من سيرة المصطفى – 9 –
رُوي عن السيدة عائشة، أم المؤمنين، رضي الله عنها، أنها قالت: "كان خلقه (النبي) القرآن". رواه مسلم.
كان محمد بن عبد الله، قبل البعثة النبوية، يتمتع بمكانة مميزة في مكة. فهو كان محط أنظار الجميع من حيث سلوكه. كان يلقب الأمين. عندما يُقال جاء الأمين، كان الجميع يعرف أن محمداً هو الذي جاء. أما ما يمكن أن يعطينا فكرة جلية عن مكانته في مكة هو قصة الخلاف على الحجر الأسود الذي كاد يتسبب بحرب ما بين القبائل القرشية في مكة.
قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنزا للكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويكا مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة.
قال ابن هشام: فقطعت قريش يده.
وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها، فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحه.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم - قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم - فتناول من الكعبة حجرا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبدالله بن أبي نجيح المكي أنه حدث عن عبدالله بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي:
أنه رأى ابنا لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو يطوف بالبيت، فسأل عنه، فقيل: هذا ابن لجعدة بن هبيرة؛ فقال عبدالله بن صفوان عند ذلك: جد هذا، يعني أبا وهب، الذي أخذ حجرا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا تدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد، من الناس.
ثم إن قريشاً جزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، ابني عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، وكان شق الحجر لبني عبدالدار بن قصي، ولبني أسد بن عبدالعزى بن قصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو الحطيم.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم ترع - قال ابن هشام: ويقال: لم نزغ - اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء، فقد رضي الله صنعنا، فهدمنا.
فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساس إبراهيم عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها بعضا.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوزوا وتحالفوا، وأعدوا للقتال.
فقربت بنو عبدالدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم.
فمكث قريش أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، وتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها؛ قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا.
فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد؛ فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبا، فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بني عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين.
صحيح أن المقطع الذي نقلناه عن ابن هشام طويل نسبياً ولكنه ضروري لتبيان أهمية ما كانت تقوم به قبائل قريش في مكة. وبالتالي معرفة القدر الذي كان يتمتع به محمداً قبل أن يكون نبياً. فما بالكم بعد أن أصبح نبي هذه الأمة ونبي جميع بني البشر حتى يوم القيامة؟
إليكم هذه الرواية التي تتحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام عندما أراد الهجرة إلى المدينة: قال ابن إسحاق: ولم يعلم فيما بلغني، بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، حين خرج، إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر.
أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يُعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم.
إذن، كان مشركو قريش يضعون أماناتهم عند النبي عليه السلام، النبي الذي يحاربونه ليل نهار لأنه يسفه أحلامهم وآلهتهم المزيفة، ورغم ذلك لا يأمنون على النفيس والغالي لديهم إلا إذا كان عند محمد! شيء عجاب، أليس كذلك؟ هل يمكن لهؤلاء أن يضعوا أماناتهم عند النبي لو لم تكن علاقاته بهم علاقات جيدة؟ بل لنقل ممتازة؟
اليوم، لا يحيي المسلم المسلم لأنه لا ينتمي إلى حزبه. فما بالك بالمسيحي أو بالعلماني أوغير ذلك من التسميات.
إن العلاقات التي يجب أن تربط المسلم بالآخرين هي علاقة المحب بمحبه، وإلا كيف نفهم أن الله قد جعلنا رحمة للعالمين. إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المثل كيف يكون رحمة للعالمين بكونه الأمين على ما يحب جميع الناس، مؤمنهم ومشركهم، وبكونه يدعوهم جميعاً حتى يخلصهم من الظلمات وينقلهم إلى النور بإذن ربهم.
هكذا كان نبينا عليه السلام، فهل نجعله أسوتنا؟
18 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق