من سيرة المصطفى – 20 -
قال تبارك وتعالى: "وأمرهم شورى بينهم". (الشورى 38)
وقال تعالى: "وشاورهم في الأمر". (آل عمران 159)
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله. رواه البخاري.
حدثنا الوليد حدثنا زهير بن محمد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه. سنن أبي داوود.
لقد حرصنا، ولا نزال، على أن نؤيد ممارسات النبي صلى الله عليه وسلم، من خلال سيرته بواسطة القرآن الكريم، وذلك حتى تكون استنتاجاتنا موثقة. وما نصبو إليه من خلال دراستنا هو أن نتأسى بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام. فنحن نعتقد أن أمتنا لا تصلح إلا إذا تأست بالنبي عليه السلام. إن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نتخذ النبي أسوة حسنة. كما وأن النبي بسيرته يساعدنا على فهم القرآن عملياً. فقد كان خلقه، صلى الله عليه وسلم، القرآن.
نأتي إلى الشورى والتشاور. من حيث اللغة لم نجد فرقاً بين الشورى والتشاور. من هنا، فسوف نتعامل مع الشورى والتشاور بنفس المعنى والمدلول. وسوف نرى كيف شاور النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه. كما أننا سنرى من من أصحابه شاور. هل أنه اختار رجالاً محددين أم أنه شاور الجميع من دون تخصيص. وهذا حتى نرى أن الكثير الكثير قد استعملوا التأويل المناقض لممارسة النبي الكريم حتى وصلوا إلى تحديد أناس محددين للقيام بالشورى. وعلينا أن نتذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الأسوة الحسنة. كما علينا أن نتذكر أنه الوحيد الذي لا يرد حكمه.
أولاً: يوم بدر جمع الناس جميعاً وشاورهم، بعد أن جاءه الخبر عن قريش. قال ابن هشام: وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم؛ فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش؛ فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن.
ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون) (المائدة 24). ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له به.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل؛ قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك؛ ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
فالمشاورة كانت هنا لجميع الناس. وحتى عندما أراد الأنصار لم يطلب من النقباء الحديث، إنما الحديث كان موجهاً للجميع من دون استثناء.
وهذه استشارة ثانية: قال ابن إسحاق: فحُدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا: أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل (المكان الذي عسكر فيه المسلمون في غزوة بدر)، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي.
فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، و بنى حوضاً على القَليب الذي نزل عليه، فمُلىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
الحباب بن المنذر هو الذي أشار على النبي عليه السلام، وقد قُبلت المشورة على الرحب والسعة. ولم يسأله النبي من أنت حتى تشير علي!
في الخندق: فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه؛ فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما؛ فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبدالله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرىً ( ضيافة ) أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
هنا كانت المشاورة مع سادة القوم.
أما سلمان فقد أشار على النبي عليه السلام من غير أن يستشيره. ومع ذلك فقد أخذ النبي بمشورته. قال ابن هشام: يقال: إن سلمان الفارسي أشار به (بالخندق) على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا كانت الإشارة من أم المؤمنين، أم سلمة رضي الله عنها، ومن دون أن يستشيرها. ولكنه كان يشكوها همه. فأشارت عليه، واستجاب لمشورتها. أخرج البخاري في باب شروط الجهاد وغيره في قصة صلح الحديبية وننقل موضع الحاجة: ((.....قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ "قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا". قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ .
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا.
أما في أحد فقد قبل مشورة القوم، بالرغم من عدم رضاه. ذلك أن الأكثرية هي التي أشارت عليه.
قال ابن هشام: فلما سمع بهم (قريش) رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت بقراً لي تذبح، قال: فأما البقر فهي ناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في ذباب سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل.
قال ابن إسحاق: فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبدالله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك، وألا يخرج إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره، ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا نخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منَّا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، فلبس لأْمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة. وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له: مالك بن عمرو، أحد بني النجار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم، وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك. فلما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله: استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه.
أما في أمر يهم أهل بيته، فقد استشار من أهل بيته. استشار علياً وأسامة والخادمة. قال ابن هشام: قالت (عائشة): فدعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، و أسامة بن زيد، فاستشارهما؛ فأما أسامة فأثنى علي خيراً وقاله؛ ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيراً، وهذا الكذب والباطل؛ وأما علي فإنه قال: يا رسول الله، إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية، فإنها ستصدقك.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بُريرة ليسألها؛ قالت: فقام إليها علي بن أبي طالب، فضربها ضرباً شديداً، ويقول : اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قالت: فتقول والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً، إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله.
هذه هي المرات التي استشار فيه النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه. ومن خلالها يمكننا التأكيد على أن الإستشارة لم تكن لأناس مخصوصين. بل كان جميع المسلمين أهلاً للإستشارة، كما مارس عليه السلام.
كيف تتم الإستشارة في أيامنا هذه؟
لا بد في أيامنا هذه من مجلس للإستشارة يضم جميع الإختصاصات في مختلف العلوم. تجمعهم جميعاً خاصية واحدة هي تقوى الله، وعدم الإرتباط بأصحاب السلطة وعدم الإرتباط بالأجنبي. وتكون مهمة هذا المجلس إصدار الفتوى. وليس لشخص واحد، مهما بلغ علمه أن يحيط بجميع المعارف في أيامنا هذه. فما يسمى بعالم الدين لا يستغني عن استشارة علماء الدنيا، حتى يفتي وهو مطمئن...
14 كانون الثاني 2011 حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق