من سيرة المصطفى (1)
لقد كان موضوع التأسي برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يزال موضوع نقاش واجتهاد. ومن المعتقد أنه سيظل كذلك، خاصة وأن الانسان يتغير ويتطور وكذلك العصر. وحيث أن الانسان الملتزم إسلامياً ليس له الخيار في موضوع التأسي. فهو أمر رباني: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر..." (الأحزاب 21 ). من هنا لا بد إلا أن يكون موضوع التأسي برسول الله موضوعاً راهناً باستمرار.
الانسان المسلم ينطلق في حياته الدنيا من ثابتين اثنين، لا خلاف بين أحد من المسلمين عليهما، هما القرآن والسنة. فباستمرار على الانسان المسلم أن يحاكم أعماله تبعاً لما جاء في الكتاب الكريم أولاً وبما جاء عن النبي عليه السلام ثانياً.
هل يمكن إعتبار التأسي على الصعيد الاجتماعي أو السياسي كما التأسي في أحكام الصلاة والصوم على سبيل المثال؟
إن بناء المجتمعات هو علم قائم بذاته كما أي من العلوم الأخرى. والمسلم مأمور بإقامة المجتمع الذي يرضي الله ورسوله، المجتمع الذي يحقق مصالح الناس الذين يعيشون في كنفه. والأطرف من ذلك أن الرسول عليه السلام لم يفرد قسماً من حديثه الشريف تحت عنوان كيفية بناء المجتمع الأمثل. فهو قد ترك هذا الأمر إلى اجتهاد الناس، وفي مقدمهم المؤمنين. وكذلك فعل القرآن الكريم.
ما العمل؟
العلوم الانسانية، من وجهة نظر إسلامية تقوم على ثلاث قواعد، إحداها ثابتة وهي القرآن والسنة، والثانية هي الانسان. أما الثالثة فهي العصر. الإنسان والعصر يتغيران باستمرار، أما الثابت على الإطلاق فهو القرآن والسنة. من هنا فإن المفاهيم ونظرة الانسان للمجتمع وللعلوم الإنسانية تتبدل باستمرار تبعاً لتغير العصر وتغير الإنسان نفسه.
هل هذا ينتقص من قيمة الثابت (القرآن والسنة)؟ بالعكس تماماً! إن عظمة القيمة التي يتمتع بها القرآن، وكذلك السنة المشرفة، أنهما صالحان لكل زمان ولكل الأقوام. فالإنسان على مر العصور والأزمان بحاجة إلى القرآن لينير له الطريق وبحاجة للسنة المشرفة لتحدد صحة السلوك على الصعيد الفردي وعلى الصعيد السياسي.
هل هذا الكلام مبالغ فيه؟ كلا!
إليكم هذه الدرس العملي ممن كان خلقه القرآن، على ما جاء في حديث أمنا عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها في صحيح مسلم: "كان خلقه القرآن" صلى الله عليه وسلم. والمقصود بالخلق هو السلوك.
كانت الهجرة إلى المدينة (يثرب) الخطوة الأولى لتبدل الدعوة الإسلامية من دعوة تحمل الطابع التبشيري، إلى دعوة تحمل طابعاً آخر، طابع بناء المجتمع الإسلامي. وما يجعلنا نذهب هذا المذهب، أن النبي عليه السلام لم يهاجر إلى المدينة إلا بعد أن بويع من الأوس والخزرج (أهل المدينة) ما يسمى ب"بيعة القتال". حيث أن البيعة الأولى التي بايعها أهل المدينة للرسول عليه السلام، لم يذكر فيها القتال لا من قريب ولا من بعيد (تسمى بيعة النساء). ليس هذا فحسب، بل هناك ما هو أخطر مما تقدم هو أن معيار إيمان المؤمن كان مرتبطاً بقيامه بالهجرة. إليكم هذه الآيات البينات والتي تؤكد ما ذهبنا إليه: "إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض. والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق. والله بما تعملون بصير.(72 الأنفال) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض. إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.(73 ) والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم.(74 ) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم. وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. إن الله بكل شيء عليم.(75).
إن تغير معيار إيمان المؤمن يكون تبعاً لتطور المسيرة الإسلامية وما تفرضه من متغيرات. لذلك اعتبر القرآن الكريم معيار ولاية المؤمنين مرتبطة بالهجرة في سبيل الله. لماذا؟ لأن قيام المجتمع الإسلامي في مدينة رسول الله عليه السلام تتطلب تجمع المسلمين في هذا المكان من أرض الله الواسعة. ويحضرني هنا أن الهجرة إلى الحبشة لم تأخذ هذه الأهمية لأنها ارتبطت بحماية بعض المؤمنين ولم يكن لها أهمية على صعيد بناء المجتمع الإسلامي الذي بناه النبي عليه السلام في المدينة المنورة.
جاء في حديث أركان الإيمان: "الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره" أما في العام الأول للهجرة فقد أضاف ربنا تبارك وتعالى ركناً آخر هو الهجرة إلى المدينة.
2 تشرين الأول 2010 حسن ملاط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق