من سيرة المصطفى - 19-
أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. (النحل 125)
وإنك لعلى خلق عظيم. (القلم 4)
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. (الأنبياء 107)
عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا - الحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي.
وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم.
وعن أم المؤمنين عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، قالت:( كان خلقه القرآن) صحيح مسلم.
الدعوة إلى الله تبارك وتعالى هي ممارسة واعية لا يحسنها إلا من تعاقد مع الله على أن يكون عمله كله لوجهه الكريم. لقد كان النبي أحسن من أجاد الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمره رب العزة. وحيث أننا مأمورون بالتأسي بنبينا عليه الصلاة والسلام، أللهم إذا أردنا أن يكون عملنا مقبولاً عند ربنا تبارك وتعالى، فما علينا إلا أن نبشر ولا ننفر، وأن نيسر ولا نعسر. هذه نصيحة المصطفى عليه السلام لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن.
وسوف نرى كيف مارس الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة من خلال مواقفه في سيرته المباركة.
هذا هو المثال الأول لكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أحد المشركين عندما استولى المسلمون على مال لأبي العاص، وقدومه لاسترداده، و إجارة زينب له.
قال ابن إسحاق: وأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حين فرق بينهما الإسلام،(فقد كانت زينب بنت محمد زوجة أبي العاص) حتى إذا كان قبيل الفتح، خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام، وكان رجلاً مأموناً، بمال له وأموال لرجال من قريش، أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلاً، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هارباً، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبوالعاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار بها، فأجارته، وجاء في طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح - كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صُفَّة النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع.
قال: فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم؛ قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته، فقال: أي بُنيَّة، أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، و قد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به؛ فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوه عليه، حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الرجل بالشَّنَّة(قربة بالية) وبالإداوة(إناء صغير من جلد للماء)، حتى إن أحدهم ليأتي بالشِّظاظ(خُشَيْبة عَقْفاء محدَّدةُ الطرَف )، حتى ردوا عليه ماله بأسره، لا يفقد منه شيئاً. (أرأيتم إلى حديث النبي عليه السلام مع صحبه، فهو لم يأمرهم بشيء، إنما قال لهم أنه يحب أن يعيدوا المال إلى أبي العاص، علماً أن هذا المال هو حق لهم حسب سنة المصطفى عليه السلام. ولكنهم أعادوا جميع المال، كرمى لنبيهم عليه السلام. ماذا كانت النتيجة على أبي العاص؟)
ثم احتمله (أبو العاص المال) إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله، ومن كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؛ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت، ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (هذه نتيجة المعاملة الحسنة).
قال ابن إسحاق: وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الأول لم يحُدث شيئاً بعد ست سنين.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة: أن أبا العاص بن الربيع لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين، قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال، فإنها أموال المشركين؟ فقال أبو العاص: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. (أخلاقه إسلامية، لذلك قد أسلم).
وهذه قصة ثانية عن دعوة النبي عليه السلام بأخلاق الإسلام، بالموعظة الحسنة، لعمير بن وهب الذي جاء لقتله بعد تحريض صفوان له.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش في الحجر بيسير، وكان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناءً وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر.
قال ابن هشام: أسره رفاعة بن رافع أحد بني زريق.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش بعدهم خير؛ قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة: ابني أسير في أيديهم؛ قال: فاغتنمها صفوان وقال: علي دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أُواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم؛ فقال له عمير: فاكتم شأني وشأنك؛ قال: أفعل.
قال: ثم أمر عمير بسيفه، فشُحذ له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة؛ فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحاً السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا، وحَزَرنا(قدر بالحدس) للقوم يوم بدر.
ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه؛ قال: فأدخله علي، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون؛ ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير؛ فدنا ثم قال: إنعموا صباحاً، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام: تحية أهل الجنة، فقال: أما والله يا محمد، إن كنت بها لحديث عهد؛ قال: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه؛ قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال: اصدقني، ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمّل لك صفوان بدَيْنك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك؛ قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره، ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله، إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لي، فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم؟ قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة.
وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبداً، ولا ينفعه بنفع أبداً.
قال ابن إسحاق: فلما قدم عمير مكة، أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذي من خالفه أذىً شديداً، فأسلم على يديه ناس كثير. (هذه هي الموعظة الحسنة التي حولت العدو إلى داعية إلى الله عز وجل، كل أمر نبينا فيه خير).
وعندما جاء نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم، دعاهم إلى الإسلام، فلم يقبلوا. فدعاهم إلى الملاعنة، فلم يقبلوا. ولكنهم طلبوا من يحكم بينهم فقبل النبي عليه السلام بما طلبوه. وعلينا أن نعلم أن جل نصارى الجزيرة العربية قد دخلوا الإسلام عن طيب خاطر.
وكانت الملاعنة آخر الدواء: (الملاعنة هي المباهلة، عند ابن منظور): فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأُمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا له: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبدالمسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضاً.
قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني العشية أبعثْ معكم القوي الأمين. قال: فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مُهجِّراً، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: اخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.
أما عندما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم الإنتصار الفصل، يوم فتح مكة، فما الذي فعله؟ قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبدالله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعاً على راحلته، يستلم الركن بمحجم في يده؛ فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس(وقفوا ينظرون إليه) في المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة (الأثر) أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها.
يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ... الآية كلها .
ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. (هذا ما فعله بأكثر الناس عداوة له وعلى من تآمر عليه وعلى دين الله).
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، إجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء.
أما ما فعله مع الشيماء يرينا هذه الأخلاق التي لا يشابهه فيها أحد. قال ابن إسحاق: وحدثني بعض بني سعد بن بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: إن قدرتم على بجاد، رجل من بني سعد بن بكر، فلا يفلتنكم، وكان قد أحدث حدثاً، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء، بنت الحارث بن عبدالعزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فعنفوا عليها في السياق؛ فقالت للمسلمين: تعلموا والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة؛ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبيد السعدي، قال: فلما انتهى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا رسول الله، إني أختك من الرضاعة؛ قال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك؛ قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه، فأجلسها عليه، وخيرها، وقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت؛ فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي.
فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردها إلى قومها. فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاماً له يقال له مكحول، وجارية، فزوجت أحدهما الأخرى، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.
ولكن حسن سياسته لأمور المسلمين ظهرت عندما كاد المسلمون أن يقتتلوا فيما بينهم. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين؛ فغضب عبدالله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! لا ولكن أذن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس.
وقد مشى عبدالله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلَّغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وكان في قومه شريفاً عظيماً، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حدباً على ابن أبي سلول، ودفعاً عنه.
قال ابن إسحاق: فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبدالله بن أبي؛ قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، وهو والله الذليل وأنت العزيز؛ ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً. (وهذا أسيد قد اكتسب أخلاق النبوة).
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبدالله بن أبي.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبدالله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا. ( هذه أخلاق النبوة).
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأُرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته؛ قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري. (صدق عمر، رضي الله عنه).
وهذا حديث جويرية على ما حصل في غزوة بني المصطلق والتي أدت إلى إسلام زعيمهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب منهم(بني المصطلق) سبياً كثيراً، فشا قسمه في المسلمين؛ وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة مُلاّحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها؛ قالت عائشة: فوالله ما هو إلا ان رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء، ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي؛ قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؛ قالت: نعم يا رسول الله؛ قال: قد فعلت.
قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم؛ قالت: فلقد أُعتق بتزوجيه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.
قال ابن هشام: ويقال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث، وكان بذات الجيش، دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة، وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته؛ فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيَّبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق، في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، فوالله ما اطلع على ذلك إلا الله، فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما، فدفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودُفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت، وحسن إسلامها؛ فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها، فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.
أما يوم الحديبية فقد كان من حسن سياسته أن جعل معسكر الأعداء ينقسم على نفسه لصالح المسلمين. فقد كان الحليس زعيم الأحابيش من المتألهين، لذلك كانت مبادرة النبي عليه السلام تنسجم مع صفة الحليس. قال ابن هشام: ثم بعثوا(قريش) إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رآى الهدي يسيل عله(من الشرب) من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك. قال: فقالوا له: إجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم. أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له! والذي نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
وهكذا يكون الحليس قد اختلف مع قريش عندما أراه النبي عليه السلام أنه لم يأت إلا لتعظيم رب البيت.
أما عندما وجد الأنصار من حرمانهم من أموال هوازن واسترضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم:
قال ابن هشام: حدثني زياد بن عبدالله، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري قال:
لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا، في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.
قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
يا معشر الأنصار، ما قاله بلغني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!
قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ الله ولرسوله المن والفضل.
قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم.
ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.
وهذا صحابي آخر، جعيل بن سراقة، لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، أن يدخله ضمن دائرة المؤلفة قلوبهم، أمثال عيينة بن حصن أو الأقرع بن حابس أو أبي سفيان بن حرب أو ابنه معاوية، لذلك، ترك النبي عليه السلام جعيل لدينه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي:
أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض، كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، ولكني تألفتهما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
وهكذا نكون قد رأينا كيف أن ما قام به النبي عليه الصلاة والسلام، بدعوة الناس بالتي هي أحسن قد أدت إلى إعزاز المسلمين وتعزيز الإسلام. وقد كانت حميع الأمثلة عندما كان الإسلام قوياً، وعندما كان بإمكان المسلمين أن يبطشوا بأعدائهم. ولكن الدعوة كلنت بالتي هي أحسن.
11 كانون الثاني 2011 حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق