ثم كانت غزوة "حمراء الأسد". قال ابن هشام: قال: فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، فأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي، فتخلف على أخواتك؛ فتخلفت عليهن.
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بني عبدالأشهل، كان شهد أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحاً، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فأقام بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: كان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين، ومحن به المنافقين، ممن كان يظهر الإيمان بلسانه، وهو مستخف بالكفر في قلبه، ويوماً أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته.
وكان يوم أحد أول هزيمة للمسلمين. ويكفي ما قاله ابن اسحاق فيها.
قال: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام، (عن يوم الرجيع) قال: حدثنا زياد بن عبدالله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عَضَل والقارة.
قال ابن إسحاق: فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً ستة من أصحابه، وهم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، حليف حمزة بن عبدالمطلب؛ وخالد بن البكير الليثي، حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أخو بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس؛ وخبيب بن عدي، أخو بني جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف وزيد بن الدثنة بن معاوية، أخو بني بياضة بن عمرو بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غصب بن جشم بن الخزرج؛ وعبدالله بن طارق، حليف بني ظفر بن الخزرج بن عمرو بن ملاك بن الأوس.
وأمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، فخرج مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لهذيل بناحية الحجاز، على صدور الهدأة غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلاً فلم يرع القوم، وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.
قال ابن إسحاق: وكان مما نزل من القرآن في تلك السرية، كما حدثني مولى لآل زيد ابن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: قال ابن عباس: لما أُصيبت السرية التي كان فيها مرثد وعاصم بالرجيع، قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذي هلكوا، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله تعالى في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر من الخير بالذي أصابهم، فقال سبحانه: " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ": أي لما يُظهر من الإسلام بلسانه، " ويشهد الله على ما في قلبه " وهو مخالف لما يقول بلسانه، " وهو ألد الخصام " أي: ذو جدال إذا كلمك واجعك.
ولعل تجرؤ هؤلاء على المسلمين، ظنهم أن المسلمين قد ضعفوا بعد يوم أحد.
أما بعث بئر معونة فقد كان في صفر سنة أربع: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة - وولي تلك الحجة المشركون والمحرم - ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة في صفر، على رأس أربعة أشهر من أحد.
أما سبب إرسال بعث معونة: "وكان من حديثهم، كما حدثني أبي إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيره من أهل العلم، قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد؛ فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة، المعنق ليموت في أربعين رجلاً من أصحابه، من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع ابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة؛ مولى أبي بكر الصديق، في رجال مسمَّين من خيار المسلمين. فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب.
فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل؛ فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم من عصية ورعل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند أخرهم، يرحمهم الله، إلا كعب بن زيد، أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق الموت، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدًا، رحمه الله.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، أحد بني عمرو بن عوف.
قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح.
قال ابن إسحاق: فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأناً: فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري: لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وماكنت لتخبرني عنه الرجال؛ ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.
فخرج عمرو بن أمية، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر.
قال ابن هشام: ثم من بني كلاب، وذكر أبو عمرو المدني، أنهما من بني سليم.
قال ابن إسحاق: حتى نزلا معه في ظل هو فيه. وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهم حين نزلا، ممن انتما؟ فقالا: من بني عامر فأمهلهما، حتى إذا ناما، عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قتلت قتيلين لأدينهما.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً، فبلغ أبا براء، فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عله وسلم بسببه وجواره؛ وكان فيمن أصيب عامر أبن فهيرة.
إن ما قام به عامر بن الطفيل ما كان ليجرؤ عليه لولا هزيمة يوم أحد.
وسوف نتحدث الآن عن غزوة ذات الرقاع في سنة أربع لهجرة المصطفى عليه السلام. ونبدأ بالاستعداد للغزوة: قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزو بني النضير شهر ربيع الآخر وبعض جمادى، ثم غزا نجداً يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، ويقال: عثمان بن عفان، فيما قال ابن هشام. قال ابن إسحاق: حتى نزل نخلاً، وهي غزوة ذات الرقاع.
أما عن سبب تسميتها بذات الرقاع: قال ابن هشام: وإنما قيل لها غزوة ذات الرقاع، لأنهم رقعوا فيها راياتهم؛ ويقال: ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع، يقال لها: ذات الرقاع.
قال ابن إسحاق: فلقي بها جمعا عظيماً من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف بالناس.
قال ابن إسحاق: وحدثني عمي صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين؛ فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً، أتى زوجها وكان غائباً، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دماً، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منـزلاً، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ قال: فانتدب رجل من المهاجرين، ورجل آخر من الأنصار، فقالا: نحن يارسول الله؛ قال: فكونا بفم الشّعب. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فلما خرج الرجلان إلى فم الشِّعب، قال الأنصاريّ للمهاجريّ أيَّ الليل تحب أن أكفيكه: أوله أم آخره؟ قال: بل اكفني أوله؛ قال: فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي، قال: وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة ( طليعة ) القوم. قال: فرمى بسهم، فوضعه فيه؛ قال: فنـزعه ووضعه، فثبت قائماً؛ قال: ثم رماه بسهم أخر فوضعه فيه. قال: فنـزعه فوضعه وثبت قائماً؛ ثم عاد له بالثالث، فوضعه فيه؛ قال: فنـزعه فوضعه ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أثبتُّ، قال: فوثب فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به، فهرب. قال: ولما رأى المهاجريّ ما بالأنصاريّ من الدماء قال: سبحان الله! أفلا أهببتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع على الرمي ركعت فأذنتك، وايم الله، لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها.
قال ابن هشام : ويقال : أنفذها .
قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة الرقاع، أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجباً.
أما غزوة بدر الآخرة فكانت في شعبان سنة أربع: قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله عليه الصلاة والسلام، في شعبان إلى بدر، لميعاد أبي سفيان حتى نزله.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبدالله بن أبي ابن سلول الأنصاري.
قال ابن إسحاق: فأقام عليه ثماني ليال ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة، من ناحية الظهران؛ وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجعٌ، فارجعوا، فرجع الناس، فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده، فأتاه مخشي بن عمرو الضمري، وهو الذي كان وادعه على بني ضمرة في غزوة ودان، فقال: يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: نعم، يا أخا بني ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك، قال: لا والله يا محمد، ما لنا بذلك منك من حاجة.
أما غزوة الخندق فكانت في شوال سنة خمس: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس.
فحدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير بن عروة بن الزبير، ومن لا أتهم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزُّهري، وعاصم بن عمر بن قَتادة، وعبدالله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق، وبعضهم يحدث ما لا يحدث به بعض، قالوا: إنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود، منهم: سلاّم ابن أبي الحقيق النَّضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحُقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النَّضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله؛ فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصحبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فإن تجد له نصيراً" إلى قوله تعالى "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" : أي النبوة، " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً. فمنهم من آمن به، ومنهم من صُدَّ عنه، وكفى بجهنم سعيراً".
قال: فلما قالوا ذلك لقريش، سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه، من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود، حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه.
قال ابن إسحاق: فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه، ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورُّون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له، فإذ قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتساباً له.
وهذا ما نزل من القرآن في حق العاملين في الخندق مؤمنهم ومنافقهم، حسب ابن هشام: فأنزل الله تعالى في أولئك من المؤمنين "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه. إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم". فنزلت هذه الآية فيمن كان من المسلمين من أهل الحسبة والرغبة في الخير والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النبي صلى الله عليه وسلم "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كذعاء بعضكم بعضاً قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم".
وكان المسلمون يرتجزون وهم يعملون في حفر الخندق: قال ابن إسحاق: وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جعيل، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً، فقالوا:
سماه من بعد جعيل عمراً * وكان للبائس يوماً ظهراً.
فإذا مروا "بعمرو" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمراً، وإذا مروا "بظهر" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهراً.
ومن المعجزات التي ظهرت في حفر الخندق: قال ابن إسحاق: وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتني، فيها من الله تعالى عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقيق نبوّته، عاين ذلك المسلمون. فكان مما بلغني أن جابر بن عبدالله كان يحُدث: أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه؛ ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية؛ فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق نبياً، لانهالت حتى عادت كالكثيب، لا تردّ فأساً ولا مِسحاة.
وكان استشراف المستقبل: بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتوح. قال ابن إسحاق: وحُدثت عن سلمان الفارسي، أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغَلُظت علي صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني؛ فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة؛ قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى؛ قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال : أو قد رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: قلت: نعم؛ قال: أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن؛ وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب؛ وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وزمان عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
ثم كان وصول المشركين المدينة. قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمي، إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام.
قال: وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه؛ فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما؛ فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبدالله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى ( ضيافة ) أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
وهناك من حاول عبور الخندق من المشركين: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وعدوهم محاصروهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس، أخو بني عامر بن لؤي. قال ابن هشام: ويقال عمرو بن عبد بن أبي قيس.
قال ابن إسحاق: وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، وضرار بن الخطاب الشاعر ابن مرداس، أخو بني محارب بن فهر، تلبسوا للقتال، ثم خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم. ثم أقبلوا تُعْنِق بهم خيلهم، حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
قال ابن هشام: يقال: إن سلمان الفارسي أشار به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني بعض أهل العلم: أن المهاجرين يوم الخندق قالوا: سلمان منا؛ وقالت الأنصار: سلمان منا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت.
قال ابن إسحاق: ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب عليه السلام في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تُعْنِق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد؛ فلما كان يوم الخندق خرج مُعْلِماً ليرى مكانه. فلما وقف هو وخيله، قال: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب، فقال له: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خَلَّتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل؛ قال له علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله، وإلى الإسلام؛ قال: لا حاجة لي بذلك؛ قال: فإني أدعوك إلى النـزال؛ فقال له: لم يابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك؛ فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه، فعقره، وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه. وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبني قريظة: هم لا ينصرون.
ومن الأساليب التي استخدمها المسلمون في الحرب ما قام به نُعيم المشركين من خداع المشركين: قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
قال: ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم؛ فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحَولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأمواله ونسائهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهَزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رُهُناً من أشرافهم، يكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه؛ فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقاً أن أبلغكموه، نصحاً لكم، فاكتموا عني؛ فقالوا: نفعل؛ قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه إنَّا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم؛ قال: فاكتموا عني؛ قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل، في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، ونفرغ مما بيننا وبينه؛ فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا؛ فقالت بنو قريظة: حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم. وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً؛ فأبوا عليهم، وخذَّل الله بينهم، وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنتيهم.
قال: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم، لينظر ما فعل القوم ليلاً.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبدالله، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم، يابن أخي؛ قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال والله لقد كنا نجهد؛ قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
قال: فقال حذيفة: يابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل ، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع - يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل مع القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا، قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان.
ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل.
ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقالة إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أن لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم.
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي، في مرط لبعض نسائه مراجل.
قال ابن هشام: المراجل ضرب من وشي اليمن.
فلما رآني، أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد، وإني لقيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
قال ابن إسحاق: ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة والمسلمون، ووضعوا السلاح.
وهذا ما نزل من القرآن في الخندق وبني قريظة، على ما يقول ابن هشام: قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى في أمر الخندق، وأمر بني قريظة (اليهود الذين قاتلهم رسول الله عليه السلام) من القرآن، القصة في الأحزاب، يذكر فيها ما نزل من البلاء، ونعمته عليهم، وكفايته إياهم حين فرج ذلك عنهم، بعد مقالة من قال من أهل النفاق: ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراً ). والجنود: قريش وغطفان وبنو قريظة، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة.
يقول الله تعالى: ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا ). فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان.
يقول الله تبارك وتعالى: ( هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسلوه إلا غروراً ) لقول معتِّب بن قشير إذ يقول ما قال.
( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً ) لقول أوس بن قيظي ومن كان على رأيه من قومه ( ولو دُخلت عليهم من أقطارها ): أي المدينة .
وهذه بشرى أخرى أدلى بها الرسول للمسلمين بأنهم هم من يقومون بغزو قريش، وأن قريش لن تغزوهم أبداً. قال ابن هشام: ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني: لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم. فلم تغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو الذي يغزوها، حتى فتح الله عليه مكة.
وجاءت بعد الخندق غزوة بني لحيان. قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام، قال: حدثني زيد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفراً وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح قريظة، إلى بني لحيان يطالب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ليصيب من القوم غِرَّة.
فخرج من المدينة صلى الله عليه وسلم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فسلك على غُراب، جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام، ثم على محيص، ثم على البتراء، ثم صفَّق ذات اليسار، فخرج على بِيْن، ثم على صخيرات اليمام، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، فأغذّ السير سريعاً، حتى نزل على غُرّان، و هي منازل بني لحيان، وغران واد بين أمج وعسفان، إلى بلد يقال له: ساية، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال.
فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخطأه من غرتهم ما أراد، قال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة، فخرج في مئتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كُراع الغميم، ثم كر وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً.
فكان جابر بن عبدالله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين وجه راجعاً: آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال.
إن أهم ما في هذا الخروج من دلالة هو إمتلاك المسلمين للمبادرة من الأعداء التي تمكنوا من الحصول عليها بعد هزيمة أحد. ولكن انتصار الخندق والإنتصار الحاسم على بني قريظة قد أعطى المسلمين الثقة بالنفس وأعاد إليهم التوازن الذي أوجده إنتصار بدر. لذلك نراهم يعودون إلى المطالبة بحقوقهم من أولئك الذين اغتصبوها، أمصال عامر بن الطفيل وغيره.
وتأتي غزوة ذي قرد لتأديب ابن حصن الذي أغار على لقاح الرسول. قال ابن هشام: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يُقم بها إلا ليالي قلائل، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، في خيل من غطفان على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، وفيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الرجل، واحتملوا المرأة في اللِّقاح.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر، ومن لا أتهم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، كل قد حدث في غزوة ذي قَرَد بعض الحديث: أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، غدا يريد الغابة متوشحاً قوسه ونبله، ومعه غلام لطلحة بن عبدالله معه فرس له يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم، فاشرف في ناحية سلع، ثم صرخ: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، و كان مثل السبع حتى لحق القوم، فجعل يردهم بالنبل، ويقول إذا رمى: خذها وأنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرُّضَّع، فإذا وُجِّهت الخيل نحوه انطلق هارباً، ثم عارضهم، فإذا أمكنه الرمي رمى، ثم قال: خذها وأنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرضع، قال: فيقول قائلهم: أُوَيْكعنا هو أول النهار.
قال: وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صياحُ ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة الفزع الفزع، فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أول من انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان: المقداد بن عمرو، وهو الذي يقال له: المقداد بن الأسود، حليف بني زهرة؛ ثم كان أول فارس وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المقداد من الأنصار، عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء، أحد بني عبدالأشهل؛ وسعد بن زيد، أحد بني كعب بن عبدالأشهل؛ وأسيد بن ظُهير، أخو بني حارثة بن الحارث، يشك فيه؛ وعُكَّاشة بن محصن، أخو بني أسد بني خزيمة؛ ومحُرز بن نضلة، أخو بني أسد بن خزيمة؛ وأبو قتادة الحارث بن ربعي، أخو بني سلمة؛ وأبو عياش، وهو عبيد بن زيد بن الصامت، أخو بني زريق.
فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليهم سعد بن زيد، فيما بلغني، ثم قال: اخرج في طلب القوم، حتى ألحقك في الناس.
إن أهم ما في هذا الخروج هو أنه ما أن تطاول أحدهم على المسلمين حتى بادروا إلى تأديبه، بعد أن رفع المعنويات إنهزام قريش وغطفان وحلفاؤهم من يهود يوم الخندق ومن ثم تصفية بني قريظة. فبعد "أحد" تطاول عامر بن الطفيل ولم يتمكن المسلمون من الرد الصاعق كما فعلوا مع عيينة بن حصن. وما يزيد من أهمية هذا الخروج الفوري لفارس واحد لم يهب غطفان مع أنها من القبائل المهابة الجانب لقوتها.
أما غزوة بني المصطلق فكانت في شعبان سنة ست من الهجرة. قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجباً، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري؛ ويقال: نميلة ابن عبدالله الليثي.
أما سبب غزو الرسول لهم فقد قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم، حتى لقيهم على ماء لهم، يقال له: المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم عليه.
قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول الله صلى اله عليه وسلم من وجهه ذلك قافلاً، حتى إذا كان بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح: ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطاً مستقيماً ).
ثم كانت القصة فيه وفي أصحابه، حتى انتهى من ذكر البيعة، فقال جل ثناؤه: ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً ).
ثم ذكر من تخلف عنه من الأعراب، ثم قال حين استفزهم للخروج معه فأبطئوا عليه: ( سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا ). ثم القصة عن خبرهم، حتى انتهى إلى قوله: ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم، يريدون أن يبدلوا كلام الله، قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ). ثم القصة عن خبرهم وما عرض عليهم من جهاد القوم أولي البأس الشديد.
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: فارس.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن الزهري أنه قال: أولوا البأس الشديد حنيفة مع الكذاب.
ثم قال تعالى: ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحاً قريباً. ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان الله عزيراً حكيماً. وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه، وكف أيدي الناس عنكم، ولتكون آية للمؤمنين ويهيدكم صراطاً مستقيماً. وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها، وكان الله على كل شيء قديراً ).
ثم ذكر محبسه وكفه إياه عن القتال، بعد الظفر منه بهم، يعني: النفر الذين أصاب منهم وكفهم عنه، ثم قال تعالى: ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم، وكان الله بما تعملون بصيراً ). ثم قال تعالى: ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ).
ثم كانت غزوة خيبر وبعدها جاء ذكر غزوة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان ومقتل جعفر وزيد وعبدالله بن رواحة. قال ابن إسحاق: فأقام بها بقية ذي الحجة، وولي تلك الحجة المشركون، والمحرم وصفراً وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبدالله ابن رواحة على الناس. ثم مضوا حتى نزلوا معان، في أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب، من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلى ثم أحد إراشة، يقال له: مالك بن زافلة.
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له.
قال: فشجع الناس عبدالله بن رواحة، وقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون، للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة.
قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. فمضى الناس.
قال ابن إسحاق: فمضى الناس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل، من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لها المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له: عباية بن مالك.
قال ابن هشام: ويقال: عبادة بن مالك.
قال ابن إسحاق: ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء، فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل. فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام.
وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارداً شرابها
والروم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها
علي إذا لاقيتها ضرابها *
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم: أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال: إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة، فقطعه بنصفين.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، قال: فلما قتل جعفر أخذ عبدالله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه * ما لي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنه
وقال أيضاً:
يا نفس إلا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت
يريد صاحبيه: زيداً وجعفراً؛ ثم نزل فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.
ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل.
فاصطلح الناس على خالد بن الوليد؛ فلما أخذ الراية دافع القوم، وحاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس.
قال ابن إسحاق: ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً؛ ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً؛ قال: ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً.
ثم قال: لقد رفعوا إلى الجنة، فيما يرى النائم، على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبدالله بعض التردد، ثم مضى.
الرسول يلتقي بالأبطال: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال: لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون.
قال: ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر. فأتي بعبدالله فأخذه فحمله بين يديه.
قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله! قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، عن عامر بن عبدالله بن الزبير، عن بعض آل الحارث بن هشام: وهم أخواله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين؟
قالت: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس يا فرار، فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته فما خرج.
إن ألطف ما يراه الباحث في هذه المعركة هو تلك الروح الشوروية التي يتمسك بها المسلمون الذين تربوا في كنف النبوة. فقد اجتمعوا وتباحثوا بما سوف يقومون به للقاء العدو، لا فرق بين الأمير والمقاتلين العاديين، فجميعاً إخوة، لاميزة لأحد على آخر إلا بالتقوى. ومن يحكم على التقوى هو الله تبارك وتعالى. فهم متساوون إذن. وبعد أن استشهد من عينهم النبي عليه السلام كأمراء للجند، تشاوروا مجدداً ليروا من يتسلم القيادة. وقد أعطوها لمن يملك التجربة القتالية. وعندما عادوا إلى المدينة، واستنكر البعض عودتهم، بالرغم من تقريظ الرسول عليه السلام لهم، وذلك بتسميتهم الكرار، نرى تواضعهم بعدم الرد على من انتقدهم رغم معاناتهم في قتالهم للعدو.
ويأتي الآن الحديث عن فتح مكة. فقد ذكر ابن هشام الأسباب الموجبة للسير إلى مكة وذكر فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان. قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجباً.
ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير، وكان الذي هاج ما بين بني بكر وخزاعة أن رجلاً من بني الحضرمي، واسمه مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة، عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله.
فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزان الديلي - وهم منخر بني كنانة وأشرافهم - سلمى وكلثوم وذؤيب - فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من بني الديل، قال: كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودي دية دية، لفضلهم فينا.
قال ابن إسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به. فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم.
كما حدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وغيرهم من علمائنا: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
قال ابن إسحاق: فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل، وهو يومئذ قائدهم، وليس كل بني بكر تابعه حتى بيت خزاعة وهم على الوتير، ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً، وتحاوزوا واقتتلوا.
ورفدت بني بكر قريش بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه، قالت بنو بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال: كلمة عظيمة، لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؛ وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلاً، يقال له: منبه.
وكان منبه رجلاً مفؤداً خرج هو ورجل من قومه يقال له: تميم بن أسد، وقال له منبه: يا تميم انج بنفسك، فأما أنا فوالله إني لميت، قتلوني أو تركوني، لقد أنبت فؤادي، وانطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبهاً فقتلوه، فلما دخلت خزاعة مكة، لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء، ودار مولى لهم يقال له: رافع فقال تميم بن أسد يعتذر من فراره من منبه.
عندها قامت خزاعة تستنجد بالرسول: قال ابن إسحاق: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعى، ثم أحد بني كعب، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس.
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة.
ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليشد العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذين صنعوا.
فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: تسيرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي؛ قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا؛ فلما راح بديل إلى مكة، قال أبو سفيان: لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه؛ فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر.
ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وعندها حسن بن علي، غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، فاشفع لي إلى رسول الله؛ فقال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة، فقال: يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني؛ قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك؛ قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله، ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس إني أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو
قال ابن هشام: أعدى العدو.
قال ابن إسحاق: ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت؛ قالوا: فهل أجاز لك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: أي بنية: أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟
قالت: نعم فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فتجهز الناس.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم. ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبدالمطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به.
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخرجا حتى أدركاها بالخليقة، خليقة بني أبي أحمد، فاستنزلاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئاً.
فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه. فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال: يا حاطب ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم.
فأنزل الله تعالى في حاطب: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) إلى قوله: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) . . . إلى آخر القصة.
ثم كان خروج الرسول إلى مكة: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن عبدالله بن عباس، قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد، بين عسفان وأمج أفطر.
قال ابن إسحاق: ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبعت سليم، وبعضهم يقول ألفت سليم، وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلم يأتهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولايدرون ما هو فاعل.
وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به، وقد كان العباس بن عبدالمطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق. قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، فيما ذكر ابن شهاب الزهري.
قال ابن إسحاق: وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بنيق العقاب، فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك وابن عمتك وصهرك؛ قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال.
قال: فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بني له. فقال: والله ليأذنن لي أو لأخذن بيدي بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً؛ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه، فأسلما.
وكان أبو سفيان بن حرب قد وصل إلى حيث رسول الله عليه السلام، وكان برفقة العباس بن عبد المطلب. قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال (أبو سفيان): يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء.
قال ابن هشام: وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها.
قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار، رضي الله عنهم، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله: يا عباس من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة؛ والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن.
قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛ قالوا: قاتلك الله! وما تغنى عنا دارك؛ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حبرة حمراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وحنين والطائف، شعار المهاجرين: يا بني عبدالرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبدالله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها.
يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ... الآية كلها.
ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
أما عن عدة من فتح مكة: قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف. من بني سليم سبع مائة. ويقول بعضهم: ألف؛ ومن بني غفار: أربع مائة، ومن أسلم: أربع مائة، ومن مزينة: ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.
صدق الله تبارك وتعالى وعده رسوله. وكان الفتح نتيجة نصر الله المؤمنين الذين التزموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. لقد قادهم النبي عليه السلام إلى النصر المؤزر وهو يعلمهم كيفية التزام السنن الإلهية بالنصر. لقد جاءتهم البشرى بالنصر منذ صلح الحديبية الذي أجبر المشركين على الإعتراف بالمسلمين ككيان مستقل عن غيره من الكيانات الموجودة في جزيرة العرب.
ثم جاءت غزوة حنين في سنة ثمان بعد الفتح. قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة، جمعها مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغاب عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم.
وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً مجرباً، وفي ثقيف سيدان لهم، في الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري.
فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به.
فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك ودعي له، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال: ولم ذاك؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله، ليقاتل عنهم، قال: فأنقض به، ثم قال: راعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.
ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحد والجد، ولو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر، لا ينفعان ولا يضران؛ يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق الصباء على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك.
قال: والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت وكبر عقلك. والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي؛ فقالوا: أطعناك؛ فقال دريد بن الصمة: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.
فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهم، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً له وسلاحاً، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك. فقال: يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غداً، فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ قال: بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك؛ قال: ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى اله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها، ففعل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحداراً، قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين، لا يلوي أحد على أحد. وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمن، ثم قال: أين أيها الناس؟ هلموا إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبدالله. قال: فلا شيء، حملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس، إلا أنه قد بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.
من ثبت معه صلى الله عليه وسلم: وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبدالمطلب، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه، والفضل بن العباس، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، قتل يومئذ. قال ابن هشام: اسم ابن أبي سفيان بن الحارث جعفر، واسم أبي سفيان المغيرة؛ وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس، ولا يعد ابن أبي سفيان.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: ورجل من هوزان على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح له طويل، أمام هوازن، وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه.
قال ابن هشام: أبو سفيان بن حرب وبعض الناس يشمت بالمسلمين: قال ابن إسحاق: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن.
وهذا شيبة بن طلحة يحاول قتل الرسول صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بني عبدالدار، قلت: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال: فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤداي، فلم أطق ذاك، وعلمت أنه ممنوع مني.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل مكة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين فصل من مكة إلى حنين، ورأى كثرة من معه من جنود الله: لن نغلب اليوم من قلة.
قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن رجلاً من بني بكر قالها.
وكان النصر للمسلمين في نهاية المطاف: قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس بن عبدالمطلب، قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها، قال: وكنت امرأ جسيماً شديد الصوت. قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس: أين أيها الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شيء، فقال: يا عباس، اصرخ يا معشر الأنصار: يا معشر أصحاب السمرة، قال: فأجابوا: لبيك لبيك! قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه؛ ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة، استقبلوا الناس، فاقتتلوا، وكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار. ثم خلصت أخيراً: يا للخزرج. وكانوا صبراً عند الحرب، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه. فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال: الآن حمي الوطيس. قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، قال: بينا ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع، إذ هوى له علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ورجل من الأنصار يريدانه، قال: فيأتيه علي بن أبي طالب من خلفه، فضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل، فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فانجعف عن رحله، قال: واجتلد الناس، فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان ممن صبر يومئذ مع رسول اله صلى الله عليه وسلم، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو أخذ بثفر بغلته، فقال: من هذا؟ قال: أنا ابن أمك يا رسول الله.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التفت فرأى أم سليم بنت ملحان: وكانت مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببرد لها، وإنها لحامل بعبدالله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة، وقد خشيت أن يعزها الجمل، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في حزامته مع الخطام، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم سليم؟ قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو يكفي الله يا أم سليم؟ قال: ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به قال: يقول أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم الرميصاء.
قال ابن إسحاق: فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بني مالك، فقتل منهم سبعون رجلاً تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبدالله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب، وكانت رايتهم مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبدالله، فقاتل بها حتى قتل.
لقد كان صمود النبي عليه السلام والقلة القليلة من المسلمين، هو الذي أدى إلى إعادة الثقة بالنفس من قبل المسلمين. وهذا ما جعاهم يعودون إلى ميدان القتال حيث ينتظرهم النبي عليه السلام، يستجيب لأمر الله بقتال المشركين كافة، كما يقاتلون المسلمين كافة.
ثم كانت غزوة الطائف بعد حنين في سنة ثمان.
ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال. و لم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود، ولا غيدن بن سلمة، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور.
قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية، فابتنى بها مسجداً فصلى فيه.
قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب: أنه أقاد يومئذ ببحرة الرغاء، حين نزلها، بدم، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، رجل من بني ليث قتل رجلاً من هذيل، فقتلته به.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بلية، بحصن مالك بن عوف فهدم، ثم سلك في طريق يقال لها الضيقة، فلما توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن اسمها، فقال: ما اسم هذه الطريق؟ فقيل له: الضيقة، فقال: بل هي اليسرى، ثم خرج منها على نخب، حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة: قريباً من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن تخرج، وإما أن نخرب عليك حائطك؛ فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخرابه.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريباً من الطائف، فضرب به عسكره، فقتل به ناس من أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف، وكانت النبل تنالهم، ولم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطهم، أغلقوه دونهم؛ فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل وضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم، فحصرهم بضعاً وعشرين ليلة. قال ابن هشام: ويقال: سبع عشرة ليلة. قال ابن إسحاق: ومعه امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية، فضرب لهما قبتين، ثم صلى بين القبتين.
ثم أقام، فلما أسلمت ثقيف بني على مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية بن وهب بن معتب ابن مالك مسجداً، وكانت في ذلك المسجد سارية، في ما يزعمون، لا تطلع الشمس عليها يوماً من الدهر إلا سمع لها نقيض، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم قتالاً شديداً وتراموا بالنبل.
قال ابن هشام: ورماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق. حدثني من أثق به، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق، رمى أهل الطائف.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة، ثم زحفوا إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتلوا منهم رجالاً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناس فيها يقطعون.
وجد الأنصار من حرمانهم واسترضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ابن هشام: حدثني زياد بن عبدالله، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري قال : لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا، في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.
قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالة بلغني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!
قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ الله ولرسوله المن والفضل.
قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم.
ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.
وكانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع، وهي آخر غزوة غزاها التبي عليه السلام.
قال: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام قال زياد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم. وقد ذكر لنا الزهري ويزيد بن رومان وعبدالله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم من علمائنا، كل حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لا يحدث: بعض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ، وذلك في زمان من عسرة الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة: يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك.
ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ). أي : إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرغبة بنفسه عن نفسه، يقول تعالى: وإن جهنم لمن ورائه.
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: ( وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون ).
قال ابن هشام: وحدثني الثقة عمن حدثه عن محمد بن طلحة بن عبدالرحمن، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبدالله بن حارثة عن أبيه عن جده، قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، وكان بيته عند جاسوم، يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خلفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فافلتوا.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها.
قال ابن هشام: حدثني من أثق به: أن عثمان ابن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أرض عن عثمان فإني عنه راض.
قال ابن إسحاق: ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بن حارثة، وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب، وأخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن حمام بن الجموح، أخو بني سلمة، عبدالله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقول: بل هو عبدالله بن عمرو المزني وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه. فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمر بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبدالرحمن بن كعب وعبدالله بن مغفل وهما يبكيان، فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه؛ فأعطاهما ناضجاً له فارتحلاه، وزودهما شيئاً من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وجاءه المعذرون من الأعراب، فاعتذروا إليه فلم يعذرهم الله تعالى، وقد ذكر لي أنهم نفر من بني غفار.
ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تخلفوا عنه عن غير شك ولا ارتياب؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب، أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع، أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، أخو بن واقف، وأبو خيثمة، أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق، لا يتهمون في إسلامهم.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري.
وذكر عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة، مخرجه إلى تبوك، سباع بن عرفطة.
قال ابن إسحاق: وضرب عبدالله ابن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين.
فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبدالله بن أبي. فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، إلى أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً له، وتخففاً منه، فلما قال ذلك المنافقون: أخذ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه سلاحه، ثم خرج حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله زعم المنافقون انك إنما خلفتني أنك استثقلتني، وتخففت مني؛ فقال: كذبوا. ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع علي إلى المدينة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي هذه المقالة.
قال ابن إسحاق: ثم رجع (علي) المدينة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
قال ابن إسحاق: قد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع، حليف لبني سلمة، يقال له: مخشن بن حمير. قال ابن هشام: ويقال مخشي - يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً! والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال مخشن بن حمير: والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر: أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته، فجعل يقول وهو أخذ بحقبها: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب؛ فأنزل الله عز وجل: ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ). وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي، وكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشن بن حمير، فتسمى عبدالرحمن، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة، صاحب أيلة، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم كتاباً فهو عندهم.
وآخر بعث كان بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين. قال ابن إسحاق: ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وضرب على الناس بعثاً إلى الشام، وأمر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون.
ولكن كانت منية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إنفاذ بعث أسامة.
خلاصة:
1 - المتابع لسيرة المصطفى عليه السلام يلاحظ بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاهد المشركين وقاتلهم منذ نزل أمر الله تبارك وتعالى حتى آخر رمق في حياته العامرة، وذلك بالطلب من المسلمين بإنفاذ بعث أسامة بن زيد وهو على فراش الموت.
2 – لقد كانت وتيرة الغزوات والسرايا متسارعة بشكل لا يترك للأعداء فرصة للراحة، ولا لأخذ الأنفاس.
3 – كما أن وتيرة الغزوات والسرايا تؤكد أن النبي عليه السلام والمسلمين لم يكونوا يملكون وقتاً للراحة منذ نزل أمر الله بقتال المشركين.
4 – استعارة الدروع من أحد المشركين في غزوة حنين.
5 – توزيع الأموال على المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين، وقد أصبح هؤلاء حكام المسلمين من دون السابقين.
6 – قبول الأنصار بأن يفوزوا برسول الله عليه السلام من دون أموال هوازن.
7 – المحافظة على استشارة الناس كما حصل في بدر الكبرى وأحد ومؤتة...
حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق