من سيرة المصطفى – 7 –
حرب العصابات أو حرب الغوار
مع انطلاقة الثورة الفلسطينية أو المقاومة الفلسطينية سنة 1965 وبعد ازدياد نشاطها بعد هزيمة 1967 نشطت في اللغة العربية الترجمات لجميع ما كُتب عن حرب العصابات أو حرب الغوار، على اختلاف التسميات. أما المهتمون، أي مؤيدو المقاومة فكانوا يعرفون عن ظهر قلب جميع تلاوين هذا النوع من الحروب. فجميعهم كانوا يعرفون تفاصيل الحرب التي خاضها الشعب الفييتنامي ضد الاستعمار الفرنسي وبعدها ضد الامبرياليين الأمريكان. حتى أن رموز هذه الحرب باتت معروفة عن ظهر قلب، من هو شي منه إلى الجنرال جياب. وكانوا يعرفون المسيرة الكبرى للصينيين في الأربعينات من القرن الماضي ويعرفون ماو تسي تونغ وشو إن لاي وغيرهم. أما غيفارا، رفيق كاسترو في كوبا فكان نجماً، معبود الجماهير. حتى الجيش الأحمر الياباني أو الألماني ...الخ كانوا معروفين لدى كافة الناس الذين أعطوا تأييدهم للمقاومة الفلسطينية.
أما في هذه المعمعة، فقد كان المظلوم الوحيد هو "أبو بصير" لأنه سبق جميع من تحدثنا عنهم في حرب العصابات. ليس هذا فحسب، بل حقق انتصاراً باهراً على أعدائه. أي أن التجربة التي قام بها أبو بصير، رضي الله عنه، كانت أسبق على الوجود، تاريخياً من جميع التجارب التي حفظناها وحفظنا أسماء رموزها. أما المثل اللامع من أبناء أمتنا فلا نعرفه ولا نعرف تجربته الرائدة!
من هو أبو بصير هذا؟
إنه إسم من أسماء المستضعفين الكثر الذين أُعجبوا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك الدعوة التي تحث الناس على عبادة الله الواحد من دون جميع المستكبرين. ولكن حظه العاثر (ربما)، جعله يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام عقب صلح الحديبية. وحيث أن هذا الصلح كان ينص في إحدى تفاصيله أنه من جاء إلى محمد مؤمناً من غير إذن وليه، على محمد إعادته إلى قريش. فعندما أشهر أبو بصير إسلامه أمام النبي عليه السلام، كان عليه إعادته إلى قريش. لأن الإسلام يأمر بحفظ العهد.
قال ابن إسحاق: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية، وكان ممن حبس بمكة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب فيه أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الأزهر والأخنس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك؛ قال: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: يا أبا بصير انطلق فإن الله تعالى سيجعل ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً.
علينا أن نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لأبي بصير في المرة الأولى: "فانطلق إلى قومك" ولكنه، أي النبي عليه السلام، بعد أن حاجه أبو بصير، قال له: " يا أبا بصير انطلق فإن الله تعالى سيجعل ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً". أي أن أبا بصير لم يعد مجبراً على العودة إلى قومه، ولكنه مجبر على ترك المدينة، أي أنه لم يعد تحت سلطة النبي عليه السلام. من هنا لم يعد بإمكان قريش أن تحاجج النبي عليه السلام بأبي بصير.
وكان ذهاب أبي بصير فاتحة لتجربة رائدة في حرب المسلمين مع أعدائهم من قريش ومن نصرها من المشركين واليهود.
فكان أول ما فعله أبو بصير أن قتل حارسه الذي كان مكلفاً بنقله إلى مكة، فاستولى على سلاحه وتركه إلى رفيقه الآخر وذهب حيث رآى أن يعسكر.
قال ابن إسحاق : فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير صاحبهم العامري، أسند ظهره إلى الكعبة، ثم قال: والله لا أؤخر ظهري عن الكعبة حتى يودي هذا الرجل؛ فقال أبو سفيان بن حرب: والله إن هذا لهو السفه، والله لا يودي ( ثلاثاً ) .
ولما بلغ محمداً عليه الصلاة والسلام ما فعل أبو بصير قال قولته الشهيرة: "ويل أمه محش (مسعر) حرب لو كان معه رجال !".
يقول ابن هشام: "ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص، من ناحية ذي المروة، على ساحل البحر، بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: "ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال ! " ، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص، فاجتمع إليه منهم قريب من سبعين رجلاً، وكانوا قد ضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، لا تمر بهم عير إلا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل بأرحامها إلا آواهم، فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا عليه المدينة .
هذه قصة أبي بصير الذي أجبر قريشاً بكل جبروتها أن تتنازل عن حقها في إيواء أولادها للنبي صلى الله عليه وسلم. لقد أبدع أسلوباً في قتال المشركين لم يسبقه أحد إليه من المجاهدين في سبيل العدالة التي يؤمنها دين الله تبارك وتعالى على أحسن أوجهها.
16 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق