الجمعة، 21 نوفمبر 2008
تحديث
أو نقاش بعض المفاهيم الماركسية من وجهة نظر اسلامية
حسن ملاط
نحن ندعي أن الأزمة التي يعيشها المسلمون هي اغترابهم عن
فطرتهم. والفطرة هي كما جاء في كتاب الله عز وجل:"واذ أخذ ربك من بني آدم من
ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم
القيامة انا كنا عن هذا غافلين". أو كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"يولد الانسان على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو
ينصرانه...". والفطرة كما جاء في ال"لسان" عند ابن منظور هي
"لا اله الا الله". أي أن الانسان مفطور على "لا اله الا
الله" ولكن المجتمع المعاصر قد أدى الى اغتراب المسلمين عن فطرتهم. فما
الاغتراب؟
الاغتراب
لم يرد في الخطاب العربي أو الاسلامي لفظ الاغتراب انما ورد
لفظ "الغربة". وما سنتحدث عنه الآن هو ما ورد في الفكر الغربي عن هذا
المفهوم. ولا بأس بذلك "لأن الوعي بالذات يتضمن ادراكاً لما هو آخر" كما
يقول والتر كاوفمان محقا. علماً أن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم له حديث في
وصف واقعنا اليوم حيث يقول "أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء، كغثاء السيل".
يقول ريتشارد شاخت:"ان اصطلاح الاغتراب يستخدم فيما
يتعلق بكل من الحالات الذاتية للذهن وضروب التنافر وعدم التناسب التي تتقرر على
صعيد موضوعي". وهذا التعريف لا يشمل جميع الحالات من الاغتراب التي تحدث عنها
المفكرون. فماركس مثلاً يتحدث عن اغتراب العمل واغتراب الانتاج وليس لهما ذاتاً
واعية. وهيجل يتحدث عن اغتراب البنية الاجتماعية وهذه ليس لها ذهن أيضا. ولكن شاخت
حاول أن يعطي تحديداً اصطلاحياً لهذه اللفظة.
أما ماكنتاير فيقول:"الاغتراب أساساً مفهوم يقوم على
المقارنة والتقابل، فبوسعنا أن نفهم ما الذي يعنيه اغتراب المرء فحسب اذا ما فهمنا
كذلك ما الذي يعنيه عدم اغترابه". ها أن ما يعنيه ماكنتاير هو قمع شعور
الانسان المغترب في مجتمع ما ان لم يكن بامكانه ايجاد صيغة أخرى لبنية اجتماعية لا
يشعر معها المرء بالاغتراب؟ أو بصيغة أخرى لا يحق للمرء أن يعبر عن اغترابه الا
بعد تحديد صيغة جديدة لمجتمع ينتفي فيه وجود الاغتراب؟!
هاتان محاولتان لتحديد معنى اصطلاحي للاغتراب. وسوف نستعرض
الآن بعض الآراء عن الاغتراب.
يقول هيجل:"ان العقل هو بصفة عامة طبيعة البشر، ومن هنا
فان طبيعتهم مزدوجة: ففي جانب قصي هناك الفردية الصريحة للوعي والارادة وفي الجانب
المقابل هناك الكلية التي تعرف وتنشد ما هو جوهري". بعد هذا التحديد يقول
هيجل بنوعين (لا يعنينا التحدث عن جميع أشكال الاغتراب التي تحدث عنها) من
الاغتراب:
أولا: الاغتراب عن البنية الاجتماعية: ويصل اليها الفرد
الفارق في تميزه الذي اكتشفه أخيراً الى اعتبار البنية الاجتماعية التي كان متحداً
بها من قبل شيئاً آخر بصورة كاملة وينشأ عن عدم تطابق في الوعي بين الذات والبنية.
ثانياً: الاغتراب عن الذات: ان البنية الاجتماعية هي تموضع
العقل. أي أن العقل يقوم بموضعة ذاته في البنية الاجتماعية. فعندما يحصل اغتراب
البنية الاجتماعية فهذا يعني أن الفرد قد اغترب عن ذاته".
كيفية قهر الاغتراب:
يقول هيجل:" يقهر الفرد اغترابه حينما يدرك أن تلك
البنية الاجتماعية هي بنيته هو وذلك من خلال الفهم الأفضل لطبيعته هو ذاته ولطبيعة
البنية. والعملية التي يقوم من خلالها بذلك هي عملية جعل ذاته متوافقاً مع هذا
الواقع. وتلك هي عملية البناء التي يدمج الفرد من خلالها مضمون مجتمعه وثقافته
جاعلاً اياه في الوفت نفسه مضمونه هو وجاعلاً من نفسه جزءاً من هذا المضمون".
اذا التزمنا المفهوم الهيجلي للانسان وللبنية الاجتماعية ينتج
عن هذا الالتزام القبول بكل وضع قائم. وبذلك تتحول ظاهرة الاغتراب الى ظاهرة فردية
وليس ظاهرة اجتماعية. فاذا كانت البنية الاجتماعية هي تموضع لعقل الانسان كفرد
فهذا يعني أنه لا يمكن لهذا الفرد أن يعمل لتغيير هذه البنية حتى وان كانت هذه
البنية غير صحيحة أو جائرة والا يكون قد ثار على نفسه، وعلى ذاته. وبذلك نمنع
امكانية التطور والتغيير عن أية سلطة قائمة. وهكذا يتحول المجتمع الى استقرار
أبدي، أي الى الموت بشكل أو بآخر. انها جدلية الموت. أو انها جدلية الدفاع عن
السلطة القائمة أو "نهاية التاريخ" حسب تعبير فوكوياما.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فالقبول بهذا التصور الهيجلي يعني
أن الاغتراب لا يمكن أن يحصل عند الفرد الذي يقبل بتصور هيجل للانسان. فاذا كان
الانسان جوهريا هو عقل، واذا كانت البنية الاجتماعية هي تموضع هذا العقل، فأين
التناقض الذي يمكن أن يؤدي الى الاغتراب؟ الاغتراب، سواء في البنيةالاجتماعية، أو
اغتراب الذات. فكأني بهيجل يتحدث عن الاغتراب عند الآخر. اته تصور ذهني اذن لا
وجود له الا عند كل من يرفض تصور هيجل للانسان والمجتمع.
الاغتراب عند ماركس
كارل ماركس، وهذا اسمه، هو من أكثر الفلاسفة ابداعا. فقراءتك
لأي تحليل له، ترى فيه جماع فلسفته بخط متكامل لا تنفصم عراه الا اذا حاولت
مطابقته مع الواقع. واذا كانت أدواته التحليلية لا يمكن انكارها في كل وقت. ولكن
لا بأس من دراسة موضوعة الاغتراب عنده.
1 – مسألة الدين والاله:
يرى ماركس أن الوجود العيني هو الوجود الفعلي الوحيد ولا وجود
غيره. ويفترض أن الفكر وجود عيني لأن آلته الدماغ. اي موضوعيته تعود الى أن له
آلة. من جهة ثانية يرى أن الطبيعة موجودة ولا ضرورة للسؤال من أين جاءت وكيف جاءت.
وكذلك فالسؤال من خلق الانسان هو سؤال خاطىء. فالانسان ابن أبيه والأب ابن الجد
...الخ. ولكن هذا التسلسل لا يصل عند ماركس الى موجود أول، لأنه يفترض دائرية
الحركة. أي أن البدء بانسان سيوصلنا في النهاية الى انسان. وكذلك بالنسبة للطبيعة،
فما يسمى بالتوالد الذاتي والذي يفترضه حقيقة علمية ثابتة (علماً أنه ليس كذلك)،
يعتبرها دليلاً على أن الطبيعة موجودة. والوجود صفة ذاتية لها. لذلك فالسؤال من
أين أتت الطبيعة هو سؤال خاطىء لأنه يتضمن احتمال عدم الوجود.
من هنا فان ماركس يفترض بأن الانسان هو الذي يخلق الهه (على
سنة فيورباخ) وفي هذا دلالة على نقص الانسان. يقول:"فكلما زاد ما يضعه
الانسان في الله ( أعتقد أن ايراد لفظ الجلالة هنا خطأ من المترجم، وكان عليه أن
يقول "اله" بدلاً من "الله" ح.م) قل ما يحتفظ به في
نفسه". (مخطوطات 1844 ص 69 . المصدر هو نفسه في مجمل هذا البحث وهذا جوهر فكر
ماركس بالنسبة للمواضيع المطروحة هنا). والانسان الذي يخلق الهه يكون مغتربا. لذلك
عندما يصل ماركس الى مرحلة الشيوعية يوجب عندها الالحاد. "ان الالحاد هو نفي
الله" (ص 106). وهو يفترض (أي النفي) وجود الانسان خلال هذا النفي. أي أن
الحيز الذي كان يشغله الاله في الحياة الانسانية، هذا الحيز على الانسان أن يملأه
بوجوده في الشيوعية من خلال نفيه للاله.
لا يظنن أحد أننا سوف نناقش ماركس بالحاده، أو سوف نحاول
البرهنة على وجود الله. لا، لأننا مسلمون. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يبرهن
للناس على وجود الله انما طلب منهم توحيده. لأن مجرد وجود الاله في الحياة النفسية
الانسانية هي دلالة على الاعتقاد بوجود اله وهذا لا يعني بالضرورة توحيده، والأكيد
أن هذا الكلام لا ينفيه ماركس وليس بامكانه نفيه لأنه أقر به من خلال الاستشهادين
الذين سقناهما سابقا.
اذن قام الرسول عليه الصلاة والسلام بالدعوة الى توحيده عز
وجل فقط. وعندما عدد أركان الاسلام لم يكن من ضمنها البرهان على وجود الخالق بل
شهادة أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله. نحن كمسلمين علينا توحيد الله عز
وعلا والدعوة الى توحيده. والكافر الملحد على شاكلة ماركس فحسابه على الله وبئس
المصير (لم يتفكر، كما يجب، في خلق السماوات والأرض). ولكن ما سوف نشير اليه هو
النتائج العملية لالحاد الملحدين في الدول التي كانت تتبنى الفلسفة الماركسية:
فساد، كبت حريات، قمع داخلي، غزو خارجي، مجتمع استهلاكي، كحوليون (هروب من الواقع)
...الخ وهذا يظهر أن التدين على الطريقة الماركسية يوصل الى هذه النتائج.
2 – الاغتراب:
يفترض ماركس أن الاغتراب عارض في المجتمع أو بالأحرى سمة من
سمات تشكيلات اجتماعية معينة دون أخرى، لذلك يربط بين الملكية الخاصة والاغتراب.
ويرى بأن المجتمع الشيوعي يقضي على الاغتراب. "ومن هنا فان التخطي الايجابي
للملكية الخاصة كتملك للحياة الانسانية هو التخطي الايجابي لكل اغتراب" (ص
97).
اذا وافقنا ماركس أن التناقض هو الحقيقة المطلقة، فكيف يمكن
التحدث عن مجتمع دون اغتراب؟! لأليس هذا بأحلام؟ يبدأ مادياً و ينتهي طوباويا. ان
صورة المجتمع الخالي من التناقضات وبالتالي من الاغتراب، لا يمكن أن يوجد في
الحياة الدنيا (ولا يزالون مختلفين، ولذلك خلقهم). ان وجود مشكلة واحدة في المجتمع
من دون حل يمكن أن تسبب اغترابا. وهل أن المجتمع الشيوعي الذي يتخيله ماركس هو
مجتمع موت؟ (كما سلفه هيجل). اذا كان موتاً فلا اعتراض. أما اذا كان مجتمعاً حياً،
وهو الأرجح، فالحياة تجدد، خلق جديد (يزيد في الخلق ما يشاء)،مشكلات جديدة تطرح
وباستمرار، عقبات، عدم تلاؤم، اغتراب، حل جزئي للاغتراب. هذه هي الصورة حتى يوم
القيامة. اذن لا مجتمع من دون اغتراب. والمفكر الواعي يتحدث عن عمل صراعي باتجاه
حل الاغتراب الذي لن يتم طالما الحياة حياة. ولكن هناك مسار، عمل نضالي باستمرار
باتجاه القضاء على الاغتراب مع الوعي المسبق والتام أن القضاء عليه لن يكون الا
نسبيا.
شيوعية ماركس، المتطهرة من الاغتراب، لا توجد اذن الا في ذهنه...
و الآن سوف نجزىء الموضوع مع ماركس:
أ – يقول ماركس: "ان العامل لا يستطيع أن يخلق شيئاً دون
الطبيعة". ويضيف قائلاً "ولكن كما تزود الطبيعة العمل بوسيلة الحياة...
فهي وسيلة الوجود الجسدي للعامل ذاته" (ص 70).
انه يرى الطبيعة أساس الوجود، وجود العامل نفسه أي جسدياً،
لأن مكوناته من الطبيعة. ومن حيث الاستمرار في الحياة، تمده الطبيعة بالغذاء، ومن
حيث تحقيق ذاتيته بالعمل، فالطبيعة موضوع العمل ووسيلته، فلا عمل من دون الطبيعة...
ان اعطاء ماركس هذا الحجم الكبير للطبيعة هو حتى يتمكن في
النهاية من القضاء على اغتراب العامل، بقهر هذا العامل للطبيعة عن طريق مماحكة
نظرية تقول باغتراب العامل عن الطبيعة. أي أن الطبيعة تواجهه كغريب عنها، علماً
أنه مكون منها. لذلك أصبح لزاماً عليه قهر الطبيعة حتى يتمكن من القضاء على
اغترابه.
ان الله تبارك وتعالى خلق ما في السماوات وما في الأرض وله
ملكهما. وخلق الانسان وخلق كثيراً مما نعلم ومما لا نعلم. ويزيد في الخلق ما يشاء.
الانسان المسلم يُخلق مكرما. لقد أودع الله تبارك وتعالى
داخله، داخل الانسان كلمة التوحيد، لا اله الا الله. يرى الانسان الوجود موحداً من
خلال الخالق عز وجل. الطبيعة! الطبيعة من خلق الله مسخرة بمجموعها لخدمة الانسان.
منّة من الله للانسان، المسلم لا يصارع الطبيعة ليقهرها، لأنها مسخرة له من قبل رب
العالمين، ومن دون مقابل. فهو يستخدمها، يأخذ منها ما يريد، ما يلزمه. ولا حق له
بالتبذير فيها. لقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من يصطاد عصفوراً لا
لفائدة يرجوها منه كأكله مثلاً يحاسب على هذا العمل يوم القيامة! ألله أكبر. لا
شيء معطى عبثا. أما ماركس، علاقته مع الطبيعة علاقة عداوة وبغضاء وقهر. لماذا؟ لا
نحن نعلم ولا هو يعلم. أللهم الا اذا كانت هذه العداوة ناتجة عن الملكية الخاصة.
الانسان ابن الطبيعة – لا يملكها ← عداوة وقهر = اغتراب.
الانسان والطبيعة من خلق الله – الطبيعة مسخرة للانسان ←
توافق وتلاؤم = عدم اغتراب.
ب – يقول ماركس:
"ولا يعني اغتراب العامل في ناتجه أن عمله قد أصبح موضوعاً –
وجوداً خارجياً – فحسب، وانما يعني أنه يوجد خارجه، مستقلاً عنه، كشيء غريب عنه،
وأنه يصبح قوةً في ذاته تواجهه، انه يعني أن الحياة التي منحها للموضوع تواجهه
كأمر معاد غريب"(ص 69).
ان فرضية ماركس هي أن كل من يعمل له الحق أخذ ناتج عمله
عيانيا. فاذا أخذه غيره يتولد انفصام، أو على الأصح عدم تحقق لذات العامل وبالتالي
ينتج الاغتراب. أي أن ناتج العمل أصبح قوةً معاديةً للعامل، لمنتجه.
انه وصف بديع!؟ لنضع المسألة بسياق آخر. هذا الانسان يعمل حتى
يتمكن من الاستمرار في الحياة، لأن حياته أمانة من الله عز وجل أودعها اياه حتى
يقوم هذا الانسان بما فرضه الله تبارك وتعالى عليه. ان وظيفة الاستمرار في الحياة
هي عبادة الله عز وجل، هذا ان لم تكن المحافظة على الحياة هي بحد ذاتها عبادة.
فأين الاغتراب اذن اذا ما عملت عند انسان ما ولم يعطني ناتج عملي بكامله، انطلاقاً
من أن تحقيق ذاتي مرهون بقيامي بما فرضه الله تبارك وتعالى علي؟ العمل لاقامة دار
الاسلام طاعةً له وفي سبيله؟ بالطبع لن يمكن أن تكون هذه العملية، عملية الانتاج
المادي سبباً لوجود الاغتراب.
ليس هذا فحسب، حتى وان أخذنا المسألة من ضمن السياق الذي
يطرحه ماركس، فهل صحيح ما يقوله في الواقع المعاش؟ لا نرى نتائجه اليوم لا في
الدول الصناعية التي يعول عليها ماركس نفسه ولا في الدول المتخلفة. ولا يقولن أحد
أن عدم بروز الصراع الطبقي في الدول الصناعية هو بسبب القسم الذي يأخذه العمال في
هذه الدول من منهوبات العالم الثالث.
نلخص: الانسان في الاسلام له وظيفة وسعادته هي في اتقانه
لوظيفته. وتحقيق الذات ليس بالحصول على ناتج العمل ولكن تحقيق ذات الانسان تكون
بعمارته للأرض كخليفة، وبقيامه بالفرائض كفرد. والأجر هو جنة عرضها كعرض السماوات
والأرض أعدت للمتقين. أين انساننا من انسان ماركس؟
ج – يقول ماركس:
"ففي اغتراب موضوع العمل انما يتلخص الاغتراب، الانسلاب في
نشاط العمل ذاته"(ص69).
انها عملية توالد ذاتي للأفكار عند صاحبنا. الآن أصبح النشاط
مغتربا. أي أن العمل يعمل غصباً عنه، لا يحب العمل، لأن نشاطه أصبح مغتربا.
الطاعون أحب اليه من العمل. أين رأى الطاعون أحب الى العامل من العمل؟ ان التصور
الذهني لماركس بالنسبة للتحديدات التي قام بها عليها أن تولد اغتراب النشاط. ان
نقد ماركس لهيجل هو بسبب عدم واقعية الأخير. أين الواقعية في هذا الوصف؟ هل قام
باستفتاء بين عمال العالم حتى وصل الى النتيجة التي تقول بأن الطاعون أحب للعامل
من العمل؟
د – يقول ماركس:
"فماذا يشكل اذن اغتراب العمل؟
- "حقيقة أن العمل خارجي عن العامل، أي أنه لا ينتمي الى وجوده
الأساسي، وأنه بالتالي لا يؤكد ذاته بالعمل بل ينكرها" (ص71).
- "هنا نجد اغتراب الذات كما رأينا من قبل اغتراب الشيء"
(ص72).
- "ألانسان كائن نوعي ...يعامل نفسه ككائن كلي وبالتالي حر"
(ص72).
- "والانسان اذ يخلق عالماً موضوعياً بنشاطه العملي، واذ يصوغ
الطبيعة غير العضوية يؤكد ذاته ككائن نوعي" (ص73).
- "والعمل المغترب، حين يغترب بالانسان عن الطبيعة أولاً وعن
ذاته ثانياً ... انما يغترب بالنوع عن الانسان. انه يحول حياة النوع بالنسبة له
الى وسيلة لحياة الفرد" (ص73).
اذا كان الانسان كائناً نوعياً، فكيف يمكن للانتاج أن يحدد
هذا الكائن النوعي؟ النشاط الانتاجي هو سمة من سمات الانسان وكذلك الحيوان. ولكن
ما يميز النشاط الانساني عن النشاط الحيواني هو الوعي. وهذا الوعي هو الذي يجعل من
الانسان كائناً نوعيا. فالانتاج الفردي اذن ليس له سمة خاصة به؛ انما الذي يعطيه
هذه السمة هو المنتج نفسه. فنقول هذا انتاج انساني وهذا انتاج حيواني. فبقدرة
قادر، والقادر هنا ماركس، انقلبت الآية، وأصبح الانتاج هو الذي يحدد سمة هذا
الانسان بأن يجعله اما مغترباً واما متوافقا.
ان النظرة الصحيحة للنشاط العملي الانساني تتحدد كما يلي:
النشاط هو فريضة الهية مفروضة على الانسان "وقل اعملوا". وهذا النشاط هو
لبناء دار الاسلام اذعاناً لأمر الله تبارك وتعالى وفي سبيله. ان مثل هذا النشاط
هو النشاط الذي يمكن أن نطلق عليه صفة النشاط النوعي لكائن نوعي يعمل لغاية
متميزة، نوعية. هذه الغاية هي بناء مجتمع. ولماذا بناء هذا المجتمع؟ في سبيل الله!
فاذا لم يتمكن الانسان من جني ثمار نشاطه لا يعيش حالة الاحباط التي يعيشها انسان
ماركس حتى تصل به الى الاغتراب. ولكن ما يحصل هو أن يعيد هذا الانسان، هذا الكائن
النوعي، أن يعيد تقييم ودراسة تجربته، نشاطه. أين تناقضت مع فطرته. أين تناقضت مع
السنن الالهية في تطور المجتمعات وبنائها. ويبدأ من جديد من اكمال المسيرة في
اكمال العبادة. وهذا الانسان، كفرد، فاذا قضى قبل أن يصل الى غايته، لا تنتهي
حياته بالموت. لا، بل هو موعود بحياة أخرى، أفضل وأبقى. أما انسان ماركس الطبيعي،
فنوعيته، أي صفته النوعية، محددة بالاواعي بالانتاج.
أما تأكيد الذات أو تحقيق الذات عند ماركس فهي باعادة المنتَج
الى المنتِج بشكل أو بآخر. والا فسوف "تتحول حياة النوع بالنسبة له الى وسيلة
لحياة الفرد".
ان تحقيق الذات للانسان، الانسان المتميز عن الحيوان، الانسان
الانسان، الكائن النوعي، فتكون بمدى استيعابه لمدلول الخلافة، أو على الأصح بمدى
تمثله لهذا المفهوم والتكليف، خلافة الله تبارك وتعالى على هذه الأرض. تحقيق الذات
يكون بالتقوى، الممارسة الايمانية للمسلم بجميع أشكالها المادية واللامادية. أي
بانسجام هذه الممارسة مع مسار الفطرة.
اذن ما يحدد تميز هذا الانسان ليس الانتاج المادي ولكن تقواه.
ھ – يقول ماركس:
"ومن النتائج المباشرة لحقيقة أن الانسان يغترب عن ناتج عمله،
عن نشاط حياته، عن وجوده كنوع، اغتراب الانسان عن الانسان" (ص74).
"والحق أن القضية القائلة أن طبيعة الانسان كنوع تغترب عنه
تعني أن الانسان يغترب عن الآخر، كما يغترب كل منهما عن طبيعة الانسان
الجوهرية" (ص75).
اذا كانت الطبيعة الجوهرية للانسان هي الانتاج، وما يقصده
ماركس هو الانتاج المادي، فنوعية الانسان تتحول الى نوعية غير واعية، لأن الانتاج
غير واع. لماذا ينتج الانسان؟ ان انتاج الانسان المادي هو لتأمين استمراريته في
الحياة حتى يعبر عن ذاته كنوع، كوعي، متميز عن الحيوان. فالانتاج وسيلة للانسان،
وليس الانسان نفسه. فتموضع الذات الانسانية، هذا الكائن النوعي، يمكن أن تكون بنشاط
نوعي، بنشاط متميز.
اذا افترضنا مع ماركس أن الانتاج هو تموضع الذات، فكيف يمكن
ذاتية النوع بالانتاج؟ أي كيف يمكن للانسان أن ينتج كليته بانتاجه المادي؟ هذه
الكلية التي تتحدد بالوعي، بالفكر. فالانتاج المادي لا يمكنه عندها الا أن يكون
وليس غاية، أي ليس تحقيقاً للذات الكلية للانسان.
واغتراب الانسان عن الانسان هل يمكن أن يكون بسبب الانتاج
المادي أم يكون بسبب أسما، يسمو الى نوعية هذا الكائن المسمى الانسان. عندما يمكن
أن يكون اغتراب الانسان عن الانسان بسبب بعد هذا الانسان عن فطرته، أو تناقضه مع
مسار الفطرة، أو حياده عن النشاط الانساني الواعي، اقامة دار الاسلام، عندها يكون
اغتراباً ذا معنى ودلالة.
و – يقول ماركس:
"وهكذا فان الملكية الخاصة هي نتاج العمل المغترب، العلاقة
الخارجية للعامل بالطبيعة وبذاته – ونتيجته وعاقبته الضرورية" (ص77).
"فالكائن الغريب الذي ينتمي اليه العمل وناتج العمل ... لا
يمكن الا أن يكون انسانا" ( أي الرأسمالي ح.م) (ص76 ).
"وهكذا تنتج الملكية الخاصة بالتحليل عن مفهوم العمل المنلسب
أي الانسان المنسلب، العمل المغترب، الحياة المغتربة، الانسان المغترب" (ص
86).
وأخيراً وصل الى المجتمع المنقسم على نفسه، مالك ومسلوب
الملكية. تموضع الذات في الانتاج .. لايملك الانتاج .. اغتراب عن ذاته.
لا يمكن لكل عامل أن يملك انتاجه، لذا فيجب التفتيش عن بنية
اجتماعية تُقنع العامل المغترب بأن هذه البنية اذا أضفنا اليها بعض التوابل
والبهارات والمحسنات اللفظية تنفي الاغتراب الذي سببته الملكية الخاصة.
نحن نقول ان الملكية الخاصة هي وظيفة اجتماعية، وائتمان من رب
العالمين. اذا نظرنا للملكية الخاصة من هذه الزاوية نجد بأن الانقسام الضروري
للمجتمع، كما يرى ماركس، ينتفي وجوده. ربما نجد مجتمعاً منقسماً ولكن ليس بسبب
الملكية ذاتها ولكن بسبب مفهوم الملكية ووظيفتها.
وظيفة الانسان بناء دار الاسلام، وظيفة أي انسان يؤمن
بالاسلام، أياً كان موقعه في المجتمع، وبتعبير ماركسي، أيا كان موقعه في الانتاج.
هذا التصور ينفي التضاد الطبقي كموجه للتاريخ كما يرى ماركس. لأن ممارسة المؤمن هي
التقوى. فتصحيح المفهوم يؤدي بالتالي الى تغيير صفة الممارسة. ربما يسأل أحد
الماركسيين عن علاقات الانتاج؟ الاسلام يرى بأن الملك لله، وليس للانسان. فالتصرف
بالمال (المستخلف عليه الفرد، ولا نقول الذي يملكه – وذلك للدقة) لا يكون صحيحاً
الا اذا كان يرضي الله؟ ... وهنا تبدو عظمة فهم المسلم للعلاقات الاجتماعية.
الانسان لا يملك انما هو مستخلف على ما هو بين يديه، سوف يحاسب من الله تبارك
وتعالى على كيفي تصرفه بماله الشخصي (شكلياً فقط).
هذا الفهم للملكية الخاصة، هذا الفهم للانسان الذي لا يكبله
تحديد لصفة الانسان، الكائن النوعي، بانتاجه المادي، بطبيعته، ولكن ما يحدده هو
كونه خليفة (وظيفة الانسان الالهية).
ز – يقول ماركس:
"الشيوعية باعتبارها التخطي الايجابي للملكية الخاصة، أو
لاغتراب الذات الانسانية، وبالتالي باعتبارها التملك الحقيقي للماهية الانسانية من
جانب الانسان وللانسان، هذه الشيوعية ... تساوي الانسانية ... انها الحل الحقيق
للنزاع بين الانسان و الطبيعة (!) وبين الانسان والانسان" (ص96).
" فحياته الفردية وحياته النوعية ليستا مختلفتين" (ص 98).
"ويؤكد الانسان في وعيه النوعي حياته الاجتماعية الواقعية، وهو
لا يعدو أن يكرر وجوده الواقعي في الفكر، تماماً. بيد أن الأمر يتطلب فعلاً
شيوعياً واقعياً، لالغاء الملكية الخاصة الواقعية" (ص98).
وصل ماركس الى الجنة! ... ؟ حيث لا اغتراب، حيث لا ملكية
خاصة، حيث الانسان كائناً نوعياً، وجوداً ذاتياً للفكر!؟
لقد مر انسان ماركس في كل المراحل السابقة منسلباً فكره الى
أن وصل الى الجنة حيث أصبح بامكانه أن يصير ذاتاً مفكرة. ممتاز !
أعتقد أن انسان ماركس بحاجة للفكر قبل مرحلة الشيوعية. انه
بحاجة له في مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا، الا اذا كان المقود الخارجي الذي
يحمله كارل ماركس، مقود الطبقة العاملة، مقود الانسان المغترب، ان كان هذا كاف
لتوجيه هذا الانسان عندها لا نكون قد أصبحنا بحاجة لتحويل انسان ماركس الى انسان
مفكر. على كل حال فلنؤجل حل هذه المعضلة على هدي سنة ماركس! ولنتحدث عن مرحلة
ديكتاتورية البروليتاريا.
ان ديكتاتورية البروليتاريا هي شكل من أشكال رأسمالية الدولة،
كما يقول لينين، "التلميذ العظيم" لماركس. أي أن فائض القيمة،
"اللعنة الأبدية للطبقة العاملة الماركسية"، لا تعود للعمال، انما تعود
للدولة.
في هذه المرحلة من مراحل التطور الاجتماعي على الطريقة
الماركسية، كيف يكون وضع العامل؟ ان الأدبيات الماركسية تقول بأن صفة هذه المرحلة،
الصفة فقط هي التي تكون مختلفة؟! وبالتالي يكون لزاماً على العامل اقناع نفسه بأن
هذه البنية هي بنيته هو حتى لا يكون مغترباً عنها، وحتى لا يكون مغترباً عن ذاته،
وحتى لا يكون مغترباً عن عمله، وحتى لايكون مغترباً عن أترابه ورفاقه.
نفس الوعاء الهيجلي لقهر الاغتراب. والذي كان قد انتقده
ماركس. فهو يرى بأن هيجل قد قضى على موضوعية الانسان وواقعيته بأن جعله عقلا. ألا
ينطبق هذا الوصف على انسان مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا؟!
اذن ما هي المشكلة؟
هيجل دافع عن بنية اجتماعية قائمة واخترع أوعية فكرية لتأطير
هذا الدفاع. ماركس أخذ الأوعية نفسها وعبأها تعبئة مختلفة للدفاع عن بنية اجتماعية
أخرى افترض أنها ستسود.
كل منهما وظف فكره في الدفاع عن سلطة اعتبرها سلطته هو. ثم
جمدها (أو أبدها أي جعلها أبدية) فأماتها.
أما نحن فنقول: ان لانهائية الشهوات تعني انتفاء امكانية
القضاء المطلق على الاغتراب. ولكن ما يمكن للانسان القيام به هو السير في مسار
الفطرة باتجاه (أو بنية) القضاء على الاغتراب، اغتراب الانسان عن فطرته. وهذا
المسار ارتقائي، يرتقي بالانسان ويرتقي بالمجتمع، انه الحياة التي أرادها الله عز
وجل والنبي عليه السلام لنا. "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا
دعاكم لما يحييكم".
مرسلة
بواسطة فكر وتربية في 11:40 ص ليست هناك تعليقات:
التسميات: فكر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق