بحث هذه المدونالهجرة النبويةة الإلكترونية
حسن ملاط
- فكر وتربية
- القلمون, طرابلس, Lebanon
- كاتب في الفكر الاجتماعي والسياسي والديني. تربوي ومعد برامج تدريبية ومدرب.
الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010
الهجرة إلى المدينة (يثرب): الحكومة والكيان
الهجرة في حقيقتها هي الخطوة الأولى على طريق إقامة دار الإسلام في المدينة: القاعدة الآمنة التي ينطلق منها المؤمنون لقتال المشركين.
بعد أن ازداد عدد المؤمنين بالدعوة الجديدة التي قادها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد أن فرغ صبر قادة مكة على النبي عليه السلام، حتى أنهم غضبوا حتى على أبي طالب، عم النبي والذي كان يؤمن له الحماية، بدأ اضطهاد قريش للمؤمنين بالرسالة الخاتمة. وكان الإضطهاد يزيد يوماً بعد يوم، حتى أن النبي لم يعد يحتمل ما كان يتحمل أتباعه من القهر، طلب منهم الهجرة إلى الحبشة.
قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغارا وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشك فيه.
وعندما عرف مشركو مكة أن المهاجرين يعيشون بسلام في الحبشة، قرروا أن يبعثوا وفداً للإتيان بهم لاضطهادهم من جديد.
قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها داراً وقراراً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردهم عليهم، ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم، التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها؛ فبعثوا عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته، ثم بعثوهما إليه فيهم.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار النجاشي، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نُؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه؛ فلما بلغ ذلك قريشاً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم.
ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم و عشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله، إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن.
فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟
قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال له: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف؛ فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات؛ وأمرنا أن نعبدالله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك؛ ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم؛ فقال له النجاشي: فاقرأه علي؛ قالت: فقرأ عليه صدراً من: ( كهيعص )(سورة مريم). قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلَّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يُكادون.
ولكن وفد مكة أعاد الكرة بدهاء أكثر، أما النجاشي فأصر على حماية المهاجرين من المسلمين.
وبعد فترة من الزمن، سمع المهاجرون أن أهل مكة آمنوا فرجعوا.
قال ابن إسحاق: وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين خرجوا إلى أرض الحبشة، إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفياً.
ثم مات أبو طالب، عم النبي والذي كان يؤمن له الحماية. قرر النبي عليه السلام الذهاب إلى الطائف عله يجد من ينصر هذا الدين.
قال ابن إسحاق: ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه؛ فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك؛ وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا. لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي - : إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغَ قومَه عنه، فيُذْئِرهم ذلك عليه.
فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حَبَلة من عنب، فجلس فيه. وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فيما ذكر لي - اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنـزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
قال: فلما رآه ابنا ربيعة، عتبة وشيبة، وما لقي، تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له عداس، فقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه.
ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، قال: باسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس، وما دينك؟ قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؛ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه.
قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عداس، قالا له: ويلك يا عداس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي؛ قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
صحيح أن النبي قد لاقى الأذى من ثقيف، ولكنه خاطب ربه قائلاً: إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي. عاد إلى مكة وبدأ جولة جديدة من الدعوة إلى الله.
قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين، ممن آمن به.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم، إذا كانت، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم الله ما بعثه به.
قال ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم. فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم؛ قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى.
فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبياً مبعوث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا.
حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة. قال: وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.
قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي، وأمره أن يُقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يُسمَّى المقرِىء بالمدينة: مصعب. وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس، أبي أمامة.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضُهم أن يؤمه بعض.
قال ابن إسحاق: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، من أوسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته، والنصر لنبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.
قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيا، لنمنعنك مما نمنع منه أُزُرنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر.
إذن إنها بيعة القتال، بيعة لها معنىً آخر!
قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم.
قال ابن هشام: ويقال: الهدم الهدم: يعني الحرمة. أي ذمتي ذمتكم، وحرمتي حرمتكم.
قال كعب بن مالك: وقد كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إلي منكم اثنى عشر نقيباً، ليكونوا على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم؛ قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأمول، وقتل الأشراف، فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة؛ قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف؛ فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفَّينا بذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك؛ فبسط يده فبايعوه.
قال ابن إسحاق: وكانت بيعة الحرب، حين أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال شروطا سوى شرطه عليهم في العقبة الأولى، كانت الأولى على بيعة النساء، وذلك أن الله تعالى لم يكن أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في الحرب، فلما أذن الله له فيها، وبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود، أخذ لنفسه واشترط على القوم لربه، وجعل لهم على الوفاء بذلك الجنة.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه الوليد، عن جده عبادة بن الصامت، وكان أحد النقباء، قال:
بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعه الحرب - وكان عبادة من الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى على بيعة النساء - على السمع والطاعة، في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.
قال: حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبدالله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم، فهم من بين مفتون في دينه، ومن بين معذب في أيديهم، ومن بين هارب في البلاد فرارا منهم، منهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه؛ فلما عتت قريش على الله عز وجل، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه صلى الله عليه وسلم، وعذبوا ونفوا من عبده ووحَّده وصدق نبيه، واعتصم بدينه، أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم.
فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب، وإحلاله له الدماء والقتال، لمن بغى عليهم، فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء، قول الله تبارك وتعالى: ( أذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن اللهُ من ينصره، إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور ) . أي: أني إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظُلموا، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس، إلا أن يعبدوا الله، وأنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجميعن، ثم أنزل الله تبارك وتعالى عليه: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) . أي: حتى لا يُفتن مؤمن عن دينه: ( ويكون الدين لله ) . أي: حتى يُعبدالله، لا يعبد معه غيره.
ومن الطبيعي أن يلي اإذن بالقتال الإذن بالهجرة، أو بالأحرى الأمر بالهجرة إلى المدينة. وهذا الأمر طال جميع المسلمين أينما وُجدوا.
قال ابن إسحاق: فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه، وأوى إليهم من المسلمين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين، بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها.
فخرجوا أرسالاً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة.
وقد أحسّ مشركو قريش إحساساً حاداً خطورة الهجرة. يقول تعالى: ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك ويمكرون ويمكر اللهُ، واللهُ خير الماكرين )( الأنفال 136) . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن نفراً من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم ابليس في صورة شيخ جليل فلمّا رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن اُحضركم ولن يعدمكم منّي رأي أو نصح، قالوا: أجل فادخل. فدخل معهم فقال: اُنظروا في شأن هذا الرجل (محمد)، فقال قائل احبسوه في وثائق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير ونابغة، فإنما هو كأحدهم، فقال عدو الله الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله، ليخرجنّ رائد من محبسه إلى أصحابه فليوشكنّ أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم، ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا في غير هذا الرأي. فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم واستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع، فقال الشيخ النجدي: والله، ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما يستمع من حديثه؟ والله، لئن فعلتم، ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله، فانظروا رأياً غير هذا. فقال أبو جهل: والله، لأشيرنّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره قالوا: وما هذا؟ قال: تأخذون من كل قبيلة وسيطاً شاباً جلداً ثم نعطي كل غلام منهم سيفاً صارماً يضربونه ضربة رجل واحد... (تفسير الجلالين أسباب نزول الآية 20 من الأنفال) . نقلنا هذا الكلام الطويل لأهميته وخاصة ما كان يقوله الشيخ النجدي ـ لعنه الله ـ بأن محمداً سوف يخرجهم من بلادهم إذا سمحوا له بالهجرة. لقد أحسَّ المشركون بخطورة هذه الخطوة (الهجرة) فكيف بصاحبها!
وهاجر المسلمون، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. إجتمعوا فأصبحوا كياناً. وما أن وصل النبي حتى أمر ببناء المسجد، كما وأمر بإنشاء سوق للمسلمين لأن اليهود كانوا يسيطرون على سوق المدينة.
وكانت الخطوة الكبرى هي كتابة الوثيقة بين المسلمين واليهود والني تبين أن الحكومة هي بيد محمد صلى الله عليه وسلم وبرضى اليهود.
وبذلك تكون الهجرة بحقيقة أمرها هي إنشاء الكيان: كيان المسلمين. وتكون أيضاً تأسيس أول حكومة إسلامية بقيادة رسول الله محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
26 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
السبت، 23 أكتوبر 2010
رسالة إلى معالي وزير التربية
كثير من الدول مارست برامج للدعم المدرسي، ومنها من لا يزال يمارسها حتى الآن. ولكن الدعم يأتي من ضمن خطة مؤقتة بعدد من السنوات، لأن الدعم لا يمكن أن يكون دائماً وإلا أصبح من ضمن البرنامج التعليمي. وبرنامج الدعم يكون ضرورياً عندما يتمكن من أن يحل المشاكل الموجودة.
هل يمكننا معرفة إمكانية برنامج الدعم على حل المشاكل؟
الجواب هو الإيجاب ولكن ذلك يكون مرهوناً بخطة تقوم على حل المشاكل الفعلية لما يعاني منه تلامذتنا.
صرح وزير التربية الأسبق الأستاذ سمير الجسر أنه وجد كثيراً من التلامذة في الصف الرابع أساسي يمكن إعتبارهم أميين. هذه واحدة. منذ حوالي السنتين اجتمع عدد من الأساتذة الجامعيين من مختلف الجامعات اللبنانية، رسمية وخاصة، للبحث بالضعف المطلق باللغات وأن الطلاب لا يقرأون، حتى لا يقولوا لا يحسنون القراءة. هذه ثانية.
أما الثالثة، أنه نتيجة للتقييم السنوي التي تقوم به مختلف البلدان الأوروبية في نهاية الصف الخامس، تبين أن هناك حوالي العشرين بالماية من الطلاب لا يحسنون القراءة. وأن هذا الرقم تكرر في عدة دول منها على سبيل المثال فرنسا وسويسرا وألمانيا...الخ. وأن 65 % من العشرين بالماية يمكن إعتبارهم أميين. وبعد دراسة للأسباب استمرت سنوات عدة تبين أن السبب في ذلك يعود إلى طريقة التعليم المتبعة في الروضة والصف الأول أساسي، والذي يقوم (أي التعليم) على تعليم القراءة بالطريقة المجملة، أو ذات الإنطلاقة المجملة. وتقرر في هذه الدول تباعاً التخلي عن تعليم القراءة بهذه الطريقة (أي المجملة) واتبعت الطريقة التركيبية التي تنطلق من تعليم الحروف وأصواتها إلى أن نصل إلى تعليم الكلمات تبعاً لخطة مرسومة يمكن التحدث فيها مع اصحاب الإختصاص. وقد تبين أيضاً نتيجة هذه الدراسات مضافاً إليها الدراسات الميدانية أن الطريقة التركيبية تساعد الطفل على القراءة الواعية، أي القراءة وفهم ما يقرأ والقراءة السريعة ومعرفة اللغة أيضاً. (جميع هذه الدراسات موثقة). في فرنسا بدأ التدريس بالطريقة التركيبية منذ 2009 ، ولكن لا يزال الخبراء الفرنسيون الذين تستقدمهم وزارة التربية في بلدنا ينصحون بالطريقة المجملة؟!!
ماذا يقول العلم الحديث بالنسبة لتعلم القراءة؟
لا حاجة لنا لأن نقول أن القراءة ضرورية لتعلم جميع المواد وأن عدم إجادة القراءة يمكن أن تكون السبب في الإعاقة بجميع المواد. من هنا الأهمية التي نعطيها لهذا الموضوع.
إن من أهم الدراسات في مجال تعليم القراءة تلك التي قامت بها "إليز تامبل" فقد أجرت تجربة على عشرين ولداً يعانون من الصعوبات الحقيقية في تعلم القراءة dyslexie(لأن هناك صعوبات غير صحيحة تُدعى fausse dyslexie وهذه تكون نتيجة خطأ في التشخيص)، وهذا المرض يكون ناتجاً عن تشوه ما في الدماغ. فقد صورت أدمغتهم قبل البدء بتعليمهم القراءة بواسطة الطريقة التركيبية. بعد تعلمهم القراءة أعادت تصوير أدمغتهم بواسطة IRM فتبين أن أدمغتهم أصبحت مشابهة كثيراً للأدمغة الغير مصابة بالتشوه. وقد استنتجت أن طريقة التعليم تؤثر على بنية الدماغ.
لن نتحدث عن جميع التجارب، فهي كثيرة. ولكن سوف نتحدث عن أحدثها والتي نجدها في كتاب الأستاذ Stanislas Dehaene أستاذ كرسي علم النفس المعرفي الإختباري في الجامعة الباريسية College de France، وهذه الجامعة أهم من أن تعرف، والكتاب معنون Les neurones de la lecture. فقد تبين أن في الدماغ مركز للقراءة. فعندما نعلم الولد (أو الكبير) القراءة بالطريقة المجملة Méthode globale ou á depart globale تذهب الكلمة إلى الجزء الأيمن من الدماغ ولكن هذا الجزء من الدماغ hémisphère droit لا يقبل الكلمة لأنها ليست صورة إنما هي مؤلفة من عناصر (أحرف) لها تمثيل صوتي. لذلك يبعثها إلى الجزء الأيسر الذي يقوم بتحليلها إلى عناصرها، أي إلى الأحرف الذي يرمز كل منها إلى صوت معين. وحيث أن الولد الذي يتعلم بواسطة الطريقة المجملة لا يعرف الأحرف وأصواتها، يقع الدماغ بإشكالات تجعله لا يقرأ الكلمة إلا عندما يطلق إحتمالات إلى كيفية قراءتها. وحيث أن الوقت الوسطي لقراءة الكلمة التي يعرف الطفل أحرفها هو عشرون ملليثانية يصبح الوقت الوسطي لقراءة الكلمة بالطريقة المجملة هو 300 ملليثانية. أي أن الطفل يخسر 1500 % من حياته في تعلمه القراءة بالطريقة المجملة.
ملاحظة: للإستزادة بموضوع الدراسات النظرية في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى الدراسات التي قام بها R. W. SPERRY و Lucien Israëlو Wettstein Badourو Elise Templeو F. GRICKو Michèle Mazeau و Sally SCHAUWITZو S.DEHAENEو Morais.
أما بالنسبة للتجارب العملية فهناك الكثير، ولكن أبرزها الدراسة الميدانية ل Claude Bernard من جامعة ACADEMIE D’ORLEANS – TOURS والتي أجرتها في عدة مدارس مختلفة ( مدارس في المدينة والريف، مدارس من الأهل الميسورين ومدارس حيث الأهل فقراء ومهاجرين). أثبتت هذه الدراسة ما يلي: تعليم القراءة بالطريقة المجملة أدى إلى عدم معرفة الأطفال العلاقة بين الحرف وصوته. كما وأدت إلى عدم معرفة العملية الإجرائية للقراءة أي التهجئة لمعرفة قراءة الكلمات الجديدة.
كما وأن هذه الدراسة الميدانية أثبتت أن تعليم القراءة بالطريقة التركيبية كانت ملائمة جداً.
كما أن التجارب الميدانية للدكتور بدور كانت رائدة. إن التعليم بواسطة الطريقة التركيبية قد بدأ في فرنسا منذ أكثر من عشرة سنين على يد الدكتورة Ghislaine Wettstein-Badour التي بينت دراساتها الميدانية أن تعليم القراءة بالطريقة المجملة يؤدي إلى الصعوبة في تعلم القراءة والتي أثبتت التجارب التي قام بها Stanislas Dehaenne صحتها، حيث أنه برهن أن مركز القراءة في الدماغ لا يمكنه التعامل مع الطريقة المجملة. ومن الجدير ذكره أن الدكتور Badour قد أبدعت طريقة لتعليم القراءة الفرنسية، وهي تُعلَم منذ اكثر من عشر سنوات وقد أثبتت نجاحها الباهر. هذه الطريقة تُدعى: Fransya. ويوجد في الأسواق الفرنسية كتاب التلميذ وكتاب المعلم وكتب تتعلق بتعليم النحو أيضاً. ومن الجدير ذكره أن هذه الطريقة تلتزم بصرامة بكل ما أثبتته الدراسات العصبية الحديثة بموضوع تعليم القراءة الذي لم يعد يعتمد على الفرضيات، إنما يعتمد على اليقين العلمي.
وهناك طريقة أخرى بتعليم القراءة أثيتت جدارته في فرنسا وهي تعتمد الطريقة التركيبية أيضاً وهي تمارس منذ أكثر من خمس سنوات تُدعى: Lire avec Leo et Lea وهي كشبيهتها التي تحدثنا عنها، أصبحت معروفة جداً في فرنسا في أوساط الأهل وفي أوساط المعلمين ونتائجها باهرة.
ملاحظة: يوجد مواقع للطريقتين على الانترنت.
ملاحظة: بالنسبة للغة العربية قام كاتب المقال بتطبيق الطريقة التركيبية في اللغة العربية لمدة سنتين في الصف الأول أساسي وكانت النتائج باهرة. حيث أن التلاميذ الأطفال تمكنوا من القراءة بسهولة حتى الكلمات الجديدة، حيث أن إجراءات القراءة كانت واضحة لديهم: تهجئة الكلمة الجديدة لقراءتها.
وحتى لا نتعب القارىء فمن يريد الإستزادة في هذا الموضوع يمكنه أن يشتري كتاب Stanislas Dehaenne حيث يوجد في الكتاب الكثير من التفاصيل الممتعة والتي تبين عيانياً كيف يعمل الدماغ عندما نتعلم القراءة، أو يمكنه الكتابة لنا لنزوده بجميع التفاصيل باللغة العربية.
ما العمل في بلدنا؟
حتى تنجح خطة الدعم المدرسي، التي لن تنجح من غير الإلتزام بما سنقترحه، يجب:
أولاً: التخلي عن التدريس بالطريقة المجملة في الروضة والصف الأول أساسي.
ثانياً: يجب تعليم الأحرف وأصواتها لتلامذة الصف الثاني أساسي قبل البدء بإعطاء دروس جديدة في اللغة. ومن ثم البدء ببرنامج الصف الثاني.
ملاحظة: يوجد كتب فرنسية تستجيب للطريقة الجديدة في التعليم سواء للروضات أو الصف الأول اساسي أو الصف الثاني أساسي. ويمكن شراؤها من عدة دور نشر.
ملاحظة: بالنسبة للغة العربية يمكن تأمين كتاب أيضاً في حال قررت الوزارة ومعالي الوزير الإستجابة لما تفرضه الكشوفات العلمية الحديثة بالنسبة لتعليم القراءة والتي أثبتت بما لا يدع أي مجال للشك أن التعليم بالطريقة المجملة يضر بالدماغ ويؤدي إلى ما يسمى مرض الصعوبة بتعلم القراءة. كما وأثبتت الدراسات في فيزيولوجية الدماغ أن الطريقة الوحيدة التي يقبلها الدماغ في تعلم القراءة هي الطريقة التركيبية.
المهم، إذا التزمت الوزارة بما تقدم فهي بحاجة أن تطبق برنامج الدعم المدرسي لمدة سنتين فقط، ثم تتخلى عن هذا البرنامج، لأن التلامذة يصبحون بغير حاجة للدعم.
وأخيراً نحن على استعداد لمناقشة هذا الموضوع مع أي كان لما فيه مصلحة أولادنا.
حسن ملاط
hassanmallat@hotmail.com
حلف الفضول
هذا الحلف كان قبل أن ينزل الوحي على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحوالي العشرين سنة. ولكن لهذا الحلف أهمية خاصة. فهو يتجاوز كل ما يسمى بالأعراف القبلية، والعادات التي كانت عليها الجزيرة العربية بما فيها مكة أيضاً.
إليكم قصة الحلف كما جاءت في "الروض الأنف" للسهيلي. وقد نقلنا عن السهيلي لأن رواية ابن هشام تدخل ضمن سياق رواية السهيلي.
ذكر ابن هشام الحلف الذي عقدته قريش بينها على نصرة كل مظلوم بمكة قال ويسمى حلف الفضول ولم يذكر سبب هذه التسمية وذكرها ابن قتيبة، فقال كان قد سبق قريشا إلى مثل هذا الحلف جرهم في الزمن الأول فتحالف منهم ثلاثة هم ومن تبعهم.
أحدهم الفضل بن فضالة، والثاني: الفضل بن وداعة، والثالث فضيل بن الحارث، هذا قول القتبي.
وقال الزبير الفضيل بن شراعة والفضل بن وداعة، والفضل بن قضاعة، فلما أشبه حلف قريش الآخر فعل هؤلاء الجرهميين سمي حلف الفضول والفضول جمع فضل وهي أسماء أولئك الذين تقدم ذكرهم.
وهذا الذي قاله ابن قتيبة حسن ولكن في الحديث ما هو أقوى منه وأولى.
روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت. تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، وألا يعز ظالم مظلوما .
ورواه في مسند الحارث بن عبد الله بن أبي أسامة التميمي.
فقد بين هذا الحديث لم سمي حلف الفضول وكان حلف الفضول بعد الفجار وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب.
وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاصي بن وائل وكان ذا قدر بمكة وشرف فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزوما وجمح وسهما وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوه على العاصي بن وائل وزبروه أي انتهروه فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمت كرامته ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال ما لهذا مترك فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار ابن جدعان، فصنع لهم طعاماً، وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام قياماً، فتعاقدوا، وتعاهدوا بالله ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التأسي في المعاش فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر ثم مشوا إلى العاصي بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه وقال الزبير رضي الله عنه
حلفت لنقعدن حلفا عليهم وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا يعز به الغريب لدى الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا أباة الضيم نمنع كل عار
وقال الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضول تحالفوا، وتعاقدوا ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاهدوا، وتواثقوا فالجار والمعتر فيهم سالم
وذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث أن رجلا من خثعم قدم مكة معتمراً، أو حاجاً، ومعه بنت له يقال لها: القتول من أوضأ نساء العالمين فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل فقيل له عليك بحلف الفضول فوقف عند الكعبة، ونادى: يا لحلف الفضول فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم يقولون جاءك الغوث، فما لك؟ فقال إن نبيها ظلمني في ابنتي، وانتزعها مني قسراً، فساروا معه حتى وقفوا على باب الدار فخرج إليهم فقالوا له أخرج الجارية ويحك، فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه فقال أفعل ولكن متعوني بها الليلة فقالوا له لا والله ولا شخب لقحة فأخرجها إليهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت .
وعبد الله بن جدعان هذا تيمي هو ابن جدعان بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم يكنى: أبا زهير ابن عم عائشة - رضي الله عنها - ولذلك قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إ ن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال لا إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين أخرجه مسلم .
نريد أن نركز على عدة نقاط وهي:
1 – نص ما ورد في الحلف من نقاط وهي:
أ – نصرة المظلوم.
ب – التأسي بالمعاش.
2- قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إذا دعيت به في الإسلام لأجبت".
في التقاليد التي كانت سائدة في جزيرة العرب يأكل القوي الضعيف. والسيادة لمن قبيلته سائدة. والذي ينتمي إلى القبيلة السائدة يكون قانونه هو السائد، أي يفعل ما يريد من دون أن يتعرض له أحد. من هنا فإن "نصرة المظلوم" التي نص عليها حلف الفضول تعتبر ثورة على التقاليد القبلية.
والتأسي بالمعاش يعتبر فتحاً مبيناً في عالم التكافل الإجتماعي. وكأني بهذا البند ينص على القضاء على الفقر والعوز والحاجة. وهذا الحلف قد سبق جميع المواثيق الإجتماعية التي تعتبر متقدمة.
أما قول النبي عليه السلام أنه يجيب من يدعو به. فبهذا دلالة على الأهمية التي أعطاها النبي لمضمون هذا الحلف، هذا أولاً. وثانياً أنه ما كان إيجابياً في أعراف ما قبل الإسلام فإن النبي يقبله ويجعله من ضمن منظومة المفاهيم الإسلامية. ثالثاً، إن مفهوم أن الحكمة ضالة المؤمن نراها واضحة في قبول نبي الإسلام بعرف أو اتفاق كان في الجاهلية.
ولأهمية هذا الحلف ومعرفة الصحابة رضوان الله عليهم بالأهمية التي أعطاها النبي عليه السلام لهذا الحلف ظلوا على ذكرهم لهذا الحلف وللأهمية التي يستأهلها. فقد دعا الصحابة بهذا الحلف بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. جاء في "الروض الأنف":
قال ابن إسحاق: "وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
والوليد يومئذ أمير على المدينة، أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان - منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين - في حقه لسلطانه فقال له الحسين أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لأدعون بحلف الفضول.
قال فقال عبد الله بن الزبير، وهو عند الوليد حين قال الحسين - رضي الله عنه - ما قال وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا.
قال فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فقال مثل ذلك فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي".
الملاحظ أن الحسن عليه السلام لم يلجأ إلى قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما لجأ إلى حلف الفضول. وفي هذا إشارة إلى الأهمية الكبيرة التي أعطاها المسلمون في الصدر الأول للإسلام لهذا الحلف. أما اليوم فلا ذكر لهذا الحلف مطلقاً، لإاين منا نصرة المظلوم وأين منا التأسي بالمعاش؟
موقف الإسلام من الحلف (حسب السهيلي)
وذكر خبر الحسين مع الوليد بن عتبة، وقوله لآخذن سيفي، ثم لأدعون بحلف الفضول إلى آخر القصة وفيه من الفقه تخصيص أهل هذا الحلف بالدعوة وإظهار التعصب إذا خافوا ضيماً، وإن كان الإسلام قد رفع ما كان في الجاهلية من قولهم يا لفلان عند التحزب والتعصب وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم المريسيع رجلاً يقول يا للمهاجرين وقال آخر يا للأنصار فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوها فإنها منتنة وقال - صلى الله عليه وسلم - من ادعى بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا .
ونادى رجل بالبصرة يا لعامر فجاءه النابغة الجعدي بعصبة له فضربه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - خمسين جلدة وذلك أن الله عز وجل جعل المؤمنين إخوة.
ولا يقال إلا كما قال عمر رضي الله عنه يا لله ويا للمسلمين لأنهم كلهم حزب واحد وإخوة في الدين إلا ما خص الشرع به أهل حلف الفضول.
والأصل في تخصيصه قوله - صلى الله عليه وسلم - ولو دعيت به اليوم لأجبت يريد لو قال قائل من المظلومين يا لحلف الفضول لأجبت، وذلك أن الإسلام إنما جاء بإقامة الحق ونصرة المظلومين فلم يزدد به هذا الحلف إلا قوة وقوله عليه السلام وما كان من حلف في الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة ليس معناه أن يقول الحليف يا لفلان لحلفائه فيجيبوه.
بل الشدة التي عنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي راجعة إلى معنى التواصل والتعاطف والتآلف.
وأما دعوى الجاهلية فقد رفعها الإسلام إلا ما كان من حلف الفضول كما قدمنا، فحكمه باق والدعوة به جائزة وقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلى أن الحليف يعقل مع العاقلة إذا وجبت الدية لقوله - صلى الله عليه وسلم - وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة .
ولقوله أيضا للذي حبسه في المسجد إنما حبستك بجريرة حلفائك .
وليس لنا أن نزيد على ما ورد.
22 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
الأربعاء، 20 أكتوبر 2010
منذ فترة من الزمن يعيش الوضع اللبناني على التجاذبات بين مختلف أطراف الصراع. وهذه الأطراف هي المنتمين إلى الثامن من آذار والرابع عشر من آذار. ولكن من الواضح أن الصراع يتركز بين الأطراف الفاعلين سواء من هذه الجهة أو تلك. فمن وجهة نظرنا، أن الذي بإمكانه حسم الصراع هما "حزب الله" من جهة والرئيس سعد الحريري من جهة ثانية. وباقي الأطراف هم من المؤيدين لهذا الطرف أو ذاك، لا أكثر ولا أقل.
أما على المستوى الإقليمي، فالفاعلون هم سوريا بالدرجة الأولى، كما وأن المملكة العربية السعودية تلعب دوراً مع حلفائها من قوى الرابع عشر من آذار. ولكن من الملاحظ أن الدور السوري يتعاظم والدور السعودي ينكفىء نسبياً.
أما السبب فهو عائد إلى أن الوضع الداخلي السعودي يتطلب الكثير من الدقة في التعامل. فإلى جانب التعثرات التي يقع فيها النشاط الأمريكي سواء في العراق أو في أفغانستان، فقد أدى ذلك إلى عدم إمكانية المملكة السعودية الإعتماد على الأمريكان في حل مشاكلها سواء على مستوى محاربة القاعدة أو في حل خلافاتها مع الشيعة داخل المملكة الذين بدأوا التحرك منذ مدة للحصول على حقوقهم التي حُرموا منها على مدى طويل من الزمن. يُضاف إلى ما تقدم الدور الذي يلعبه الحوثيون في الضغط على المملكة. وقد أظهرت الهجمة السادسة التي قام بها علي عبد الله صالح على الحوثيين أنه ليس بإمكانه ولا بإمكان السعودية حل الصراع بالطرق العسكرية. من هنا ضرورة الإلتجاء إلى الطرق الديبلوماسية. وهذا الطريق الديبلوماسي يتطلب تفاهم السعودية مع سوريا، أي تراجع الدور السعودي في لبنان لصالح سوريا وجهد سوري مع إيران لحل المشاكل الداخلية في المملكة. هذا هو الإستقرار الذي تعيشه الساحة على المستوى الإقليمي. أي تقدم للدور السوري وتراجع للدور السعودي (ومن ورائه الدور الغربي بصورةعامة). وما يعزز هذا الإستقرار أن الدور الإيراني لا يختلف عن الدور السوري. فما تريده سوريا من لبنان هو ما تريده إيران. وهذا عامل مضاف إلى تعاظم الدور السوري على المستوى اللبناني وعلى المستوى الإقليمي.
كيف يُدار الصراع في الساحة اللبنانية؟
إن الأوراق التي يملكها حزب الله في الصراع هي أكثر بكثير من تلك التي يملكها سعد الحريري. فالحريري لا يملك إلا ورقة يمكنه الرهان عليها وهي الساحة السنية التي لا يزال يتمسك بورقتها لأسباب لا مجال لذكرها الآن. ولكن هذه الورقة وازنة. ويضاف إلى هذه الورقة هناك ورقة المجتمع الدولي الذي يستخدم الأمم المتحدة والمحكمة الدولية للضغط على حزب الله. أما ما يفعله الرئيس الحريري فهو الإنتظار. والإنتظار هو ورقة لصالحه لولا الموقف السوري الذي لا يقبل التخلي عن المقاومة وحزب الله. والأوراق الذي يملكها الطرف السوري هي أكثر بكثير من أوراق الحريري. كما وأن قدرته على المناورة تفوق بأضعاف تلك التي يملكها الحريري. من هنا نرى بأنه ليس بإمكان الحريري الإستمرار بالمراهنة على الوقت كورقة ضاغطة على حزب الله. فالوقت يضغط على حزب الله من جهة، ولكنه يضغط في الآن نفسه على الحريري من حيث علاقته مع سوريا.
فالصورة الحالية هي على الشكل التالي حزب الله لا يمكنه الإستغناء عن الحريري لأنه لا بديل سني للحريري حتى الآن. والحريري بحاجة لحزب الله حتى يستمر بالحكم لأنه لا يمكنه أن يحكم بدون تفاهم مع الحزب. وحيث أن الحكم بحاجة إلى تفاهم على المستوى الإقليمي، وهذا ما لا يمكن تأمينه إلا بالتفاهم مع سوريا. وحيث أن سوريا تعطي تأييدها المعلن للمقاومة، فلعبة الوقت التي تضغط على حزب الله تضغط على الحريري باتجاه إخراجه إن لم يسارع إلى إتخاذ قرار بالتفتيش عن حل يرضي جميع الأطراف الداخلية. وهنا علينا أن نشير بأن الحريري لايمكنه الإعتماد على الدعم السعودي لأن الورقة السعودية في لبنان هي بيد سوريا نتيجة الظروف التي تحدثنا عنها سابقاً. أما الإعتماد على الدعم الأمريكي أو الدولي، فهذا تملك مفاعيله سوريا في هذه اللحظة التاريخية، لأن الإدارة ألأمريكية، نتيجة لتعثراتها في المنطقة الإسلامية، تحتاج للتفاوض مع أولئك الذين يملكون نقاط القوة في المنطقة، وعلى رأسهم سوريا من دون أدنى شك. نستنتج أنه بإمكان سوريا القضاء على مفاعيل إعتماد الحريري على تأييد المجتمع الدولي والإدارة الأمريكية في حال رأت ضرورة لذلك.
ما هو المطلوب إذن؟
إن من يعتقد بأنه ليس بإمكان سوريا اللعب في الساحة السنية اللبنانية يكون مخطئاً. ولكن سوريا من خلال علاقتها مع الرئيس الحريري تريد التفاهم مع كامل الساحة السنية. ولكن رغبتها في التفاهم مع كامل الساحة السنية ليست ورقة في يد الحريري يضغط فيها على سوريا. إنما هي ورقة بيد الحريري للتفاهم مع سوريا. ولا تفيده بشيء خلاف ذلك. إن ترتيب الأوضاع في لبنان يتطلب وبأقصى سرعة التفاهم ما بين الحريري وحزب الله وإعادة فتح قنوات الإتصال ما بين الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس سعد الحريري الذي يتحمل هو بنفسه مسؤولية تعطلها. إن الإنتظار لا يساهم إلا بتوتير الوضع أكثر مما هو عليه ولا يفيد أياً من الأطراف الداخلية، ذلك أن إسرائيل تتربص بنا، مستعدة للإعتداء عندما تسنح لها أية فرصة نكون نحن مسؤولين عن توفيرها لها.
20 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
الاثنين، 18 أكتوبر 2010
رُوي عن السيدة عائشة، أم المؤمنين، رضي الله عنها، أنها قالت: "كان خلقه (النبي) القرآن". رواه مسلم.
كان محمد بن عبد الله، قبل البعثة النبوية، يتمتع بمكانة مميزة في مكة. فهو كان محط أنظار الجميع من حيث سلوكه. كان يلقب الأمين. عندما يُقال جاء الأمين، كان الجميع يعرف أن محمداً هو الذي جاء. أما ما يمكن أن يعطينا فكرة جلية عن مكانته في مكة هو قصة الخلاف على الحجر الأسود الذي كاد يتسبب بحرب ما بين القبائل القرشية في مكة.
قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنزا للكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويكا مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة.
قال ابن هشام: فقطعت قريش يده.
وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها، فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحه.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم - قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم - فتناول من الكعبة حجرا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبدالله بن أبي نجيح المكي أنه حدث عن عبدالله بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي:
أنه رأى ابنا لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو يطوف بالبيت، فسأل عنه، فقيل: هذا ابن لجعدة بن هبيرة؛ فقال عبدالله بن صفوان عند ذلك: جد هذا، يعني أبا وهب، الذي أخذ حجرا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا تدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد، من الناس.
ثم إن قريشاً جزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، ابني عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وكان شق الحجر لبني عبدالدار بن قصي، ولبني أسد بن عبدالعزى بن قصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو الحطيم.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم ترع - قال ابن هشام: ويقال: لم نزغ - اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء، فقد رضي الله صنعنا، فهدمنا.
فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساس إبراهيم عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها بعضا.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوزوا وتحالفوا، وأعدوا للقتال.
فقربت بنو عبدالدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم.
فمكث قريش أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، وتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها؛ قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا.
فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد؛ فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبا، فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بني عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين.
صحيح أن المقطع الذي نقلناه عن ابن هشام طويل نسبياً ولكنه ضروري لتبيان أهمية ما كانت تقوم به قبائل قريش في مكة. وبالتالي معرفة القدر الذي كان يتمتع به محمداً قبل أن يكون نبياً. فما بالكم بعد أن أصبح نبي هذه الأمة ونبي جميع بني البشر حتى يوم القيامة؟
إليكم هذه الرواية التي تتحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام عندما أراد الهجرة إلى المدينة: قال ابن إسحاق: ولم يعلم فيما بلغني، بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، حين خرج، إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر.
أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يُعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم.
إذن، كان مشركو قريش يضعون أماناتهم عند النبي عليه السلام، النبي الذي يحاربونه ليل نهار لأنه يسفه أحلامهم وآلهتهم المزيفة، ورغم ذلك لا يأمنون على النفيس والغالي لديهم إلا إذا كان عند محمد! شيء عجاب، أليس كذلك؟ هل يمكن لهؤلاء أن يضعوا أماناتهم عند النبي لو لم تكن علاقاته بهم علاقات جيدة؟ بل لنقل ممتازة؟
اليوم، لا يحيي المسلم المسلم لأنه لا ينتمي إلى حزبه. فما بالك بالمسيحي أو بالعلماني أوغير ذلك من التسميات.
إن العلاقات التي يجب أن تربط المسلم بالآخرين هي علاقة المحب بمحبه، وإلا كيف نفهم أن الله قد جعلنا رحمة للعالمين. إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المثل كيف يكون رحمة للعالمين بكونه الأمين على ما يحب جميع الناس، مؤمنهم ومشركهم، وبكونه يدعوهم جميعاً حتى يخلصهم من الظلمات وينقلهم إلى النور بإذن ربهم.
هكذا كان نبينا عليه السلام، فهل نجعله أسوتنا؟
18 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
الأحد، 17 أكتوبر 2010
الإغتيال السياسي
لقد تنبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حساسية موضوع الإغتيال السياسي وخطورته، لذلك لم يسمح به طوال سني جهاده المباركة إلا مرتين فقط، وبظروف خاصة جداً. ولحسن الحظ أن من وقع عليهما الإغتيال كانا يهوديين.
كان كعب بن الأشرف من ألد أعداء النبي الكريم. وكان يعيش حياته بأمن وسلام، رغم عداوته المعلنة للمسلمين وللنبي عليه الصلاة والسلام. ولكن اعتداده بنفسه لما يتمتع به من قوة ومن جاه ومن أصل جعله يتجاوز ما نسميه اليوم بالخطوط الحمر. ومع أن القبيلة التي ينتمي إليها تتحمل أخطاء كل من ينتمي إليها، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تجاوز هذا الواقع ولم يتجه إلى معاقبة القبيلة التي ينتمي إليها. إلا أنه وافق على معاقبته بمفرده.
قال ابن إسحاق: وكان من حديث كعب بن الأشرف: أنه لما أصيب أصحاب بدر، وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وعبدالله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه، وقتل من قتل من المشركين، كما حدثني عبدالله بن المغيث بن أبي بردة الظفري، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، كل قد حدثني بعض حديثه، قالوا: قال كعب بن الأشرف، وكان رجلاً من طيىء، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير، هذان حين بلغه الخبر: أحق هذا؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان - يعني زيدا وعبدالله بن رواحة - فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظهرها.
يقول ابن هشام: فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فأنزلته وأكرمته، وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش، الذين أصيبوا ببدر.
يضيف ابن هشام: ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما حدثني عبدالله بن المغيث بن أبي بردة، من لي بابن الأشرف؟ فقال له محمد بن مسلمة، أخو بني عبدالأشهل، أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله؛ قال: فافعل إن قدرت على ذلك.
فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه، فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال: يا رسول الله قلت لك قولاً لا أدري هل أفين لك به أم لا؟ فقال: إنما عليك الجهد، فقال: يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول: قال: قولوا ما بدا لكم،
فأنتم في حل من ذلك. فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وسلكان ابن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة أحد بني عبدالأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش، أحد بني عبدالأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ، أحد بني عبدالأشهل، وأبو عبس بن جبر، أحد بني حارثة.
ثم قدموا إلى عدو الله كعب بن الأشرف، قبل أن يأتوه، سلكان ابن سلامة، أبا نائلة، فجاءه، فتحدث معه ساعة، وتناشدوا شعراً، وكان أبو نائلة يقول الشعر، ثم قال: ويحك يابن الأشرف! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم عني؛ قال: افعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاءً من البلاء، عادتنا به العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقلعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا؛
قال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرك يابن سلامة، إن الأمر سيصير إلى ما أقول، فقال له سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك، ونحسن في ذلك؛ فقال: اترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك في الحلقة ما فيه وفاء، وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها؛ قال: إن في الحلقة لوفاء؛
قال فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: ويقال: أترهنوني نساءكم؟ قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم، قال: أترهنوني أبناءكم؟
قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن يزيد، عن عكرمة عن ابن عباس قال:
مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم، فقال: انطلقوا على اسم الله؛ اللهم أعنهم، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذته امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محارَب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة، لو وجدني نائما لما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، قال: يقول لها كعب: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب.
فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قال: هل لك يا بن الأشرف أن تتماشى إلى الشعب العجور، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم. فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه، ثم شم يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله، فضربوه فاختلف عليه أسيافهم، فلم تغن شيئا.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا، فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار، قال: فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ، فجرح في رأسه أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث، حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس، ونزَّفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا.
قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، فرجع ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهدوي إلا وهو يخاف على نفسه.
هذا ما جرى مع كعب بن الأشرف. لقد كان عدواً لدوداً للمسلمين.
1 – فهو أنكر عليهم انتصارهم على أعدائهم، أعداء الدين من قريش. وهو الذي قال أن جوف الأرض أحسن له من سطحها.
2 – ذهب إلى قريش، العدو الوحيد للمسلمين، يحرض على النبي وعلى المسلمين.
3 – لم يكتف بذلك بل راح يشبب بنساء المسلمين.
4 – كان من طيء من جهة الأب ومن بني النضير (حي من أحياء اليهود في المدينة وكان هذا الحي يتمتع بالقوة).
5 – إذن كان كعب مرهوب الجانب وكان ذو مال وسلطان. وكان يتمتع بقوة جسدية ؛تى أنه كان يوازي المجموعة التي جاءت لاغتياله.
6 – نقض كتاب المدينة الذي ينظم حياة المسلمين واليهود بتأييده لقريش. والكتاب ينص على عدم جواز التعامل مع قريش حتى مادياً.
إن هذا الإستعراض يبين كم كانت شروط الموافقة على الإغتيال قاسية وشديدة. حتى أنه يمكننا القول أن كعباً هذا لا تشبه ظروفه ظروف أي ممن تعرضوا للإغتيال في الساحة اللبنانية مما يؤكد أن الملتزمين لم يكن ليقوموا بعمليات الإغتيال المشابهة لما جرى على الساحة اللبنانية.
أما سلام بن أبي الحقيق فقد كان شبيه كعب من حيث الموقع الإجتماعي والسياسي. وكان يسبقه بأنه كان في خيبر. فخيبر كانت أقوى أحياء اليهود وأغناهم وأكثرهم عدداً. فبعد إجلاء اليهود من المدينة لجأ الكثير منهم إلى خيبر قصد الإنتقام من المسلمين لانتصارهم على اليهود في المدينة. كما أن خيبر محصنة جيداً. والأخطر أنها لم تكن الإغتيال الأول. من هنا إمكانية تنبه عدو الله ابن أبي الحقيق إلى إمكانية الإغتيال.
قال ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق، وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق، وهو أبو رافع فيمن حزّب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف، في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريضه عليه، استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق، وهو بخيبر، فأذن لهم.
فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبدالله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبدالله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود، حليف لهم من أسلم.
فخرجوا وأمَّر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عَتيك، ونهاهم عن أن يقتلوا وليدا أو امرأة، فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله.
قال: وكان في عِلِّية له إليها عجلة، قال: فأسندوا فيها، حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا عليه، فخرجت إليهم امرأته، فقالت: من أنتم؟ قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة. قالت: ذاكم صاحبكم، فادخلوا عليه؛ قال: فلما دخلنا عليه، أغلقنا علينا وعليها الحجرة، تخوفا أن تكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه، قالت: فصاحت امرأته، فنوهت بنا وابتدرناه، وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة.
قال: ولما صاحت بنا امرأته، جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم ذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل.
قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبدالله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قَطْني قطني: أي حسبي حسبي. قال: وخرجنا، وكان عبدالله بن عتيك رجلا سيئ البصر، قال: فوقع من الدرجة فوثِئت يده وثئا شديدا - ويقال: رجله، فيما قال ابن هشام - وحملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم، فندخل فيه.
قال: فأوقدوا النيران، واشتدوا في كل وجه يطلبوننا، قال: حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، فاكتنفوه وهو يقضي بينهم.
قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات؟ قال: فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس. قال: فوجدت امرأته ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه، وتحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي وقلت: أنّى ابن عتيك بهذه البلاد؟ ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ثم قالت: فاظ وإله يهود؛ فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها.
قال: ثم جاءنا الخبر فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله، كلنا يدعيه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاتوا أسيافكم؛ قال: فجئناه بها، فنظر إليها فقال لسيف عبدالله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.
مثل هذا لا يختلف عن أمر سلفه. المهم أن موضوع الإغتيال السياسي حساس وخطير. فممارسته ليست ميسرة باستمرار. من هنا فإن النبي عليه السلام لم يجعلها إلا ممارسة محدودة جداً، وضد عدو محقق.
17 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
السبت، 16 أكتوبر 2010
من سيرة المصطفى
حرب العصابات أو حرب الغوار
مع انطلاقة الثورة الفلسطينية أو المقاومة الفلسطينية سنة 1965 وبعد ازدياد نشاطها بعد هزيمة 1967 نشطت في اللغة العربية الترجمات لجميع ما كُتب عن حرب العصابات أو حرب الغوار، على اختلاف التسميات. أما المهتمون، أي مؤيدو المقاومة فكانوا يعرفون عن ظهر قلب جميع تلاوين هذا النوع من الحروب. فجميعهم كانوا يعرفون تفاصيل الحرب التي خاضها الشعب الفييتنامي ضد الاستعمار الفرنسي وبعدها ضد الامبرياليين الأمريكان. حتى أن رموز هذه الحرب باتت معروفة عن ظهر قلب، من هو شي منه إلى الجنرال جياب. وكانوا يعرفون المسيرة الكبرى للصينيين في الأربعينات من القرن الماضي ويعرفون ماو تسي تونغ وشو إن لاي وغيرهم. أما غيفارا، رفيق كاسترو في كوبا فكان نجماً، معبود الجماهير. حتى الجيش الأحمر الياباني أو الألماني ...الخ كانوا معروفين لدى كافة الناس الذين أعطوا تأييدهم للمقاومة الفلسطينية.
أما في هذه المعمعة، فقد كان المظلوم الوحيد هو "أبو بصير" لأنه سبق جميع من تحدثنا عنهم في حرب العصابات. ليس هذا فحسب، بل حقق انتصاراً باهراً على أعدائه. أي أن التجربة التي قام بها أبو بصير، رضي الله عنه، كانت أسبق على الوجود، تاريخياً من جميع التجارب التي حفظناها وحفظنا أسماء رموزها. أما المثل اللامع من أبناء أمتنا فلا نعرفه ولا نعرف تجربته الرائدة!
من هو أبو بصير هذا؟
إنه إسم من أسماء المستضعفين الكثر الذين أُعجبوا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك الدعوة التي تحث الناس على عبادة الله الواحد من دون جميع المستكبرين. ولكن حظه العاثر (ربما)، جعله يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام عقب صلح الحديبية. وحيث أن هذا الصلح كان ينص في إحدى تفاصيله أنه من جاء إلى محمد مؤمناً من غير إذن وليه، على محمد إعادته إلى قريش. فعندما أشهر أبو بصير إسلامه أمام النبي عليه السلام، كان عليه إعادته إلى قريش. لأن الإسلام يأمر بحفظ العهد.
قال ابن إسحاق: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية، وكان ممن حبس بمكة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب فيه أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الأزهر والأخنس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك؛ قال: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: يا أبا بصير انطلق فإن الله تعالى سيجعل ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً.
علينا أن نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لأبي بصير في المرة الأولى: "فانطلق إلى قومك" ولكنه، أي النبي عليه السلام، بعد أن حاجه أبو بصير، قال له: " يا أبا بصير انطلق فإن الله تعالى سيجعل ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً". أي أن أبا بصير لم يعد مجبراً على العودة إلى قومه، ولكنه مجبر على ترك المدينة، أي أنه لم يعد تحت سلطة النبي عليه السلام. من هنا لم يعد بإمكان قريش أن تحاجج النبي عليه السلام بأبي بصير.
وكان ذهاب أبي بصير فاتحة لتجربة رائدة في حرب المسلمين مع أعدائهم من قريش ومن نصرها من المشركين واليهود.
فكان أول ما فعله أبو بصير أن قتل حارسه الذي كان مكلفاً بنقله إلى مكة، فاستولى على سلاحه وتركه إلى رفيقه الآخر وذهب حيث رآى أن يعسكر.
قال ابن إسحاق : فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير صاحبهم العامري، أسند ظهره إلى الكعبة، ثم قال: والله لا أؤخر ظهري عن الكعبة حتى يودي هذا الرجل؛ فقال أبو سفيان بن حرب: والله إن هذا لهو السفه، والله لا يودي ( ثلاثاً ) .
ولما بلغ محمداً عليه الصلاة والسلام ما فعل أبو بصير قال قولته الشهيرة: "ويل أمه محش (مسعر) حرب لو كان معه رجال !".
يقول ابن هشام: "ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص، من ناحية ذي المروة، على ساحل البحر، بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: "ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال ! " ، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص، فاجتمع إليه منهم قريب من سبعين رجلاً، وكانوا قد ضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، لا تمر بهم عير إلا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل بأرحامها إلا آواهم، فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا عليه المدينة .
هذه قصة أبي بصير الذي أجبر قريشاً بكل جبروتها أن تتنازل عن حقها في إيواء أولادها للنبي صلى الله عليه وسلم. لقد أبدع أسلوباً في قتال المشركين لم يسبقه أحد إليه من المجاهدين في سبيل العدالة التي يؤمنها دين الله تبارك وتعالى على أحسن أوجهها.
16 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
الجمعة، 15 أكتوبر 2010
التحليل النفسي وحزب الله
نشرت جريدة "النهار" اللبنانية مقالة بقلم "ميشال حاجي جورجيو" منقولة بدورها عن جريدة "لوريون لوجور" اللبنانية التي تصدر باللغة الفرنسية، بعنوان " خلافاً للخطاب السائد، سوف تتيح الحقيقة تجنّب العنف". تتضمن هذه المقالة مقابلة مع شوقي عازوري الاختصاصي بالتحليل النفسي.
ما ورد في هذه المقالة ملفت للانتباه، حيث أن المحلل النفسي قد استعمل أدواته للنيل من "حزب الله" تبعاً لما رأيته من خلال قراءتي لهذه المقالة.
تقول المقالة: " الحقيقة حول اغتيال رفيق الحريري ورفاقه التي ستعلنها المحكمة الخاصة بلبنان من خلال القرار الظنّي سوف تضع حداً للعنف حيث إنّها ستكشف وأخيراً هويّة المتّهمين، كما يؤكّد المحلّل النفسي شوقي عازوري، داحِضاً بذلك خطاب "حزب الله" الذي يعتبر أنّ المحكمة سوف تطلق العنان لعظائم الأمور. فعلى العكس تماماً، بحسب عازوري، التخلّي عن هذا المطلب المشروع والقانوني تحت تأثير الضغط هو الذي يمكن أن يقود إلى أعمال عنف من جانب أولئك الذين ظلّوا مسالمين حتى الآن. يحاول شوقي عازوري، مستعيناً بالتحليل النفسي، أن يفكّك ويشرح اللهجة العدائية جداً، والمهدِّدة أحياناً، التي يعتمدها "حزب الله" في الحديث عن المحكمة الخاصة بلبنان – بعيداً من المعطيات المحض سياسية والجيوبوليتيكية بالتأكيد".
يرفض المحلل النفسي خطاب "حزب الله" الذي يرى أن المحكمة الدولية، بكونها مسيسة هي أداة إسرائيلية تريد أن تطلق العنان لموجات العنف في المجتمع اللبناني. فالتحليل السياسي لطبيعة هذه المحكمة قد جعل "حزب الله" يتخوف من نتائج هذه المحكمة على الواقع اللبناني. أما المحلل النفسي شوقي عازوري فهو يرى أن عدم صدور القرار الإتهامي هو الذي سيؤدي إلى أعمال عنف، ويعيد هذا إلى أسباب نفسية. فالوضع اللبناني أصبح في مأزق مع المحكمة ذات الطابع الدولي. إن صدر القرار الإتهامي فهناك عنف وإن لم يصدر القرار فهناك عنف. ما الحل إذن؟ وكأني بالمحلل النفسي يريد أن يقول "فلنُحِلْ محاكمة المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى محكمة لبنانية". فحزب الله يقبل بهذه المحكمة وسوف يصدر عنها قرار إتهامي يقبل به من سيقومون بأعمال عنف لأسباب نفسية.!
ثم يضيف المقال: "التخلّي عن الحقيقة لا يضمن السلم الأهلي، بل يولّد رغبة في الانتقام ليس لدى أولئك الذين ظلّوا مسالمين حتى الآن، أي أقرباء الضحايا إنما أيضاً المجتمع اللبناني بكامله. أما معرفة الحقيقة فتفسح في المجال أمام المسامحة. والمثال الحديث الأبرز هو جنوب أفريقيا ولجان الحقيقة والعدالة والمسامحة".
حسناً فعل الكاتب بإحالتنا إلى جنوب أفريقيا، فهو ونحن نعلم أن ما يتحدث عنه الكاتب قد حدث بعد القضاء على النظام العنصري الذي كان قائماً في هذا البلد الإفريقي. أما ما يطلبه المحلل النفسي من حزب الله لا يتشابه مع المثل الذي أعطاه لأن حزب الله ومؤيديه لم يتمكنوا حتى الآن من القضاء على النظام العنصري القائم في فلسطين المحتلة. فليساعدنا الكاتب والمحلل النفسي للقضاء على إسرائيل ثم نعمل لهما ما يريدان.
ثم يضيف الكاتب: " لا أفهم لماذا لا يقبل "حزب الله" فكرة أن الاتّهام قد يُوجَّه إلى عناصر من الحزب – بانتظار إثبات التهمة عليهم أو سقوطها، وهذه مهمّة القضاء، وفي هذا الإطار يملك الحزب بالتأكيد كل الوسائل وهامش التحرّك الضروري للدفاع عن نفسه".
يظهر أن الكاتب لم يتمكن من الفصل بين حزب الله كمؤسسة والفرد الذي يتحدث عنه المحلل النفسي. فما ينطبق على الفرد لا ينطبق على المؤسسة. عندما نتهم فرداً من هذه المؤسسة لأسباب سياسية نكون كمن يقدم المؤسسة للمحاكمة. وتقديم حزب الله للمحاكمة هي خدمة مجانية لإسرائيل وتخلي مجاني عن تحرير الأرض اللبنانية المحتلة، مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ولا يفوتنا انعكاس ذلك على مقاومة الشعب الفلسطيني. لا شيء في الكون يساوي التخلي عن التحرير، فما بالكم إذا كان ما يقال عن هذا الموضوع هو مشكوك بمصداقيته بداية. لماذا لا يقبل السيد عازوري بمحاكمة قتلة الرئيس الحريري من قبل المحاكم اللبنانية. هل أن القضاء اللبناني قاصر عن القيام بهذه المهمة؟ وبذلك نكون قد حللنا المشكلة النفسية التي سوف تحول المجتمع اللبناني إلى مجتمع من القتلة كما يتخوف السيد عازوري.!
ثم تضيف المقالة: " منطق النائب نواف الموسوي هو ... دليل على التماهي الشديد لكل عضو في "حزب الله" مع الكتلة الأحادية التي يجسّدها الحزب، في شكل آلة توتاليتارية".
لا يكون السيد موسوي ديموقراطياً إلا إذا تخلى عن الدفاع عن حزبه. المؤسسة، أية مؤسسة، سواء كانت توتاليتارية أو ديموقراطية تنطبق عليها صفة المؤسسة. فهي، أي المؤسسة تملك آلياتها الخاصة التي تميز عملها كمؤسسة. فإضافة صفة ديموقراطية أو عدم إضافتها لا تغني عن الحق شيئاً. إن دفاع السيد الموسوي عن المؤسسة التي ينتمي إليها كدفاع السيد أوباما عن المؤسسة الديموقراطية التي يمثلها والتي قتلت مئات الآلاف في العراق وأفغانستان وفيتنام، هذا مع أنها ديموقراطية. وهي تتشابه مع المؤسسة الديكتاتورية الستالينية التي قتلت الآلاف فيما كان يُدعى سابقاً الإتحاد السوفياتي.
ثم يضيف الكاتب: " ما إن يقبل الشخص الإقرار بأنّه خسر شيئاً ما وبأنّ هذا الجزء في داخله سوف يُدفَن من دون أن يسعى إلى استعادته، يتأنسَن ولا يعود حاقداً على الآخر. وهكذا يسود السلام على الصعيد الفردي. وهناك من جهة أخرى البعد الاجتماعي للحداد، وهو أساسي للشخص الذي فقد عزيزاً، وهذا ما تُظهره الطقوس".
رائع جداً! وصفة رائعة من مختص! نسلم أبناءنا ثم نقيم لهم مأتم جماعي! ألا يرضي ذلك إسرائيل وزبانيتها؟ وهذه الوصفة مفيدة أيضاً للشعب الفلسطيني فهو أيضاً يمكنه أن يقيم ثلاثة أيام حداداً على الضفة الغربية ثم يسلمها لإسرائيل ونرتاح جميعاً مما يسمى المسألة الفلسطينية.
مساكين من يدّعون العلمية بأحاديثهم. فهم يصدقون الغرب عندما يقول أن العلم موضوعي. وهذا الكلام ليس صحيحاً فكل علم هو موضوعي بقدر ما هو معياري. نعم! لمذا لا يخدم العلم إلا من يكتشف قوانينه؟ ولا يعتقدن أحد أن العلوم الذي اخترعها الغرب الاستعماري تخدمنا. كلا! إن أي ظاهرة لها جوانب إيجابية وجوانب سلبية في الآن نفسه. ولكن عندما تكون جوانبها السلبية طاغية على الجوانب الإيجابية نقول أن هذه الظاهرة سلبية والعكس بالعكس. فالعلم الغربي الذي يخدم الليبيرالية الجديدة بشكل شبه مطلق ويسمح لنا بالتحدث بالهاتف الخليوي أو التخابر عبر الإنترنت، هذا لا يكفي حتى نقول أن العلم الغربي يخدمنا. إن السيد عازوري يريد أن يستخدم ما يسمى بالتحليل النفسي ليضغط على حزب الله باتجاه تغيير موقفه، على أن هذه الممارسة موضوعية أو علمية، ولكن هذا ليس صحيحاً مطلقاً.
ثم نصل إلى زبدة القول مع كاتبنا الكريم: " لن تقود الحقيقة في نهاية المطاف سوى إلى تفتيت عصبيّة "حزب الله" ودمجه في المجتمع اللبناني. يمكن تفسير الرفض الشديد للحقيقة في الوقت الحالي بأنّه رفض للاندماج في المجتمع اللبناني لأسباب سياسية مختلفة. سوف يقود القرار الظني حكماً إلى "لبننة" حزب الله. إنه يسعى إلى الحفاظ على "حقيقته" ككتلة أحادية في مواجهة الحقيقة التي ستؤدّي بكل تأكيد إلى "لبننته".
لم يتنبه الكاتب إلى أن مفهوم "اللبننة" قد طرأ عليه بعض التعديلات، وإلا كان تخلى عنه. فاللبننة ما قبل 2000 كان يعني تحويل لبنان إلى كازينو كبير أو إلى مرقص أو مرتع كبير يتسع لكل من يريد أن يروح عن نفسه. ولكن بعد سنة 2000 ، السنة التي انتصرت فيها المقاومة الإسلامية وحزب الله على إسرائيل، السنة التي تمكن فيها الشعب العربي والشعوب الإسلامية أن يتفرجوا على الجيش الإسرائيلي يهرب أمام الأهالي الذين لا يحملون السلاح، أصبحت اللبننة تعني: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". لا عودة إلى الوراء. حزب الله أخذ على عاتقه، هو وجميع المقاومين، أن يحرروا الأرض، لا أن يحولوا الوطن إلى مرقص. هذه المشاريع أصبحت من الماضي السحيق ودفنتها أيدي المقاومين الذين ينتظرون الظروف المناسبة لطرد الغازي المحتل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا كما ويتشوقون إلى رؤية الأقصى الأسير وقد تخلص من الأسر.
13 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
من سيرة المصطفى 6
محمد بن عبد الله ما قبل البعثة
سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه.
قال ابن إسحاق : وحدثني ثور بن يزيد ، عن بعض أهل العلم ، ولا أحسبه إلا عن خالد بن معدان الكلاعي: "أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك؟ قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا، ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي فشقاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فوالله لو وزنه بأمته لوزنها.
وكأني برسول الله عليه السلام يخبرنا بأن الله تبارك وتعالى كان يعده من أجل أن يكون نبي هذه الأمة. ليس هذا فحسب، حتى عندما كان طفلاً يلعب مع الأطفال: ان الله تبارك وتعالى يميزه عن باقي الأطفال. "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته، أنه قال: "لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره فجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارة؛ فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه، لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك؛ قال: فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي".
وهكذا، أصبح هذا الطفل يجد نفسه مميزاً عن باقي الأطفال فهو لا يحق له أن يلهو كما يلهون إلا بشروط معينة. هذا إذا قرناه بما كان يحيط جزيرة العرب من حديث قرب خروج نبي، نجد أن حساب الاحتمالات سوف يملأ كل حي ومنزل ومجلس.
إذا تحدثنا عما حصل مع أهل الكتاب يزيد يقيننا أن الطفل الذي يدعى محمداً سوف يكون نبي الأمة. إليكم حديث بحيرى الراهب مع أبي طالب عم النبي وكفيله: سافر محمد مع عمه إلى بصرى الشام فراى بحيرى الراهب ما يلفت الانتباه في القافلة التي كان من بين أفرادها محمد. فدعاهم إلى وليمة ليتثبت مما ظن أنه راى: "فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم، لحداثة سنه، في رحال القوم تحت الشجرة؛ فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي؛ قالوا له: يا بحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سناً، فتخلف في رحالهم؛ فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. قال: فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبدالله بن عبدالمطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.
فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؛ وإنما قال له بحيرى ذلك، لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئاً، فوالله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما؛ فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؛ فقال له: سلني عما بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.
قال ابن هشام: وكان مثل أثر المحجم.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ، أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؛ قال: فإنه ابن أخي؛ قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به؛ قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده.
من الملفت للإنتباه أن محمداً قبل البعثة، كان يهتم بجميع شؤون مجتمعه. فعندما كان طفلاً كان يفعل كما يفعل الأطفال مع بعض الخصوصية. ولكن عندما شب عن الطوق فقد كان يشهد جميع المشاهد. فهو كان حاضراً في حرب الفجار: وإنما سمي يوم الفجار بما استحل هذان الحيان، كنانة وقيس عيلان، فيه من المحارم بينهم. قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة. وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت أُنَبِّل على أعمامي: أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.
وشهد حلف الفضول: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبدالله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت.
ونضيف هذه القصة حتى نعلم مدى أهمية هذا الحلف في بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام:
الحسين يهدد الوليد بالدعوة إلى إحياء الحلف
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهادي الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه:
أنه كان بين الحسين بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير على المدينة أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه - منازعة في مال كان بينهما بذي المروة. فكان الوليد تحامل على الحسين رضي الله عنه في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول.
قال: فقال عبدالله بن الزبير، وهو عند الوليد حين قال الحسين رضي الله عنه ما قال: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعاً.
قال: فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
وكان محمد عليه الصلاة والسلام يحضر الأسواق، عكاظ ومجنة وغيرها. فهو قد سمع قس بن ساعدة الإيادي عندما كان في السوق.
وكان يعرف الأحناف الذين كرهوا عبادة الأصنام ومنهم ورقة بن نوفل وقس بن ساعدة وعبيد الله بن جحش وغيرهم. كما وأنه كان يعرف اليهود وغدرهم ويعرف النصارى أيضاً. وأهم مما تقدم أنه كان يعرف رموزهم ويعرف أيضاً من ينتمي إليهم. فهو كان يعرف أن ميسرة غلام خديجة كان نصرانياً.
بكلمة واحدة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف مجمل العلاقات القائمة في الجزيرة العربية ويعرف أقوامها ودياناتهم ويعرف الذين يعرفون القراءة والكتابة. فهو كان يعلم أن خديجة كانت تعرف القراءة والكتابة، وكان يعرف أن ورقة بن نوفل كان قساً نصرانياً يقرأ في كتاب النصارى... كان يعرف الكثير ويعيش كل تفاصيل الحياة العربية بالشكل الذي يريده. وعندما يتعب من الحياة في التفاصيل يذهب إلى الغار حتى يتفرج على المجتمع الجاهلي من خارجه. فالدراسة المتأنية تستدعي النظر من داخل ومن خارج. كما وتستدعي النظر من قريب ومن بعيد. وكان يقوم بالرياضة الأهم وهي التفكر في آلاء الله والتفكر في خلق السماوات والأرض.
فما بال قوم يريدون ان يغيروا المجتمع بما يرضي الله ورسوله ويعيشون بعيداً عنه لا يعرفون المشاكل التي يعانيها ولا يعرفون الطريق إلى حلها. أهكذا يكون التأسي برسول الله عليه الصلاة والسلام؟
14 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
من سيرة المصطفى 5
أمر الحديبية: الصلح بين النبي عليه الصلاة والسلام ومشركي قريش.
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة شهر رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة معتمرا، لا يريد حربا. واستعمل على المدينة نميلة بن عبدالله الليثي. واستنفر العربَ ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له. وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر.
قال الزهري: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي - قال ابن هشام: ويقال بُسْر – فقال: يا رسول الله ، هذه قريش، قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدَّموها إلى كُراع الغَميم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
ثم قال: من رجل يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم بها ؟
قال ابن شهاب: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش، في طريق ( تخرجه ) على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة؛ قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا سلك، في ثنية المرار بركت ناقته.
فقالت الناس: خلأت الناقة، قال: ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها.
فقال الزهري في حديثه: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي، في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه: ما الذي جاء به ؟
فأخبرهم أنه لم يأت يريد حرباً، وإنما جاء زائراً البيت، ومعظماً لحرمته، ثم قال لهم نحواً مما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال، وإنما جاء زائراً هذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالاً، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدث بذلك عنا العرب.
قال الزهري: وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة.
قال: ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف، أخا بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال: هذا رجل غادر؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً مما قال لبديل وأصحابه؛ فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رآى الهدي يسيل عله من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك. قال: فقالوا له: اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم.
أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له! والذي نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له يقال له الثعلب، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلوا سبيله، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس: أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فأخذوا أخذاً، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل.
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنه إنما جاء زائراً لهذا البيت، ومعظماً لحرمته.
قال ابن إسحاق: فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف؛ فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة.
فكانت بيعه الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر بن عبدالله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر.
فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها، إلا الجد بن قيس، أخو بني سلمة، فكان جابر بن عبدالله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته. قد ضبأ إليها، يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له، عن ابن أبي مليكة عن ابن أبي عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى.
قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، أخا بني عامر بن لؤي، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: ائت محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامة هذا، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً.
فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح.
فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، وألسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله؛ قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست برسول الله ؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال: أنا عبدالله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني !
قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم؛ قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن أكتب باسمك اللهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، فكتبها .
ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو؛ قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك؛ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً في الحل، وكان يصلي في الحرم، فلما فرغ من الصلح قدم إلى هدية فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه، فيما بلغني، في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي؛ فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون.
ملاحظة: ما تقدم منقول عن إبن هشام.
يقدم لنا السياق السابق أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما سار باتجاه مكة، لم يكن يريد القتال، كما أنه لم يبيت الصلح. ولكنه حمل السلاح. لأن الثقة بالعدو ليست من شيم العقال. كما وأنه إذا افترضنا أنه لم يكن يستبعد الصلح فإن السلام معركة كما الحرب والقتال، يستدعي حشد جميع ما لدى المرء أو المجموعة من أسباب القوة. ولنأخذ على ذلك ثلاثة أمثلة حية:
1 – في فييتنام عندما اضطرت الادارة الأمريكية للتفاوض مع الفييتناميين، لم يقف القتال ، إنما كان أعنف، لأن معركة السلام تتطلب ضغطاً أكبر ومضاعفاً عن المعركة القتالية العنيفة. وحيث أن هذا التكتيك هو الصحيح رأينا أن الإنتصار كان من نصيب الشعب الفييتنامي.
2 – المفاوضات التي تجري الآن بين سلطة محمود عباس (الرئيس المنتهية ولايته للسلطة الفلسطينية) وبين الكيان الصهيوني. فعباس هذا يثق بعدو الشعب الفلسطيني، أعني المفاوض الصهيوني. لذلك حرص عباس وفياض، رئيس حكومته، على ملاحقة المقاومين في الضفة الغربية، إلى أي فصيل انتموا. والشعب الفلسطيني لا يملك من أسباب القوة سوى المقاومة باللحم الحي. لذلك نرى أن العدو الصهيوني يتعامل مع عباس باستخفاف وبعدم احترام. فالعدو يعلن عن وقف الاستيطان مع أنه لم يوقف الاستيطان لأنه يعرف أنه ليس لدى عباس إلا الإذعان لأنه تخلى عن أسباب قوته. من هنا فإن هذه المفاوضات سوف تنتهي بإذعان المفاوض الفلسطيني لجميع شروط العدو.
كما أن عرفات، سلف عباس، لم يرد أن يستفيد من دروس المقاومة الإسلامية في لبنان لا في 1996 ولا في 2000 . علماً أن العالم بأجمعه راى الجيش الإسرائيلي المهزوم ينسحب، يجر أذيال الخيبة وتلاحقه جماهير الجنوبيين من غير سلاح. رغم كل هذا، تخلى عرفات عن انتفاضة الأقصى وراح يفاوض العدو للحصول على ما يسمى بالسلطة الفلسطينية، القاعدة المادية للتخلي عن فلسطين.
3 – المقاومة الإسلامية في لبنان انتصرت على العدو في مفاوضات ال1996 لأنها لم تتخل عن أسباب قوتها عندما تم التفاوض مع العدو. فهي كانت تكيل له الضربات إبان المفاوضات. وقد كان الإتفاق يومها يمنع العدو من الإعتداء على المدنيين اللبنانيين وللمقاومة الحق بالإستمرار بكيل الضربات لعسكر الصهاينة. والجميع يعرف الذل الذي أصاب الصهاينة عندما كانو ينسحبون من بيروت وهم يتوجهون للشعب اللبناني راجينه عدم إطلاق النار عليهم لأنهم في طريقهم للإنسحاب.
من أجل ذلك حمل النبي عليه السلام السلاح وساق الهدي واتجه إلى مكة معتمراً. كما أنه لم يفته أن يعلن على الملأ أنه ذاهب من أجل العمرة. هذا الإعلام هو بقصد إعلام قريش بالتحديد أنه لم يأت من أجل القتال، أما السلاح فهو لاتقاء غدر العدو.
خلال الطريق علم النبي عليه السلام أن قريشاً قد جهزت سرية لقتاله. لم يعد، إنما حرص على تغيير طريقه حتى لا يلتقي بالعدو، فهو لم يجهز نفسه للقتال.
وصل الحديبية، وعسكر الناس هناك وجهز الرسول نفسه لمفاوضة العدو لذلك رأيناه يقول: "لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها".
وبدأت المفاوضات، وأصر النبي على مطلبه بضرورة الطواف بالبيت العتيق. من أجل ذلك بعثت قريش بعدة مفاوضين. والملاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف صفة المفاوضين. (ألسنا مأمورين بمعرفة عدونا). لذلك رأيناه يسوق الهدي أمام الحليس، زعيم الأحابيش (جيش مكة) لأنه معروف عنه أنه من المتألهين أي المتمسكين بدينهم.
وكانت نتيجة المفاوضات إتفاقاً. هذا الإتفاق ينص على هدنة مدتها عشر سنين، ومن ضمن شروطها أن العمرة تتم في السنة القابلة.
لم يتخل النبي عليه السلام عن أي شيء، حتى أن عداوته لقريش سوف تستمر، لأنهم لم يدخلوا في الإسلام. ولا زالت قريش زعيمة الكفر فلها السيطرة الإقتصادية والهيمنة الدينية والثقافية والأدبية. فالإنتصار على قريش يعني القضاء على جميع العلاقات الشركية القائمة في الجزيرة العربية. ألم نقل أن هذا ما جعل النبي عليه السلام يحدد أن العدو هو قريش؟
وحيث أن قريشاً هي العدو، لذلك لم نر المسلمين قد عقدوا صلحاً إلا مع قريش. فالصلح يكون بين الأعداء وليس بين الأصدقاء. لذلك أيضاً، لم يقاتل النبي عليه الصلاة والسلام إلا من اعتدى عليه من المشركين وكان يحرص على موادعتهم إلا مشركي قريش كان يحرص على الإنتصار عليهم.
إسرائيل احتلت أرضنا ونحرص على موادعتها ومصالحتها! أين نحن من رسول الله؟
سلبيات صلح الحيبية!
1 – تنص إحدى المواد على أنه إذا جاء أحد الناس إلى النبي مؤمناً من غير إذن وليه، فعليه إعادته للمشركين. هذه هي السلبية الوحيدة التي تُحُدِث عنها. ولكن "رب ضارة نافعة" هذه المادة هي التي أنتجت "حرب العصابات" التي سوف نتحدث عنها في حلقة لاحقة.
2 – تنص إحدى المواد أنه إذا ترك أحد رسول الله وذهب إلى المشركين فلا يحق للمسلمين أن يطالبوا به. طبعاً لأن المسلمين لا يريدون بين صفوفهم إلا المؤمنين حقاً. إذن هذه ليست سلبية.
ننهي فنقول أن الإيجابية الكبرى لصلح الحديبية أنه للمرة الأولى تعترف قريش بأن للمسلمين كيان مستقل عن جميع القبائل، وأن هذا الكيان ليس قبيلة كسائر القبائل. إنما كيان له خاصية أن صفوفه تتسع لجميع الناس وجميع القبائل.
أما الأهم من جميع ما تقدم فهو أن الله تبارك في علاه قد أنزل على رسوله الكريم عقب إتفاق الحديبية: "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً".(الفتح 1 ).
8 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
الأربعاء، 6 أكتوبر 2010
من سيرة المصطفى -4 -
من سيرة المصطفى – 4 –
يقول تبارك وتعالى موجهاً خطابه للمؤمنين: "إن الشيطان لكم عدو، فاتخذوه عدواً".(فاطر 6 ). إن الله تبارك وتعالى يريد من المؤمنين أن يكونوا إيجابيين بمقاتلة العدو، أي أن يبادروا بعداوتهم للشيطان. وحيث أن الشيطان يمكن أن يكون إنساناً، فهذا يعني أن مبادرته بالعداوة ممكنة. أما إذا كان من الجن مثلاً، فنستعيذ بالله منه حيث أنه من عالم الغيب الذي لايمكننا ولوجه.
بما أن الله أمرنا أن نتخذ الشيطان عدواً فهذا يعني أن الخطوة الأولى هي تحديد هذا العدو. هل أن تحديد العدو هي ممارسة ذاتية أم ممارسة موضوعية. نعتقد أن الجواب على هذا السؤال يتطلب، بل يفرض علينا العودة إلى من "كان قرآناً يمشي على الأرض"، تفرض العودة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. علينا أن نعود إلى سيرة المصطفى حتى نعرف كيف كان يحدد عدو المسلمين وعدوه. فحديثنا نحن لا ينطلق من منطلقات فردية، بل من منطلقات تتعلق بالمجتمع الذي نعيش فيه.
مكة: كانت مكة حاضرة جزيرة العرب. "المتتبع لتاريخ مكة وجغرافيتها، يجد أنها كانت وادياً غير ذي زرع، لا ماء فيه ولا شجر، تحيط به الجبال الوعرة من كل الإتجاهات. ولم يكن يتصور أن تكون في يوم صالحة للحياة، لكن حكمة الله سبحانه وتعالى تجلت أن يجعلها قبلة الناس حين أمر سيدنا إبراهيم، وإبنه إسماعيل عليهما السلام، بالهجرة إليها، فتحققت المعجزة الخالدة بتفجر عين زمزم فيها، وبناء البيت العتيق (الكعبة) ليصبح مكاناً مقدساً يفد إليه الناس، ركباناً ورجالاً، ليؤدوا فريضة الحج، فأصبحت مكة قبلة العالم ومحط الأفئدة. وقد صور القرآن هذه المراحل في عدة آيات. يقول تعالى: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون". وقوله تعالى: "أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون". وقوله تعالى: "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير". هذه القدسية والخصوصية جعلت لمكة مكانة إقتصادية مرموقة عبر التاريخ، من خلال القوافل التجارية وأسواقها، ولكن المصادر لم تقف على تاريخ محدد لنشأة الأسواق في مكة. ويبدو أن القبائل التي كانت تحكم مكة قبل قريش(جرهم وخزاعة) لم ترجح موقعا ًآمناً لإقامة الأسواق فيها، مما يؤكد أن أمر الأسواق ظهر في مكة بظهور قبيلة قريش، خاصة في عهد زعيمها التاريخي قصي بن كلاب".
"ازدادت مكانة مكة عندما قامت على أمرها قبيلة قريش، التي اشتهرت بتنظيماتها الإدارية وحنكة رجالها. وقد ذهب أحد الباحثين إلى أن تاريخ مكة الحقيقي يبدأ منذ تولي قصي بن كلاب القرشي أمر مكة، في منتصف القرن الخامس الميلادي تقريباً. فقد قام قصي بعدة أعمال جعلت مكة مركزاً إقتصادياً مرموقاً. والمعروف أن مكة في عهد قريش أقامت علاقات متنوعة مع البلدان المجاورة لها كالطائف ويثرب، ومع بعض القبائل التي كانت تقطن على الطريق، لتحمي تجارتها، فحدث لها ما ارادت وازدهرت أسواقها".
"جاء ذكر قريش صريحاً في القرآن والسنة. فلا غرابة أن يصف القرآن قبيلة قريش وتجارتها في سورة قريش: "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف". وقد أشارت المصادر والدراسات إلى مصطلح الإيلاف، وتجارة قريش، ورحلة الشتاء والصيف، وبينت دور قادتهم في بناء أحلاف ومعاهدات مع قبائل ودول كبرى، لإبرام صفقات تجارية، كالروم والفرس واليمن والحبشة. فأصبحت مكة بسبب إتفاقية الإيلاف موقعاً متميزاً على طريق التجارة العالمية آنذاك، مما ساهم في ازدهار أسواق مكة وتجارتها".
"وردت في كتب السنة عدة أحاديث في قبيلة قريش وفضلها ومكانتها، وهذا الأمر حددت له العديد من مصادر الحديث أبواباً وفصولاً".
"بعد حملة أبرهة الحبشي لهدم الكعبة المعظمة، والمؤرخة بعام الفيل (570 – 571 ) والواردة في سورة الفيل: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول". زاد صيت القرشيين الذين لم يتصدوا لهذه الحملة متيقنين أن للبيت رباً يحميه، فحدث ما تيقنوه، وباءت الحملة بالفشل، مما زاد في مكانة مكة دينياً وارتفعت مكانة قريش، فاشتهروا بأنهم أهل الله، وولاة الكعبة، وجيران الحرم".
"يمثل القرن السادس الميلادي بعداً إقتصادياً جيداً لقريش، حين أمسكت مكة بزمام التجارة في بلاد العرب، فطريق التجارة الذي يمر بها أصبح أكثر أمناً بعد إتفاقية الإيلاف، وأصبحت مكة في منآى عن الصراع الدولي القائم آنذاك بين الفرس والروم، وخاصة حين أخذت قريش مواقف حيادية اتجاه الأطراف".
"أشارت الدراسات إلى أن مكة أصبحت بعلاقاتها الخارجية وأحلافها مع المجاورين لها آنذاك، مركزاً تجارياً تعج أسواقها بالخيرات القادمة من الشام والحبشة وبلاد فارس. وظهرت منها شخصيات قرشية عظيمة، وأسر ثرية قبيل الإسلام في أسواق مكة، ، كعبد الله بن جدعان التيمي، والوليد بن المغيرة المخزومي، وأبي سفيان الأموي. كما كان للنساء نشاط ملحوظ كالسيدة خديجة بنت خويلد، التي كانت تمارس التجارة في سوق مكة، وكانت معها أختها هالة، فكانتا تبيعان الأدم. ومثلهما هند بنت عتبة التي كانت من النساء الشهيرات بمكة في عمل التجارة بالأسواق، وكانت تصحب زوجها أبا سفيان، في رحلاته للتجارة".
"صارت أسواق مكة قبل الإسلام وكالات مهمة للروم والأحباش، حيث ظهرت تنظيمات تجارية وتعاملات حسابية، وعملات ونقود، ومكاييل، استخدمت في تلك الأسواق، وقد أكد ذلك العديد من المصادر، خاصة الأجنبية".
"أشارت المصادر إلى أسواق العرب الموسمية القائمة في الجاهلية وطبيعتها، وما يهمنا منها أسواق مكة. فقد ذكر الأزرقي، وغيره من المؤرخين، عدة روايات عن مواسم العرب وأيامهم وتجمعاتهم بمكة وما حولها، ومفادها: إنه إذا كان موسم الحج، خرج الناس من عدة قبائل يوم هلال ذي القعدة، إلى سوق عكاظ، كل له مكانه، ورايته منصوبة، يضبط كل قبيلة أشرافها وقادتها، ويتم بينهم البيع والشراء مدة عشرين يوماً. ثم يمضون إلى سوق مجنة فيقيمون بها عشراً، أسواقهم قائمة، وإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى سوق ذي المجاز بعرفة، أقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة. وكان يحضر هذه الأسواق التجار ومن يريد التجارة. وكان العرب لا يتبايعون في يوم عرفة، ولما جاء الإسلام أحل الله لهم ذلك. قال تعالى: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم". وفي قراءة أبي بن كعب "في موسم الحج"، يعني: منى وعرفة وعكاظ ومجنة وذي المجاز، فهذه مواسم الحج. وقد وضع البخاري في صحيحه باب "الأسواق التي كانت في الجاهلية فيتبايع بها الناس في الإسلام". المصدر (http://www.kunoooz.com/vb374/showthread.php?p=180900)
ومن الجدير ذكره أن العرب كانوا يتناشدون الشعر في الأسواق ويتبادلون الأسرى ويدعو كل منهم إلى مايؤمن به.
ما تقدم يبين أن مكة كانت قبلة العرب الأولى في جميع ما يتعاطى به العرب آنذاك. المكانة الدينية، المكانة الإقتصادية، هذا ومن دون أن ننسى الهالة التاريخية التي تحملها قريش لوجود الكعبة فيها وخدمتها المجانية للحجيج من دون أي بدل.
مكانة مكة وقريش يعرفها النبي عليه السلام. فهو يعلم أن قريش هيي العقدة في جميع جزيرة العرب. من هنا فضرب هذه العقدة تجعل جميع العقد تتحلل من دون لأي ولاتعب. لذلك، بعد ان استقر بالنبي عليه السلام المقام بالمدينة (يثرب)، باشر ببعث السرايا لملاحقة قريش بتجارتها، وخاصة تلك التي تذهب إلى الشام. ونحن نعلم أن عصب الاقتصاد المكي (القرشي) هو التجارة. فعندما تصبح طريق القوافل غير آمنة فهذا يعني تهديد للإقتصاد المكي، وليس للإقتصاد فقط، إنما لمجمل الدور التي تلعبه هذه القبيلة القائدة لجزيرة العرب.
هذا ما جعل النبي يحدد أن قريش هي العدو. ومن ينتصر على هذا العدو يسود على جزيرة العرب بمجملها. وقد كان تحديد الرسول صلوات الله وسلامه عليه للعدو صحيح على الإطلاق لأنه بعد فتح مكة، أي الإنتصار على قريش كان عام الوفود. العام الذي دخل فيه العرب إلى دين الله أفواجاً، من غير بعوث ولا إغارات.
لمن يريد الإستزادة في هذا المجال فليرجع إلى السرايا والغزوات التي قام بها النبي أو ارسلها فسوف يجد أن مجملها كان ضد قريش. والقليل القليل منها كانت لتأديب من يتطاول على المسلمين أو يتآمر مع العدو أي مع قريش عليهم. وهنا علينا أن نتذكر أن الوثقة التي درسناها في المقالة السابقة، كانت هذه الوثيقة تحرم على أصحابها أن تتعامل مع قريش أو تؤزرها.
وننهي فنقول أن أمريكا التي تسيطر على عصب الحياة في أيامنا هذه، أي على الإقتصاد، كما وأنها حاملة الطائرات المتجولة في هذا العالم هي العدو، لأن انهيارها يعني إنهيار جميع مفاصل الإستغلال والإستبداد والإستعباد في العالم.
أما في منطقتنا العربية، فإسرائيل هي وكيلة أمريكا، هي التي احتلت فلسطين وطردت أهلها، وهي التي تمنع أي تطور للعرب لأنها تعتدي عليهم باستمرار، كما أنها تمنع الوحدة بين العرب لوجودها بين القسم الأسيوي والإفريقي للوطن العربي. لكل ما تقدم نقول أن العدو المباشر لأمتنا هي إسرائيل، ولا تتقدم هذه الأمة إلا إذا تمكنت من القضاء على إسرائيل. من هنا ضرورة التوجه الكلي من قبل العرب والمسلمين إلى حل القضية الفلسطينية بالقضاء على الإستعمار الإستيطاني الإسرائيلي. هذا لا يعني صداقتنا للأمريكان، بالطبع لا! إذا نحن لم نحاربهم فسوف يحاربوننا. إنهم بحاجة إلى خيراتنا. فعداوتنا لإسرائيل هي عداوة للأمريكان في الآن نفسه.
6 تشرين الأول 2010 حسن ملاط