورك.
لقد قال الرئيس الحريري نصف الحقيقة، حيث أنه لم يقل أنه خلال النقاشات التي كانت تجري بين الطرف السوري والسعودي كانت الإدارة الأمريكية تتدخل باستمرار مع الجانب السعودي حتى تمنع إمكانية الوصول إلى إتفاق يمنع إمكانية تفجير الساحة الداخلية اللبنانية. وهذا ما قامت به السيدة كلنتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، وموظفوها الأقل رتبة مثال فلتمان وغيره. وهي لا تزال حتى الآن تقوم بتخريب المساعي المشتركة للرئيس بشار الأسد والملك عبد الله بن عبد العزيز.
"ومن واشنطن أفاد مراسل "النهار" هشام ملحم أن مسؤولاً أميركياً بارزاً أعرب قبل ساعات من لقاء الوزيرة كلينتون الرئيس الحريري في نيويورك، عن قلق حكومته مما وصفه بـ"محاولات الابتزاز السياسي التي يقوم بها حزب الله الذي يقول للحكومة وسائر اللبنانيين: اذا لم تفعلوا ما نريده في شأن المحكمة الخاصة فاننا سنحرق البيت بمن فيه". وأضاف المسؤول أن النقاش سيتطرق الى المضاعفات التي يمكن ان تبرز عقب القرار الاتهامي. وقال المسؤول الأميركي البارز لـ"النهار" أن كلينتون ستؤكد للحريري "التزام الولايات المتحدة القوي لاستقلال لبنان وسيادته، كما ستكرر دعمنا للجهود القضائية الرامية الى انهاء حقبة الاغتيالات السياسية في لبنان". وبعدما ذكّر المسؤول بأن اللبنانيين عانوا الكثير من سفك الدماء، رأى ان المحكمة الخاصة "هي وسيلة لانهاء حقبة الاغتيالات السياسية التي طاولت مختلف الفئات اللبنانية. عمل المحكمة لا ينحصر فقط بمعاقبة قتلة الحريري ورفاقه ومن طاولهم الاغتيال لاحقاً، لانها يفترض أن تعطي لبنان القدرة على فتح صفحة جديدة". وأخيراً أعرب عن عدم رضاه عن المفاوضات السورية السعودية بإنكاره لمثل هذه الجهود: وعما قيل عن وجود اتفاق سعودي - سوري غير معلن، تساءل المسؤول: "اذا كان هناك اتفاق سعودي - سوري، لماذا يبقى سرياً؟". وقال: "نحن مقتنعون بجدية الجهود السعودية وصدقيتها، والمملكة تلعب دوراً ايجابياً في لبنان". لكنه أضاف بنبرة عكست مشاعر الاحباط التي يعكسها عادة المسؤولون الاميركيون عندما يتحدثون عن لبنان: في نهاية المطاف على القيادات اللبنانية ان تقرر بنفسها ما هي مصلحة لبنان".
إن كلام المسؤول الأمريكي يعكس مدى إصرار واشنطن على عرقلة الجهود السورية السعودية. وهذا ما قامت به كلنتون عند لقائها العاهل السعودي ورئيس الحكومة اللبنانية. قالت جريدة "النهار" اللبنانية: اللقاء الذي جمع في الساعات الاخيرة في نيويورك العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز ووزيرة خارجية الولايات المتحدة هيلاري كلينتون، والذي تلاه فجر اليوم بتوقيت بيروت لقاء لكلينتون ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري الذي يستعد للاجتماع مع الملك عبدالله للمرة الثانية خلال عشرة ايام، دفع الملف اللبناني الى مرتبة متقدمة من الاهتمام الدولي، الأمر الذي يوحي بتطورات مرتقبة ستتضح معالمها قريباً وستظهر نتائجها داخلياً حيث احدثت آخر مواقف الرئيس الحريري اختراقاً في الجمود المطبق على البلاد منذ اسابيع.
ما هي هذه الإنعكاسات؟
سوف تقوم الجهود الأمريكية بإعادة الأوضاع في لبنان إلى المربع الأول. والجهود الأمريكية سوف تضع الفيتو على جميع التقدم التي أحرزته الجهود التي قام بها الرئيس بشار الأسد والملك عبد الله. وهذا ما سيعيد الأوضاع اللبنانية إلى المربع الأول، حيث لا إمكانية إلى إيجاد نقاط مشتركة يتفق عليها الرئيس الحريري وحزب الله. ذلك أن الإدارة الأمريكية تقوم بعرقلة هذه الجهود حيث أن ما تراهن عليه هذه الإدارة هو تفجير الأوضاع في لبنان لصالح العدو الإسرائيلي.
إن هذا التدخل الأمريكي السافر سوف يعيد الألق إلى التصريح الذي أدلى به السيد الخامنائي عن المحكمة الدولية والذي قال فيه أن كل ما يصدر عن المحكمة الدولية فهو باطل،والذي لم يكن الدافع له إلا ما تقوم به الإدارة الأمريكية من عرقلة للجهود السورية السعودية، هذه الجهود من أجل منع أي تدهور للأوضاع الداخلية في لبنان. وهذا ما سوف يؤجل اي إمكانية للحل إلى ما بعد اللقاء الإيراني الأمريكي في تركيا أواسط هذا الشهر.
صحيح أن ردود الأفعال المعارضة على الرئيس الحريري اتسمت بالهدوء، ولكن ما لا يمكن لحزب الله ومؤيدي المقاومة التنازل عنه هو إلغاء مفاعيل القرار الظني للمحكمة الدولية المسيسة بفضل الجهود الأمريكية. فرد الفعل الأول كان للرئيس نبيه بري: سجل الرئيس بري، الذي تلقى اتصالاً هاتفياً من الحريري قبل ادلاء الاخير بحديثه الصحافي، في بيان "ايجابية الاعتراف (من الحريري) بنتائج المبادرة السعودية – السورية"، لكنه أسف "لمحاولات رمي المسؤولية على طرف آخر". وأضاف: "ان الفريق المطلوب منه موقف بهذا الخصوص معلوم وبالتأكيد ليس المعارضة".
أما الوزير محمد فنيش (حزب الله): اعتبر وزير التنمية الادارية محمد فنيش أن كلام الحريري «يثبت ما كنا نقوله في السابق حول حقيقة وجود هذا المسعى وهذا التقدم الذي وصلنا اليه، على عكس ما كان يقوله بعض الفرقاء الذين كانوا ينفون في كل مرة هذا الكلام من خلال التصريحات الدائمة».
وقال في حديث لموقع «14 آذار» الالكتروني، ان «الحريري هو المخول الوحيد في توضيح التأخير الذي يحول دون البدء بتنفيذ هذا المسعى كونه مطلعاً أكثر، وعلى علم بمضامين الاتفاق المنجز».
وقال حول «التشويش» الذي تطرق اليه الحريري في كلامه، ان «على الرئيس الحريري توضيح أشكال التشويش التي كان يتعرض لها المسعى.
ونائب الأمين العام لحزب الله أدلى بما يلي: في قناعتنا توجد معطيات راجحة لمصلحة التسوية ونحن ندفع في اتجاه هذا الحل لأنه افضل للجميع، ولكن في الاتفاقات لا توجد نجاحات بنسبة 80 او 90 في المئة، بل اما ان تنجز واما لا تنجز، يعني اما ابيض واما اسود. وإذا كنا نريد الحديث بصيغة التفاؤل وليس الانجاز نقول ان الاجواء معقولة، ولكن عندما نصل الى الانجاز نقول الله اعلم لأن القوى المؤثرة في القرار النهائي هي التي تملك خيار الانجاز.
وحول المحكمة الدولية قال الشيخ قاسم: لقد ثبت بالدليل القطعي انها محكمة مخصصة لضرب قوى الممانعة والمقاومة من بوابة لبنان وعلى رأسها سوريا وحزب الله, وان فيها من المرونة ما يساعد على توجيهها في اي مسار وفي تغيير مسارها في اي لحظة, والدليل انها سارت بمسار متكامل لمدة اربع سنوات تجاه سوريا ثم بقدرة قادر اخذت مسارا آخر باتجاه حزب الله واقفلت مؤقتا مسار سوريا والضباط الاربعة, فلو كانت محكمة جنائية لكان يمكن ان تنكشف مساراتها في أوقات مبكرة بان يتم اكتشاف مثلا خطأ الدليل بعد شهر او شهرين او ثلاثة, ومن ثم يختارون ادلة اخرى تتبلور اكثر. معنى ذلك ان هناك مرونة داخل المحكمة لاختيار الهدف والتفتيش عن الادلة المفتعلة لهذا الهدف, وهذا هو التسييس بعينه.
ورداً على سؤال عن الفترة الزمنية لبلوغ التسوية النهائية، قال قاسم انه من المفروض الا تكون الفترة الزمنية طويلة, وهي في الواقع متزاحمة نوعا ما مع توقيت القرار الاتهامي بحيث ان صدوره سيجعل مثل هذه المساعي في وضع آخر, وما قبل القرار يختلف عما بعده لذا من مصلحة الجميع الاسراع في بلورة نتيجة التسوية.
ورغم هذا الهدوء في ردود فعل المعارضة نرى فريق الرابع عشر من آذار يريد أن يُدخل ضمن فريق المعارضة سوريا وإيران: وأوضح ركن بارز في قوى 14 آذار لـ"النهار" مفهوم "الطرف الآخر" الذي ورد في حديث الحريري، فقال انه أوسع نطاقاً من "المعارضة" التي انبرى بري للدفاع عنها. وهذا يعني أن هذا المصدر يريد أن يضم إيران وسوريا.
وفرنسا لا تريد أن تخرج من "عرس" الضغوطات على المعارضة الوطنية اللبنانية والمقاومة من دون حصة فقد أفاد مراسل "النهار" في باريس ان مصدراً رئاسياً فرنسياً افاد ان الموضوع اللبناني سيكون على طاولة المحادثات بين الرئيسين ساركوزي وأوباما في واشنطن في العاشر من الجاري. وأوضح "ان لبنان يمر حالياً بفترة من التوترات الداخلية وأن جميع البلدان الصديقة له معنية ولها مصلحة في تخفيف هذا الاحتقان". وأكد "ان المحكمة يجب ان تستمر في عملها وأن يصدر القرار الاتهامي عنها والمطلوب من جميع اللبنانيين تخفيف حدة التوتر".
كيف يريد أن يخفف الإحتقان والتوتر هو ووليه الأمريكي إن كان يصر على إصدار القرار الظني المسيس؟
هذه الهجمة الأمريكية الفرنسية على المبادرة السعودية السورية لا تُجابه إلا بالتضامن الفعلي مع حزب الله والمقاومة من مختلف فئات الشعب اللبناني التي تريد أن يسود السلام والاطمئنان ربوع بلادنا. كما وعلينا مجابهة الضغوط الأمريكية على المبادرة السورية السعودية وذلك بفضح الأهداف الأمريكية التي تريد أن تريح العدو الإسرائيلي من الضغط التي تشكله المقاومة على الوضع الإسرائيلي الداخلي.
8 كانون الثاني، يناير 2011 حسن ملاط
الأحد، 2 يناير 2011
قتال المشركين الجزء الثاني
ثم كانت غزوة "حمراء الأسد". قال ابن هشام: قال: فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، فأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي، فتخلف على أخواتك؛ فتخلفت عليهن.
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بني عبدالأشهل، كان شهد أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحاً، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فأقام بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: كان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين، ومحن به المنافقين، ممن كان يظهر الإيمان بلسانه، وهو مستخف بالكفر في قلبه، ويوماً أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته.
وكان يوم أحد أول هزيمة للمسلمين. ويكفي ما قاله ابن اسحاق فيها.
قال: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام، (عن يوم الرجيع) قال: حدثنا زياد بن عبدالله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عَضَل والقارة.
قال ابن إسحاق: فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً ستة من أصحابه، وهم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، حليف حمزة بن عبدالمطلب؛ وخالد بن البكير الليثي، حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أخو بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس؛ وخبيب بن عدي، أخو بني جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف وزيد بن الدثنة بن معاوية، أخو بني بياضة بن عمرو بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غصب بن جشم بن الخزرج؛ وعبدالله بن طارق، حليف بني ظفر بن الخزرج بن عمرو بن ملاك بن الأوس.
وأمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، فخرج مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لهذيل بناحية الحجاز، على صدور الهدأة غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلاً فلم يرع القوم، وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.
قال ابن إسحاق: وكان مما نزل من القرآن في تلك السرية، كما حدثني مولى لآل زيد ابن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: قال ابن عباس: لما أُصيبت السرية التي كان فيها مرثد وعاصم بالرجيع، قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذي هلكوا، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله تعالى في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر من الخير بالذي أصابهم، فقال سبحانه: " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ": أي لما يُظهر من الإسلام بلسانه، " ويشهد الله على ما في قلبه " وهو مخالف لما يقول بلسانه، " وهو ألد الخصام " أي: ذو جدال إذا كلمك واجعك.
ولعل تجرؤ هؤلاء على المسلمين، ظنهم أن المسلمين قد ضعفوا بعد يوم أحد.
أما بعث بئر معونة فقد كان في صفر سنة أربع: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة - وولي تلك الحجة المشركون والمحرم - ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة في صفر، على رأس أربعة أشهر من أحد.
أما سبب إرسال بعث معونة: "وكان من حديثهم، كما حدثني أبي إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيره من أهل العلم، قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد؛ فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة، المعنق ليموت في أربعين رجلاً من أصحابه، من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع ابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة؛ مولى أبي بكر الصديق، في رجال مسمَّين من خيار المسلمين. فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب.
فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل؛ فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم من عصية ورعل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند أخرهم، يرحمهم الله، إلا كعب بن زيد، أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق الموت، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدًا، رحمه الله.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، أحد بني عمرو بن عوف.
قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح.
قال ابن إسحاق: فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأناً: فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري: لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وماكنت لتخبرني عنه الرجال؛ ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.
فخرج عمرو بن أمية، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر.
قال ابن هشام: ثم من بني كلاب، وذكر أبو عمرو المدني، أنهما من بني سليم.
قال ابن إسحاق: حتى نزلا معه في ظل هو فيه. وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهم حين نزلا، ممن انتما؟ فقالا: من بني عامر فأمهلهما، حتى إذا ناما، عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قتلت قتيلين لأدينهما.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً، فبلغ أبا براء، فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عله وسلم بسببه وجواره؛ وكان فيمن أصيب عامر أبن فهيرة.
إن ما قام به عامر بن الطفيل ما كان ليجرؤ عليه لولا هزيمة يوم أحد.
وسوف نتحدث الآن عن غزوة ذات الرقاع في سنة أربع لهجرة المصطفى عليه السلام. ونبدأ بالاستعداد للغزوة: قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزو بني النضير شهر ربيع الآخر وبعض جمادى، ثم غزا نجداً يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، ويقال: عثمان بن عفان، فيما قال ابن هشام. قال ابن إسحاق: حتى نزل نخلاً، وهي غزوة ذات الرقاع.
أما عن سبب تسميتها بذات الرقاع: قال ابن هشام: وإنما قيل لها غزوة ذات الرقاع، لأنهم رقعوا فيها راياتهم؛ ويقال: ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع، يقال لها: ذات الرقاع.
قال ابن إسحاق: فلقي بها جمعا عظيماً من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف بالناس.
قال ابن إسحاق: وحدثني عمي صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين؛ فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً، أتى زوجها وكان غائباً، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دماً، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منـزلاً، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ قال: فانتدب رجل من المهاجرين، ورجل آخر من الأنصار، فقالا: نحن يارسول الله؛ قال: فكونا بفم الشّعب. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فلما خرج الرجلان إلى فم الشِّعب، قال الأنصاريّ للمهاجريّ أيَّ الليل تحب أن أكفيكه: أوله أم آخره؟ قال: بل اكفني أوله؛ قال: فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي، قال: وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة ( طليعة ) القوم. قال: فرمى بسهم، فوضعه فيه؛ قال: فنـزعه ووضعه، فثبت قائماً؛ قال: ثم رماه بسهم أخر فوضعه فيه. قال: فنـزعه فوضعه وثبت قائماً؛ ثم عاد له بالثالث، فوضعه فيه؛ قال: فنـزعه فوضعه ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أثبتُّ، قال: فوثب فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به، فهرب. قال: ولما رأى المهاجريّ ما بالأنصاريّ من الدماء قال: سبحان الله! أفلا أهببتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع على الرمي ركعت فأذنتك، وايم الله، لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها.
قال ابن هشام : ويقال : أنفذها .
قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة الرقاع، أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجباً.
أما غزوة بدر الآخرة فكانت في شعبان سنة أربع: قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله عليه الصلاة والسلام، في شعبان إلى بدر، لميعاد أبي سفيان حتى نزله.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبدالله بن أبي ابن سلول الأنصاري.
قال ابن إسحاق: فأقام عليه ثماني ليال ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة، من ناحية الظهران؛ وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجعٌ، فارجعوا، فرجع الناس، فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده، فأتاه مخشي بن عمرو الضمري، وهو الذي كان وادعه على بني ضمرة في غزوة ودان، فقال: يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: نعم، يا أخا بني ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك، قال: لا والله يا محمد، ما لنا بذلك منك من حاجة.
أما غزوة الخندق فكانت في شوال سنة خمس: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس.
فحدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير بن عروة بن الزبير، ومن لا أتهم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزُّهري، وعاصم بن عمر بن قَتادة، وعبدالله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق، وبعضهم يحدث ما لا يحدث به بعض، قالوا: إنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود، منهم: سلاّم ابن أبي الحقيق النَّضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحُقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النَّضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله؛ فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصحبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فإن تجد له نصيراً" إلى قوله تعالى "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" : أي النبوة، " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً. فمنهم من آمن به، ومنهم من صُدَّ عنه، وكفى بجهنم سعيراً".
قال: فلما قالوا ذلك لقريش، سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه، من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود، حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه.
قال ابن إسحاق: فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه، ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورُّون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له، فإذ قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتساباً له.
وهذا ما نزل من القرآن في حق العاملين في الخندق مؤمنهم ومنافقهم، حسب ابن هشام: فأنزل الله تعالى في أولئك من المؤمنين "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه. إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم". فنزلت هذه الآية فيمن كان من المسلمين من أهل الحسبة والرغبة في الخير والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النبي صلى الله عليه وسلم "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كذعاء بعضكم بعضاً قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم".
وكان المسلمون يرتجزون وهم يعملون في حفر الخندق: قال ابن إسحاق: وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جعيل، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً، فقالوا:
سماه من بعد جعيل عمراً * وكان للبائس يوماً ظهراً.
فإذا مروا "بعمرو" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمراً، وإذا مروا "بظهر" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهراً.
ومن المعجزات التي ظهرت في حفر الخندق: قال ابن إسحاق: وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتني، فيها من الله تعالى عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقيق نبوّته، عاين ذلك المسلمون. فكان مما بلغني أن جابر بن عبدالله كان يحُدث: أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه؛ ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية؛ فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق نبياً، لانهالت حتى عادت كالكثيب، لا تردّ فأساً ولا مِسحاة.
وكان استشراف المستقبل: بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتوح. قال ابن إسحاق: وحُدثت عن سلمان الفارسي، أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغَلُظت علي صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني؛ فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة؛ قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى؛ قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال : أو قد رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: قلت: نعم؛ قال: أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن؛ وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب؛ وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وزمان عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
ثم كان وصول المشركين المدينة. قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمي، إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام.
قال: وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه؛ فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما؛ فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبدالله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى ( ضيافة ) أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
وهناك من حاول عبور الخندق من المشركين: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وعدوهم محاصروهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس، أخو بني عامر بن لؤي. قال ابن هشام: ويقال عمرو بن عبد بن أبي قيس.
قال ابن إسحاق: وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، وضرار بن الخطاب الشاعر ابن مرداس، أخو بني محارب بن فهر، تلبسوا للقتال، ثم خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم. ثم أقبلوا تُعْنِق بهم خيلهم، حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
قال ابن هشام: يقال: إن سلمان الفارسي أشار به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني بعض أهل العلم: أن المهاجرين يوم الخندق قالوا: سلمان منا؛ وقالت الأنصار: سلمان منا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت.
قال ابن إسحاق: ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب عليه السلام في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تُعْنِق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد؛ فلما كان يوم الخندق خرج مُعْلِماً ليرى مكانه. فلما وقف هو وخيله، قال: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب، فقال له: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خَلَّتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل؛ قال له علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله، وإلى الإسلام؛ قال: لا حاجة لي بذلك؛ قال: فإني أدعوك إلى النـزال؛ فقال له: لم يابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك؛ فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه، فعقره، وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه. وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبني قريظة: هم لا ينصرون.
ومن الأساليب التي استخدمها المسلمون في الحرب ما قام به نُعيم المشركين من خداع المشركين: قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
قال: ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم؛ فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحَولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأمواله ونسائهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهَزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رُهُناً من أشرافهم، يكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه؛ فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقاً أن أبلغكموه، نصحاً لكم، فاكتموا عني؛ فقالوا: نفعل؛ قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه إنَّا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم؛ قال: فاكتموا عني؛ قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل، في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، ونفرغ مما بيننا وبينه؛ فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا؛ فقالت بنو قريظة: حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم. وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً؛ فأبوا عليهم، وخذَّل الله بينهم، وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنتيهم.
قال: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم، لينظر ما فعل القوم ليلاً.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبدالله، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم، يابن أخي؛ قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال والله لقد كنا نجهد؛ قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
قال: فقال حذيفة: يابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل ، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع - يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل مع القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا، قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان.
ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل.
ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقالة إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أن لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم.
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي، في مرط لبعض نسائه مراجل.
قال ابن هشام: المراجل ضرب من وشي اليمن.
فلما رآني، أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد، وإني لقيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
قال ابن إسحاق: ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة والمسلمون، ووضعوا السلاح.
وهذا ما نزل من القرآن في الخندق وبني قريظة، على ما يقول ابن هشام: قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى في أمر الخندق، وأمر بني قريظة (اليهود الذين قاتلهم رسول الله عليه السلام) من القرآن، القصة في الأحزاب، يذكر فيها ما نزل من البلاء، ونعمته عليهم، وكفايته إياهم حين فرج ذلك عنهم، بعد مقالة من قال من أهل النفاق: ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراً ). والجنود: قريش وغطفان وبنو قريظة، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة.
يقول الله تعالى: ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا ). فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان.
يقول الله تبارك وتعالى: ( هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسلوه إلا غروراً ) لقول معتِّب بن قشير إذ يقول ما قال.
( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً ) لقول أوس بن قيظي ومن كان على رأيه من قومه ( ولو دُخلت عليهم من أقطارها ): أي المدينة .
وهذه بشرى أخرى أدلى بها الرسول للمسلمين بأنهم هم من يقومون بغزو قريش، وأن قريش لن تغزوهم أبداً. قال ابن هشام: ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني: لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم. فلم تغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو الذي يغزوها، حتى فتح الله عليه مكة.
وجاءت بعد الخندق غزوة بني لحيان. قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام، قال: حدثني زيد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفراً وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح قريظة، إلى بني لحيان يطالب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ليصيب من القوم غِرَّة.
فخرج من المدينة صلى الله عليه وسلم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فسلك على غُراب، جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام، ثم على محيص، ثم على البتراء، ثم صفَّق ذات اليسار، فخرج على بِيْن، ثم على صخيرات اليمام، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، فأغذّ السير سريعاً، حتى نزل على غُرّان، و هي منازل بني لحيان، وغران واد بين أمج وعسفان، إلى بلد يقال له: ساية، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال.
فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخطأه من غرتهم ما أراد، قال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة، فخرج في مئتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كُراع الغميم، ثم كر وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً.
فكان جابر بن عبدالله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين وجه راجعاً: آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال.
إن أهم ما في هذا الخروج من دلالة هو إمتلاك المسلمين للمبادرة من الأعداء التي تمكنوا من الحصول عليها بعد هزيمة أحد. ولكن انتصار الخندق والإنتصار الحاسم على بني قريظة قد أعطى المسلمين الثقة بالنفس وأعاد إليهم التوازن الذي أوجده إنتصار بدر. لذلك نراهم يعودون إلى المطالبة بحقوقهم من أولئك الذين اغتصبوها، أمصال عامر بن الطفيل وغيره.
وتأتي غزوة ذي قرد لتأديب ابن حصن الذي أغار على لقاح الرسول. قال ابن هشام: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يُقم بها إلا ليالي قلائل، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، في خيل من غطفان على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، وفيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الرجل، واحتملوا المرأة في اللِّقاح.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر، ومن لا أتهم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، كل قد حدث في غزوة ذي قَرَد بعض الحديث: أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، غدا يريد الغابة متوشحاً قوسه ونبله، ومعه غلام لطلحة بن عبدالله معه فرس له يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم، فاشرف في ناحية سلع، ثم صرخ: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، و كان مثل السبع حتى لحق القوم، فجعل يردهم بالنبل، ويقول إذا رمى: خذها وأنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرُّضَّع، فإذا وُجِّهت الخيل نحوه انطلق هارباً، ثم عارضهم، فإذا أمكنه الرمي رمى، ثم قال: خذها وأنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرضع، قال: فيقول قائلهم: أُوَيْكعنا هو أول النهار.
قال: وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صياحُ ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة الفزع الفزع، فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أول من انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان: المقداد بن عمرو، وهو الذي يقال له: المقداد بن الأسود، حليف بني زهرة؛ ثم كان أول فارس وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المقداد من الأنصار، عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء، أحد بني عبدالأشهل؛ وسعد بن زيد، أحد بني كعب بن عبدالأشهل؛ وأسيد بن ظُهير، أخو بني حارثة بن الحارث، يشك فيه؛ وعُكَّاشة بن محصن، أخو بني أسد بني خزيمة؛ ومحُرز بن نضلة، أخو بني أسد بن خزيمة؛ وأبو قتادة الحارث بن ربعي، أخو بني سلمة؛ وأبو عياش، وهو عبيد بن زيد بن الصامت، أخو بني زريق.
فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليهم سعد بن زيد، فيما بلغني، ثم قال: اخرج في طلب القوم، حتى ألحقك في الناس.
إن أهم ما في هذا الخروج هو أنه ما أن تطاول أحدهم على المسلمين حتى بادروا إلى تأديبه، بعد أن رفع المعنويات إنهزام قريش وغطفان وحلفاؤهم من يهود يوم الخندق ومن ثم تصفية بني قريظة. فبعد "أحد" تطاول عامر بن الطفيل ولم يتمكن المسلمون من الرد الصاعق كما فعلوا مع عيينة بن حصن. وما يزيد من أهمية هذا الخروج الفوري لفارس واحد لم يهب غطفان مع أنها من القبائل المهابة الجانب لقوتها.
أما غزوة بني المصطلق فكانت في شعبان سنة ست من الهجرة. قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجباً، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري؛ ويقال: نميلة ابن عبدالله الليثي.
أما سبب غزو الرسول لهم فقد قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم، حتى لقيهم على ماء لهم، يقال له: المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم عليه.
قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول الله صلى اله عليه وسلم من وجهه ذلك قافلاً، حتى إذا كان بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح: ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطاً مستقيماً ).
ثم كانت القصة فيه وفي أصحابه، حتى انتهى من ذكر البيعة، فقال جل ثناؤه: ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً ).
ثم ذكر من تخلف عنه من الأعراب، ثم قال حين استفزهم للخروج معه فأبطئوا عليه: ( سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا ). ثم القصة عن خبرهم، حتى انتهى إلى قوله: ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم، يريدون أن يبدلوا كلام الله، قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ). ثم القصة عن خبرهم وما عرض عليهم من جهاد القوم أولي البأس الشديد.
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: فارس.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن الزهري أنه قال: أولوا البأس الشديد حنيفة مع الكذاب.
ثم قال تعالى: ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحاً قريباً. ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان الله عزيراً حكيماً. وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه، وكف أيدي الناس عنكم، ولتكون آية للمؤمنين ويهيدكم صراطاً مستقيماً. وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها، وكان الله على كل شيء قديراً ).
ثم ذكر محبسه وكفه إياه عن القتال، بعد الظفر منه بهم، يعني: النفر الذين أصاب منهم وكفهم عنه، ثم قال تعالى: ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم، وكان الله بما تعملون بصيراً ). ثم قال تعالى: ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ).
ثم كانت غزوة خيبر وبعدها جاء ذكر غزوة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان ومقتل جعفر وزيد وعبدالله بن رواحة. قال ابن إسحاق: فأقام بها بقية ذي الحجة، وولي تلك الحجة المشركون، والمحرم وصفراً وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبدالله ابن رواحة على الناس. ثم مضوا حتى نزلوا معان، في أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب، من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلى ثم أحد إراشة، يقال له: مالك بن زافلة.
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له.
قال: فشجع الناس عبدالله بن رواحة، وقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون، للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة.
قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. فمضى الناس.
قال ابن إسحاق: فمضى الناس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل، من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لها المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له: عباية بن مالك.
قال ابن هشام: ويقال: عبادة بن مالك.
قال ابن إسحاق: ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء، فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل. فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام.
وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارداً شرابها
والروم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها
علي إذا لاقيتها ضرابها *
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم: أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال: إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة، فقطعه بنصفين.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، قال: فلما قتل جعفر أخذ عبدالله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه * ما لي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنه
وقال أيضاً:
يا نفس إلا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت
يريد صاحبيه: زيداً وجعفراً؛ ثم نزل فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.
ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل.
فاصطلح الناس على خالد بن الوليد؛ فلما أخذ الراية دافع القوم، وحاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس.
قال ابن إسحاق: ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً؛ ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً؛ قال: ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً.
ثم قال: لقد رفعوا إلى الجنة، فيما يرى النائم، على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبدالله بعض التردد، ثم مضى.
الرسول يلتقي بالأبطال: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال: لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون.
قال: ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر. فأتي بعبدالله فأخذه فحمله بين يديه.
قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله! قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، عن عامر بن عبدالله بن الزبير، عن بعض آل الحارث بن هشام: وهم أخواله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين؟
قالت: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس يا فرار، فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته فما خرج.
إن ألطف ما يراه الباحث في هذه المعركة هو تلك الروح الشوروية التي يتمسك بها المسلمون الذين تربوا في كنف النبوة. فقد اجتمعوا وتباحثوا بما سوف يقومون به للقاء العدو، لا فرق بين الأمير والمقاتلين العاديين، فجميعاً إخوة، لاميزة لأحد على آخر إلا بالتقوى. ومن يحكم على التقوى هو الله تبارك وتعالى. فهم متساوون إذن. وبعد أن استشهد من عينهم النبي عليه السلام كأمراء للجند، تشاوروا مجدداً ليروا من يتسلم القيادة. وقد أعطوها لمن يملك التجربة القتالية. وعندما عادوا إلى المدينة، واستنكر البعض عودتهم، بالرغم من تقريظ الرسول عليه السلام لهم، وذلك بتسميتهم الكرار، نرى تواضعهم بعدم الرد على من انتقدهم رغم معاناتهم في قتالهم للعدو.
ويأتي الآن الحديث عن فتح مكة. فقد ذكر ابن هشام الأسباب الموجبة للسير إلى مكة وذكر فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان. قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجباً.
ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير، وكان الذي هاج ما بين بني بكر وخزاعة أن رجلاً من بني الحضرمي، واسمه مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة، عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله.
فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزان الديلي - وهم منخر بني كنانة وأشرافهم - سلمى وكلثوم وذؤيب - فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من بني الديل، قال: كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودي دية دية، لفضلهم فينا.
قال ابن إسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به. فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم.
كما حدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وغيرهم من علمائنا: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
قال ابن إسحاق: فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل، وهو يومئذ قائدهم، وليس كل بني بكر تابعه حتى بيت خزاعة وهم على الوتير، ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً، وتحاوزوا واقتتلوا.
ورفدت بني بكر قريش بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه، قالت بنو بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال: كلمة عظيمة، لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؛ وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلاً، يقال له: منبه.
وكان منبه رجلاً مفؤداً خرج هو ورجل من قومه يقال له: تميم بن أسد، وقال له منبه: يا تميم انج بنفسك، فأما أنا فوالله إني لميت، قتلوني أو تركوني، لقد أنبت فؤادي، وانطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبهاً فقتلوه، فلما دخلت خزاعة مكة، لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء، ودار مولى لهم يقال له: رافع فقال تميم بن أسد يعتذر من فراره من منبه.
عندها قامت خزاعة تستنجد بالرسول: قال ابن إسحاق: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعى، ثم أحد بني كعب، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس.
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة.
ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليشد العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذين صنعوا.
فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: تسيرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي؛ قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا؛ فلما راح بديل إلى مكة، قال أبو سفيان: لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه؛ فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر.
ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وعندها حسن بن علي، غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، فاشفع لي إلى رسول الله؛ فقال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة، فقال: يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني؛ قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك؛ قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله، ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس إني أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو
قال ابن هشام: أعدى العدو.
قال ابن إسحاق: ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت؛ قالوا: فهل أجاز لك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: أي بنية: أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟
قالت: نعم فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فتجهز الناس.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم. ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبدالمطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به.
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخرجا حتى أدركاها بالخليقة، خليقة بني أبي أحمد، فاستنزلاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئاً.
فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه. فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال: يا حاطب ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم.
فأنزل الله تعالى في حاطب: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) إلى قوله: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) . . . إلى آخر القصة.
ثم كان خروج الرسول إلى مكة: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن عبدالله بن عباس، قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد، بين عسفان وأمج أفطر.
قال ابن إسحاق: ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبعت سليم، وبعضهم يقول ألفت سليم، وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلم يأتهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولايدرون ما هو فاعل.
وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به، وقد كان العباس بن عبدالمطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق. قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، فيما ذكر ابن شهاب الزهري.
قال ابن إسحاق: وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بنيق العقاب، فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك وابن عمتك وصهرك؛ قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال.
قال: فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بني له. فقال: والله ليأذنن لي أو لأخذن بيدي بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً؛ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه، فأسلما.
وكان أبو سفيان بن حرب قد وصل إلى حيث رسول الله عليه السلام، وكان برفقة العباس بن عبد المطلب. قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال (أبو سفيان): يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء.
قال ابن هشام: وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها.
قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار، رضي الله عنهم، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله: يا عباس من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة؛ والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن.
قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ قالوا: قاتلك الله! وما تغنى عنا دارك؛ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حبرة حمراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وحنين والطائف، شعار المهاجرين: يا بني عبدالرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبدالله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها.
يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ... الآية كلها.
ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
أما عن عدة من فتح مكة: قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف. من بني سليم سبع مائة. ويقول بعضهم: ألف؛ ومن بني غفار: أربع مائة، ومن أسلم: أربع مائة، ومن مزينة: ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.
صدق الله تبارك وتعالى وعده رسوله. وكان الفتح نتيجة نصر الله المؤمنين الذين التزموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. لقد قادهم النبي عليه السلام إلى النصر المؤزر وهو يعلمهم كيفية التزام السنن الإلهية بالنصر. لقد جاءتهم البشرى بالنصر منذ صلح الحديبية الذي أجبر المشركين على الإعتراف بالمسلمين ككيان مستقل عن غيره من الكيانات الموجودة في جزيرة العرب.
ثم جاءت غزوة حنين في سنة ثمان بعد الفتح. قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة، جمعها مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغاب عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم.
وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً مجرباً، وفي ثقيف سيدان لهم، في الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري.
فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به.
فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك ودعي له، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال: ولم ذاك؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله، ليقاتل عنهم، قال: فأنقض به، ثم قال: راعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.
ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحد والجد، ولو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر، لا ينفعان ولا يضران؛ يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق الصباء على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك.
قال: والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت وكبر عقلك. والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي؛ فقالوا: أطعناك؛ فقال دريد بن الصمة: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.
فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً له وسلاحاً، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك. فقال: يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غداً، فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ قال: بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك؛ قال: ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى اله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها، ففعل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحداراً، قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين، لا يلوي أحد على أحد. وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمن، ثم قال: أين أيها الناس؟ هلموا إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبدالله. قال: فلا شيء، حملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس، إلا أنه قد بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.
من ثبت معه صلى الله عليه وسلم: وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبدالمطلب، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه، والفضل بن العباس، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، قتل يومئذ. قال ابن هشام: اسم ابن أبي سفيان بن الحارث جعفر، واسم أبي سفيان المغيرة؛ وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس، ولا يعد ابن أبي سفيان.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: ورجل من هوزان على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح له طويل، أمام هوازن، وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه.
قال ابن هشام: أبو سفيان بن حرب وبعض الناس يشمت بالمسلمين: قال ابن إسحاق: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن.
وهذا شيبة بن طلحة يحاول قتل الرسول صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بني عبدالدار، قلت: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال: فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤداي، فلم أطق ذاك، وعلمت أنه ممنوع مني.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل مكة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين فصل من مكة إلى حنين، ورأى كثرة من معه من جنود الله: لن نغلب اليوم من قلة.
قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن رجلاً من بني بكر قالها.
وكان النصر للمسلمين في نهاية المطاف: قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس بن عبدالمطلب، قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها، قال: وكنت امرأ جسيماً شديد الصوت. قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس: أين أيها الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شيء، فقال: يا عباس، اصرخ يا معشر الأنصار: يا معشر أصحاب السمرة، قال: فأجابوا: لبيك لبيك! قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه؛ ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة، استقبلوا الناس، فاقتتلوا، وكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار. ثم خلصت أخيراً: يا للخزرج. وكانوا صبراً عند الحرب، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه. فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال: الآن حمي الوطيس. قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: بينا ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع، إذ هوى له علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ورجل من الأنصار يريدانه، قال: فيأتيه علي بن أبي طالب من خلفه، فضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل، فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فانجعف عن رحله، قال: واجتلد الناس، فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان ممن صبر يومئذ مع رسول اله صلى الله عليه وسلم، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو أخذ بثفر بغلته، فقال: من هذا؟ قال: أنا ابن أمك يا رسول الله.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التفت فرأى أم سليم بنت ملحان: وكانت مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببرد لها، وإنها لحامل بعبدالله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة، وقد خشيت أن يعزها الجمل، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في حزامته مع الخطام، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم سليم؟ قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو يكفي الله يا أم سليم؟ قال: ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به قال: يقول أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم الرميصاء.
قال ابن إسحاق: فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بني مالك، فقتل منهم سبعون رجلاً تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبدالله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب، وكانت رايتهم مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبدالله، فقاتل بها حتى قتل.
لقد كان صمود النبي عليه السلام والقلة القليلة من المسلمين، هو الذي أدى إلى إعادة الثقة بالنفس من قبل المسلمين. وهذا ما جعاهم يعودون إلى ميدان القتال حيث ينتظرهم النبي عليه السلام، يستجيب لأمر الله بقتال المشركين كافة، كما يقاتلون المسلمين كافة.
ثم كانت غزوة الطائف بعد حنين في سنة ثمان.
ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال. و لم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود، ولا غيدن بن سلمة، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور.
قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية، فابتنى بها مسجداً فصلى فيه.
قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب: أنه أقاد يومئذ ببحرة الرغاء، حين نزلها، بدم، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، رجل من بني ليث قتل رجلاً من هذيل، فقتلته به.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بلية، بحصن مالك بن عوف فهدم، ثم سلك في طريق يقال لها الضيقة، فلما توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن اسمها، فقال: ما اسم هذه الطريق؟ فقيل له: الضيقة، فقال: بل هي اليسرى، ثم خرج منها على نخب، حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة: قريباً من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن تخرج، وإما أن نخرب عليك حائطك؛ فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخرابه.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريباً من الطائف، فضرب به عسكره، فقتل به ناس من أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف، وكانت النبل تنالهم، ولم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطهم، أغلقوه دونهم؛ فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل وضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم، فحصرهم بضعاً وعشرين ليلة. قال ابن هشام: ويقال: سبع عشرة ليلة. قال ابن إسحاق: ومعه امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية، فضرب لهما قبتين، ثم صلى بين القبتين.
ثم أقام، فلما أسلمت ثقيف بني على مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية بن وهب بن معتب ابن مالك مسجداً، وكانت في ذلك المسجد سارية، في ما يزعمون، لا تطلع الشمس عليها يوماً من الدهر إلا سمع لها نقيض، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم قتالاً شديداً وتراموا بالنبل.
قال ابن هشام: ورماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق. حدثني من أثق به، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق، رمى أهل الطائف.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة، ثم زحفوا إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتلوا منهم رجالاً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناس فيها يقطعون.
وجد الأنصار من حرمانهم واسترضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ابن هشام: حدثني زياد بن عبدالله، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري قال : لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا، في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.
قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالة بلغني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!
قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ الله ولرسوله المن والفضل.
قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم.
ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.
وكانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع، وهي آخر غزوة غزاها التبي عليه السلام.
قال: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام قال زياد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم. وقد ذكر لنا الزهري ويزيد بن رومان وعبدالله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم من علمائنا، كل حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لا يحدث: بعض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ، وذلك في زمان من عسرة الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة: يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك.
ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ). أي : إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرغبة بنفسه عن نفسه، يقول تعالى: وإن جهنم لمن ورائه.
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: ( وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون ).
قال ابن هشام: وحدثني الثقة عمن حدثه عن محمد بن طلحة بن عبدالرحمن، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبدالله بن حارثة عن أبيه عن جده، قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، وكان بيته عند جاسوم، يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خلفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فافلتوا.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها.
قال ابن هشام: حدثني من أثق به: أن عثمان ابن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أرض عن عثمان فإني عنه راض.
قال ابن إسحاق: ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بن حارثة، وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب، وأخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن حمام بن الجموح، أخو بني سلمة، عبدالله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقول: بل هو عبدالله بن عمرو المزني وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه. فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمر بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبدالرحمن بن كعب وعبدالله بن مغفل وهما يبكيان، فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه؛ فأعطاهما ناضجاً له فارتحلاه، وزودهما شيئاً من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وجاءه المعذرون من الأعراب، فاعتذروا إليه فلم يعذرهم الله تعالى، وقد ذكر لي أنهم نفر من بني غفار.
ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تخلفوا عنه عن غير شك ولا ارتياب؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب، أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع، أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، أخو بن واقف، وأبو خيثمة، أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق، لا يتهمون في إسلامهم.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري.
وذكر عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة، مخرجه إلى تبوك، سباع بن عرفطة.
قال ابن إسحاق: وضرب عبدالله ابن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين.
فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبدالله بن أبي. فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، إلى أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً له، وتخففاً منه، فلما قال ذلك المنافقون: أخذ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه سلاحه، ثم خرج حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله زعم المنافقون انك إنما خلفتني أنك استثقلتني، وتخففت مني؛ فقال: كذبوا. ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع علي إلى المدينة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي هذه المقالة.
قال ابن إسحاق: ثم رجع (علي) المدينة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
قال ابن إسحاق: قد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع، حليف لبني سلمة، يقال له: مخشن بن حمير. قال ابن هشام: ويقال مخشي - يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً! والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال مخشن بن حمير: والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر: أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته، فجعل يقول وهو أخذ بحقبها: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب؛ فأنزل الله عز وجل: ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ). وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي، وكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشن بن حمير، فتسمى عبدالرحمن، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة، صاحب أيلة، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم كتاباً فهو عندهم.
وآخر بعث كان بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين. قال ابن إسحاق: ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وضرب على الناس بعثاً إلى الشام، وأمر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون.
ولكن كانت منية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إنفاذ بعث أسامة.
خلاصة:
1 - المتابع لسيرة المصطفى عليه السلام يلاحظ بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاهد المشركين وقاتلهم منذ نزل أمر الله تبارك وتعالى حتى آخر رمق في حياته العامرة، وذلك بالطلب من المسلمين بإنفاذ بعث أسامة بن زيد وهو على فراش الموت.
2 – لقد كانت وتيرة الغزوات والسرايا متسارعة بشكل لا يترك للأعداء فرصة للراحة، ولا لأخذ الأنفاس.
3 – كما أن وتيرة الغزوات والسرايا تؤكد أن النبي عليه السلام والمسلمين لم يكونوا يملكون وقتاً للراحة منذ نزل أمر الله بقتال المشركين.
4 – استعارة الدروع من أحد المشركين في غزوة حنين.
5 – توزيع الأموال على المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين، وقد أصبح هؤلاء حكام المسلمين من دون السابقين.
6 – قبول الأنصار بأن يفوزوا برسول الله عليه السلام من دون أموال هوازن.
7 – المحافظة على استشارة الناس كما حصل في بدر الكبرى وأحد ومؤتة...
حسن ملاط
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بني عبدالأشهل، كان شهد أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحاً، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فأقام بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: كان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين، ومحن به المنافقين، ممن كان يظهر الإيمان بلسانه، وهو مستخف بالكفر في قلبه، ويوماً أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته.
وكان يوم أحد أول هزيمة للمسلمين. ويكفي ما قاله ابن اسحاق فيها.
قال: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام، (عن يوم الرجيع) قال: حدثنا زياد بن عبدالله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عَضَل والقارة.
قال ابن إسحاق: فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً ستة من أصحابه، وهم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، حليف حمزة بن عبدالمطلب؛ وخالد بن البكير الليثي، حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أخو بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس؛ وخبيب بن عدي، أخو بني جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف وزيد بن الدثنة بن معاوية، أخو بني بياضة بن عمرو بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غصب بن جشم بن الخزرج؛ وعبدالله بن طارق، حليف بني ظفر بن الخزرج بن عمرو بن ملاك بن الأوس.
وأمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، فخرج مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لهذيل بناحية الحجاز، على صدور الهدأة غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلاً فلم يرع القوم، وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.
قال ابن إسحاق: وكان مما نزل من القرآن في تلك السرية، كما حدثني مولى لآل زيد ابن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: قال ابن عباس: لما أُصيبت السرية التي كان فيها مرثد وعاصم بالرجيع، قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذي هلكوا، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله تعالى في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر من الخير بالذي أصابهم، فقال سبحانه: " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ": أي لما يُظهر من الإسلام بلسانه، " ويشهد الله على ما في قلبه " وهو مخالف لما يقول بلسانه، " وهو ألد الخصام " أي: ذو جدال إذا كلمك واجعك.
ولعل تجرؤ هؤلاء على المسلمين، ظنهم أن المسلمين قد ضعفوا بعد يوم أحد.
أما بعث بئر معونة فقد كان في صفر سنة أربع: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة - وولي تلك الحجة المشركون والمحرم - ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة في صفر، على رأس أربعة أشهر من أحد.
أما سبب إرسال بعث معونة: "وكان من حديثهم، كما حدثني أبي إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيره من أهل العلم، قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد؛ فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة، المعنق ليموت في أربعين رجلاً من أصحابه، من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع ابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة؛ مولى أبي بكر الصديق، في رجال مسمَّين من خيار المسلمين. فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب.
فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل؛ فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم من عصية ورعل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند أخرهم، يرحمهم الله، إلا كعب بن زيد، أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق الموت، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدًا، رحمه الله.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، أحد بني عمرو بن عوف.
قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح.
قال ابن إسحاق: فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأناً: فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري: لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وماكنت لتخبرني عنه الرجال؛ ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.
فخرج عمرو بن أمية، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر.
قال ابن هشام: ثم من بني كلاب، وذكر أبو عمرو المدني، أنهما من بني سليم.
قال ابن إسحاق: حتى نزلا معه في ظل هو فيه. وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهم حين نزلا، ممن انتما؟ فقالا: من بني عامر فأمهلهما، حتى إذا ناما، عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قتلت قتيلين لأدينهما.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً، فبلغ أبا براء، فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عله وسلم بسببه وجواره؛ وكان فيمن أصيب عامر أبن فهيرة.
إن ما قام به عامر بن الطفيل ما كان ليجرؤ عليه لولا هزيمة يوم أحد.
وسوف نتحدث الآن عن غزوة ذات الرقاع في سنة أربع لهجرة المصطفى عليه السلام. ونبدأ بالاستعداد للغزوة: قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزو بني النضير شهر ربيع الآخر وبعض جمادى، ثم غزا نجداً يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، ويقال: عثمان بن عفان، فيما قال ابن هشام. قال ابن إسحاق: حتى نزل نخلاً، وهي غزوة ذات الرقاع.
أما عن سبب تسميتها بذات الرقاع: قال ابن هشام: وإنما قيل لها غزوة ذات الرقاع، لأنهم رقعوا فيها راياتهم؛ ويقال: ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع، يقال لها: ذات الرقاع.
قال ابن إسحاق: فلقي بها جمعا عظيماً من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف بالناس.
قال ابن إسحاق: وحدثني عمي صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين؛ فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً، أتى زوجها وكان غائباً، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دماً، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منـزلاً، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ قال: فانتدب رجل من المهاجرين، ورجل آخر من الأنصار، فقالا: نحن يارسول الله؛ قال: فكونا بفم الشّعب. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فلما خرج الرجلان إلى فم الشِّعب، قال الأنصاريّ للمهاجريّ أيَّ الليل تحب أن أكفيكه: أوله أم آخره؟ قال: بل اكفني أوله؛ قال: فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي، قال: وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة ( طليعة ) القوم. قال: فرمى بسهم، فوضعه فيه؛ قال: فنـزعه ووضعه، فثبت قائماً؛ قال: ثم رماه بسهم أخر فوضعه فيه. قال: فنـزعه فوضعه وثبت قائماً؛ ثم عاد له بالثالث، فوضعه فيه؛ قال: فنـزعه فوضعه ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أثبتُّ، قال: فوثب فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به، فهرب. قال: ولما رأى المهاجريّ ما بالأنصاريّ من الدماء قال: سبحان الله! أفلا أهببتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع على الرمي ركعت فأذنتك، وايم الله، لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها.
قال ابن هشام : ويقال : أنفذها .
قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة الرقاع، أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجباً.
أما غزوة بدر الآخرة فكانت في شعبان سنة أربع: قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله عليه الصلاة والسلام، في شعبان إلى بدر، لميعاد أبي سفيان حتى نزله.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبدالله بن أبي ابن سلول الأنصاري.
قال ابن إسحاق: فأقام عليه ثماني ليال ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة، من ناحية الظهران؛ وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجعٌ، فارجعوا، فرجع الناس، فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده، فأتاه مخشي بن عمرو الضمري، وهو الذي كان وادعه على بني ضمرة في غزوة ودان، فقال: يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: نعم، يا أخا بني ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك، قال: لا والله يا محمد، ما لنا بذلك منك من حاجة.
أما غزوة الخندق فكانت في شوال سنة خمس: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس.
فحدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير بن عروة بن الزبير، ومن لا أتهم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزُّهري، وعاصم بن عمر بن قَتادة، وعبدالله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق، وبعضهم يحدث ما لا يحدث به بعض، قالوا: إنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود، منهم: سلاّم ابن أبي الحقيق النَّضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحُقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النَّضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله؛ فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصحبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فإن تجد له نصيراً" إلى قوله تعالى "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" : أي النبوة، " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً. فمنهم من آمن به، ومنهم من صُدَّ عنه، وكفى بجهنم سعيراً".
قال: فلما قالوا ذلك لقريش، سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه، من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود، حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه.
قال ابن إسحاق: فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه، ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورُّون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له، فإذ قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتساباً له.
وهذا ما نزل من القرآن في حق العاملين في الخندق مؤمنهم ومنافقهم، حسب ابن هشام: فأنزل الله تعالى في أولئك من المؤمنين "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه. إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم". فنزلت هذه الآية فيمن كان من المسلمين من أهل الحسبة والرغبة في الخير والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النبي صلى الله عليه وسلم "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كذعاء بعضكم بعضاً قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم".
وكان المسلمون يرتجزون وهم يعملون في حفر الخندق: قال ابن إسحاق: وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جعيل، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً، فقالوا:
سماه من بعد جعيل عمراً * وكان للبائس يوماً ظهراً.
فإذا مروا "بعمرو" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمراً، وإذا مروا "بظهر" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهراً.
ومن المعجزات التي ظهرت في حفر الخندق: قال ابن إسحاق: وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتني، فيها من الله تعالى عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقيق نبوّته، عاين ذلك المسلمون. فكان مما بلغني أن جابر بن عبدالله كان يحُدث: أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه؛ ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية؛ فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق نبياً، لانهالت حتى عادت كالكثيب، لا تردّ فأساً ولا مِسحاة.
وكان استشراف المستقبل: بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتوح. قال ابن إسحاق: وحُدثت عن سلمان الفارسي، أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغَلُظت علي صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني؛ فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة؛ قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى؛ قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال : أو قد رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: قلت: نعم؛ قال: أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن؛ وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب؛ وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وزمان عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
ثم كان وصول المشركين المدينة. قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمي، إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام.
قال: وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه؛ فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما؛ فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبدالله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى ( ضيافة ) أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
وهناك من حاول عبور الخندق من المشركين: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وعدوهم محاصروهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس، أخو بني عامر بن لؤي. قال ابن هشام: ويقال عمرو بن عبد بن أبي قيس.
قال ابن إسحاق: وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، وضرار بن الخطاب الشاعر ابن مرداس، أخو بني محارب بن فهر، تلبسوا للقتال، ثم خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم. ثم أقبلوا تُعْنِق بهم خيلهم، حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
قال ابن هشام: يقال: إن سلمان الفارسي أشار به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني بعض أهل العلم: أن المهاجرين يوم الخندق قالوا: سلمان منا؛ وقالت الأنصار: سلمان منا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت.
قال ابن إسحاق: ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب عليه السلام في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تُعْنِق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد؛ فلما كان يوم الخندق خرج مُعْلِماً ليرى مكانه. فلما وقف هو وخيله، قال: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب، فقال له: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خَلَّتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل؛ قال له علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله، وإلى الإسلام؛ قال: لا حاجة لي بذلك؛ قال: فإني أدعوك إلى النـزال؛ فقال له: لم يابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك؛ فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه، فعقره، وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه. وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبني قريظة: هم لا ينصرون.
ومن الأساليب التي استخدمها المسلمون في الحرب ما قام به نُعيم المشركين من خداع المشركين: قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
قال: ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم؛ فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحَولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأمواله ونسائهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهَزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رُهُناً من أشرافهم، يكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه؛ فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقاً أن أبلغكموه، نصحاً لكم، فاكتموا عني؛ فقالوا: نفعل؛ قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه إنَّا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم؛ قال: فاكتموا عني؛ قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل، في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، ونفرغ مما بيننا وبينه؛ فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا؛ فقالت بنو قريظة: حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم. وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً؛ فأبوا عليهم، وخذَّل الله بينهم، وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنتيهم.
قال: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم، لينظر ما فعل القوم ليلاً.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبدالله، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم، يابن أخي؛ قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال والله لقد كنا نجهد؛ قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
قال: فقال حذيفة: يابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل ، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع - يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل مع القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا، قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان.
ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل.
ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقالة إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أن لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم.
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي، في مرط لبعض نسائه مراجل.
قال ابن هشام: المراجل ضرب من وشي اليمن.
فلما رآني، أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد، وإني لقيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
قال ابن إسحاق: ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة والمسلمون، ووضعوا السلاح.
وهذا ما نزل من القرآن في الخندق وبني قريظة، على ما يقول ابن هشام: قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى في أمر الخندق، وأمر بني قريظة (اليهود الذين قاتلهم رسول الله عليه السلام) من القرآن، القصة في الأحزاب، يذكر فيها ما نزل من البلاء، ونعمته عليهم، وكفايته إياهم حين فرج ذلك عنهم، بعد مقالة من قال من أهل النفاق: ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراً ). والجنود: قريش وغطفان وبنو قريظة، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة.
يقول الله تعالى: ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا ). فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان.
يقول الله تبارك وتعالى: ( هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسلوه إلا غروراً ) لقول معتِّب بن قشير إذ يقول ما قال.
( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً ) لقول أوس بن قيظي ومن كان على رأيه من قومه ( ولو دُخلت عليهم من أقطارها ): أي المدينة .
وهذه بشرى أخرى أدلى بها الرسول للمسلمين بأنهم هم من يقومون بغزو قريش، وأن قريش لن تغزوهم أبداً. قال ابن هشام: ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني: لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم. فلم تغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو الذي يغزوها، حتى فتح الله عليه مكة.
وجاءت بعد الخندق غزوة بني لحيان. قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام، قال: حدثني زيد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفراً وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح قريظة، إلى بني لحيان يطالب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ليصيب من القوم غِرَّة.
فخرج من المدينة صلى الله عليه وسلم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فسلك على غُراب، جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام، ثم على محيص، ثم على البتراء، ثم صفَّق ذات اليسار، فخرج على بِيْن، ثم على صخيرات اليمام، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، فأغذّ السير سريعاً، حتى نزل على غُرّان، و هي منازل بني لحيان، وغران واد بين أمج وعسفان، إلى بلد يقال له: ساية، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال.
فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخطأه من غرتهم ما أراد، قال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة، فخرج في مئتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كُراع الغميم، ثم كر وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً.
فكان جابر بن عبدالله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين وجه راجعاً: آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال.
إن أهم ما في هذا الخروج من دلالة هو إمتلاك المسلمين للمبادرة من الأعداء التي تمكنوا من الحصول عليها بعد هزيمة أحد. ولكن انتصار الخندق والإنتصار الحاسم على بني قريظة قد أعطى المسلمين الثقة بالنفس وأعاد إليهم التوازن الذي أوجده إنتصار بدر. لذلك نراهم يعودون إلى المطالبة بحقوقهم من أولئك الذين اغتصبوها، أمصال عامر بن الطفيل وغيره.
وتأتي غزوة ذي قرد لتأديب ابن حصن الذي أغار على لقاح الرسول. قال ابن هشام: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يُقم بها إلا ليالي قلائل، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، في خيل من غطفان على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، وفيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الرجل، واحتملوا المرأة في اللِّقاح.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر، ومن لا أتهم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، كل قد حدث في غزوة ذي قَرَد بعض الحديث: أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، غدا يريد الغابة متوشحاً قوسه ونبله، ومعه غلام لطلحة بن عبدالله معه فرس له يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم، فاشرف في ناحية سلع، ثم صرخ: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، و كان مثل السبع حتى لحق القوم، فجعل يردهم بالنبل، ويقول إذا رمى: خذها وأنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرُّضَّع، فإذا وُجِّهت الخيل نحوه انطلق هارباً، ثم عارضهم، فإذا أمكنه الرمي رمى، ثم قال: خذها وأنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرضع، قال: فيقول قائلهم: أُوَيْكعنا هو أول النهار.
قال: وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صياحُ ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة الفزع الفزع، فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أول من انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان: المقداد بن عمرو، وهو الذي يقال له: المقداد بن الأسود، حليف بني زهرة؛ ثم كان أول فارس وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المقداد من الأنصار، عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء، أحد بني عبدالأشهل؛ وسعد بن زيد، أحد بني كعب بن عبدالأشهل؛ وأسيد بن ظُهير، أخو بني حارثة بن الحارث، يشك فيه؛ وعُكَّاشة بن محصن، أخو بني أسد بني خزيمة؛ ومحُرز بن نضلة، أخو بني أسد بن خزيمة؛ وأبو قتادة الحارث بن ربعي، أخو بني سلمة؛ وأبو عياش، وهو عبيد بن زيد بن الصامت، أخو بني زريق.
فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليهم سعد بن زيد، فيما بلغني، ثم قال: اخرج في طلب القوم، حتى ألحقك في الناس.
إن أهم ما في هذا الخروج هو أنه ما أن تطاول أحدهم على المسلمين حتى بادروا إلى تأديبه، بعد أن رفع المعنويات إنهزام قريش وغطفان وحلفاؤهم من يهود يوم الخندق ومن ثم تصفية بني قريظة. فبعد "أحد" تطاول عامر بن الطفيل ولم يتمكن المسلمون من الرد الصاعق كما فعلوا مع عيينة بن حصن. وما يزيد من أهمية هذا الخروج الفوري لفارس واحد لم يهب غطفان مع أنها من القبائل المهابة الجانب لقوتها.
أما غزوة بني المصطلق فكانت في شعبان سنة ست من الهجرة. قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجباً، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري؛ ويقال: نميلة ابن عبدالله الليثي.
أما سبب غزو الرسول لهم فقد قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم، حتى لقيهم على ماء لهم، يقال له: المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم عليه.
قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول الله صلى اله عليه وسلم من وجهه ذلك قافلاً، حتى إذا كان بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح: ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطاً مستقيماً ).
ثم كانت القصة فيه وفي أصحابه، حتى انتهى من ذكر البيعة، فقال جل ثناؤه: ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً ).
ثم ذكر من تخلف عنه من الأعراب، ثم قال حين استفزهم للخروج معه فأبطئوا عليه: ( سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا ). ثم القصة عن خبرهم، حتى انتهى إلى قوله: ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم، يريدون أن يبدلوا كلام الله، قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ). ثم القصة عن خبرهم وما عرض عليهم من جهاد القوم أولي البأس الشديد.
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: فارس.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن الزهري أنه قال: أولوا البأس الشديد حنيفة مع الكذاب.
ثم قال تعالى: ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحاً قريباً. ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان الله عزيراً حكيماً. وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه، وكف أيدي الناس عنكم، ولتكون آية للمؤمنين ويهيدكم صراطاً مستقيماً. وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها، وكان الله على كل شيء قديراً ).
ثم ذكر محبسه وكفه إياه عن القتال، بعد الظفر منه بهم، يعني: النفر الذين أصاب منهم وكفهم عنه، ثم قال تعالى: ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم، وكان الله بما تعملون بصيراً ). ثم قال تعالى: ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ).
ثم كانت غزوة خيبر وبعدها جاء ذكر غزوة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان ومقتل جعفر وزيد وعبدالله بن رواحة. قال ابن إسحاق: فأقام بها بقية ذي الحجة، وولي تلك الحجة المشركون، والمحرم وصفراً وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبدالله ابن رواحة على الناس. ثم مضوا حتى نزلوا معان، في أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب، من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلى ثم أحد إراشة، يقال له: مالك بن زافلة.
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له.
قال: فشجع الناس عبدالله بن رواحة، وقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون، للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة.
قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. فمضى الناس.
قال ابن إسحاق: فمضى الناس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل، من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لها المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له: عباية بن مالك.
قال ابن هشام: ويقال: عبادة بن مالك.
قال ابن إسحاق: ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء، فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل. فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام.
وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارداً شرابها
والروم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها
علي إذا لاقيتها ضرابها *
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم: أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال: إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة، فقطعه بنصفين.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، قال: فلما قتل جعفر أخذ عبدالله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه * ما لي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنه
وقال أيضاً:
يا نفس إلا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت
يريد صاحبيه: زيداً وجعفراً؛ ثم نزل فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.
ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل.
فاصطلح الناس على خالد بن الوليد؛ فلما أخذ الراية دافع القوم، وحاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس.
قال ابن إسحاق: ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً؛ ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً؛ قال: ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً.
ثم قال: لقد رفعوا إلى الجنة، فيما يرى النائم، على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبدالله بعض التردد، ثم مضى.
الرسول يلتقي بالأبطال: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال: لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون.
قال: ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر. فأتي بعبدالله فأخذه فحمله بين يديه.
قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله! قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، عن عامر بن عبدالله بن الزبير، عن بعض آل الحارث بن هشام: وهم أخواله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين؟
قالت: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس يا فرار، فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته فما خرج.
إن ألطف ما يراه الباحث في هذه المعركة هو تلك الروح الشوروية التي يتمسك بها المسلمون الذين تربوا في كنف النبوة. فقد اجتمعوا وتباحثوا بما سوف يقومون به للقاء العدو، لا فرق بين الأمير والمقاتلين العاديين، فجميعاً إخوة، لاميزة لأحد على آخر إلا بالتقوى. ومن يحكم على التقوى هو الله تبارك وتعالى. فهم متساوون إذن. وبعد أن استشهد من عينهم النبي عليه السلام كأمراء للجند، تشاوروا مجدداً ليروا من يتسلم القيادة. وقد أعطوها لمن يملك التجربة القتالية. وعندما عادوا إلى المدينة، واستنكر البعض عودتهم، بالرغم من تقريظ الرسول عليه السلام لهم، وذلك بتسميتهم الكرار، نرى تواضعهم بعدم الرد على من انتقدهم رغم معاناتهم في قتالهم للعدو.
ويأتي الآن الحديث عن فتح مكة. فقد ذكر ابن هشام الأسباب الموجبة للسير إلى مكة وذكر فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان. قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجباً.
ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير، وكان الذي هاج ما بين بني بكر وخزاعة أن رجلاً من بني الحضرمي، واسمه مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة، عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله.
فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزان الديلي - وهم منخر بني كنانة وأشرافهم - سلمى وكلثوم وذؤيب - فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من بني الديل، قال: كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودي دية دية، لفضلهم فينا.
قال ابن إسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به. فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم.
كما حدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وغيرهم من علمائنا: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
قال ابن إسحاق: فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل، وهو يومئذ قائدهم، وليس كل بني بكر تابعه حتى بيت خزاعة وهم على الوتير، ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً، وتحاوزوا واقتتلوا.
ورفدت بني بكر قريش بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه، قالت بنو بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال: كلمة عظيمة، لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؛ وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلاً، يقال له: منبه.
وكان منبه رجلاً مفؤداً خرج هو ورجل من قومه يقال له: تميم بن أسد، وقال له منبه: يا تميم انج بنفسك، فأما أنا فوالله إني لميت، قتلوني أو تركوني، لقد أنبت فؤادي، وانطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبهاً فقتلوه، فلما دخلت خزاعة مكة، لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء، ودار مولى لهم يقال له: رافع فقال تميم بن أسد يعتذر من فراره من منبه.
عندها قامت خزاعة تستنجد بالرسول: قال ابن إسحاق: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعى، ثم أحد بني كعب، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس.
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة.
ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليشد العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذين صنعوا.
فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: تسيرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي؛ قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا؛ فلما راح بديل إلى مكة، قال أبو سفيان: لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه؛ فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر.
ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وعندها حسن بن علي، غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، فاشفع لي إلى رسول الله؛ فقال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة، فقال: يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني؛ قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك؛ قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله، ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس إني أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو
قال ابن هشام: أعدى العدو.
قال ابن إسحاق: ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت؛ قالوا: فهل أجاز لك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: أي بنية: أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟
قالت: نعم فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فتجهز الناس.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم. ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبدالمطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به.
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخرجا حتى أدركاها بالخليقة، خليقة بني أبي أحمد، فاستنزلاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئاً.
فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه. فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال: يا حاطب ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم.
فأنزل الله تعالى في حاطب: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) إلى قوله: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) . . . إلى آخر القصة.
ثم كان خروج الرسول إلى مكة: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن عبدالله بن عباس، قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد، بين عسفان وأمج أفطر.
قال ابن إسحاق: ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبعت سليم، وبعضهم يقول ألفت سليم، وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلم يأتهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولايدرون ما هو فاعل.
وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به، وقد كان العباس بن عبدالمطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق. قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، فيما ذكر ابن شهاب الزهري.
قال ابن إسحاق: وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بنيق العقاب، فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك وابن عمتك وصهرك؛ قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال.
قال: فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بني له. فقال: والله ليأذنن لي أو لأخذن بيدي بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً؛ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه، فأسلما.
وكان أبو سفيان بن حرب قد وصل إلى حيث رسول الله عليه السلام، وكان برفقة العباس بن عبد المطلب. قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال (أبو سفيان): يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء.
قال ابن هشام: وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها.
قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار، رضي الله عنهم، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله: يا عباس من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة؛ والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن.
قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ قالوا: قاتلك الله! وما تغنى عنا دارك؛ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حبرة حمراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وحنين والطائف، شعار المهاجرين: يا بني عبدالرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبدالله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها.
يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ... الآية كلها.
ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
أما عن عدة من فتح مكة: قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف. من بني سليم سبع مائة. ويقول بعضهم: ألف؛ ومن بني غفار: أربع مائة، ومن أسلم: أربع مائة، ومن مزينة: ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.
صدق الله تبارك وتعالى وعده رسوله. وكان الفتح نتيجة نصر الله المؤمنين الذين التزموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. لقد قادهم النبي عليه السلام إلى النصر المؤزر وهو يعلمهم كيفية التزام السنن الإلهية بالنصر. لقد جاءتهم البشرى بالنصر منذ صلح الحديبية الذي أجبر المشركين على الإعتراف بالمسلمين ككيان مستقل عن غيره من الكيانات الموجودة في جزيرة العرب.
ثم جاءت غزوة حنين في سنة ثمان بعد الفتح. قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة، جمعها مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغاب عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم.
وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً مجرباً، وفي ثقيف سيدان لهم، في الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري.
فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به.
فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك ودعي له، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال: ولم ذاك؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله، ليقاتل عنهم، قال: فأنقض به، ثم قال: راعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.
ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحد والجد، ولو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر، لا ينفعان ولا يضران؛ يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق الصباء على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك.
قال: والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت وكبر عقلك. والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي؛ فقالوا: أطعناك؛ فقال دريد بن الصمة: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.
فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً له وسلاحاً، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك. فقال: يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غداً، فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ قال: بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك؛ قال: ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى اله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها، ففعل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحداراً، قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين، لا يلوي أحد على أحد. وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمن، ثم قال: أين أيها الناس؟ هلموا إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبدالله. قال: فلا شيء، حملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس، إلا أنه قد بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.
من ثبت معه صلى الله عليه وسلم: وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبدالمطلب، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه، والفضل بن العباس، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، قتل يومئذ. قال ابن هشام: اسم ابن أبي سفيان بن الحارث جعفر، واسم أبي سفيان المغيرة؛ وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس، ولا يعد ابن أبي سفيان.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: ورجل من هوزان على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح له طويل، أمام هوازن، وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه.
قال ابن هشام: أبو سفيان بن حرب وبعض الناس يشمت بالمسلمين: قال ابن إسحاق: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن.
وهذا شيبة بن طلحة يحاول قتل الرسول صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بني عبدالدار، قلت: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال: فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤداي، فلم أطق ذاك، وعلمت أنه ممنوع مني.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل مكة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين فصل من مكة إلى حنين، ورأى كثرة من معه من جنود الله: لن نغلب اليوم من قلة.
قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن رجلاً من بني بكر قالها.
وكان النصر للمسلمين في نهاية المطاف: قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس بن عبدالمطلب، قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها، قال: وكنت امرأ جسيماً شديد الصوت. قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس: أين أيها الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شيء، فقال: يا عباس، اصرخ يا معشر الأنصار: يا معشر أصحاب السمرة، قال: فأجابوا: لبيك لبيك! قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه؛ ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة، استقبلوا الناس، فاقتتلوا، وكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار. ثم خلصت أخيراً: يا للخزرج. وكانوا صبراً عند الحرب، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه. فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال: الآن حمي الوطيس. قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: بينا ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع، إذ هوى له علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ورجل من الأنصار يريدانه، قال: فيأتيه علي بن أبي طالب من خلفه، فضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل، فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فانجعف عن رحله، قال: واجتلد الناس، فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان ممن صبر يومئذ مع رسول اله صلى الله عليه وسلم، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو أخذ بثفر بغلته، فقال: من هذا؟ قال: أنا ابن أمك يا رسول الله.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التفت فرأى أم سليم بنت ملحان: وكانت مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببرد لها، وإنها لحامل بعبدالله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة، وقد خشيت أن يعزها الجمل، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في حزامته مع الخطام، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم سليم؟ قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو يكفي الله يا أم سليم؟ قال: ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به قال: يقول أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم الرميصاء.
قال ابن إسحاق: فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بني مالك، فقتل منهم سبعون رجلاً تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبدالله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب، وكانت رايتهم مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبدالله، فقاتل بها حتى قتل.
لقد كان صمود النبي عليه السلام والقلة القليلة من المسلمين، هو الذي أدى إلى إعادة الثقة بالنفس من قبل المسلمين. وهذا ما جعاهم يعودون إلى ميدان القتال حيث ينتظرهم النبي عليه السلام، يستجيب لأمر الله بقتال المشركين كافة، كما يقاتلون المسلمين كافة.
ثم كانت غزوة الطائف بعد حنين في سنة ثمان.
ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال. و لم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود، ولا غيدن بن سلمة، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور.
قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية، فابتنى بها مسجداً فصلى فيه.
قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب: أنه أقاد يومئذ ببحرة الرغاء، حين نزلها، بدم، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، رجل من بني ليث قتل رجلاً من هذيل، فقتلته به.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بلية، بحصن مالك بن عوف فهدم، ثم سلك في طريق يقال لها الضيقة، فلما توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن اسمها، فقال: ما اسم هذه الطريق؟ فقيل له: الضيقة، فقال: بل هي اليسرى، ثم خرج منها على نخب، حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة: قريباً من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن تخرج، وإما أن نخرب عليك حائطك؛ فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخرابه.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريباً من الطائف، فضرب به عسكره، فقتل به ناس من أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف، وكانت النبل تنالهم، ولم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطهم، أغلقوه دونهم؛ فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل وضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم، فحصرهم بضعاً وعشرين ليلة. قال ابن هشام: ويقال: سبع عشرة ليلة. قال ابن إسحاق: ومعه امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية، فضرب لهما قبتين، ثم صلى بين القبتين.
ثم أقام، فلما أسلمت ثقيف بني على مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية بن وهب بن معتب ابن مالك مسجداً، وكانت في ذلك المسجد سارية، في ما يزعمون، لا تطلع الشمس عليها يوماً من الدهر إلا سمع لها نقيض، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم قتالاً شديداً وتراموا بالنبل.
قال ابن هشام: ورماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق. حدثني من أثق به، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق، رمى أهل الطائف.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة، ثم زحفوا إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتلوا منهم رجالاً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناس فيها يقطعون.
وجد الأنصار من حرمانهم واسترضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ابن هشام: حدثني زياد بن عبدالله، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري قال : لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا، في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.
قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالة بلغني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!
قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ الله ولرسوله المن والفضل.
قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم.
ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.
وكانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع، وهي آخر غزوة غزاها التبي عليه السلام.
قال: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام قال زياد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم. وقد ذكر لنا الزهري ويزيد بن رومان وعبدالله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم من علمائنا، كل حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لا يحدث: بعض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ، وذلك في زمان من عسرة الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة: يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك.
ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ). أي : إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرغبة بنفسه عن نفسه، يقول تعالى: وإن جهنم لمن ورائه.
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: ( وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون ).
قال ابن هشام: وحدثني الثقة عمن حدثه عن محمد بن طلحة بن عبدالرحمن، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبدالله بن حارثة عن أبيه عن جده، قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، وكان بيته عند جاسوم، يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خلفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فافلتوا.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها.
قال ابن هشام: حدثني من أثق به: أن عثمان ابن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أرض عن عثمان فإني عنه راض.
قال ابن إسحاق: ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بن حارثة، وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب، وأخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن حمام بن الجموح، أخو بني سلمة، عبدالله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقول: بل هو عبدالله بن عمرو المزني وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه. فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمر بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبدالرحمن بن كعب وعبدالله بن مغفل وهما يبكيان، فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه؛ فأعطاهما ناضجاً له فارتحلاه، وزودهما شيئاً من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وجاءه المعذرون من الأعراب، فاعتذروا إليه فلم يعذرهم الله تعالى، وقد ذكر لي أنهم نفر من بني غفار.
ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تخلفوا عنه عن غير شك ولا ارتياب؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب، أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع، أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، أخو بن واقف، وأبو خيثمة، أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق، لا يتهمون في إسلامهم.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري.
وذكر عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة، مخرجه إلى تبوك، سباع بن عرفطة.
قال ابن إسحاق: وضرب عبدالله ابن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين.
فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبدالله بن أبي. فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، إلى أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً له، وتخففاً منه، فلما قال ذلك المنافقون: أخذ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه سلاحه، ثم خرج حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله زعم المنافقون انك إنما خلفتني أنك استثقلتني، وتخففت مني؛ فقال: كذبوا. ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع علي إلى المدينة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي هذه المقالة.
قال ابن إسحاق: ثم رجع (علي) المدينة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
قال ابن إسحاق: قد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع، حليف لبني سلمة، يقال له: مخشن بن حمير. قال ابن هشام: ويقال مخشي - يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً! والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال مخشن بن حمير: والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر: أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته، فجعل يقول وهو أخذ بحقبها: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب؛ فأنزل الله عز وجل: ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ). وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي، وكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشن بن حمير، فتسمى عبدالرحمن، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة، صاحب أيلة، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم كتاباً فهو عندهم.
وآخر بعث كان بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين. قال ابن إسحاق: ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وضرب على الناس بعثاً إلى الشام، وأمر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون.
ولكن كانت منية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إنفاذ بعث أسامة.
خلاصة:
1 - المتابع لسيرة المصطفى عليه السلام يلاحظ بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاهد المشركين وقاتلهم منذ نزل أمر الله تبارك وتعالى حتى آخر رمق في حياته العامرة، وذلك بالطلب من المسلمين بإنفاذ بعث أسامة بن زيد وهو على فراش الموت.
2 – لقد كانت وتيرة الغزوات والسرايا متسارعة بشكل لا يترك للأعداء فرصة للراحة، ولا لأخذ الأنفاس.
3 – كما أن وتيرة الغزوات والسرايا تؤكد أن النبي عليه السلام والمسلمين لم يكونوا يملكون وقتاً للراحة منذ نزل أمر الله بقتال المشركين.
4 – استعارة الدروع من أحد المشركين في غزوة حنين.
5 – توزيع الأموال على المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين، وقد أصبح هؤلاء حكام المسلمين من دون السابقين.
6 – قبول الأنصار بأن يفوزوا برسول الله عليه السلام من دون أموال هوازن.
7 – المحافظة على استشارة الناس كما حصل في بدر الكبرى وأحد ومؤتة...
حسن ملاط
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)